تجديد وتنوير

فهم الآخر وتجربته من شروط تجديد الإيمان (3)

طبيعة الإنسان وحدوده لا تمكنه " أن يعربد مع الله دائمًا" كما يقول حافظ الشيرازي، ولا يمكنه أن يعيش التعارض والتصادم المستمر مع الحياة وتساؤلاتها الحرجة وقضاياها وهو يتسلح بمدونات ومعارف لبت طموحات عصرها، ولكنها تضخمت بالتدريج وتجاوزت حدودها في اللامعقول وصلاحيتها في البقاء، فينبغي لها أن تنحسر وتطوق، ليكتشف الإنسان مجاله الدينيَّ وحدوده وإيمانه مرة أخرى، بلغة التفكير العقلاني ومناهج البحث العلمي.

يشتغل الباحث المعاصر في مجال العلوم الدينيَّة بحقول ومنهجيات متنوعة، يستهدف غايات عدّة أبرزها تجديد الإيمان، وبالمجمل يعمل بمسارين: الأول: ينغمس في التراث ليعيد إظهاره من جديد، وكل ما يتطلبه هذا الأمر هو التوغل في وسط الركام الهائل للمدونات- الكلامية والفقهية والتفسيرية وو- والغرف منها بوصفها الإطار المرجعي في التفكير والحياة، من دون أن يسمح لنفسه باختبار قدرتها على الوفاء بوعودها باستيعاب متطلبات الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية في سياقات الحاضر واشتراطاته. والبحث في زوايا هذه المدونات وتأثيرها على صناعة التوحش والكراهة أو الاغتراب أو هشاشة التفكير وأنساقه المضمرة. فتجده مفتشًا ومنقبًا في الأرشيفات والمخطوطات القديمة، ومعلقًا عليها بالأسماء والالماحات والأماكن والأحداث، ومحققًا لبعضها على الطريقة الفيلولوجية القديمة، وبذلك يُعيد رسم اللوحة نفسها التي رسمها التراث مع توضيحات وترميمات هنا وهناك. فتستزف الطاقات ويجف النص بالتكرار المزمن لمعاني مطوقة مسحوبة من الماضي.

وأما المسار الثاني: فهو الذي يرى في الدين ضرورة لاعتبارات مختلفة إِلَّا أنّه يدرك أن الدين وقع في التباسات التاريخ واللغة والفكر والتجربة، وتفاعل معها، فانصهرت فيه الآفاق المعرفية والأزمان معًا على حد تعبير غادامير. وبذلك يشتغل على ترجمة لغة التراث ومنهجياته ومدوناته إلى لغة المرء الخاصة أو لغة الواقع الخاص. فيميل إلى إحياء التراث بلغة ثانية ومنهج مختلف، فيختار التأليف النقدي مستخرجًا من ملفات التاريخ ووثائقه الأسس الفكرية والنظريات والأصول والمسالك ويخضعها للبحث الدلالي واللالسني وللتحقيب التاريخي لفك جدلية النص والواقع فيها. وهذا يستوجب منه الاطلاع على الإنتاج الدخلي، والإنتاج الخارجي. فيمارس اجتهاده الداخلي بمتابعة ما هندسه القدماء من نظريات واصطلاحات ومناهج. واجتهاد خارجي يتتبع فيه الإنتاج الهائل في العلوم المتداخلة من ألسُنية وانثروبولوجية وسوسيولوجية وعلم النفس والنقد الأدبي والتاريخ وو. ليدخل بذلك المتخيل وتأثيراته، والأسطورة وسلطانها في الجوانب الانفعالية وتداخلها في المعتقد الديني، أو الحقائق السوسيولوجية الكبيرة والتي عاشت مهملة منسية في الدراسات. وهذا يعني أن الباحث المعاصر انتقل من المدونات المكرسة للايديولوجية ولو بمستوى ضمني إلى المدونات الخاضعة للتفهم والنقد والقطيعة. ومن ثَّم، فان الاطلاع على الآخر وما قدمه أصبح ضرورة من ضروريات الدين وفهمه.

والمسار الثاني في خطوته الأولى يتحتم عليه تجاوز الأحكام المسبقة على الآخر، وزحزحة النموذج الجاهز، والسلبية الموروثة في الحكم، بفتح المسارات والآفاق القائمة على الدراسات العلمية المقارنة لتجاوز روافد المعنى – الدينيَّة والعلمانيَّة- للدخول في معطيات المعرفة التكامليّة المتنوعة برؤية تاريخيّة نَقْديّة. عندها يمكن أن نجد الباحث الجاد يدافع عن العلمانيَّة وينقدها أيضًا، ويدافع عن النموذج الإسلاميَّ وأنسنتة وتجربته الروحية الكبيرة، مع تركه لمسافة نقدية يسمح من خلالها للنظر في قيمته وبنيته وأدواته وحجم التوظيف الأيديولوجي في تراثه. وهذا يساعد على تقريب المسافة بين علوم الدين ومعارفه وبين معارف الإنسان المختلفة، بوصف الأخيرة تدرس الظواهر الدينيّة وتمثلاتها في النصّ والتجربة.

والمحزن- في ثقافتنا الحالية- أن هناك الكثير من الارتياب بفعالية هذا النوع من الدراسات، وتعرضها وأصحابها لأحكام التَشنيع والعيب، والتشكك في مشروعيتها، قد يبلغ حدّ التكفير أحيانًا، لأن حجم الممنوع التفكير فيه غير قليل فلا زالت جامعاتنا ومكتباتنا ومؤتمراتها تعيش تحت وطأة الكتابات التشريفية والتفخيمية والتجبيلية التي تقوم على الأجر والثواب. نعم قد تبدو بعض الآراء غريبة وغير مألوفة على القراء الذين ينتسبون إلى حضارة مغايرة، وإلى فكر ديني مخالف، ومع ذلك فهي تمثل اجتهادات البشر اعتمادًا على الأديان السماوية، أو استقلالًا عنها. قد تخطئ، وقد تصيب، لأنها تصورات إنسانية تعكس أوضاع الإنسان وأنماط حياته وطبائع العمران. ألم يلمح ابن خلدون إلى أن أنماط الفقه ترتبط تارة بالحضارة وتتلون بها، وتارة بالصحراء والبداوة، ولا بد من التفريق بينهما.

مؤشر الدراسات يؤكد أن أبرز عوامل تهافت الدول والحضارات هو انعزالها وعدم اتصالها مع حضارات أخرى والانتفاع بتجاربها الفكرية والعلمية. فديمومتها بمقدار اتصالها وإفادتها من الآخر دون التموضع والسكون في بيئة ثقافية محدودة. يقول الدكتور محمد عابد الجابري:" كان من الممكن في العصور الماضية, أن تقوم حضارة وتنمو بفعل تطورها الداخلي ثم تتوقف وتنقرض. قد تدخل في اتصال مع حضارات أخرى ولكن اتصال محدود كما هو شأن حضارات الشرق القديم."(1)

نمط الحياة اليوم يختلف عن السابق، لم يعد الإنسان كما عرفته الفلسفات القديمة، كائنًا عاقلًا يلبث حيث هو، لا يكون جزءًا من شيء، أو يكون جزءًا لشيء، بل صار الإنسان في المفهوم الحديث كأنه جزءٌ من كل. أنه سندبادي، يتلقى مختلف الثقافات في الآن نفسه، من دون أن يغادر موطنه. أنه يعيش جغرافيا جديدة، تضاريسها هلامية، حدودها واهية، أمكنتُها متداخلة، ثقافاتها ملونة، هويتها تركيبية(2).

ولذلك يقول طه حسين- في مقدمته لرواية آلام فارتر لجان غوته- وهو يتحدث عن أهمية الترجمة: " لعل حاجتنا إلى النقل والترجمة لم تبلغ قط من الشدة ما بلغته اليوم، فنحن في عصر انتقال من طور إلى طور. وأخص ما يميز عصور الانتقال الظمأ إلى العلم بكل شيء، والرغبة في تعرف كل شيء. يسأم الشعب في هذا العصر ما ألف قراءته من كتب.. وقد كان يحسب نفسه كل شيء فإذا هو يشعر بأن على الأرض شعوبًا أخرى تقاسمه الحياة وتشاطره ما اشتملت عليه من لذة وألم، ومن سعادة وشقاء، وأن هذه الشعوب قد اتخذت لنفسها من نظم والسياسة والاجتماع، ومن مناهج البحث والتفكير، ما لم يألفه ولم يهتدي إليه(3)."

فلا مفر للإنسان من معرفة الآخر، وفهم تجربته ووعيها والإفادة منها، بل وتقييم تجربته بالنسبة لتجارب الآخرين، يقول السيد محمد حسين الطباطبائي متسائلًا: " يقول بعضهم: " إن جميع ما تحتاج إليه النفوس الإنسانية مخزونة في الكتاب العزيز، مودعة في أخبار أهل العصمة (عليه السلام) فما الحاجة إلى أسار الكفار والملاحدة ؟ "فيجيب في بعض أجوبته اللذيذة: أن الحق حق أينما كان وكيفما أصيب وعن أي محل أخذ، ولا يؤثر فيه إيمان حامله وكفره، ولا تقواه وفسقه، والإعراض عن الحق بغضًا لحامله ليس إلَّا تعلقًا بعصبية الجاهلية التي ذمها الله سبحانه وذم أهلها في كتابه العزيز وبلسان رسله عليهم السلام.(4)" إن هذا النص الذي يحرر فيه الإنسان من التصورات الضيقة والموروثة ليصبح أكثر قدرة على مواجهة مشاكل الحياة ومفارقاتها جدير بالتأمل والتعزيز، "فمن يعرف لغةً واحدةً لا يعرف أي لغةً." كما قال غوته (شاعر ألمانيا وفيلسوفها). نعم من يعرف ثقافة وحضارة ودين ونمط حياة واحد لا يعرف أي دين أو تجربة حقيقية. وهذه المعرفة التواصلية ليست لتسجيل النقاط والإدانة كما يجري في المناوشات الكلامية التي يحترفها البعض كمهنة، بل البحث عن إنسانية إيمانية متدفقة بالجمال والقبول بالآخر وعبور التراث المحنط والغليان الأيديولوجي الذي تعيشه مجتمعاتنا، ليُهيئ بذلك البناء التحتي للتعدد والكثرة وللتعايش والحوار في أكثر من مجال وصعيد.

في السابق كانت اتجاهات التسامح تدعو إلى تحمل الآخرين والصبر على وجودهم وقناعاتهم الفكرية والسياسية، أما اليوم فالعالم يتقدم خطوة إلى الإمام ليتجه- وبسرعة- نحو الاعتراف بواقع الافتراق والاختلاف، ويريد فهمه وتحليله على ما هو عليه، ليتسع التعدد فيه إلى ما هو أوسع من دائرة النجاة والعقوبة ليشمل الحقيقة نفسها. ومن أبرز مباني ومرتكزات هذه القراءة هو في تنوع الفهم الديني فيها وتكثره. " ففهم النص الديني وشروحه متنوع ومتعدد بالضرورة، والتنوع والتعدد لا يقبلان الاختزال إلى فهم واحد، وليس هذا الفهم متنوعًا ومتعددًا فحسب بل سيالًا أيضًا، والسرّ في ذلك أنّ النصّ صامت ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية وتفسيرها سواءً بالفقه أو الحديث أو القرآن الكريم من خلال الاستعانة بمسبوقاتنا الفكرية وتوقعاتنا من النصّ والأسئلة التي تدور في أذهاننا في مرحلة سابقة، وبما أنه لا يوجد تفسير من دون الاعتماد على التوقعات والأسئلة والفروضات المسبقة، وبما أن الفضاء المعرفي خارج الدين متغير سيّال، كما أنّ العلوم البشرية والفلسفة ومعطيات الحضارة الإنسانية تزداد وتتراكم وتتغيّر باستمرار، فلهذا كله كانت التفاسير المترتبة على هذه الأسئلة والتوقعات والفروضات المسبقة متنوعة ومتغيرة (5)."

فهذه أوربا لم تخرج من مسلماتها التراثية وتستفيق إِلَّا بعد أنّ فجرتهُ من الداخل بالتنقيح والنقد والإفادة من الآخرين وعلومهم، والاعتراف بشجاعة عن انتهاكاتها الدينيّة." فالحركة المتواترة لتاريخ الغرب وقوتها تكمن في قدرتها على الخروج من الأزمات ليتقدم كثيرًا حتى يواجه عائقًا جديدًا. على عكس العقل الدوغمائي الذي يبدو وكأنه يستغل لحظات تأزم القيم والإيديولوجيات من أجل إعادة التأكيد على صحة مبادئه وعدم المساس بتعاليمه التي تشمل كل ثوابت الوضعية الإنسانية مثل الحياة والحب والعدالة والأمل وأنساق اللامساواة والنفوذ والعنف والإيمان والموت وو. هذا ما يسمى بـ "عودة الديني" بأشكال مختلفة حسب الظروف التاريخية والأوساط الاجتماعية الثقافية (6)."

من يقرأ الفكر الدينيّ الغربيّ ومراحل تطوره وإصلاحه يدرك حجم الانفتاح على الآخر وتجاوزه بالنقد والقطيعة. وبلمحة سريعة ترجمة الفكر الديني الغربي أجزاءًا من كتاب الشفاء لابن سينا من المنطق والطبيعيات والإلهيات وإحصاء العلوم للفارابي، وينبوع الحياة لابن جبرول، ورسالة العقل والمعقول للكندي، ورسالة قسطا ابن لوقا في الفرق بين النفس والروح، ومقاصد الفلاسفة للغزالي، وكتب الفلك لمحمد البتاني، وأحمد بن كثير الفرغاني، وأبي معشر وغيرهم، بل ورأى أساتذة أكسفورد(1352) في كتاب "المناظر" لأبن الهيثم نموذج العلم الذي فاق طبيعيات أرسطو. وأصبحت الفلسفة الأوربية في القرن الثالث عشر هي مواقف متنوعة من أرسطو وابن سينا وابن رشد. وحركة الإصلاح الديني في الوعي الأوربي لم تكن بعيدة عن النموذج الإسلامي الذي انتشر في الفلسفة المدرسية المتأخرة، ومنذ الاتصال بالمسلمين عبر الحروب الصليبية ونقل العلوم الإسلامية، فقد تعلم لوثر العربية، وظل النموذج الإسلامي القائم على العلمانية وغياب الكهنوت أحد نماذج الإصلاح المسيحي واليهودي(7).

هذه المسيرة الطويلة من التأثر والإفادة تجاوزتها أوربا بالاجتهاد والنقد والنقاش ونحن لا زلنا لم نتجاوز الغزالي والمفيد والعلامة الحلي وابن تيمية، لنضعهم على محك النقد التاريخي الصارم لنتبين التركيبات التيولوجية بكل أنواعها (علم الكلام، والفقه، والحديث، والتفسير وو).

والمؤسف أنّ ثمة قطيعةً معرفيةً ساكنة فينا تعيشها قراءاتنا ومؤسساتنا الدينيّة مع الآخر ومنتجه الفكري فما زلنا نعتقد- توهمًا- أن علومنا تمتلك مفتاح المغاليق لكل شيء، فيما العالم مستغرق في بحوثه العلمية ومنهجياته التي قطع فيها أشواطًا للعمل والاشتغال على إعادة الاعتبار للإنسان والمجتمع بكلا بعديه المادي والروحي لتعينه على مفارقات الحياة.

ومثال صغير للتدليل على قطيعتنا مع الآخر ومنجزه ما سمعته قبل أيام من أحد الاخوة (من الوسط الحوزوي) يقول: أن أحد زملائي سأل أحد الأساتذة المرموقين في المجال الفلسفي (وهو الشيخ جوادي آملي) سأله عن نظرية جون لوك في مجال نظرية المعرفة. ما رأيها فيها ؟ فقال له: بأنه لا يملك اطلاعًا عن واقع عصر النهضة الأوربية، وعليك بالذهاب إلى الشيخ مصباح اليزدي."

إن هذا الحدث يمكن عدّه ظاهرة متوفرة تحكي مقدار القطيعة التي تعيشها الأوساط العلمية مع الآخر وحداثته ومكتسباته وفكره وتجربته. وتعكس حجم المطالبة بخصوصيّة إسلاميّة وأصالة عقلية مطلقة يتجنب فيها ما أبدعه التفكير الغربي والبحث العلمي الحاصل خارج دائرة المعارف الإسلاميَّة. إن هذا الرفض لا يخرج عن محددات الرؤية الأيديولوجية ولا علاقة لها بالواقع التاريخي والفكري، لأن المفكرين القدماء كالغزالي وابن رشد وابن سينا والخواجة الطوسي وو أقبلوا على تكشيف علوم الأوائل ولا سيَّما الفلسفية اليونانية مع علومهم الدينية، وتفحصوها جيدًا، ولم يعيبوا على الذين تبنوا هذه العلوم إِلَّا فيما يتعلق بالقضايا الحرجة كالسببية أو خلق العالم وبعث النفوس ونحوها.

ومن المفارقة أن منطق أرسطو المستعار من الغرب (اليوناني) في الماضي، والذي مازلنا نتعامل مع منطقه بوصفه مسلمات نهائية، نجد أشدّ المدافعين عنه في عالم الإسلام هم أنفسهم أشدّ المناهضين للمنطق والفلسفة والمعارف الغربية الحديثة والمعاصرة. وكأن معطيات العقل التي استوردها الآباء من أوروبا أمس يحرّم على الأبناء التعاطي معها في صيغتها المتطورة اليوم بعد مرور أكثر من 2300 عام على تأليف أرسطو ( 384 ق.م  - 322 ق.م) لمنطقه في أثينا. لو صحّ توصيف كلّ توظيف للمعرفة المنتجة في الغرب بأنه ضرب من التغريب، فذلك يعني أن كلّ الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم من مفكري الإسلام أمس، يمكننا نعتهم بالتغريبين، ذلك أن منطق أرسطو اليوناني وفلسفة أفلاطون، والأفلاطونية الجديدة، أفاد منها ووظّف مقولاتها الكلّ، كلّ على وفق متطلبات ونوع كتاباته، أي ستندرج تحت هذا التوصيف مؤلفات الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وملا صدرا، وحتى الغزالي المناهض للفلسفة والفلاسفة، وغيرهم(8).

وأيضًا يمكن أنّ نسجل معاناة أخرى أصيب بها الفكر الإسلاميَّ وهي عدم القطيعة مع أُطُر التفكير القديمة المحنطة في تراثه وجهازها المفاهيمي " فما زال أغلب الفكر الديني الإسلامي يتحرك في دائرة الأحكام الموروثة عن الأدب البدعوي والقصصي التاريخي. لذا فإن الحدود الاجتماعية والسياسية والطقوسية والقانونية التي رسمها القرآن الكريم، ولا سيَّما في السور المدنية، بين المؤمنين والمشركين وبين المسلمين وأهل الكتاب، وبين المؤمنين الصادقين والمنافقين، وبين المجاهدين في سبيل الله والقاعدين عن الجهاد من الرجال والنساء، لا تزال مطلوبة لتؤمن للناس مكانة قانونية ودينية تتلاءم مع تعريف القانون الذي ساد خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة. إن الصرعات الجارية منذ السبعينات بين مؤيدي التطبيق الحرفي للنص وقوانينه من دون النظر إلى تاريخيته وبين الذين يريدون الخروج من الانغلاق العقائدي تهدف إلى الوصول إلى الحكم أكثر من السعي إلى تحقيق روحانية دينية(9)."

بموازاة تخندق التفكير الكلامي وقوالبه تحرر تفكير التصوف الفلسفي من تلك القوالب الجاهزة منذ زمن وصار يفكر فيها من الخارج لا بمنهج التفكيك التاريخي ومجالاته واشتراطاته وآفاقه التي تتخطى الفهم الحرفي، بل من خلال محاولة التواصل مع " مصدر المعرفة" بدلًا من الانشغال بنصوص الشريعة التي رأى فيها تعبيرات لغوية تتسم بالغموض والإجمال في حالات كثيرة، ولا سبيل لجلاء غموضها وإزالة إبهامها وتفصيل مجملها إلا بمعانقة مصدرها من خلال تجربة تترسم خطى التجربة النبوية التي هي أصل "الوحي" المعبر عنه بالنصوص. ومن الضروري لفهم ذلك الانشغال الصوفي بمعانقة المصدر بدلا من الانشغال بتأويل التعبير، أن نتأمل ما آلت إليه عمليات التأويل من اختلافات وصراعات من شأنها أن تشوش على المؤمن البسيط صفاء المعنى الديني الذي لا غنى عنه له(10).

