تكريمات

الشاعر العراقي الكبير يحي السماوي: أما آن لهذا الحزن أن يسافر بعيدا؟

يمكن أن تقول دون تقصير تجربة الشاعر الكبير يحي السماوي؟

حقا قد يعجز القلم أحيانا في تبليغ ما نشعر به وما نريد قوله عندما نقف أمام تجربة شعرية عملاقة بشذى عطر تاريخ عظيم تعبق، يختلط تارخ بغداد العظيمة بكل مجدها وحسنها" الرشيد" وكربلائياتها العميقة وحسينياتها فتلتحم بشعر شاعر الرافدين يحي السماوي لدرجة يتسلل إليك سؤال من صنع مجد من؟ هل تاريخ العراق المجيد هو الذي صاغ سجية الشعر عند السماوي أم السماوي هو من يصنع مجد العراق الحاضر والمستقبل؟

وكيف لنا أن لا نحتار والشاعر سليل أبا ذر يحمل أسطورة حياته وموته وبينهما تمرد عنيد يشيب لها الولدان من هول روعتها وعمقها.

حقا إن الكلام على الكلام صعب فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بالحديث عن كلام ليس عادي بل عن تجربة شعرية عملاقة.

امتزجت فيها غربة الشاعر عن وطنه مع جراح العراق مع عذوبة الكلمة الشعرية لتنتج أدبا راقيا مشبعا ميلودراما" سبحانك يا رب /أحقا إن عذاب جهنم/ أشد قسوة من عذابي ؟ إن هذا المقطع الشعري المأخوذ من قصيدته"شاهدة قبر من دموع الكلمات" يعبر ببلاغة الصورة الشعرية والاستفهام الإنكاري عن تشكك في مستوى صورة العذاب لدرجة أن الشاعر من فرط استحواذ العذاب عليه لا يرى أن ثمة عذاب أشد منه وأنه مهما بلغت عذابات جهنم في السماء فإنها لن تكون أشد قسوة من عذاب الشاعر الأرضي . أي بلاغة تلك وأي مفارقة شعرية تلك التي تحول عذاب البشر أشد وطئة من عذاب الرب فقد تعودنا من خلال ما يوجد من تأكيد في القرآن أن "عذاب ربك لشديد" أليس هذه الصورة تعبير جريء من الشاعر عن عذابات نفس قد تفوق عذابات المسيح على الصليب هل من المعقول أن تكون لنا في كل عاصمة عربية مسيح يصلب حتى تكتمل صورة التاريخ؟ وهل من المعقول أيضا أن يخرس العالم كله أمام كل هذه الرزايا والبلايا إلى درجة تدفع بشاعرنا أن يلوذ بشهادة قبر أمه.؟ هل حقا لم يعد ثمة أحياء يسمعون ويشهدون على عذاباته حتى يستنجد الشاعر بخلوة يقتطعها من زمن الأموات يستجدي مشاركتهم الوجدانية لآلامه وأحزانه التي هي في حقيقة الأمر أحزان العراق.

 

فالشاعر العراقي الكبير يحي السماوي كما قلنا في البداية أن آلامه غير منفصلة عن عذابات عراقه بل هذا الألم "السماوي" من ذاك "النزيف العراقي" فهو مسكون منذ البدء بهذه الثنائية لحد الانصهار "هو وطنه" ووطنه هو" هو العراق والعراق هو" وهاهو يعدد مصائب العراق في عبث الهمجيين الذين لا يكفون يوما عن التفخيخ وزرع الديناميت ليحصدوا بها الأرواح ويبذرو دماءها شراب حقدهم الطائفي الأعمى : لدرجة يصبح فيها الأموات ومن في باطن الأرض أكثر نعمة وأمنا ممن على فوقها وأي معادلة شعرية تلك التي تنقل لنا بصورة كثيفة ومجازية كيف أصبح الأموات يخشون على الأحياء من الأموات عوض  أن يخشى الأحياء عليها من الموت ولننظر في هذا المقطع الرائع " مذ ماتت أمي / لم أعد أخاف عليها من الموت /لكنها قطعا /تخاف الآن علي/من الحياة/" إنها صور شعرية فائضة المعنى وتنساب جمالية رغم أن الألم هو المسيطر عليها، ويواصل في القصيدة مناجاة أمه الميتة الحية وبثه شكواه من ميتة الأحياء فكل شيء يشي بهذا العزاء وهو واقف على قبرها يأخذ العزاء منها في نفسه وكيف لا يستجديها عزاء وقد وصل الألم لحد نضبت وجفت بل بلغت حدا في البخل لا يوصف فحتى الدموع حرم نعمتها ولم يعد له فيها نصيب من الضعف البشري هل تحجرت الدموع من كثرة البلايا كما تحجر كل  العالم قلبه عن سماع أنين بغداد الجريحة؟ ولننظر في هذا المقطع الجنائزي كم هو معبر وإنساني في جلالة وانسياب الصورة الشعرية المشبعة بالدلالة والفائضة بدفق أحاسيس إنسان رقيق المشاعر فكيف للدموع أن تهجر كل هذا الإسهاب العاطفي وهذه العاطفة الإنسانية الجياشة؟ حقا ما أشد جحود العالم وما أعمق مؤامرات الحياة وهي تتآمر عليه في أبسط حق طبيعي إنساني "ألا وهو البكاء" وتحرمه التعبير عن انفعالاته النفسية المخضبة بدم جراح الغربة والنكران والملاحقات الشيطانية الإنسانية يقول " في أسواق أديلايد / وجد أصدقائي الطيبون/كل مستلزمات مجلس العزاء/ :

