تكريمات

قراءة في ديوان "هذه خيمتي .. فأين الوطن؟" للشاعر العراقي يحيى السماوي (2)

 

ومن ثم اختار لها عنوان (يا دار خير عباد الله قاطبة). وقد اتخذها يحيى السماوي مقاما بعد أعوام عديدة من مغادرته بلده، فكانت دار الأمان التي مكث فيها زمنا ثم ألقى عصا الترحال في أقصى بقعة في الكرة الأرضية وهي مدينة استرالية يعيش فيها الان . وتشفّ هذه القصيدة عن انتمائه الإسلامي الأصيل وأنفاسه الحرى المتوهجة حين يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ومقدمه مشوقا الى رحابه العطرة التي قرت بها عينه، إذ كفلت له العيش الكريم وآمنته من خوف:

أتيتُ " طيبة َ" هـمِّي يستبي هِـمَمي

سعيا ً على القلب لا مشيا ً على قدمي

يُـسـابـق الـقـلبُ أشـواقي فـيـتركـني

ظلا ًعلى الدرب ِأو عصفاً بمُضْطرَم ِ

بي للأمين من الأشـواق ِ عـاصِــفـة ٌ

فـهـل ألامُ إذا عـانيتُ مـن غـَـرَمي ؟

ويقود الحنين مرة أخرى إلى وطنه فيذكر بعض مدنه وأحيائه ملتاعا ً محزونا ً لعجزه عن إنقاذها من براثن الفجرة:

على " الرصافــة " أوثان ٌ مُـدَنـّسَـــة ٌ

وظبية ُ" الكرخ" بين الصاب ِوالصَّنم ِ

 

وتشغل القدس زهرة المدائن إحساس شاعرنا وضميره بعد وقوعها في أسـر الصهاينة قراصنة العصر، فنراه يخاطبها في قصيدته (المتاهة) مكررا اسمها ثلاث مرات:

 

يا قدسُ قد رخص النضـالُ وأرخـَصَتْ

شـُهُـبُ الـمناصب ِ باسـمـك ِ الأسـعـارا

يا قـدسُ قــد باعـوك ِ سِــرّا ً فاســألـي

" طابا " عـسـاها تـكـشـف ُ الأسـرارا

يا قـدسُ مــا خان الـجـهـادُ ... وإنـّمـا

خـان الــذي بـاسـم الجـهــاد تــَبـارى

 

فهو يشجب إتـِّجار الساسة بهذه المدينة العربية الإسلامية التي يقع بها بيت المقدس أول القبلتين وثالث الحرمين، وكأنهم النخاسون الذين يقيمون مزادا لبيع العبيد وشرائهم، ويكرر كلمة الجهاد في القصيدة بوصفه نقيضا ً للعمل السياسي المراوغ:

حَـتـّام نــلــقي الـلـوم في أعــدائـنــا

إنْ كـان صــرحُ جـهـادنا مـنـهـارا ؟

 

ومن المدن التي ذكرها الشاعر باعتبارها رموزا ً ذات دلالات تاريخية " بابل " إذ تشير إلى عراقة وطنه العراق . ولما كانت " بابل " رمزا لهذا الوطن المقهور المأسور، فقد استعادت ذاكرته السبيَ البابلي، متشائما ً من مصير بلده:

فاكتبْ وصِـيّـتك َ ..

المدائنُ شـَيّـعتْ أقمارها

لا شيء يُنبئ أن " بابل " سوف تنهض مرة ً أخرى

فتفتح بعد هذا السبي باب المستحيلْ

 

ومثلما وظف السماوي المكان لتحقيق الأغراض النفسية والفنية التي أشرنا إليها وظف الزمان لذلك أيضا . فهو يذكر شهري تموز ونيسان بوصفهما رمزين للعار المتمثل في انقلاب 17 تموز وولادة صدام حسين فيقول في قصيدته (سأقول ما بي):

قررتُ أن أقول ما بيْ

وطني غانية ٌ مهتوكة ُ الإزارْ

يا عارَنا الممتدَّ من مقلة ِ " تموز َ"

إلى السابع من " نيسانْ "

 

ومن مفردات الزمن يوظف نصف الليل لارتباط هذا الوقت بالغارات التي تشنها السلطات الغاشمة الديكتاتورية عى بيوت معارضيها وأهليهم ورفاقهم، لاغتيالهم أو سلخهم أو الزج بهم في زنازين السجون، فيقال " زوار الفجر " أو " زوار نصف الليل " كناية عن جنود أولئك السفاحين والشياطين العتاة . ويسمي الشاعر هذه الغارات الرهيبة بالفتوحات من قبيل السخرية، وشر البلية ما يضحك، لأ ن مدبريها الأوغاد يعدونها بطولات ويباهون بها:

ألموتُ من خلفي

ومن أماميَ الإعصارْ

على فمي تنهضُ عفراء منىً شهيدة ً

وفي دمي حديقة ٌ مذبوحة ُ الأزهارْ

فمن يُقيلُ عثرة َ الهارب ِ من ذاكرة ِ النخل ِ

إلى ذاكرة الإعصارْ ؟

خجلتُ من قيح البطولات التي تبدأ نصفَ الليل ِ

ما عدتُ فتى الـفرات ِ

والفراتُ ما عاد َ فتى الأنهارْ !

 

ويستعمل يحيى السماوي أسماء مواقيت أخرى في تلك القصيدة مثل الصيف والليل والنهار للدلالة على دوام القهر رغم تقلب الزمن، ويختم نغمها الأسيان البكائي، لتحول العراق إلى مقبرة أو أطلال رمادية يخيم عليها شبح الظلام والخراب والفناء، بنفثات وأنات من صدره الكظيم وتساؤلات حائرة فاجعة، كأنها عويل الجنازات التي تحمل جثة الوطن ورفات الأحلام المجهضة في تابوت:

ألحَظ ُّ في الفنجان ِ .. والرغبة ُ في الخوذة ِ

والرمادُ في الأهوارْ ..

لا النجمُ في الليل ِ

ولا الشموسُ في النهارْ

يا وطني المحترق َ البيوتْ

يدي على قلبي

وقلبي في فمي يشربُ وحْـلَ الخوفِ والسكوتْ

من أين لي

لجُثـّـة العراق ِ

للنخل ِ الفراتيِّ

لجثمان المنى تابوت ْ ؟

التضمين والتناص:

 

يُعَـدُّ التضمين أو التناص سمة ً أساسية من سمات ديوان (هذه خيمتي .. فأين لوطن ؟)، وتضمينه منصبٌّ على الشعر العربي القديم، فهو يمتاح من ينابيعه الثرّة، ويوشـّي رداء شعره القشيب بلآليء من كنز هذا التراث الثمين، معيدا قراءته في ضوء معطيات العصر ورؤية الشاعر، فيُسقط ماضيه على الحاضر . كما أن تضمينه أبياتا ً من الشعر القديم يدلّ على عمق انتمائه للحضارة العربية، وعلى رغبته الدفينة في اتخاذ أسماء الأشخاص أو الأماكن التي وردت بهذه الأبيات وقفات ٍ للتذكار، أو صُـوى ً يُسرج بها فتيل الوطن البعيد في ليل الترحال الطويل، ويؤكد لنفسه الهوية والنعت، أو صدىً للأصوات النائحة في حناياه .

ويتبدى التضمين في إقامة علاقة مع نصوص من التراث، لخلق معادل لبعض الأبعاد الفكرية والوجدانية للشاعر، إما باستخدام النص القديم بتمام عبارته أو بعد تعديلها لتلائم المعنى الذي يقصده، ومن ذلك اقتباسه من معلقة عمرو بن كلثوم الشطر الأول من البيت الآتي:

إذا بلغ الفطام لـنا صبيٌّ

تخرُّ له الجبابر ساجدينا

فهو يعكس المعنى للدلالة على ما آلت إليه الأمة العربية من انكسار بعد انتصار ومهانة بعد عزة فيبدل بالشطر الثاني الشطر الآتي:

فقد بلغ الكهولة من هوان ِ

واقتباسه من تلك المعلقة الشطر الأول أيضا من البيت الآتي:

ملأنا البرّ حتى ضاق عنا

ونحن البحر نملؤه سـفينا

ولكنه يُحـوّر الشطر الثاني إذ يقول:

جموعا ً باحثين عن الأمان ِ

نجد هذا التضمين في قصيدته (أحنُّ إليك)، كما نجد مثيله في قصيدة (قانا) إذ يستعير من المتنبي الشطر الأول من البيت الآتي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يـُـراق على جوانـبــه الــدم ُ

 

ويستبدل بالشطر الثاي قوله:

حتى يُـعيدَ لنا البلاد جهادُ

ومن أبي الطيب المتنبي أيضا يقتبس كلمات من بيته المشهور:

عـيد بأية حال عـدت يا عـيـدُ

بما مضى أم لأمر ٍ فيك تجديدُ

فيقول السماوي:

" عيد ٌ بأية حال ٍ عدتَ " لا وطني

في مـقـلتيَّ .. ولم يصدح مـحـبّـونا

 

ويستعير مطلع قصيدة ابن زيدون التي أوحت إليه بها ولادة بنت المستكفي، ويحوّر الشطر الثاني إذ يقول:

"أضحى التنائي بديلا ً عن تلاقينا"

وعــن مـبـاهـجـنا نابـت مـآســيـنــا

كما يضمن قصيدته (يا دار خير عباد الله قاطبة) صِيَغا ً أسلوبية من بردة البوصيري كما يبدو من البيت الآتي:

هو الحبيب الذي تـُرجى شفاعته

إذا توطـّنَ حبلا ً غـير َ مُـنصَرِم ِ

 

أما التناص عند الشاعر فإن من أمثلته استيحاء الآية الكريمة (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا ً جنيا)، إذ يقول في أولى قصائد ديوانه:

رأيت ُ نخلة ً على قارعة الرب ِ

هززتها

فانهمر الدمع ُ على هـدبي..

وعندما هززتُ جذع الأرض يا ربي

تساقط العراق في قلبي

وكذلك استلهامه بيت الملك الضليل امرئ القيس:

وقد طوّفـت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب ِ

إذ يقول السماوي في قصيدة (للجرح نافذتان):

ما خنتُ طينك حينما استبدلتُ عكـّـازا ً بسيفي

والتغرُّبَ بالإيابْ

 

مزج الحداثة بالتراثي:

يستقي الشاعر يحيى السماوي من نبع الشعر التراثي كثيرا من الألفاظ التي تأتي أحيانا بمعناها القاموسي كما في قصائده العمودية، أو بمعناها الدلالي كما في القصائد التي اتخذت قالب الشعرالحر " شعر التفعيلة "، ومن ثم كانت قصائده الثانية أجود من الأولى وأدخل في دائرة الإبداع الفني . فهو يكثر من استعمال الكلمات المتداولة في الشعر القديم مثل السيف ومرادفه وهو الحسام ومتعلقاته مثل الغمد والحمائل، ومثل الخيمة والوتد والنخل وعذوقه والخيل ورباطه . والخيمة عنده رمز للوطن حينا ً وللبلد الذي يأوي إليه خارج وطنه حينا ً آخر، كما أن النخل رمز للعراق لشهرتها به، وقد يستعمل هذا اللفظ للدلالة على السموق والشموخ والكبرياء . وقد استعمل من معجم الشعر الكلاسيكي كلمة عرار، واستخدم غير مرة كلمة رماد لما توحي به من معنى الوطن الذي بات أطلالا ً بعد احتراقه .

وكثيرا ما يوفق فنيا ً حين يُضَـفـّر الحداثي بالتراثي أسلوبا ً أو معنى ً لإضافة روح الإنتماء إلى العروبة على الرؤية وعبير الماضي على النص، مثل قوله في مستهل قصيدته (نداء إلى أبي ذر الغفاري):

أبا ذرْ

قـمْ

إنَّ سـيفك الذي ينام في المتحف

ما عانقه الفرسانْ

وقومك الذين بايعوك أمس ِ

أنكروا البيعةَ َ

خاوا النهرَ والبستانْ

 

وقوله في هذه القصيدة أيضا متخيلا ً الصحابي بلال بن رياح، وقد عاد إلى الحياة في عصرنا، وأذَّن للجهاد، فكان جزاؤه أن اعتقل وزجّ به في عالم السدود والقيود:

وليس من مؤذن ٍ

يهتف بالجهاد في الصلاة ْ

" بلال " في زنزانة مجهولة ٍ قد ماتْ

 

ويضفر الشاعر نسيجا ً واحدا ً من خيطين مختلفين، أحدهما من وحي شجاعة أبي ذر الغفاري وفضائله، والآخر مشهد عصري يدل على الجبن واستمراء الولوغ في مستنقع الخنا والرذيلة التي يعربد فيها أشباه الرجال، على حين تخضب الأرض من حولهم وتحتهم دماء الأبرياء:

أبا ذرْ

تـَعَـلـَّمَ الرجالُ بعدك الحروبَ

في زوايا عُـلـَب ِ الليل ِ

وفي المؤتمرات ِ..

في الإذاعات ..

البيانات التي لوّثت ِ الجدرانْ

فانتصروا بالدفّ والمذياع والغناء ْ

ونحن؟

نستحمُّ في بحيرة ِ الدماءْ

 

ويوظف الشاعر في هذا النص تقنية التضاد: القاتل واللص قاضيان، والميدان الذي تجَـوّل فيه الفرسان حديقة للعجزة والجبناء، والرداء الأبيض للصحابي المناضل الطاهر ثوب للغانية التي ترقص للسلطان في الليالي الحمراء:

ومنذ أنْ غفوت َ والقاتلُ قاض ٍ

واللصوصُ يمسكون قبضة َالميزانْ

أبا ذرْ

وأصبح الميدانْ

حديقة ً يصولُ في أرجائها الأشـلُّ

والمعمودُ والجبانْ

وثوبك الأبيض شـالٌ للأنـيسـة ِ التي

سـامرها السلطانْ

 

وفي المقطع الأخير للقصيدة يرسم يحيى السماوي لوحة ً تشكيلية ً من دم قلبه تخضبتْ ومن دماء قتلى الإخوة الأعداء التي تملأ ساحات المدن العربية وأزقتها، وقد سقطوا فيها صرعى الغدر والخيانة:

أبا ذرْ

أمس ِ رأيتُ الجثث الملقاة َ في الشوارع الخلفية ْ

لكنما الـثـقـوبُ في ظهورها

تنبتُ كالزنابق الحمراءْ

فاعلمْ بأنَّ القاتلين إخوتي

وأنَّ من داخلنا الأعداءْ

وليس من نداءْ

غير المناشـير التي تبصقها الريح

وغير الخطب ِ الجوفاءْ

تـُطلـَقُ من فنادق الغرب ِ

ومن صالاته الخضراءْ

 

ومن قبيل تضفير الحداثي بالتراثي مزج الرغيف بالحسك، والكوثر بالدم والوحل، في قصيدته (شدي شراعك):

أنا ما نحلتُ لأنّ صحني مُعْـسِـرٌ

لـكـنَّ صحـنَ الــرافــدين نحيـل ُ

والمراوحة بين المواويل والأوتار في قصيدة (كان لي):

ثم لـمّـا أصبحت بغداد كرسيّا ً لمنبوذ ٍ

وصحنا ً لِـنـَفـَرْ

صارت الأوتارُ قيدا ً

والمواويلُ ضجرْ

واللظى صار مطرْ

وبعد، فهذا شاعر أصيل مكتمل الأدوات ينزف ألمه شعرا ً عذبا ً شجيا ً، جامعا ً بين الصدق الواقعي والصدق الفني المتمثل في إجادته استعمال تقنيات التراثي والحداثي في مزج دال على مقدرة، وهو يملك مع الغنائية سمة ً درامية ً حبذا لو وظفها في إبداع ملحمة أو مسرحية شعرية، ولا سيما أنه يملك أيضا طول النـَفـَس، وله تجربة شخصية مليئة بالأحداث المشهودة، وخبرة بالمجتمع في وطنه وبالمجتمع في البلدان الأخرى التي اتخذها منفى ً هناك في أقصى ركن ٍ من المعمورة .

 

الدكتور حسن فتح الباب

القاهرة

 

...............................

(*) هذه خيمتي .. فأين الوطن (الطبعة الأولى 199) حائز جائزة الإبداع الشعري برعاية جامعة الدول العربية للعام 1998

 

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تكريم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم