تجديد وتنوير

الأفغاني في عين لبناني

فثارت ثائرة المحفل، ونبّه السيد أن نشاطاته لا تطال القضايا السياسية، فأبدى السيد تعجّبه، فالمحفل إذن ليس أكثر من جمعية إحسانية لأعضائها!. وخرج السيد بعدما كاشفهم بهمومه وتوجهاته وكاشفوه باستنكافهم السياسي وسياستهم الاستنكافية، سياسة المنشأ الانكليزي القابض، المعدّة للبلاد الخاضعة، والتي تتجلى – سياسة المحافل – في تغييب الوعي بالقضايا الأساسية، وتحيل الضروري الى ثانوي والثانوي الى ضروري، فتصبح المطالبة بالثانوي قطعاً للطريق على المطالبة بالضروري.

 

وفي محاولة لفهم انخراط السيد في المحفل يرى بعض الدارسين بأن السيد كان يرى ان جهوده وجهود أمثاله من أجل الاستقلال والحرية والوحدة والتقدم للأمة العربية والاسلامية، لا يمكن أن تثمر الا اذا انتظمت في سياق يتيح لها التراكم والنمو كشرط موضوعي لتحويل الأفكار الى وسائل تغيير فعلي، فوجد في المحفل إطاراً منظماً يمكن العمل من خلاله لتحقيق هذه الغاية، أو اكتساب الخبرة اللازمة لبناء تجربة تنظيمية ملائمة.

 

ولم تكن قد اتضحت بعد التباسات وأسرار وأدوار ووظائف المحافل الماسونية، وكانت ما تزال تمارس إغراءها للنابهين والواعدين والطامحين من خلال حملها وتبشيرها بمبادئ الثورة الفرنسية في الأخاء والمساواة والحرية. ويرجح هذا التفسير ان السيد بعد خروجه بقيت فكرة التنظيم تلحّ عليه ما جعله يسهم بجدّ في تأسيس الحزب الوطني الذي كان له شأنه في تاريخ مصر في أواخر القرن الماضي وأوائل الحالي، وجاء تشكيله مطابقاً لرؤية السيد الثقافية والاجتماعية التعدّدية التي تستوعب الفوارق الدينية والمذهبية والعنصرية وتتجاوزها الى ما ينظمها في إطار فكري أوسع.

 

إضافة الى كونه عالِماً وعارفاً ومثقفاً طليعياً حيوياً رافضاَ للظلم داخل الأقطار العربية والاسلامية التي عاش أوضاعها عن كثب، وفتحت له المعايشة باباً على الوعي بداخل الأقطار الأخرى التي تتصل أوضاعها المتردية اتصالاً سببياً بالسلوك الاستعماري المتداخل والمتدخّل، وفي طليعته انكلترا التي وجدها حيث ذهب.. إضافة الى هذا كله كان السيد جمال الدين الأفغاني فقيهاً تخرّج من النجف الأشرف، بل أُخرج منها بالحسنى والنصيحة من قبل مرجعها (الأنصاري) الذي كفله ورعاه، لأنه أحدث فيها جدلاً حامياً حول أمور أساسية في العقيدة والشريعة.

 

وانتقد، وهو شاب يافع بعد، وبجرأة، فوضى الحوزة وسكونيتها، مما كان يحدّ من دورها المرتجى في عملية المواجهة والاحتياط لأمر الأمة..

 

وفي مصر إنخرط السيد في دورة التعليم الأزهري فتعزّزت قناعته بأن الفوضى لا تصل وانه لا بد من التنظيم، فتوجّه الى الطليعة المصرية ليوسّس بها الحالة المنشودة آخذاً في إعتباره أن التنوّع أو التعدّد قانون، وإن تجاهله والعمل على أساس البُعْد الواحد، هو إهمال للقانون الطبيعي وتعطيل، فأعاد قراءة المتحوّل الرسالي الإسلامي في بداياته المكية ومنعطفه المدني، حيث اجتمع حول الرسول (ص) جماعة من الصحابة متعدّدي المناشئ والمشارب والحساسيات والمواقع والمعارف والأمزجة، كوّن منهم كتلة تاريخية على أساس التوحيد، تحوّلت فيما بعد الى رافعة للمشروع الحضاري الإسلامي.. واجتمع حول السيد كوكبة من الكفاءات المختلفة المناشئ والمتنوعة تنوع المجتمع المصري الملتقية على حالة مصرية من الوحدة على الثقافة العامة، والوطنية المصرية العميقة، المنفتحة على آفاق العالمين الاسلامي والعربي. وتأسى السيد برسول الله في مجال آخر، فهو في مراهنته على الطليعة لم يكن نخوبياً انفصالياً، كان متصلاً وعلى تماس يومي هو وصحبه، مع الكتلة البشرية الواسعة في كل البلدان التي مرّ بها أو أقام وخاصة مصر..

 

ومعروف سهره الطويل في مقاهي الأزبكية التي كان يطلّ من خلالها على الجميع ويطلّ عليه الجميع بالفكر والعطوس في مقهى (متاتيا). ولو كان نخبوياً انفصالياً لما استشعر الآخرون خطره فطاردوه، من كابل الى الهند الى بطرس بورغ الى الأستانة، في المرة الأولى والثانية، الى القاهرة وغيرها.. ولو كان مجرد قائد جماهيري لما استطاع أن يربّي أو يجمع هذه الطلائع في مختلف البلاد لتحمل الراية معه وبعده على أساس من خط فكري عميق..

 

بطليعيته وشعبيته وتنوّع خبراته لم يتنصل من هويته الوطنية مستنداً الى إسلام رآه مكوّناً لوجدان وثقافة الطليعة والجمهور معاً، وفي مصر بالخصوص وبالحدّ الأعلى من الوضوح، حيث كانت القبطية الوطنية، على قاعدة وطنية مصرية جامعة، مكوّناً ثقافياً في وعي المسلمين، كما كان الإسلام على نفس القاعدة مكوناً ثقافياً في وعي الأقباط..

 

أما الحساسية المذهبية فقد تخطّاها بالإلتباس الشيعي السنّي في شخصه، وقد كان من العمق والحذاقة والنباهة بحيث مضى ولم يمضِ معه الخلاف على تحديد مذهبه وموطنه الأصلي، فكانت عمّته سوداء مرة وبيضاء مرة، وهي في الحالتين مختلفة شكلاً عن العمة الأزهرية والنجفية معاً.. كان آتياً من النجف الى الأزهر، ماراً بأفغانستان و"شاه دوست" ومشاركته المباشرة في الشأن السياسي والثورة التي سبّبت إخراجه، ثم إيران الحوار مع ناصر الدين الشاه القاجاري بعد التواصل مع الأستانة في عهد عبد العزيز وطرح مسألة الوحدة من أجل المواجهة للمخاطر، بين تركيا وإيران، ثم عبد الحميد والتواصل الحميم الذي أغرى الماسونية وبواكير الصهيونية بالتدخل لفكّه وتلافي مخاطره على المخططات، ما كشفته تجربة عبد الحميد مع هرتزل وإيمانويل قراصو فيما بعد.. الى مصر وعرابي وسعد زغلول ومحمد عبده ومكرم عبيد ورؤوس الأقباط فكراً وقيادة ووجاهة، الى إيران كذلك والسجن من قبل ناصر الدين الشاه في منطقة شاه عبد العظيم بين الري وطهران، الى مقتل ناصر الدين على يد ميرزا رضا كرماني الذي سبق للسيد أن التقاه في الأستانة على قلق شديد فأعاده الى وعيه فعاد الى وطنه وانتقم من الطاغية..

 

وأثناء ذلك كله، علاقته بالميرزا الشيرازي ودوره في ثورة التنباك في إيران.. كل ذلك تحقيقاً لقوله عندما طالبه أبوه وهو ابن سبعة عشر عاماً، وكان ماراً بطهران من النجف، بأن يذهب الى مدينته قرب همدان ليقوم بوظيفته الدينية فقال: "أرى نفسي كالصقر المحلّق ولا أرى هذا الفضاء مجالاً لتحليقي".

 

* كاتب لبناني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1397 السبت 08/05/2010)

 

 

في المثقف اليوم