 قماش أسود .. آيات قرآنية للجدران /قهوة عربية.. دلال وفناجين.. بخور ومسك../باستثناء شيء واحد /: كوب من الدمع .. حتى ولو بالإيجار / فكم تعبر هذه المقاطع بصدقية لا متناهية عن نوازع الشاعر الإنسانية الكبيرة جدا فوق طاقة احتمال البشر إنها طيبة من نوع ملائكي لا بشري تجعل الشاعر يتمنى استرجاع دموعه الهاربة منه ليكتمل مشهد العزاء فكل شكليات العزاء لا تبلغ مقصد العزاء الحقيقي حيث يمكن للروح أن تداوي جروحها لأن العزاء يسكن في جوهر الروح ولا يمكن أن تعوضه مسك أو بخور فيال عذاب نفسك أيها الشاعر المعذب بحب العراق وأهله بالسفر إليه والترحال في  مروج تاريخه أصفرها وأخضرها مجدها وانكساراتها وهاهو يدفعك إغراء حسنها المأسوف عليه لتبحث عن دموع للإيجارو لكن يال الخيبة التي تزفها لنا دائما أوطاننا فلا تجدها، حتى الدموع مارست عليك إقصاءها وبخلها ولو كان الجاحظ حيا لاعتبر الدموع هته المتمنعة عنك إحدى بخلاء كتابه وهذه الدموع التي نبكي بها لتفرج عنا كربنا تتمنع عنك دون رحمة بك حقا إنه لا يوجد عذاب في السماء يفوق عذابك هنا وأنت تبحث عمن يعيرك عينا تبكي بها . إن هذه أمثلة صغيرة جدا من تجربة عميقة جدا ومتنوعة وثرية وإنه كلما تجولنا قراءة في شعر الشاعر العراقي الخلوق إلا وأصابك الخجل من روعة شعره الذي يحكي آلامه وآلام كل العراق وتقف عاجزا عن تقديم شيء تمسح به عنه كآبته ومعانته وتجزل له العطاء على عطائه الشعري الراقي الذي سيضيف حتما تجربة شعرية وطنية رائدة للمدونة الشعرية العراقية الحافلة بالإبداع وتقف عاجزا أمام نفسك لأنك لا تجد ما يمكن أن يجمع لؤلؤة عقد الفرح لتقدمه هدية عربون إفناء الشاعر ذاته في حبنا وحب كل المستضعفين وحب العراق بعد انفراط عقد آماله وتحولها إلى كتلة جبل جليدي تمكث كعبء ثقيل على أحلام الشاعر. وكم تشعر معه بالعذاب إنه يشربك معه من كأس محنه وعذابه دون أن تشعر بأنك بصدد تدخين أفيون  الألم معه إلى حد إدمان هذا الألم وينقل إليك بصورة حسية وراقية وذكية وفي لغة شعرية سلسة جبل آلامه ويزج بك دون أن تشعر في مشاركته الوجدانية على هذا الخراب الذي حل بالعراق وببغدادها في شكل بكائي كربلائي إذ يقول "كفى دوي انفجاريات وصخب / إن أمي لا تحب الضجيج / فهل من يسمع في العراق القريبة من قلبه دعوات شاعر أثخنه جرح الغربة والحرب وهل يمكن أن يسمع صوته الملائكي بوقف نزيف الموت المجاني والعبثي في باحة تلك الأسطورة الشامخة في وجداننا العربي؟ هل من عاقل يوقف نزيف بغداد الحضارة والرشيد والمأمون بغداد حكاية الليالي التي لا تنتهي ببلوغ  الليلة الألف من ألف ليلة وليلة إنها قصة بفرحها وجرحها لا تنتهي . الأكيد أن التجربة الشعرية للشاعر العربي الكبير يحي السماوي تستحق أن تكتب بماء الذهب لأن قصائده معلقة بغدادية تخلد ملحمة شعرية إنسانية وتكتب تاريخ العراق وإن كانت ملحمة مأساوية وتسطر رغبة الإنسان العراقي وتوقه للحرية والانتصار على الموت والطائفية وعلى القوى الاستعمارية المتغطرسة وما تجربة الشاعر العراقي يحي السماوي إلا نبض لهذا الصوت الحر وإرادة انتصار للفرح رغم استفحال الغربة والحزن والألم .

 

بقي وأنا أنهي هذه السطور البسيطة التي لا يمكن أن توفي حق شاعر النهرين  والنخيل لأنها مجرد محاولة بسيطة في تجربة واسعة بحجم المحيطات والبحار أن أطرح على نفسي سؤال يؤرقني وأمنية أود تحقيقها وهي كيف لنا أن ندخل الفرح لقلب شاعر أفنى عمره في حب العراق؟ وأحرق بخور كلماته في الانتصار للجائعين والمهمشين والمظلومين؟ ألا تخجل الإنسانية من هذا العجز الذي تبدو قادرة على منح شاعر الإنسان والوطن انجاز حلما يتيما ومنحه انتصارا وحيدا وهي الفرحة والأمل ومنحه حق معانقة حبيبته العراق وإغراقها في القبل والعيش في فيافي دجلتها والفرات قرير العين؟

 

الشاعرة التونسية : سلمى بالحاج مبروك

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1277 الاثنين 04/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم