تكريمات

ملف: سيميائية العنوان في شعر يحيى السماوي مجموعة (قليلك....لا كثيرهن) أنموذجا

للولوج إلى أغوار النّص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها)1.

لقد استمرت الدراسات النقدية في فحص آليات العنوان وطرق اكتشافه واختياره ووظائفه المرجعية واللغوية والتأثيرية، وكان لجيرار جينيت، وهنري ميتران، وشارل غريفل، وروجر روفر، وليو هويك، وغيرهم من النقاد الغربيين الأثر الواضح في مقاربات العنونة تعريفا وتحليلا. ولم يخل المشهد النقدي العربي الحديث من محاولات في دراسته بنيويا وسيميائيا على شكل دراسات نقدية أو أطروحات أكاديمية أو مقالات تنشر في هذه المجلة أو تلك2 ولا نريد تتبع التاريخ في دراستنا هذه بمجمل ما كتب عن العنوان، فان ما نبتغيه هو اختيارنا له أداة إجرائية في كشف جماليات العنونة في شعر يحيى السماوي .

يعد العنوان في الخطاب الشعري ـ مثل باقي الخطابات الأدبية ـ جزءا عضويا يتعالق بما يمكن أن تطرحه البنية الشعرية من دلالة وإيحاء. ولا تتوقف صياغة العنوان على مهارة الشاعر في تعيين التشارك الدلالي بين العنوان والمتن فحسب، وإنما في إرغام القارئ منذ الوهلة الأولى على دخول دائرة الإغراء والمراوغة بوصف العنوان أول مواجهة للقارئ مع الكتاب .

هذه الدائرة التي يخلقها الشاعر تثير في ذهن القارئ أسئلة عدة، لا يستطيع الإجابة عليها ما لم يقتحم أغوار النص، وهذا ما عمد إليه كثير من الشعراء في خلق الوظيفة الإغرائية وتغليبها على الوظائف الآخر كونها نوعا من الإشهار للنص الذي يتوافق مع التشكيل البصري للغلاف، ويبدو أن تجسيد هذه القصدية بإثارة الحدس والفضول هي التي جعلت الشعراء يقدمون على اختيار العناوين المثيرة للغاية، وسواء أكانت القراءة توصيلية (إبلاغ) أو جمالية (إمتاع) . تحاول الإجابة على الأسئلة المفترضة، فان العنوان يبقى ذلك النص الملغز والمعزول قبل الدخول إلى المتن، إلا في حالة العناوين التي تعمل على تحيد لمعنى المباشر، مما يؤدي إلى التأثير السلبي في عملية القراءة. وعلى هذا الأساس اهتمت بعض المناهج النقدية ولا سيما المنهج السيميائي بالعنوان بوصفه أقصى اقتصاد لغوي في النص الأدبي، وتثير لحظة تلقيه انفعالا ما مع المضمون النصي، إذ تشكل تلك اللحظة إغواء للمتلقي بضرورة الولوج إلى داخل النص وكشف مدى ارتباط العنوان بمكوناته سواء أكان نثرا أو شعراً. فهو مهما تعددت تحديداته (ضرورة كتابية)3 أو (بؤرة النص) 4 أو (مفتاح دلالي)5 أو ((لامة لسانية)6 تختزن مكونات النص وتحرك المتلقي باتجاه توريطه في دخول تلك المكونات مع دلالاتها بوصفه (بنية صغرى لا تعمل باستقلال تام عن البنية الكبرى التي تحتها، فالعنوان بهذه الكينونة – بنية افتقار يغتني بما يتصل به من قصة، رواية، قصيدة، ويؤلف معها وحدة سردية على المستوى الدلالي)7، ويفترق عنها بوصفه (مرسلة مستقلة مثلها مثل العمل الذي يعنونه ودون أدنى فارق بل ربما كان العنوان اشد شعرية وجمالية من عمله في بعض الإبداعات التي يتوقف اكتشاف المدخل النقدي إليها على بناء نصية العنوان أولا وقبل أي شيء آخر) 8

إن العلاقة بين العنوان والنص أو الخطاب علاقة معقدة أكثر مما نتصور، ففي الوقت الذي يظهر العنوان وكأنه في حالة توازن شكلي أو دلالي مع الخطاب، أو في حالة إحالة مرجعية إليه، نجده كثيرا ما يفترق العنوان عن مرجعيته، بل يراوغ ويماطل بما يحتاج إلى مفاوضة عنيدة لفك شفرته، وإعادة تصوره ضمن لعبة تأويل جديد .

 

لا يمكن قراءة العنوان بعيدا عن النص، إذ العلاقة بينهما جدلية، فنحن نحتاج حتى نفهم العنوان أن نفهم النص، والعكس صحيح أحيانا. يشكل العنوان نقطة انطلاق إلى النص وفهمه، فمن خلال العنوان نجس نبض النص وكأننا لا ندخل النص من نقطة الصفر، وفي الوقت نفسه فان العنوان يفتقر إلى مرجعية يتسلح بها غالبا ما تكون النص نفسه .لا تقف العنونة في المتخيل الشعري عند وظيفة الإحالة أو التعيين، وإنما تتعدى ذلك إلى أغراض رمزية وإيحائية وفنية وجمالية، فهي غالبا ما تنتهك اللغة المعيارية التي هدفها التوصيل إلى اللغة المنزاحة، فتبني شعريتها في العمق عبر هذا الانتهاك المنظم أو عبر الانزياح الأسلوبي عن اللغة المعيارية.

قليلك ... لا كثيرهنّ

تنقسم العناوين في كل المجاميع الشعرية إلى عناوين خارجية تمثل في كل مجموعة (العنوان الغلافي) أو الرئيسي وعناوين داخلية تمثل في كل مجموعة (العنوان الفرعي) وعلى أساس هذا التقسيم يكون العنوان الخارجي هو (قليلك.....لا كثيرهن) هو العنوان الغلافي أو الرئيس للمجموعة، وتشكل قصائد المجموعة العناوين الفرعية لها.

تشكل وظيفتا (الإمتاع) و (الإقناع) في كل نص أدبي مرتكزا أساسيا من مرتكزات القراءة بكل وظائفها المرجعية والانفعالية والتأثيرية والتواصلية والميتالغوية والافهامية. وبما أن هذه الوظائف يمكن سحبها على أي نص أدبي، فإننا في هذه الحالة يمكن لو أننا نعد العنوان نصا مستقلا بذاته فعند ذلك يمكننا مقاربته بعيدا عن المتن بوصفه رسالة (وهذه الرسالة يتبادلها المرسل والمرسل إليه وهما يساهمان في تواصل المعرفي والجمالي، وهذه الرسالة مسننة بشفرة لغوية يفككها المستقبل)9 حسب تقبله لها.

كثيرا ما يقف القارئ أمام العنوان وهو مؤثث بالدهشة والحيرة، ومتوجس من الإغواء والإغراء القصدي، ولا سيما العنوانات المراوغة التي لا تسلم نفسها بسهولة إلى المتلقي، لأنها تخفي دلالاتها بامتناع ينماز بالغرابة، ويبدو أن تعد الدلالات احد المشوشات التي لها فاعلية مؤثرة في ذلك، ومن هذه العنوانات عنوان المجموعة (قليك ...لا كثيرهن)، ولأنها تمتلك ثراء دلاليا حاولنا مقاربة العنوان في بنيتين منفصلتين هما:

 

1-   العنوان: بوصفه بنية نصية مستقلة

يعد كثير من الباحثين العنوان رسالة لغوية ـ بالمفهوم السيميائي ـ إذ يعاملونه معاملة النص لأنه (البناء اللّغوي للعنوان في شتى أشكال الخطاب الأدبي يؤدي وظائف فنية تتجاوز دائرة الوظائف البراجماتية ممثلة في لفت الانتباه والأخبار و الإعلام)10

ينتمي عنوان (قليلك ... لا كثيرهن) إلى صيغة العنوان الجملي، فهو يتكون من جملة فعلية محذوفة الفعل، وبإمكان القارئ أن يضع الفعل الذي يتوافق مع قراءته كأن يكون الفعل(أريد) وما يتبعه من مترادفات لغوية فيكون إعراب الجملة (أريد) فعل مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره (أنا) و(قليلك) مفعول به منصوب وهو مضاف والكاف مضاف إليه. (لا) نافية عاطفة (ومن شروطها أن يكون ما قبلها ضد ما بعدها) والجملة المعطوفة تعرب الإعراب ذاته من حيث الفعل المحذوف، أو الفاعل أو المفعول به والمضاف والمضاف إليه. وهنا نتساءل لماذا لم يعمد السماوي إلى هذه الصيغة التوضيحية التي ذكرناها؟ ونظن أن ذلك يعود لسببين:

الأول: إن جمالية القول البلاغي تكمن في الإيجاز، وان إيجاز الحذف قد فعّل هذا القول في حالتي الإقناع والإمتاع معا. وبذلك أراد أن يغوي القارئ ويغريه في الوقوف مندهشا أمام هذه الثنائية الضدية التي ربما تلخص مجمل القول الشعري عند السماوي .

الثاني : أراد السماوي من هذا العنوان ان يكون مراوغا وعنيدا، إذ كلما حاولنا الإمساك به انفلت من بين أيدينا، فنعود مرة أخرى لنحاول القبض عليه وتأويله، وهكذا تتعدد دلالاته وتتشظى بحسب كل قراءة .

 

2-   العنوان بوصفه بنية تواصلية:

وعلى الرغم من أن عنوان (قليلك..... لا كثيرهن) يخلو في بنيته التركيبية من المكان في بنيته السطحية، إلا أن الإحالة الدلالية في بنيته العميقة توحي عكس ذلك، إذ تنطلق منها الصلة المفترضة والواقعة فعلا في آن واحد بين الداخل والخارج. الداخل بوصفه (الوطن) والخارج بوصفه (المنفى) بشكل عام . إذن مثل هذه العناوين تكون رمزية بتجريدها الانزياحي وتختزن في كوامنها العلاقات الرمزية والإيحائية، كي يتكفل القارئ بفك هذه الرموز والوصول إلى الدلالات العميقة أو المتكررة بحسب كل قراءة.

وقد وقع يحيى السماوي تحت تأثير الغربة فانقسم العنوان الدال على المكان لديه على أربعة أماكن مفترضة هي :11

1-   داخل مرفوض مهجور.

2-   داخل مطلوب شعوريا وعاطفيا.

3-   خارج مسكون ومستقر فيه.

4-   خارج معاد ومعاكس للحلم القديم.

ومن هنا تتضاعف أغلفة الغربة لتغدو اغترابا حادا بالمعنى الفلسفي الذي يضمر الوحدة والوحشة والعزلة. وعند تتبعنا العناوين الغلافية (الخارجية) التي انوجدت في شعر السماوي وجدنا صحة ما ذهبنا إليه، إذ أن ثنائية الوطن المنفى قد انعكست في اغلب العناوين تعبيرا عن الإحساس بالغربة عن الذات والمكان.

إن الانكسار النفسي الذي عكسته العناوين جاء في مفردتين تكررتا بشكل مباشر أو غير مباشر هما (الوطن) و(العين) كما في مجموعة (عيناك دنيا) 1970، ومجموعة (قصائد في زمن السبي والبكاء)1971، ومجموعة (قلبي على وطني) 1992، ومجموعة(جرح باتساع الوطن) 1994، ومجموعة (من أغاني المشرد) 1993، ومجموعة (عيناك لي وطن ومنفى) 1995، ومجموعة (هذه خيمتي .. فأين الوطن ..؟) 1997، ومجموعة (أطبقت أجفاني عليك) ومجموعة(نقوش على جذع نخلة) ومجموعة(قليلك ... لا كثيرهن) ومجموعة (البكاء على كتف الوطن).

تشكل ثنائية الوطن / المنفى البؤرة التي يعلن السماوي بوساطتها رؤيته للعالم وهي تتوزع في قصائد الشاعر وتنوجد في اغلب الأحيان بقوة الأحاسيس والمشاعر التي ظلت ترافقه منذ الهواجس الأولى بكل ما تحمل من معنى .

وإذا كانت جمالية أي عنوان تتحدد بالعلاقة التبادلية بين العنوان ذاته والقارئ، لتشكل هذه العلاقة حوارا معينا بين المراجع المحددة والدلالات المتعددة، فإنها لا بدأن تكون قد أخذت جهدا معينا من الشاعر وهو يحاول اختزال الصورة الكلية للقصائد وتعليقها في وسط الغلاف بوصفها ثريا تشع بأضوائها إلى مكامن النص كافة.

من كل ما تقدم نستنتج ما يلي :

1-   إن عنوان (قليلك...لا كثيرهن) يقرا بوصفه علامة لغوية مستقلة ويقرا بوصفه علامة لغوية تواصلية ذات علاقة مؤثرة في النص

2-   إن الوطن والمنفى يتبادلان الحضور في كل من العنوان والنص وبذلك استطاع الشاعر من خلال هذه التقانة تأثيث نصه بالمفارقة .

3-   إن ثنائيات الذكورة/ الأنوثة، الوهم / الحقيقة، الماضي / الحاضر، السكون / الحركة قد تجلت في العلاقة الجدلية المتمثلة في تفاعل النص مع العنوان عبر الانسجام والتغريض الدلالي .

 

.................

هامش

(1) .: (السيميوطيقا والعنونة)، جميل حمداوي مجلة عالم الفكر، وزارة الثقافة، الكويت، العدد 03، المجلد 25، 1997: 96. .

(2) من مثل: العنوان وسيموطيقيا الاتصال الأدبي, محمد فكري الجزار, الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998، سيمياء العنوان، د. بسام قطوس. وزارة الثقافة, عمان-الأردن, ط1, 2001، ثريا النص-مدخل لدراسة العنوان القصصي- محمود عبد الوهاب, الموسوعة الصغيرة (396), دار الشؤون الثقافية العامة بغداد،1995. السيميوطيقيا والعنونة، د. جميل حمداوي، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد25، العدد 3يناير/ مارس 1997. النص الموازي في الرواية، إستراتيجية العنوان، شعيب حليفي، مجلة الكرمل، ع46، 1996. العنوان في الرواية المغربية، جمال بو طيب، ضمن كتاب الرواية المغربية، أسئلة الحداثة،ة منشورات دار الثقافة، الدار البيضاء1996. عتبات النص البنية والدلالة، عبد الفتاح الحجمري، منشورات الرابطة، الدار البيضاء 1996، وغيرها من الكتب والدوريات التي تناولت العنوان.

(3) العنوان وسيموطيقيا الاتصال الأدبي، محمد فكري الجزار: 45

(4) سيمياء العنوان. بسام موسى قطوس: 7.

(5) مع امبرتو ايكو، عبدالرحمن ابو علي، مجلة نزوى، العدد14, 1998م

(6) ثريا النص: مدخل الدراسة العنوان القصصي، محمود عبد الوهاب: 9.

(7) المصدر نفسه: 9

(8) العنوان وسيموطيقيا الاتصال الأدبي: 31.

(9) السيموطيقيا والعنوان، د. جميل حمداوي، مجلة عالم الفكر، العدد 03، المجلد 25، 1997 :101.

(10) وظيفة اللغة في الخطاب الروائي الواقعي عند نجيب محفوظ، دراسة تطبيقية، عثمان بدري، موفم للنشر والتوزيع، الجزائر، (د،ط)، 2000، ص:29

(11) في غيبوبة الذكرى، دراسات في قصيدة الحداثة، حاتم الصكر، دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، دبي،2009: 55.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1263 الاثنين 21/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم