تجديد وتنوير

المعرفة الدينية صورة عن زمن الناس

من طبائع الأمور ان يكون "علم الدين" اكبر حجما من النص الديني. لأن الشرح والتفسير اوسع دائما من النص المراد شرحه وتفسيره.

هذ الأمر جار في كافة العلوم والفنون. انظر مثلا الى "المعلقات السبع" التي اشتهرت في الجاهلية. انها سبع قصائد، تحويها ثلاثون صفحة على الأكثر. لكن شروحاتها والابحاث التي كتبت حولها تتجاوز – حسب ما قرأت - ثلاثين كتابا. ولعلها تزيد عن ذلك. انظر ايضا الى كتاب جون رولز "نظرية في العدالة" الذي ضم نظريته المشهورة في بضع صفحات، لكن مبرراتها وأدلتها جاوزت الخمسمائة صفحة. اما ما كتبه باحثون آخرون حولها او تحت تأثيرها، فقد تجاوز 100 كتاب، فضلا عن مئات المقالات.

من هنا فليس غريبا ان تجد 300 تفسير للقرآن في اكثر من الف مجلد. اما كتب الفقه فعددها بالآلاف. وقد اطلعت على تطبيق الكتروني، جمع ما يزيد عن الف مجلد لفقهاء من مذهب واحد، فكيف بكتب الفقه كلها.

يوما ما، في القرن السادس الميلادي، كان علم الدين محصورا في الكتاب والسنة، اي ما يعادل خمسة مجلدات (بمعايير اليوم). اما الآن، فالمنشور في هذا الحقل يجاوز آلاف المجلدات.

ذكرت هذه المعلومات كتمهيد للقول بأن غالب النقاشات في الحقل الديني، تتناول آيات الأحكام وأحاديث الأحكام، اي الآيات والروايات التي تدل مباشرة على حكم شرعي. والمشهور ان الآيات المقصودة تبلغ 500 آية، أي نحو 8 بالمائة من مجموع آيات القرآن. اما أحاديث الأحكام فقد نقل ابو يعلى الفراء عن الامام احمد بن حنبل انها 1200  أي نحو 15 بالمائة من مجموع ما يصنف ضمن الاحاديث الصحيحة.

معنى هذا الكلام ان تسعة أعشار ما يقال او يكتب في أمور الدين ينتمي الى دائرة "علم" الدين وليس الى الدين نفسه. انها بعبارة أدق حواش وشروحات وتفسيرات واجتهادات حول النص الديني، وهي جهد بشري يتأثر بالمستوى العلمي لكاتبه او قائله، وظرفه الزماني والمكاني، وبمقدار ما يتوفر له من مراجع، فضلا عن همومه وانشغالاته الذهنية. انها علم البشر وليست علم الله ولا هي عين الدين.

اما التوسع المستمر في علم الدين، فمرجعه هو التحول المستمر في مجتمع الانسان، في ثقافته واقتصاده ومنظوماته القيمية وسلوكياته. كل تحول يطرح أسئلة جديدة، تستدعي اجتهادا جديدا، فتضاف شروحات وتفسيرات ونقاشات جديدة.. وهكذا. ولعل ما كتب ونشر في حقل العلوم الدينية، خلال الخمسين عاما الأخيرة، يعادل جميع ما كتب منذ القرن السادس الميلادي حتى بداية القرن العشرين.

هذا المجموع الضخم ليس جزء من الدين ولا هو امتداد لمقدسات الدين، بل هو علم انتجه البشر في سياق سعيهم لادراك الحقيقة او الاقتراب منها. والعجيب في الأمر ان بعض العامة يظن ان كتاب التفسير وكتاب الفقه وكتاب الحديث وكتاب العقيدة، يظنها مقدسات، ويغضب اذا انتقدها الناقدون او خطأوها. اما العلماء انفسهم، سيما المتبحرين منهم، فيرون النقد حياة للعلم وسببا في ازدهاره. وكم من النظريات الهامة في الحقل الديني اغفلت وكادت ان تموت، لولا اقلام الناقدين التي كشفت عن تميزها ودقة مقولاتها.

ان تقديس العلماء وكتبهم يوشك ان يجمد علم الدين، بل ربما يميته. بينما النقد يجدد حياته ويكشف عن زوايا فيه لم يطرقها السابقون. وعلى كل حال، فان علم اليوم مثل علم الامس، ليس دينا ولا هو امتداد للدين، بل هو انعكاس لتجربة البشر الدينية، وهي مجرد تعبير عن حياتهم وعصرهم، لا اكثر ولا أقل.

***

توفيق السيف

 

في المثقف اليوم