وكلامنا هنا عن التصوف الفلسفي الذي يختلف عن "التصوف السني" الذي هو تصوف طُرُقي ينشغل بالعبادة والزهد، ولا يمكن أن نصفه بالخط المثقف أو الفكري، لأنه عبارة عن استعادة، بل وحتى تكرار لما هو موجود في الكتب المدرسية، وكتب الموجزات والخلاصات الشائعة. إنه عبارة عن شروحات وحواشي تدرس للطلاب في الطريقة أو الطرق الصوفية. وهذه التعاليم لا تحتوي في الحقيقة على أي تفكير شخصي ناهيك بالفكر النقدي(11).

ومن ثَّم، فان من شروط التنقيب المعاصر هو البحث عن استراتيجيات تفادي الانغلاق في أنماط إيمانية لها مدلولها الاجتماعي وتجاربها التاريخية، فلا بد من استئناف التفتيش عن منابع المعنى العميقة للدين نتجاوز فيها سياج التأويل ومتاهاته الذي صنعته رؤية المدونات التراثية التي كفت ولبت حاجات عصرها ومفارقاته. ويبقى السؤال الأهم عن المراحل الفكرية والتاريخية والثقافية للتشكل البشري التي ينبغي على العقل الإسلامي أن يستوفيها بالوعي والنقد والتخطي حتى يكتسب المؤهلات والوسائل الملائمة في بناء مشروعه العقلانيّ المعاصر لإدارة الحياة الإنسانيّة بكل أبعادها الروحيّة والأخلاقيّة التي تضفي على الحياة معنى؟

لقد تحررت أوربا من تاريخها المسيحي وتجاربه ومساراته نحو الحداثة، وصولًا إلى ظهور "لاهوت للحداثة" يحاول التكييف مع العالم المعاصر من خلال اللاهوت المسيحي نفسه. في حين أن أبحاثنا في هذا الحقل ضعيفة وقاصرة عن تلبية الانتقال بالمراجعة والاحتواء.

***

أ. م. د. حيدر شوكان

جامعة بابل - كلية العلوم الإسلاميَّة

..................

(1) إشكاليات الفكر العربي المعاصرة ,الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت، الطبعة الأولى، 185 .

(2) عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، الطبعة الثانية- 2019م، 65.

(3) غوته، آلام فارتر، ترجمة: أحمد حسن الزيات، الناشر: دار الرافدين- بيروت، الطبعة الأولى- 2019م، 9.

(4) الميزان في تفسير القرآن، 5/ 258.

(5) ينظر: عبد الكريم سروش، القبض والبسط في الشريعة، الناشر: دار الجديد- بيروت، الطبعة الثانية- 2010م، 32-33، والصراطات المستقيمة، الناشر: دار الانتشار العربي، الطبعة الأولى -2009م، 17.

(6) محمد أركون، الأنسَنةُ والإسلام- مدخل تاريخي نقدي، ترجمة: محمود عزب، الناشر: دار الطليعة- بيروت، الطبعة الأولى- 2010م، 163.

(7) د. حسن حنفي، تطور الفكر الديني الغربي، 70.

(8) عبد الجبار الرفاعي، مقدمة في علم الكلام الجديد، دار المصورات، الخرطوم، ص 47 – 48.

(9) محمد أركون، الأنسنة والإسلام، 163-164.

(10) نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلَّم ابن عربي، الناشر: مؤمنون بلا حدود- الرباط، الطبعة الأولى- 2017م، 25.

(11) ينظر محمد أركون، التشكيل البشري للإسلام، ترجمة: هاشم صالح، الناشر: المركز الثقافي العربي- الرباط، الطبعة الأولى- 2014م، 126- 127.

في المثقف اليوم