تكريمات

اهم التقنيات السردية والخيارات الاسلوبية في قصص فرج ياسين / كريم ناجي

المسألة ليست في شحة الموضوعات والعنوانات التي تصلح ان تُقترح لها ولا في  قلة الامثلة والشواهد التي تُنتقى لتصبح مادة لموضوع ما، الصعوبة هنا تكمن في حيرة الدارس امام عدد غير قليل من الافكار والمقترحات والموضوعات وامام وفرة من الامثلة المتنوعة التي يصلح النص الواحد منها احيانا لأجراء دراسات مختلفة.

ولهذه الاسباب وغيرها، ولكي تكون هذه الدراسة اكثر فائدة وشمولا ارتأيت ان يكون الموضوع متعدد الجوانب، ينقسم على عنوانات داخلية يتصدرها ويجمعها عنوان واحد. ارجو ان اوفق في تقديم موضوع يدخل الى عوالم فرج ياسين الغنية الزاخرة بالعمق والغرابة والفكر والوجدان والادب الرفيع، يدخل من زوايا متعددة تتكامل لتشكيل صورة فيها قدر لابأس به من الاحاطة والتداخل والشمول.

وسوف تكون مجموعة (رماد الاقاويل) الحقل الرئيس لحركة البحث لما فيها من سمات التفرد والابداع، وتكامل التجربة الفنية والموضوعية، وما فيها من تجريب وتنوع في البنى الفنية والتقنيات السردية والخيارات الاسلوبية، فضلا عن ما ترصده من تجارب انسانية مؤثرة. يُضاف اليها قصتان منفردتان.

 

 

توظيف الحكاية الشعبية :

-  يسعى القاص الى تحقيق اهداف عدة عندما يوظف الحكاية الشعبية الموروثة في جوانب مختلفة من نصه؛ في البناء الفني، والتقنيات، والمضامين. ويأتي في مقدمتها رغبته في إحداث تداخل حكائي يمنح النص الحيوية والجدَّة، ويكسر رتابة البنية الخطية والانساق السردية المألوفة.

تُبنى القصة وتُنسج من تداخل حكايتين، فيبدو النص وكأنه مساحة تتقاطع فيها خطوط عمودية و اخرى افقية، وفي الوقت الذي تبدو فيه حكاية القصة المحورية اقرب الى الاديب والواقع المَعيش والاتجاه الانساني العام، تكون الحكاية الشعبية التراثية اقرب الى عبق الماضي واجوائه الساحرة وألصق بالبيئة المحلية فتمنح النص خصوصية واصالة وهوية.

وتشكل الحكاية الشعبية مستوىً سرديا مُتَضمناً الامر الذي يترتب عليه تحقيق وظائف أخرى سيتم توضيحها في فقرة لاحقة من هذه الدراسة. ويكفي ان نذكر هنا مثلا قصة ( سرداب الخفاش) فالحكاية الشعبية المتضمنة تؤدي وظائف متعددة اهمها؛ (التشتيت) فالسارد لا يقول كل ما يريد مباشرة، انه يقول حكايته من غير ان يشعر به احد. و( التكامل الحدثي) ففي الوقت الذي تؤدي فيه الحكاية الشعبية وظيفة التشتيت،فانها تفسر سلوك السارد وتفضح ما يخفي. و ( الإعاقة) فالحكاية الشعبية تعيق مجرى السرد القالب في مستواه الرئيس، وتعلقه على نحو متقطع، مما يؤدي الى انتهاك البنية الخطية للقصة، ويفتت الشكل التقليدي المألوف لها.( 1)

وثمة صفة أخرى يمكن ان تضاف الى ما تقدم، ان الحكاية الشعبية تبدو في هذه القصة وكأنها معادل للسرد القالب،  فالخالة تروي حكاية مشابهة للقصة التي هي شخصية فيها، وهذه تقنية من مستحدثات سرديات مابعد الحداثة.

 

-  يوظف القاص فرج ياسين الحكايات الشعبية والاساطير والمرويات التراثية في قصص اخرى غير (سرداب الخفاش) التي سنتناولها بعد اسطر على نحو فيه قدر من التفصيل. منها على سبيل المثال قصة (غدا في الصدى )(2) من اجل تحقيق اهداف واداء وظائف متعددة. ثمة عالم جديد يُخلق، لا يمكن ادراكه على نحو محدد، انما يدرك على نحو اجمالي حدسي بما فيه من تداخل حكائي وامتزاج الواقعي بالغرائبي، ثمة سكونية ودينامية، سرد داخلي وخارجي، اعمدة وصفوف تتقاطع فتنشأ علاقات فيها عمق وغموض وترميز بقدر مافيها من إفادة وإمتاع وإغراء بالمشاركة في تصور تلك العوالم واعادة انتاجها في مخيلة المتلقي الذي يستجيب مشدودا من البداية المكثفة التي تفصح وتلمح وتدفع نحو التوغل في تلك الاجواء خالقة استجابة ورغبة قوية في المتابعة، والاستمرار حتى نهاية القصة وذلك الاقفال الذي يسهم في اعادة الادراك والانتاج من جديد وتجديد الرغبة بقراءة اخرى ورحلة جديدة.

الحكاية الشعبية المُتَضَمَّنة في قصة (غدا في الصدى) هي التي تعرض اهم المعلومات المؤثرة في النص، التي تقع خارج خط الحدث الرئيس، وهي التي تمثل مقياسا شعوريا وقِيَميا لما كان يشعر به ذلك الرجل تجاه داره ونخلته وتاريخه وجذوره، وكل ما كان يريد ان ينقله الى ابنه الذي يمثل جيلا اقل قربا من تلك الجذور ولكنه غير منفصل عنها. لقد قالت القصة ماتعجز عن ايصاله قصة تقليدية تزيد على اضعاف عدد كلماتها، بسبب توظيف الحكاية والتداخل وتلك التقنيات والمهارات اللغوية.

 

-   في قصة(سرداب الخفاش)  كانت الاجواء تساعد خيال الطفل علي (السارد) على رسم الحكاية كما تبدو له؛ الليل، وضوء الفانوس الواهن، ووجوه اصدقائه الصغار، وامهِ، والخالة نوفة  وحكايتها الشعبية، وابنتها البلهاء، وكومة القطن بينهم، وخياله الذي يتصرف زيادة ونقصانا ويستذكر، ليعرض كل ما في القصة من افعال وافكار وادراك واحساس كما يتخيل علي، وكما يرى ويسمع، متداخلا مع الحكاية التي ترويها الخالة، مما يضفي عليها ملامح الطفولة والبراءة والسحر والخيال.

يبدو السارد مشتت الذهن بين اهتمامه بالبنت، ونفش القطن، ومتابعة حكاية الخالة، واسترجاع مغامرتهم عندما جلب جرواً، واخفاه في السرداب،  فلم يتابع حكاية الخالة في بدايتها "لابد ان الخالة نوفة قد قطعت شوطاً طويلاً وهي تروي حكايتها عندما نهضت البنت البلهاء ذاهبة بالغربال الى الحجرة الداخلية."(3)

ولكنه لا يغفل عن تحركات البنت، اما حكاية الخالة التي تتداخل مع سرده، فانها تشد انتباهه عندما تتناغم مع احساسه "وخيل اليّ انني استمع لأول مرة الى صوت الخالة نوفة مع اننا كنا نتكوم حول صوتها كالفراخ"(4) حصل ذلك الاهتمام عندما ذكرت مغامرة الامير حينَ هَمَّ بالتسلل الى قصر الملكة الشابة.

وتثير الحكاية خياله وتذكره بمغامراته الصبيانية، فعندما تذكر الحكاية وقوع الامير في "سرداب واسع مملوء بالافاعي"(5) يعقبها "ورأيتني ادخل الزقاق البارد المظلم محاولاً مشاهدة الكلب الصغير"(6) وعندما تلحظ الأم شروده تقول "لماذا لا تنفش القطن مثل الاولاد الآخرين؟"(7) يشعر وكأن الخالة اجابت عنه لتزامن عبارة من حكايتها مع سؤال الام، فقد بلغت الخالة في حكايتها قولها "لأن الامير مردان اراد ان ينام مع الملكة الشابة نور العيون..."(8) فيشعر بالخجل.

تطلب الملكة في الحكاية ان يأسر الامير "سبعاً ثم يقوم بإحضاره الى قصرها"(9) وهو قد جلب الجرو واخفاه في السرداب، ربما بطلب من البنت البلهاء، التي تبدو في نوبة من النشاط، يدفعها احياناً الى تقليد صوت الجرو، فضلاً عن عملها في نفش القطن، وجلب كميات منه كلما اكملوا ما في ايديهم.

يبدو انه في تلك الليلة تحت تأثير احساس جديد على طفولته، فنراه يشعر بالارتباك والخجل امام العيون التي يظنها تراقبه، في الوقت الذي يشعر فيه بسحر تلك اللحظات وحلاوة الرفقة والعمل.

تمتزج البراءة والسذاجة والتورية والخيال، بالسرد النابع من عالم الطفولة وخيال الطفل، مما يجعل التعبير ليس بالامر اليسير، لكن المؤلف نجح في خلق تلك الاجواء الساحرة، واعاد خلق الحكاية الشعبية من جديد عندما زجها في شبكة علاقات نصية جديدة، مثلما اظهر مهارة في الخيارات الاسلوبية واللغوية المناسبة لهذا النوع من القصّ.

 

* الشخصيات القصصية المؤسطرة:

-  في هذا الجزء من البحث سوف لن اكتفي باتخاذ قصص الاديب فرج ياسين موضوعاً للدراسة، وسوف اتجاوز ذلك واقوم باستعارة المصطلح والفكرة (الشخصية المؤسطرة ) من الباحث الاكاديمي الدكتور فرج ياسين لغرض تطبيقها على نماذج من قصصه تصلح لذلك. لقد قدم في كتابه ( انماط الشخصية المؤسطرة في القصة العراقية الحديثة ) مباحث نظرية اصيلة واخرى تطبيقية متقنة جمع فيها حس الاديب المبدع الى منهجية الاكاديمي الملتزم، ونظرة الناقد الواعي. ففي بعض القصص القصيرة يطغى الخيال والغرائبية والرمزية، على الرغم من انها تتناول موضوعات غير بعيدة عن الواقع، وتكون شخصية القصة شبيهة بشخصيات الاساطير والحكايات، يلفها السحر والغموض.

ولكن الأسطرة هنا لا تأتي من الأنموذج الاسطوري المستدعى من الاساطير الموروثة، وانما تأتي من الرؤية الاسطورية المتخيلة التي يعاد خلقها من جديد بما يناسب الواقع، وتأتي من السلوك الاسطوري الذي يضفيه القاص على تلك الشخصيات وهذا يختلف عن توظيف الاسطورة في القصة القصيرة.(10)

ويمكن ان نلحظ ذلك في قصة ( رماد الاقاويل ) التي تحمل المجموعة اسمها، وهذا ما سيتم توضيحه هنا. ونجده متحققا ايضا في قصص اخرى منها قصة ( حافات السنين المدببة ) وفيها شخصية العجوز المنعزلة التي تحاط بهالة من الحكايات والاخبار الغريبة ولا سيما ما يتصل منها بزوجها وحكاية غرقه والالواح التي تحتفظ بها والذكريات التي تستعيدها بخيال وغرابة. ومن القصص الاخرى قصة ( طغراء المدينة ) وفيها شخصية الجدة ( تاضي ) عندما عادت من النهر في الرابعة عشرة من عمرها وقد ظهرت على خذيها طرتان زهريتان، وصورها التي اختزنتها ذاكرة السارد من ازمنة مختلفة. وذلك المشهد الغرائبي الذي يرويه السارد عن ( حارسة المكان ) التي وجدها في بيت الجدة، وتلميحاته عن الهواجس التي كانت تدفعه الى الشعور بانهما صورتان لشخصية واحدة. وما حصل بعد ذلك بزمن طويل عندما رأى فتاة عند الخياط تشبه الجدة وتحمل العلامة الفارقة على الخدين.(11)

 

-    قصة (رماد الاقاويل)  قصة مركبة، فيها تداخل في معظم جوانبها ومكوناتها بما فيها حكايتها. الزمن فيها طويل ومتداخل، والاماكن متغيرة لها وجودها الفعلي، ولها وجودها في الذاكرة، وهي في الحالين تتغير من زمن الى آخر ومن ذاكرة الى اخرى. اما الشخصيات فهي متعددة؛ منهم السارد وجماعته، ومنهم تلك الشخصية -الحاضرة الغائبة- التي تدور حولها الاقاويل وتتضارب الروايات الى حد جعلها اشبه بشخصية اسطورية. ويمكن ان تعد شخصية القصة المحورية. ومنهم الشهود والرواة الثانويون وحملة الاخبار والاقاويل. ومنهم من يُشتبه بوجود علاقة له بتلك الشخصية، مدارالبحث والاقاويل. فضلا عن لغة القصة وما فيها من انزياحات ورموز وايحاء، تفصح وتلمح، تحدد وتموه وتشير الى اكثر من اتجاه في آن مع(14)

واذا كان السارد نفسه، الذي يدعي انه رآه عندما كان صغيراً خلف القلعة، تساوره الشكوك، فما الذي يقوله الاخرون من سكنة المكان "عدد من الاقران الذين يسكنون حول عش اللقلق بحيث تغدوا القلعة في مرمى ابصارهم لم يذكروا شيئاً، وقلنا في الحوار انهم لم يروا أي شيء، لأنهم واقعيون"(15) ومثلهم كان جواب الجدة شمسة لا يخلو من الشكوك والتردد.

   وبعد هذا ينبغي القول ان الحكاية لم تكن حكاية شخص غريب، ربما تراءى لطفل في لحظة ما، على نحو اختلط في ذاكرته، بموضاً.

ويعيد السارد الكرة ليكون اكثر وضوحاً واقرب الى الاعتراف متحدثاً بصوت الجماعة ايضاً "قبل ان يظهر لنا هذه المرة، في الحوار، كنا قد استدعيناه من حرائق طفولتنا "(13) ويقترب اكثر من الاعتراف "ربما ظهر هنا او هناك، لكن الامر بعد ثلاثين عاماً، لم يعد بهذه البساطة ابداً"(14)

واذا كان السارد نفسه، الذي يدعي انه رآه عندما كان صغيراً خلف القلعة، تساوره الشكوك، فما الذي يقوله الاخرون من سكنة المكان "عدد من الاقران الذين يسكنون حول عش اللقلق بحيث تغدوا القلعة في مرمى ابصارهم لم يذكروا شيئاً، وقلنا في الحوار انهم لم يروا أي شيء، لأنهم واقعيون"(15) ومثلهم كان جواب الجدة شمسة لا يخلو من الشكوك والتردد.

وبعد هذا ينبغي القول ان الحكاية لم تكن حكاية شخص غريب، ربما تراءى لطفل في لحظة ما، على نحو اختلط في ذاكرته، بفعل عالم الطفولة الساحر الذي يخلط بين ما يرى وما يسمع وما يتخيل. وربما انتقلت تلك الصورة الى مخيلة اطفال آخرين من اصحابهم، لكنهم الآن بعد هذا الزمن الطويل، لا يمكن لأي منهم ان يجزم، ان كان ما رآه حقيقة ام وهماً، مثلما يعجز عن تذكر، ان كان هو الذي رأى او تخيل، ام ان ذلك حصل لأحد اصدقائه .

الحكاية كما وصفها، مثل "قشة تتوقف في مجرى نهر فيعلق فيها ما يغدو بعد ذلك كثيباً من الخرق والعيدان والقواقع والطمى وعظام الاسماك النافقة"(16)

انها حكايتهم هم، هم الذين دخلوا زمن الشيخوخة وفقدوا احبة من اصحابهم وعناصر من حياتهم. لقد تغير كل شيء من حولهم، البلدة والازقة والاماكن التي عاشوا فيها طفولتهم، انهم يبحثون الآن عن شيء مشترك يبعث الحياة في نفوسهم فلا يجدون ذلك الافي اسطورة يخلقونها و في الحوار، والخيال والعودة الى الطفولة، والى تلك المدينة التي عاشوا فيها، وتعيش هي الآن في مخيلتهم وخرائطهم انهم يحاولون العودة الى ماضٍ اثر في نفوسهم بهدف احيائه من جديد. ولذلك فأن الفكر والحس والحلم يعود لهم، والعالم المرسوم في القصة عالمهم، يمثله احدهم كما يرونه ويشعرون به ويتخيلونه ولكن السارد يمارس نوعاً من الانزياح عن مقصده، ربما بدافع المكابرة، مكابرة كهول لا يريدون الاعتراف بفعل الزمن فيهم.

ان القصة هنا وما فيها من ابعاد وسلوكيات وحكايات تبعدها عن الحيز التاريخي مقتربة نحو الحيز الرؤيوي، الامر الذي يجعلها قابلة لصفة الأسطرة، ويتجلى ذلك اكثر في تلك الشخصية الغرائبية المثيرة للجدل. ويبدو لي ان القاص ركّب تلك الشخصية من جذور واصول تاريخية واقعية، ثم أجرى عليها تحويلات متعددة في مختبره السردي، فضلا عما يضيفه خيال الفنان الخلاق من اضافات وصهر وتداخل. ولا اظن اني ابالغ اذا قلت ان هذه القصة - بحسب رأيي المتواضع- واحدة من افضل النماذج في القصة العراقية واكثرها تداخلا وتركيبا وتعقيدا وقابلية للتأويل يتضح ذلك من كل ماتقدم ومما ظهرفيها من مهارات لغوية وخيارات اسلوبية وتجريب في البناء الفني والتقنيات والنسيج والمضامين.

 

* تعدد المستويات السردية:

-  كانت البنية الخطية(17) هي البنية السائدة  في القصة القصيرة، لأنها في الغالب تُقدم بواسطة سارد واحد، يحكي قصته، او قصة شخصيةاخرى. وهذا يعني انها مبنية من مستوى سردي واحد. لكن سعي الادباء الى التجديد والتفرد والابداع ادى بهم الى التجريب فظهرت في سرديات ما بعد الحداثة، تقنيات تجريبية مستحدثة نتج عنها تعدد المستويات السردية، بسبب تعدد الرواة، وتعدد الحكايات وتداخلها.(18)

يمثل المستوى السردي الاول في القصة (السرد القالب Matrix narrative )  ويسمى ايضا، السرد الانموذج، اوالسرد الاطار، وهو السرد الذي يشتمل على سرد مُتَضَمَّن. والمصطلح مشتق من الكلمة اللاتينية (mater) التي تعني (الام، الرحم) وتشير الى الشيء الذي ينشأ في داخله شيء آخر. (19) .

اما )السرد المُتَضَمَّن (Metanarrative فهو مستوى ثانٍ من السرد، ينشأ داخل السرد القالب، في القصص التي يتعدد رواتها أوتتعدد حكاياتها. ويُدعى أيضا السرد التحتيّ  ( Hyponarrative)(20)

 

وللسرد المتضمن وظائف متعددة في القصص اهمها:

1- التكامل الحدثيّ  actional integration : يوظف السرد المتضمن بوصفه عنصرا مهما في السرد القالب.

2- العرض  exposition : يعطي معلومات تقع خارج خط الحدث الرئيس، ولاسيما التي تحدث في الماضي.

3- التشتيت  distraction : يصرف الانتباه عن الحدث المهم، ويقوم بتسريبه على نحو غير مباشر، بينما يتظاهر بالانشغال في سرد حدث آخر.

4-الإعاقة (التأخير)  obstruction (retardation ) : يقوم بتعليق مجرى السرد القالب.

5-القياس التمثيلي  analogy : يعد نظيرا قياسيا لإثبات فكرة الخط الرئيس في السرد القالب، او نقضها. (21)

 

-  يمكن ان نلحظ تعدد المستويات السردية وتداخلها في قصة سرداب الخفاش التي اتخذناها انموذجا لتوظيف الحكاية الشعبية، وقصة رماد الاقاويل التي كانت شخصيتها انموذجا للشخصيات المؤسطرة، وهذا يؤكد ما اشرت اليه في المقدمة، فضلا عن امكانية اتخاذ أي من القصتين او غيرهما انموذجا لدراسة ظاهرة اخرى.

ولكن قصة ( نزع الاقنعة) ستكون الانموذج المختار لهذا الموضوع بسبب وضوح المستويات السردية المتعددة، وما فيها من اطار وسرد متضمن. ومن الجدير بالذكر - في سياق متصل بالفكرة السابقة - انني اخترت هذه القصة سنة 2010 بوصفها انموذجا تطبيقيا لدراسة (العوامل) فيها كما نظّر لها (غريماس) ودرستُ بنيتها السطحية على نحو مقارب لطرائق مدرسة باريس السيميائية.(22)

 

-  تتألف قصة (نزع الاقنعة)(23) للقاص فرج ياسين، من ثلاث حكايات، تؤطر احداها الاخرى.

يعبر السارد في المستوى السردي الاول ( السرد القالب ) عن رغبته في التعرف الى شخصية القصة (خالد سماوة)، ومعرفة عالمه وكشف اسراره. وتعد هذه الحكاية قالبا او إطارا، يتضمن حكاية اخرى، تبدأ عندما يقوم خالد بدورالراوي الثانوي، ويروي خلاصة حياته في السماوة قبل اضطراره الى العودة الى تكريت، وتمثل هذه الحكاية المستوى السردي الثاني ( مستوى سردي متضمن ).  وتضم حكاية خالد بدورها حكاية ثالثة، حكاية زعيم الجماعة المسلحة التي اختطفتهم وهم في طريقهم الى تكريت، وهذه الحكاية تمثل المستوى السردي الثالث.

يرى السارد مشهداً في طريقه الى المقهى فيجعله عبارة استهلال يفتتح بها سرده    "رأيت بضعة كلاب لاهثة تقعي في مواجهة الدكاكين، منتظرة موعد الغروب"(24) ويختزن المشهد المكثف ايحاءات تشير الى الاجواء التي اعقبت الاحتلال، وما جرى بسببها من تغيرات في بعض النفوس، وانهيار في الوضع الامني وتدهور اصاب العلاقات الاجتماعية.

ثم يذكر سبب قدومه الى المقهى  "ملاقاة خالد سماوة، والتعرف عليه، على نحو يطفئ احتقان مشاعري وصخبها... قدمت وفي جعبتي رغبة عارمة لاقتحام عالم خالد سماوة، وافتضاض غلالة صمته"

يؤدي السارد وظائف متعددة في القصة، فهو الراوي الاول صاحب الصوت الذي يقدم الصياغة النهائية، وهو الذي يفتتح القصة ويؤطر حكاياتها، وهو شخصية قصصية تتفاعل مع محيطها، وتقتحم اسرار الاخرين.  ويهتم بالشخصية ممثلا افعاله وواصفا محيطه  "شاهدتُ انحناءة جذعه القاسية المنصرفة الى مراقبة اكف لاعبي الدومينو... احدثتُ صوتا ناعما بملعقة الشاي، فالتفتَ ومكنني من رؤية صفحة وجهه، همس محييا ومعتذرا لانه يوليني ظهره"

ثم يصف المحيط الخارجي، وينقل ما يحصل في المقهى، بانتقاء وايجاز ولغة مكثفة، ويكشف عما يجول في اعماقه، فضلا عن متابعة خالد سماوة، وتمثيل افعاله وافكاره ومشاعره ونقل كلامه.

ومثلما التقطت كامرته مشهدا من خارج المقهى، فان عينيه تقتنصان مشهدا معبرا اخر حين تجولان في فضاء المقهى، في وقفة وصفية دالّة   "جالت نواظري في المقهى، عابرة صور مرشحي الاحزاب الملصقة على الجدران وهامات الزبائن الهاطلة على اكفهم اللاهية بقطع الدومينو."

ويبقى السارد حاضرا في القصة عندما يبدأ خالد حكايته، ويستمر مستمعا ومحاورا ومعقبا.

يحكي خالد بصوته، عن حياته في مدينة السماوة منذ ستينات القرن الماضي، عن عالمه هناك وذكرياته ورفقته، عن ابنائه الذين ولدوا وكبروا وتزوجوا فيها، عن اهلها الذين احبهم واحبوه وحاولوا منعه من مغادرتها، لكن الامر عنده   "صار يشبه وسواسا كابوسيا لم استطع تخطي اثره الذي بات يتفاقم في داخلي" ويقرر العودة مع عائلته بعد استشراء حوادث التهجير في البلاد، ما عدا ابنته المتزوجة منذ خمسة عشر عاما.

ارسل عائلته وتأخر لبيع البيت وإتمام بعض الاعمال الاخرى. وفي الطريق بين بغداد وتكريت يقع في قبضة جماعة مسلحة هو ومن كان معه في السيارة الصغيرة. ينقل صعوبة ذلك الموقف والقسوة التي ابداها الخاطفون، وكيف انهم باتوا بانتظار الفجر - كالخراف -  ووصول زعيم الجماعة .

لكن المفاجئة كانت اشبه بالمعجزة، دخل عليهم الرجل باكيا معتذرا يطلب السماح، ثم حدثهم عن حكايته وما رأى في ليلته الماضية. وهنا تبدأ الحكاية الثالثة، بصوت صاحبها زعيم الجماعة المسلحة، الذي رأى رؤية عجيبة هزته من الاعماق، وايقظت نوازع الخير في نفسه، ونبهته الى الخطر الذي يتجه صوبه، وكانت السبب في صحوة ضميره.

لقد قدم السارد القصة من زاوية نظره، وعندما يصل الى حكاية خالد التي رواها له بصوته، فان زاوية النظر تصبح مركبة من زاوية نظر الاثنين معا. اما الحكاية الثالثة، حكاية زعيم الجماعة المسلحة، فانها تمر عبر ثلاث مرشحات، وتقدم بواسطة زاوية نظر مركبة من زاوية نظر ثلاثة رواة.

لقد ساعد توظيف المستويات السردية وما فيها من تقنيات وتداخل وتركيب، على بناء قصة غنية بالمعاني والافكار والدلالات والايحاءات والرموز. عبرت عن وضع المجتمع العراقي وهو يجتاز مرحلة صعبة مليئة بالمخاطر والتناقضات والتقلبات في القيم والنفوس والمصالح، وفي كل نواحي الحياة.

ولولا هذه التقنية، وطريقة المؤلف في صياغة العبارة بلغة مكثفة، ووضع الشخصيات في مواقف تؤدي فيها وظائف متعددة، لولا ذلك كله لما تمكن من تقديم كل هذه الافكار والدلالات في نص بهذا الحجم القصير نسبيا.(25)

 

* لا مصداقية السارد:

-  يوظف سارد قصة (بيوت الاخوة العرب) (26) ضمير المتكلم معلنا عن وجوده الصريح، ليحكي قصته بصوته مما يعني انه صاحب الصوت وصاحب التجربة. وتظهر مهارة القاص فرج ياسين في بناء قصة تقوم على التداخل بين محورين في مستوى سردي واحد؛ المحور الاول يتمثل في وجود السارد في الشارع، وصبيين يلعبان الكرة، وقطة.. أما الثاني فيتمثل في العالم السري لمجاهل بيوت الاخوة العرب، والموائد الفاخرة، وتلك الفتاة الحسناء التي يحلم برؤيتها.

واذا كان المحور الاول ممكن التصديق لأنه اقرب الى الواقع، فان المحور الثاني اقرب الى احلام اليقظة التي كان يعاني منها السارد، بسبب بؤسه وحرمانه، وخجله ورغباته المكبوتة.

" مررتُ اولاً ببيت الاخوة المغاربة...وكانت الرغبة ماتزال توقد في جوفي خوفاً راعشاً متشوقاً، يشبه وعداً بانتظار أب رحل الى آخرته منذ سنين." (27)

تكمن الصفة الفارقة لهذه القصة في (لاموثوقية السارد) او ضعف مصداقيته، وهي واحدة من اشكاليات سرد الشخص الاول، ولكنها قد تكون السبب الرئيس في جمالية القصة وقدرتها على استدراج القارئ الذي يخرج منها مغموراً بمتعة الاكتشاف.

انها تجربة محرجة ومغرية يُقدِمُ عليها طالبٌ خجول بتردد ووجل، ولكنه لا يصل الى مبتغاه. ويبدو ان جلَّ ما يرويه انعكاسٌ لخياله واحلام اليقظة التي يستقي مادتها من احاديث زملائه..  فبعد ان كان الشاب على بعد خطوة واحدة، يهمس في ظهرها بتحية المساء، يكشف في نهاية القصة انه مايزال في الشارع يبحث عن العلامة التي ترشده الى الباب  "والتفتُ لكي ارى، كانت العلامة التي رسموها لي قد انمحت تماماً، عفرتها وحول الكرة، واطفأت خطوطها المرسومة بالطباشير على الباب." (28) وهذا يثبت عدم مصداقيته، وخياله الذي ظل مصدراً للحكاية وتداخلها ومانتج عنه من معانٍ متعددة عميقة، نفسياً واجتماعياً وسياسياً.

 

* توظيف الضمائر:

-  يكثر توظيف ضمير الشخص الثالث (ضمير الغائب) عندما يتخفى السارد ويسرد القصة من زاوية نظر الشخصية المحورية فيها. ويكثر ايضا توظيف ضمير المتكلم عندما يصرح السارد بوجوده داخل عالم القصة ويحكي قصته او قصة شخصية اخرى مشاركة.

وقد يحصل تجريب في توظيف الضمائر، ففي قصة ( رماد الاقاويل ) يزاوج السارد بين ضمير المفرد المتكلم، وضميرجماعة المتكلمين . فيظهر احياناً بذلك الصوت المعبر عن الجماعة، ويظهر بصوته المنفرد في احيان اخرى، ليكشف عن احساس الجماعة من داخلهم مرة ومن مكان قريب مرة اخرى. وفي هذه الحال يبقى صوت الجماعة هو السائد لان السارد لا يُظهر صفات فردية شخصية عندما يتحدث بصوته، ويحافظ على التزامه بتمثيل الجماعة والتعبير عن افكارهم ومشاعرهم في ذلك الموقف

 

- يتابع السارد المتخفي عادة شخصية محورية منفردة مما يسهل عليه مهمة المتابعة والرصد والاستبطان، فمن غير المقبول قيامه بمتابعة شخصيات متعددة، قد تجتمع أو تتفرق في أماكن مختلفة. لكن الذي يحصل في قصة ( السيمرغ ) أن السارد يتابع مجموعةً تبدو وكأنها كيان واحد، موظفا ضمير الشخص الثالث للجماعة الغائبين (هم)  " ارسلوا روادهم للبحث عنه، بحثوا في كل مكان مسجلين اشارات ضئيلة غامضة في رقاق قلوبهم العاشقة، ثم انتشروا في الحقول والشواطئ..."(29) وهذه من الحالات النادرة في القوالب السردية.

 

-   يعود ضمير المخاطب في قصة (الخروج )  على الشخصية المحورية التي تمثل مركز الوعي والادراك في القصة. وتختلف هذه القصة عن القصص الاخرى التي وظفت ضمير المخاطب، في عدم ظهور السارد المتكلم، لا وجود لضمير يعود عليه، ولا وجود لاشارة واضحة مباشرة او غير مباشرة تدل على وجوده.  فمن صاحب الصوت؟ وما علاقته بالشخصية المحورية في القصة؟ ولِمَ اختار ضمير المخاطب وسيلة لمتابعة الشخصية؟

"ستة عشر عاماً، منذ التقيتَ بذلك الدرويش في سوق الغزل، فابتاع منك ذلك الزوج من الحمام المسكي، رأيتَهُ يشق زحام الناس، فأوقعَ تحركه القاصد المطمئن في روعك، ما لم يتح لك مجالاً للشك في انه كان يسعى اليك."(30)

بهذه اللهجة وهذا الخطاب ينقل السارد حكاية الشخصية، ويصفه من الخارج، ويتسلل الى أعماقه مبتدئاً بهذا المشهد الذي مر عليه زمن طويل، والذي يمثل بداية الحكاية، عندما كان الشاب في سوق الغزل، واتجه نحوه ذلك الشيخ المجلل بالهيبة والوقار، ثم دفع له ثمن الحمامتين وأطلقهما في فضاء السوق.

ينقل السارد دهشة الشاب وتأثره بالمشهد، وشعوره بالطمأنينة وهو يصافح الشيخ. ينقل مشاعره وأفكاره، ويصف مظهره ويصف ما يحيط به، وما يرى و يسمع.. ويبدو ان السارد يعرف كل شيء عن شخصيته، في ماضيها وحاضرها، ولكنه لا يعرف أكثر مما تعرف الشخصية.

يشبه سلوكُ السارد هنا، سلوكَ السارد المتخفي الذي يتوارى خلف الشخصية، موظفا ضمير الشخص الثالث.  ولكن المشكلة في هذه القصة تكمن في توظيف ضمير الشخص الثاني ( المخاطب ) وهذا لا ينسجم مع  تخفي السارد، لان الخطاب بحد ذاته علامة تدل على الظهور. فلم لا يصرح بوجوده ولا يكلم الشخص الذي يخاطبه، موظفا ضمير المتكلم، كما جرت العادة في القصص التي توظف ضمير المخاطب في سرد الشخص الأول؟

لا يمكن القول أن السارد موجود في عالم القصة، لعدم وجود ضمير يعود عليه، وكذلك لا يمكن افتراض أنه سارد متخفٍ، لان ذلك النوع يوظف ضمير الشخص الثالث، عندما يروي من زاوية نظر شخصية في القصة.

أن رفض هذين النوعين الشائعين يدفع بأتجاه اخر، إن السارد هنا يتحدث عن نفسه، موظفا ضمير المخاطب توظيفا مجازيا. أنه يستعيد تلك المواقف والمشاعر والاجواء الروحانية وكأنه شخص اخر، ينظر إلى نفسه من مكان مرتفع، أو من مكان قريب، ويتسلل إلى أعماقها معبرا عن الافكار والمشاعر والهواجس.

ثمة علامات كثيرة تدعم هذه الفرضية أهمها؛ أن السارد لم يصرح بوجوده، ولم تظهر في لغة السرد اية علامات او انفعالات أو تلميحات تدل على وجوده وتفرق بينه وبين الشخصية. وانه يبدو متفقا مع الشخصية الى حد التطابق التام. وهو يعرف كل ما تعرفه الشخصية في محيطها واعماقها، ويعرض اسرارها لان الافكار التي تمثل المواقف الرئيسة في القصة من النوع الذي يحافظ الفرد على سريته، مثل شعور الشاب بأن ذلك الشيخ هو صاحب المقام المبارك، وبحثه عنه طيلة تلك السنين.

ويعزز هذا الاعتقاد ايضا تشابه السرد هنا مع سرد الشخص الاول، في صفة فارقة هي عدم مصداقية السارد، فلا يمكن أن يثق القارئ بكل ما قاله السارد، ولا سيما تلك الرؤيا والمشاهد التي تتسم بالغرائبية، وظهور الشيخ في جامع صغير مهمل، وطريقة وصف السارد لظهوره، والشعور الذي سيطر على الشاب في تلك اللحظات، ثم طريقة وصف اختفاء الشيخ، والحمامتان اللتان حطتا على كفي الشاب، وهذه كلها امور لا يمكن تقبلها كما هي، وهذا من صفات سرد الشخص الاول.

إن اعادة كتابة القصة من جديد بسرد الشخص الاول، من زاوية نظر الشاب أمر ممكن بيسر ولا يتطلب سوى تغيير الضمير، واحلال ضمير المتكلم في محل ضمير المخاطب.

( ستة عشر عاما، منذ التقيتُ بذلك الدرويش في سوق الغزل، فابتاع مني ذلك الزوج من الحمام المسكي، رأيتُهُ يشق زحام الناس، فأوقع تحركه القاصد المطمئن في روعي، ما لم يتح لي مجالا للشك في أنه كان يسعى إليّ. )

وينطبق تقبل هذا المقطع المقتبس للتغيير على القصة كلها من غير حاجة لإجراء تعديلات، سوى تبديل الضمير، وهذا يدل على ان السارد كان يخاطب نفسه، موظفا ضمير المخاطب بدلا من ضمير المتكلم على سبيل المجاز.(31)

 

* التكثيف وبناء العبارة:

-  التكثيف مظهر من مظاهر النظم والصياغة، يتحقق عندما ينجح المؤلف في التعامل مع اللغة وتطويع مفرداتها وعلاقاتها بمهارة تؤدي إلى إنتاج عبارة لها مظهر الجملة الواحدة وسلاستها وانسيابيتها، ولكنها في حقيقة الأمر تحمل خلاصات جمل عدة. أنها تشبه الضفيرة أو الحبل المحبوك من حبال اصغر منه وارق وذات ألوان مختلفة، ثم أصبحت بتأثير مهارة الصانع جسداً واحداً يختلف في متانته ومظهرعماقها من مشاعر انعكست في تلك الحركات، او وصف أشخاص أو أشياء أخ يمكن تحقيقها بطريقتين:" إما عن طريق ربط الافتراضات المعينة في جمل اطول... أو عن طريق طمر افتراضات اكثر في جملة معينة " (33)

وقد اوضحت الطريقتين على نحو غير مباشر من غير ان تشرح، عندما عرضتْ مثالا يصور شخصية في مشهد يتضمن معلومات متعددة، ثم اعادت المشهد بصياغة اخرى لتوضيح الطريقة الثانية.

ويمكن ان نقول لشرح الطريقة الاولى ان المؤلف يأخذ خلاصات الجمل الاولية التي تعبر عن المعلومات الجزئية، ويوجزها ويعيد صياغتها في عبارة اطول، موظفاً الروابط اللغوية مثل حروف العطف.

أما في الطريقة الثانية فالأمر يتجاوز الصياغة اللغوية، ويصبح شبيهاً بتقنية سردية. لأن اللغة تمتزج بالمشهد وتتكثف العبارة من خلال حركة الشخصية ووصف مظهرها ومحيطها، و استبطان ما في اعماقها من مشاعر انعكست في تلك الحركات، او وصف أشخاص أو أشياء أخرى لها ارتباط بالشخصية، من غير توقفات لتمتزج الجزئيات في عبارة اكبر. فالأمر هنا يتصل باللغة ونظمها مثلما يتصل بالمشهد السردي والحدث والشخصية .

-  يميل القاص فرج ياسين الى هذا الشكل من النظم والصياغة في معظم قصصه، ويحقق اهدافاً جمالية ومضمونية غير قليلة بواسطته، وبواسطة اشكال نظمية وتعبيرية، وبواسطة تقنيات سردية اخرى. ويكفي ان نذكر أهم سمة تتحقق في التجربة القصصية وقراءتها جراء اجادته هذا الشكل من النظم المكثف. فالقصة التي تنتج عنه صعبة الانقياد، متعددة الطبقات، متداخلة، تمنح القارئ المبتدئ ما يكفيه من الافكار والاحساس بالمتعة، ولكنها في الوقت نفسه تختزن طاقات متراكمة، لا تمنح نفسها للقارئ المتمرس الخبير دفعة واحدة، وتبقى متجددة مع كل تجربة قرائية جديدة. وفي بعض القصص يؤدي توظيف هذا الشكل وتضافره مع عناصر وتقنيات اخرى الى منح النقاد فرصاً تأويلية متعددة.

