تجديد وتنوير

مع فكر المعلّم بطرس البستاني

ومن رجالاتها الافذاذ الذين حملوا مشعل الحضارة الفكرية والروحية وقدموا خدمات وطنية وعلمية جليلة للعلم والانسانية وللعقل العربي، المعلم بطرس البستاني، احد اركان النهضة العربية الحديثة، الذي جاء الى رحاب الدنيا سنة 1819 وغادرها سنة 1883، وانشأ مدرسة "عبية" وهي اقدم المدارس العالية، ثم اسس المدرسة الوطنية التي الف فيها كتبه التعليمية "كشف الحجاب في علم الحساب" و "بلوغ الارب في نحو العرب".

لقد اتسعت دائرة اعمال بطرس البستاني ومنجزاته العلمية والدينية والانسانية ومعارفه العصرية، وعمل على نشر رسالته الوطنية والانسانية من خلال صحفه "الجنان" و "الجنة" و "نفير سورية" التي حملت لواء الوطنية والحرية ودعت الى نبذ التعصب الطائفي، والى التآخي والألفة والتسامح الكوني. وابقى بطرس اعمالا في الفكر والثقافة والادب والاجتماع وهي "محيط المحيط" و "دائرة المعارف" و"خطب في الاجتماع".

كان بطرس البستاني مفكرا باحثا عن الحقيقة، كحقيقة علمية وصاحب رسالة فكرية وتربوية ووطنية، واثقا من افكاره ومواقفه، ومكافحا ضد الظلم والقهر والعبودية والاستبداد والتجزئة، وحالما بأمة عربية موحدة، ومجتمع عربي تظلله الدمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية والعقل والحب والخيال والجمال، وحفلت حياته بالخير والسعي وراء العلم والمعرفة والتعالي على التعصب الطائفي، والتفاني في خدمة الناس والوطن، وهو يحث ويحرّض ويدعو الى طرد المبادئ والافكار الفاسدة من عقل وذهن الانسان وتذويت القيم والمبادئ والاخلاق الحقيقية، والتحرر من ربقة الماضي، ومجاراة روح العصر، والتخلص من الامتيازات العنصرية والمذهبية وتحقيق العدل والمساواة والاخاء وسيادة الفكر الحر والدمقراطي، تحت راية الوطن الانساني الموحد والعادل الخالي من الفوارق الطبقية. كما دعا الى محاربة الخرافات والشعوذات التي قال عنها "حيل وخزعبلات اقامها اصحابها ليعيشوا بخداع الناس. ولم يكن اهل اوروبا اقل اعتقادا بذلك من اهل الشرق، على ان كتابهم قد اعتنوا بتبيان وكشف الحقائق وكشف الستار عن اكاذيب العرّافين، حتى انحصر تصديقهم في هذه الايام في قليلين من الجهلة سخيفي العقول، على ان الشرقيين لا تزال اكثريتهم تصدق اعمال الرمل والكهانة والعرافة والجان والسحر، وقد تشكلت الجرائد العربية من اولئك الدجالين الذين يموّهون عليهم ويخدعونهم لسلب اموالهم مرات عديدة ولا سيما الجنان".

وبطرس البستاني من انصار ومناصري المرأة ونادى في ادبياته الى رفع شأن المرأة ووجوب تعليمها ومساواتها في المجتمع، ومما قاله في هذا السياق "لم تخلق لكي تكون في العالم بمنزلة صنم يعبد او اداة زينة تحفظ في البيت لاجل الفرجة، ولا لأن تصرف اوقاتها بالبطالة وكثرة الكلام والهذيان، او تقتصر من الاعمال على كناسة البيت مثلا، وان تعليم المرأة يوسع قواها العقلية ويهذبها ويوقظ ضميرها وينبهه ويحييه، ويقوّم ارادتها وعواطفها الادبية ويرتب سلوكها وتصرّفها فيزيد رقة قلبها رقة وحنوها حنوا ولينها لينا".

وصفوة القول، ان المعلم بطرس البستاني من الوجود النهضوية شديدة الحضور والتوهج في الحياة الثقافية والفكرية العربية المعاصرة ويتصف بموقفه العقلاني المتحرر من قيود السلفية التقليدية، وقد حلق في فضاءات الحلم الجميل وغاص عميقا في بحور المعرفة، وساهم في ارساء معالم المشروع العربي النهضوي الحديث ورسم خطوط المستقبل العربي وآفاقه، معززا بعقلانية علمية متحررة ومتنوّرة.

(مصمص)

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1260 الجمعة 18/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم