تجديد وتنوير

الإصلاح بوصفه مشروعاً غير مكتمل

محمد زكاريلا بد لنا ونحن نفكر في مشروع إصلاحي حقيقي، أن نعيد الاعتبار لما أسسه، وقعّد له جهابذة الإصلاح والمشروع النهضوي، منذ القرن التاسع عشر، في غرب العالم الإسلامي ومشرقه. ولعلنا لا نجانب الصواب حين نؤكد على هذا المطلب الأساس الذي لا نزال نعيش وطأة تجاهله، ومن يدعي أن بوسع العرب والمسلمين اليوم تحقيق نهضتهم من دون إحداث إصلاح جوهري في مستويات كبرى، كمن يسلم بإمكان تحقيق الحرية والديمقراطية من غير نضال ضد الاستبداد. هي تركيبة كليَّة تفرض نفسها على الإنسان والاجتماع، ولا حِوَل عنها. كان الفكر الإصلاحي، منذ نشأته، على دراية بالرهانات الكبرى التي هو مدفوع إلى تحقيقها، ومن غير شك؛ فإنه لخّص، على مدًى طويل، على من هم في دواليب القرار حلولاً لمعضلات قلما انتبهوا إلى أثرها. ولربّما كان للتاريخ دوره الحاسم في تحديد أشكال حضور الفكر الإصلاح في الوطن العربي، إلا أن آثاره لا يمكن نفيها أو تغييبها، مع فارق ملحوظ في شكل الإصلاح لدى كل مشروع على حدة، أ ينبغي أن يكون تربويا أفقيا أم رأسيا سياسيا. وهو ما يدفعنا إلى التفكير في مجموعة من الأسئلة الجوهرية: إلى أي حدّ يمكن اعتبار الإصلاح مشروعا لم يكتمل بعد؟ وما هي مستويات التفكير فيه؟ وهل الإصلاح ذو منظور واحد أم أنه متعدّد الأصوات؟

يُتَداولُ مفهُوم “الإصلاح” – في اللُّغة العربيَّة – أكثر من غيره من المفاهيم، ولربَّما فاق بريقهُ فيها ما عاداه كالحريَّة، والديمقراطية، والإنصاف، والعدالة الاجتماعيَّة. ترجعُ الرغبَةُ في الإصلاح، إلى فهمٍ تكوَّن لدى الإنسان العربي المعاصر، عن واقعه، ومصيره؛ حيثُ لا يكادُ أن يتجاوز معضلةً حتى تواجههُ أخرى، وهو في حاله تلك غير قادر على الحراك، فتتساوى عندهُ مستوياتُ الإصلاح، ويصيرُ “إصلاحُ النفس” عينهُ إصلاحاً للمجتمع، والاقتصادِ، والسياسية. لم يحملِ الإصلاحُ في معناه التداولي العربيّ معنى التَّغيير الجذري الذي يهدفُ إلى اقتلاع مكامن الخللِ، بقدر ما كان الهدفُ منه “التقويم“، وفي أفضل الأحوال استبدال الأجزاء المعطوبة داخل آلة باليَة.

ليس الاصلاحُ رغبةً متمخِّضةً عن ترفٍ لدى المجتمعات العربية، ولا هو بالفضلة التي تزيدُ عن حاجته، وإنَّما والحالُ هذه أضحى من المسائل التي لا غنى عنها. لكنَّ “الإصلاح” لا يصيرُ فعلاً واقعيًّا إلا متى حرَّكتهُ إرادةٌ مجتمعيَّةٌ، يشاركُ فيها الفاعلون السياسيّون بالقدر نفسه الذي يشاركُ به أفرادُ الشعب، متجاوزين الوضع الصوريّ الذي أنتجته “الديمقراطيَّات المعطوبة”. وبه تصيرُ العمليَّة الإصلاحيَّة جزءاً من مشروعٍ، شاملٍ، هدفُهُ الوحيدُ هو النهوضُ بالمجتمع من دواليب التَّخلُّف والبحث عن سبُل التَّقدُّم، ومن أجلِ تحقيقِ تلك الغاية، كان لزاماً البحثُ عن الأسبابِ الذاتية للتَّقدُّم، وهي – في الغالب – أسبابٌ ذاتيَّة؛ فبالقدر نفسه الذي تكونُ به الأسبابُ الذاتيَّةُ عاملاً من عواملِ التَّخلُّف، فإنَّ فيها ما يتيحُ إمكانيات التَّقدُّم وسبل الإصلاح.

ما من نموذجٍ يمكنُ اتِّخاذهُ معياراً في الإصلاح، حتَّى وإن كان رائداً في الوقت الرَّاهن؛ لإنَّ شروط الإصلاح ينبغي أن تستنبت داخل المجتمع الذي يعنيه التَّغيير، وإن طُبِّقت عليه نماذجُ برَّانيَّةٌ فإنَّها ستقابلُ بالرَّفض، وإنْ قبلت، فإنَّ قبولها ظاهريٌّ لا يغيِّر من الجوهر شيئاً. تبيئةُ المضامين الإصلاحية، إذن، ضرورةٌ لا محيد عنها حتى وإن بدى لنا المجتمع مُتَهيِّئاً لقبولها. ما تخوضُه المجتمعات العربيَّة، اليوم، من تخبُّطاتٍ في المسألة الإصلاحيَّة مردُّه إلى عدمِ الحسمِ في مقولات الإصلاح ونماذجه؛ حيثُ استبدلت تلك المجتمعاتُ أطراً مؤسساتيةً تقليدية، بأطر مؤسساتية عصرانية، من دون أن تُتجاوزَ المُعضلاتُ الكبرى التي تواجهُ العربَ منذ مراحل ما بعد الاستعمار، وعلى رأسها، الوحدة، والتخلف، والحرب، والنزوح، والطائفية. إلخ.

تجاوز المسألة الإصلاحية نحو أفق التَّحديث، مصادرةٌ على المطلوب؛ حيثُ تطلبُ النتائجُ من دون مقدِّمات، ولكن أيُّ إصلاح هذا الذي ينبغي التفكيرُ فيه، أو التفكير من خلاله؟ لا بدَّ أن يطلب الإصلاحُ في مستوياتٍ؛ أوَّلها، وجوديٌّ محضٌ يرتبطُ بإدراكِ الفرد العربي لانتمائه التاريخي والهوياتي الممتدِّ، وتجاوزُ مجملِ الصراعات التي تُدخلهُ في نفق أيديولوجيٍّ ضيق؛ فالمتأمِّل في حال العرب اليومُ سيجدُ أنَّهم يملكون مقوماتِ الوحدة الوجودية والثقافية التي لم تكن متوفرةً لدى نظرائهم الأوروبيين حين فكّروا في إنشاء اتحادهم؛ وثانيها، معرفيّ تقاني، ألا ترى معي أنَّ النهضة الصناعية التي حدثت في مصر الحديثة، كان مردُّها إلى دافع معرفي وإقبال على تطوير التقنيات، وكذلك هو الشأن بالنسبة إلى اليابان، وغيرها من الدُّول الآسيوية، وعليه فلا وجود لإصلاح حقيقي من غير معرفة؛ وثالثها، استشرافيّ، يدفعُ بتلك المجتمعات الساعية إلى الإصلاح إلى وضع خطط استراتيجية تمكنها من توقع المستقبل والعمل على بنائه.

لا تقاس تجاربُ الأمم على بعضها البعض قياس مماثلة، ولا ينبغي أن يُتخذ من تاريخ الأمم معيارا لتحديد سبل التّقدم والتقهقر. غير أن للفكر زمنه الخاص الذي يحدّد من خلاله آفاق التجربة الإنسانية، ويؤطر به حركة الوعي في اتجاه التطوّر الذي تُلحظ نتائجه ماديًا ومعنوياً. فالحداثة على المنوال الغربي نتيجة لمجموعة من العوامل التي، تظافرت مع بعضها البعض، أو لنقل إن الحداثة هي اللحظة التي تم فيها الوعي (مع التّشديد على معنى الوعي) بما أنتجه العقل الغربي خلال مراحل نهضته، أي أنه لم يجر التحوّل نحو الحداثة إلا بإعلان، تحقق بضرورة استيعاب اللحظة النهضوية، المتصلة بإصلاح المنظومة الدينية، هذا الرهان الكبير مثل، لوحده، غايةً لدى فلاسفة الحداثة والأنوار بعدهم. لكن الحداثة على المنوال الغربي ليست معياراً، ولا ينبغي أن يؤخذ هذا الكلام حجة لدى التيارات المحافظة التي تهوي بالغرب إلى مستوى الشيطانية، وإنما غايتنا هنا موضوعية تفكر في الظاهرة كما هي، فإذا تبين بالبرهان أن طريق الحداثة لا يشق إلا بالإصلاح، فقد تبين أيضا أن الحداثة هي الطريق نحو التقدم؛ إذ الطريق هو نحو التقدم هو ما يحدد أشكال التفاوت بين المجتمعات. لكن هل نحنُ، اليوم، قادرون على فتح الورش الحداثي في أوطاننا العربية؟ وهل استنفذنا إمكانيات الإصلاح؟

قد يبدو الجواب عن السؤال أعلاه محبطاً؛ لأن الوقائع تخبرنا بأننا لم نستنفذ بعد ممكنات الإصلاح، أو لعلنا أحوج الناس إليه اليوم. لم يتحقّق المشروع الإصلاحيّ لأسباب ذاتية وأخرى موضوعيّة، وأما الذاتيّ فما اتصل بعدم قدرة العرب والمسلمين اليوم على مجابهة الإشكاليات الهوياتية الكبرى، وعدم قدرتهم على إعادة الاعتبار للمقومات الحضارية والروحية في ابتعاث وعي جديد يمكنهم من مواكبة واقع يتغير، أضف إلى ذلك أن ثمة غيابا للعامل المعياري والقيمي من معادلة الإصلاح. وأما الموضوعي فيتصل بطبيعة التحوّلات التي شهدتها الدول العربية والإسلامية في ظل الحربين العالميتين ومسائل الاستعمار وقضايا التحرّر، إلى درجة غاب معها أي انخراط في واقع الأمة وصارت كل دولة منشغلة بمشاكلها القطرية، وعضد ذلك كله استنبات الكيان الصهيوني في منطقة تعطلُ إمكانيات الوحدة. تلك عوامل ساهمت بشكل مباشر، أو غير مباشر، في تحديد معالم الإصلاح والمشروع النهضوي، ولم يعد ممكنا التفكير في تطويره، بل أمسينا، والحال تلك، أصحاب سياسات الغالب عليها ردود الأفعال، وليست مشاريع ذات نفس إصلاحي يخترق العقود، وعابر للأوطان.

كان الإصلاحُ، وما يزال، مطلباً رئيساً، منذ أواخر القرن الثامن عشر، ولكن توقَّفت عجلتهُ – في العالم العربي – نتاجاً لمتغيرات سياسية عاشتها المنطقة، ولا تزال، لكن ألا يزال بإمكان العرب اليوم استنهاض الهمم من أجل خوض غمار التجربة الإصلاحية؟ هل من الممكن التفكير في أفق جديد للتجربة السياسية؟ هل مطلب الدَّولة الحديثة يمكن استدماجه ضمن منظور الإصلاح؟ كيف يمكن أن يكون الإصلاح مقدّمة لنهضة حقيقية في الوطن العربي؟ هل بوسع الإصلاح أن يكون ممهداً لرؤية وحدويَّةٍ قوامها التغيير نحو الأفضل؟

تلك الأسئلة هي بمثابة إحراجات تضعُ نفسها أمام، المواطن العربي، بوصفه إنساناً له تاريخٌ حافل بالإنجازات، وله ما يؤهله لكي ينهض في وجه التحدِّيات الدّاخلية، والخارجية.

***

زكاري محمد

 

في المثقف اليوم