تبدأ معظم قصص مجموعة رماد الاقاويل بجمل طويلة من هذا الشكل، تتوالى بعدها جمل اخرى؛ يقول (جمال) سارد قصة (البسوس) التي بدأت بجملة من هذا النوع طولها اكثر من سبعة اسطر، يقول قبل نهاية القصة " وامام كتاب الام، في اللحظة التي أردت فيها ان امد يدي، رأيت صورة صغيرة لفادية، ملقاة في الفراغ الصقيل امام صف الكتب، إنه ليس الوجه الذي كان، ثمة خصلة مبعثرة فوق طوق جبهتها العريضة البيضاء، تكاد اطراف بعض الشعيرات السود تمس احد حاجبيها ثم تنزلق نافرة، فتشتبك مع اهدابها المزججة الطويلة ."(34)

هذه جملة معتدلة الكثافة والطول وتصلح مثالاً توضيحياً لهذا الشكل من النظم (35)

يبدو ان الاصل في هذا الشكل من النظم انه يتكون من جملة مركزية،وجمل اخرى تُرصع بها أو تتضافر معها لإكسابها قدراً اكبر من التأثير والمعلومات . والجملة المركزية هنا ( رأيتُ صورة صغيرة لفادية أمام كتاب الام ) وليس من الصعوبة ملاحظة التحولات التي اجراها المؤلف والافتراضات التي اضافها، فقد جعل الجملة الاصلية جزأين، وحصل فيها تقديم وتأخير، ثم استقطب خلاصات لجمل اخرى تحمل معانيَ ومعلومات، ومحفزات عاطفية، ودلالات، صيغت كلها في عبارة واحدة متماسكة.

ويمكن ملاحظة الفارق بين هذه الجملة البسيطة - التي افترضناها هنا-  وهي لا تحمل سوى الإخباربعثورالسارد على صورة فادية عندما كان يتصفح كتاب الام في مكتبة صديقه، وبين الجملة الكثيفة الواردة في النص، وما حملته من معلوماتٍ وتأثيرات مضافة، لقد وصف السارد نفسه وحركته، ووصف محيطه، وعبرعن مشاعردفينه، ثم اعطى معلومات عن الصورة وصاحبتها، وعبر عما لحظه من تغير طرأ عليها، فلم يعد ذلك الوجه البريء الذي الفه ايام الدراسة.

اما الطريقة التي اتبعها فهي الطريقة الثانية التي ذكرتها لوهافر، فلم يلجأ الى روابط لغوية لدمج عدد من الجمل في جملة واحدة رئيسة، وانما اجرى تغييرات عدة على خلاصات لجمل فرعية في مخيلته، لا تقتصر على الصياغة اللغوية وانما تتعداها الى التداخل مع المشهد السردي وتقنياته، وطرائق تمثيل الوعي والافكار.

 

-   ونجد في قصة ( غداً في الصدى ) جملة تصلح مثالا لهذا الشكل من النظم ولكن الطريقة تختلف عن الجملة السابقة  " بدا الشاطئ مزدحما هذا اليوم، فأركن الرجل سيارته ونضا ملابسه ثم ساعد الصبي في تغيير ملابسه، حاثاً إياه على الإسراع في القفز الى الماء، وفيما شرع يشير بالتحية إلى أباء الصبية الآخرين المقرفصين على الشاطئ، يدخنون ويراقبون أبناءهم، استل هو الآخر سيكارة وأشعلها، ثم جعل يمضغ الدخان مستمتعاً "(36). يلجأ المؤلف إلى الطريقة الأولى التي ذكرتها لوهافر، ويمكن ملاحظة الروابط التي وظفها من حروف العطف ( فركن، ونضا، ثم ساعد، وفيما، ويراقبون، واشعلها، ثم جعل ). الحال والنعت ايضا يضيفان الى الجملة افتراضات وأفكار اضافية ( مزدحما، المقرفصين، مستمتعاً ).

وعلى الرغم من هذه الصفات العامة في اسلوب القاص، وميله نحو خيارات اسلوبية معينة في معظم قصصه؛ الا أن لغة (جمال) في قصة (البسوس) تختلف عن لغة الطفل في (سرداب الخفاش) وعن لغة السارد في قصة (رماد الاقاويل). ويرجع السبب الى مراعاة القاص عدة امور بحسب طبيعة كل قصة وفي مقدمتها انه هنا يعبر بلغة السارد المناسبة لصفاته وظروفه في القصة. فضلا عن قيام المؤلف بتوظيف عناصر وخيارات اسلوبية اضافية تناسب كل قصة. (37)

 

* الانزياح:

-  يعني الانزياح عند جان كوهين الانحراف عن التعبير ، وهو خرق منظم مدروس لقوانين اللغة . وهو الذي يحدد شعرية النص على أن يحافظ على التواصل ولا يؤدي الى الابهام لانه  ( اذا ما تجاوز الانزياح الشعري حدا معينا ، فان اللغة الشعرية ستفقد كل مبرر لوجودها ، لانها – ككل اللغات – محكومة بقانون التواصل)(38) فهو يرى فيه وسيلة لخلق الاريحية والتمايز في اللغة الشعرية وليس هدفا .

- تتعدد حالات الانزياح في قصة (رماد الاقاويل) وقصص المجموعة الاخرى ومنها هذا النوع الذي يطالع القارئ في بداية القصة   "من الذي يمنع من نفاذ هذه الصرخة الى محطة الشكوك في قلوبنا؟ اذا ما عمدنا الى تصغير لوحة الاحداث المنتشرة في متون ثلاثة عقود..." (39)  ان الفاظ؛ محطة، لوحة، متون، ليست من الحيز الذي تنتمي اليه الكلمات عنات اليأس، يأس كهول، خارجين لتوهم من حفلات هراش ديكة..."(41) فمات المختلفة المؤتلفة ثمة انزياح.

- ويحصل نوع آخر من الانزياح في قصة (رماد الأقاويل)(40) فان الموضوع الأهم، ومقصد السارد ليس في البحث عن سيرة ذلك الرجل الغريب الذي رآه في طفولته كما صرحَ بذلك ، وانما في موضوعات أكثر أهمية، منها تاريخ المدينة الصغيرة وذكريات حياته وأصدقائهحصل تناص وتداخل مع عدد من الاشرطة السينمائية الشهيرة في قصة (الميتافيزيقي) للقاص فرج ياسين. فالقصة تتألف من عدة حكايات جزئية تنتج عن حالات السارد الذي كان مولعا بالافلام الى الحد الذي ينسى معه واقعه ويعيش في اجواء الفلم الذي يشاهده. وفي القصة ايضا تداخل يظهر في مقدمتها التي تشبه مقدمة المقامات أو الحكايات العربية القديمة   " زعموا ان رجلا من دار السلام كان مولعا بمشاهدة الافلام. ولشدة ذلك فيه، صار ينسى نفسه، فيدخل في اللقطات والمشاهد عبر الشاشبعد ان وصف السارد جماعته الذين يمثلهم ويتحدث باسمهم، بـ: كهول، يعدل الى الحكي عنهم بصيغة الغائبين موظفاً الضمير المناسب لذلك.

- وقد نجد انزياحا يشمل النص القصصي باسره يظهر في تداخل الاجناس الادبية، وتناصها مع اجناس وفنون اخرى كالشعر والسينما واللوحة التشكيلية مثلاً.

يحصل تناص وتداخل مع عدد من الاشرطة السينمائية الشهيرة في قصة (الميتافيزيقي) للقاص فرج ياسين. فالقصة تتألف من عدة حكايات جزئية تنتج عن حالات السارد الذي كان مولعا بالافلام الى الحد الذي ينسى معه واقعه ويعيش في اجواء الفلم الذي يشاهده. وفي القصة ايضا تداخل يظهر في مقدمتها التي تشبه مقدمة المقامات أو الحكايات العربية القديمة   " زعموا ان رجلا من دار السلام كان مولعا بمشاهدة الافلام. ولشدة ذلك فيه، صار ينسى نفسه، فيدخل في اللقطات والمشاهد عبر الشاشة الصغيرة، وهذه بعض احواله الغريبة واقداره العجيبة "(42)

 

* وفي الختام أقول ان موهبة القاص فرج ياسين وثقافته ووعيه النقدي وغيرها من مقومات النجاح، قد ساعدت على تشكيل عوالم تزخر بالتنوع والابتكار والتفرد والجمال والغرائبية والواقعية وصوت الذات وصوت المجتمع... وعلى الرغم من عناية البحث هذا بالجوانب الشكلانية - لأنها أهم ما يُدرس في العمل الفني - الا ان المضامين الانسانية والفكرية لم تكن بعيدة عن الاشارة والتلميح، فالعمل الادبي كلٌّ متكاملٌ متجانس، وكان من بين ما تبين ان ( الغرائبية ) في عالم فرج ياسين الحكائي لم تكن مقصودة لذاتها وانما كانت احدى الوسائل التي تساعد على خلق الفن والجمال والتعبير عن الانسان والواقع، وفي هذا تكمن واحدة من اهم محاسنها.

 

 

....................................

الهوامش:

1- ينظر السرد المتضمن ووظائفه في القصة القصيرة، كريم ناجي، 92-93.

2- ينظر رماد الاقاويل، فرج ياسين،  32-38.

3- المصدر نفسه، 39.

4- المصدر نفسه، 40 .

5- المصدر نفسه.

6- المصدر نفسه.

7- المصدر نفسه.

8- المصدر نفسه.

9- المصدر نفسه، 41.

10- ينظر انماط الشخصية المؤسطرة في القصة العراقية الحديثة، د. فرج ياسين،  118- 122  .

11 - ينظر قصة طغراء المدينة، فرج ياسين، صحيفة المثقف العدد: 1925  .

12- رماد الاقاويل، فرج ياسين، 13 .

13- المصدر نفسه .

14- المصدر نفسه، 14 .

15- المصدر نفسه .

16- المصدر نفسه ، 21.

17- ينظر الاعتراف بالقصة القصيرة، سوزان لوهافر، 82-86 .

18-  ينظر السرد المتضمن ووظائفه في القصة القصيرة،  كريم ناجي.

19- ينظر علم  السرد، يان مانفريد، 80 .

20- ينظر المصدر نفسه، 84 .

21- ينظر خطاب الحكاية، جيرار جينيت، 239- 245.   وعلم السرد 85-86. وعودة الى خطاب الحكاية، جينيت، 111- 123  للاطلاع على تفاصيل حول المستويات السردية ووظائف السرد المتضمن.

22 -  ينظر العوامل في القصة القصيرة (نزع الاقنعة) ، كريم ناجي،  صحيفة ميدل ايست اونلاين ارشيف  20-8-2010.

23- ينظر قصة نزع الاقنعة، فرج ياسين، صحيفة المثقف، العدد 1269.

24- القصة غير منشورة في مجموعة، وجميع الاقتباسات مأخوذة من النص المنشور في المصدر السابق.

25- ينظر زاوية النظر في القصة العراقية المعاصرة،  كريم ناجي، 81-83.

26- ينظر رماد الاقاويل، فرج ياسين، 72-77.

27-  المصدر نفسه، 72.

28-  المصدر نفسه، 77.

29- المصدر نفسه،  115.

30- المصدر نفسه،  64 .

31-  ينظر زاوية النظر في القصة العراقية المعاصرة،  كريم ناجي،  158- 159.

32 -  ينظر المصدر نفسه،  110.

33- الاعتراف بالقصة القصيرة، سوزان لوهافر، 57.

34- رماد الاقاويل،فرج ياسين،  104-105.

35- ينظر المصدر نفسه،    5  و 13  و  39.   وغيرها للاطلاع على نماذج اخرى.

36- المصدر نفسه، 37.

37- ينظر زاوية النظر في القصة العراقية المعاصرة، كريم ناجي، 111 – 112.

38- بنية اللغة الشعرية، جان كوهين،   173.

39- رماد الأقاويل، فرج ياسين، 17 .

40- ينظر المصدر نفسه، 13 – 22.

41- المصدر نفسه، 13 .

42- المصدر نفسه، 23.

...........................................

 

المصادر والمراجع:

- الاعتراف بالقصة القصيرة، سوزان لوهافر، ت: محمد نجيب لفتة، مراجعة: د.عزيز حمزة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1990.

- انماط الشخصية المؤسطرة في القصة العراقية الحديثة، د. فرج ياسين، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1 ،  2010.

- بنية اللغة الشعرية، جان كوهين، ت: محمد الولي ومحمد العمري، الدار البيضاء.

- خطاب الحكاية (بحث في المنهج)، جيرار جينيت، ترجمة  محمد معتصم  وعبد الجليل الازري  وعمر حلي، نشر المجلس الاعلى للثقافة والفنون، المشروع القومي للترجمة، ط 2، 1997.

- رماد الاقاويل، فرج ياسين، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1 بغداد 2006.

- زاوية النظر في القصة العراقية المعاصرة، كريم ناجي، رسالة ماجستير، جامعة واسط، كلية التربية، 2011.

-  صحيفة المثقف، العدد 1269،  قصة نزع الاقنعة، فرج ياسين.

-  صحيفة المثقف العدد: 1925 ،  قصة طغراء المدينة، فرج ياسين.

- صحيفة ميدل ايست اونلاين 20-8-2010 ، العوامل في القصة القصيرة (نزع الاقنعة)،  كريم ناجي.

- علم السرد(مدخل الى نظرية السرد)، يان مانفريد، ترجمة اماني ابي رحمة، ط1 الموصل 2009.

- عودة الى خطاب الحكاية، جيرار جينيت، ت: محمد معتصم، تقديم د. سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي،  الدار البيضاء، ط1 2000.

- مجلة كلية التربية جامعة واسط، العدد العاشر، السنة الخامسة، كانون اول2011، بحث: السرد المتضمن ووظائفه في القصة القصيرة،  كريم ناجي.


خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)


في المثقف اليوم