تجديد وتنوير

من هو المثقف العضوي؟.. قراءة نقدية للشائع حول مفهوم غرامشي

علي المرهجارتبط مفهوم "المثقف العضوي" بالمفكر الإيطالي الماركسي الشهير أنطونيو غرامشي (1891ـ1937)، ولا أروم الخوض في تعريف غرامشي للمثقف العضوي، بقدر ما أرغب بالقول أن هناك كثيراً من اللبس قد اعترى هذا المفهوم، فكثير منا يعتقد بأن مفهوم "المثقف العضوي" مرادف لمفهوم "المثقف المُستقل" الذي لا يقبل الخضوع لأيديولوجيا أو عقيدة معينة سوى ما يتطابق مع رؤى الإنسان الحر ومُتبنياته المعرفية المستندة على معطيات المنطق، إستقرائياً كان أم إستنباطياً، أو في ضوء منطق النقائض، سواء أكان هيجلياً أم ماركسياً.

إن مفهوم المثقف في ضوء كل تشكلات المنطق هذه شاء أم أبى من تبناها هو مثقف نخبوي، لأنه يبحث عن اجتراح مفاهيم لها طاقة نظرية تجريدية، ولكن ما يشتغل عليه غرامشي هو التكوينات المجتمعية بتشكلاتها الأفقية المرتبطة بالواقع ومتغيراته، وبالتالي يكون مفهوم "المثقف العضوي" عنده هو الشخص الذي يستطيع أن يُدرك بمهارة تنم عن وعي ثقافي مائز تُعبر عن جماعته التي ينتمي إليها، وفق تفسير واقعي أخاذ، نافذ، ومقبول لحاجيات وتصورات طبقته التي ينتمي إليها، فالمثقفون بحسب فهم محمد عابد الجابري لغرامشي، لا يُشكلون طبقة مُستقلة، بل إن كل مجموعة اجتماعية لها جماعة من المثقفين خاصة بها، والذي يعني غرامشي هو مقدار ما يمتلكه هذا المثقف من وعي خلَاق يستطيع من خلاله التعبير عن أيديولوجيا الجماعة التي هو جزء فاعل وواع منها، ولا إستقلالية له إلَا بالمقدار الذي تكون فيه هذه الإستقلالية تعبير حقيقي لرغبات طبقته، ولكن وعيه التاريخي بها وبتحولاتها أشد وأعمق منهم، حينذاك سيجد معارضة شديدة من الوعي الجمعي لطبقته، الأمر الذي يضطره لأن يكون خارج الجماعة ليعبر عن طموحاته بحرية أكبر، وهو في هذه الحال، أي خروجه عن الجماعة التي ينطق بإسمها، ليُعبر عن طموحاتها، إنما هو إدراك ووعي نافذ عنده، وخروج عن نمط الفكير السائد الذي يتماهى فيه "المثقف التقليدي" مع "الحس الجمعي" للطبقة التي هو فيها، الذي صوره البعض أنه يعيش في "برج عاجي"، لكنه يبحث عن وجود مُفتعل يُصور نفسه أنه مُتماهي مع الجمع بكل سذاجاتهم وبساطتهم، كي يضع نفسه بافتعال وصرف مال أنه في مصاف الكل، كي يكون أعلى من الكل، لأنه يُتقن اللعب والمخاتلة وتزييف الواقع، ليصنع له منبراً وسرداقاً يُصفق له المُصفقون ممن ظن أنهم ببساطتهم سُذج يُخدعون، وفعلاً يُخدعون، لرغبة عندهم في تقبل خداع الذات لكسب مال هم به موعودون من سياسي غبي يدعي أنه مُدرك ومعبر عن مُعاناتهم، ولكنه غبي إستغله بُسطاء، وبسطاء لا يقبلون سوى حلب غبي من الأغنياء الذين يرومون صعود المجد بلا تضحية سوى تضحيته بتاريخ صراع الجماعة التي ينتمي إليها وهم بخداعه اللفظي والشعاراتي قابلون ومقتنعون، "الكل يخدع الكل" لا لشيء إلَا لأنه مُخادع كبير، وهم بسطاء بأسى وأقصى ما تصل له البساطة ولهم حاجة بمال غبي، وربما بما ذكي مُتغابي!!.

بينما تجد "المثقف العضوي" مُغاير لكل تصوراتنا ولكل توجهات الجمهور، لا يقبل أن يستغل سذاجة أحد من الجمهور، ولا يُطبل مع المُطبلين، ولا يُزمر مع المُزمرين. إنه يُغرد خارج سرب الجمع الذي تُحركه العاطفة، ينأى بنفسه عن ملذات العيش في كنف السلاطين والمُستبدين، رافضاً أن يكون أداة أو وسيلة بيد الجماهير المُغيبة، يرغب بأن يكون هو لسانهم الناطق والمعبر الحقيقي عن معاناتهم وصبرهم الجميل والثقيل، لأنه العقل الناطق بإسم هذه الجماعة، وهذا الفهم نجده بيَناً في كتابات علي شريعتي في تمييزه بين "المثقف الأصيل" و"المثقف التقليدي"، فالمثقف الأصيل هو الذي يعي ويعيش مُعاناة الجماهير، هو مُعارض ورافض دوماً لكل ميقف يعيش حياته مُفارقاً لحياة مُجتمعه

وهذا يعني وما ينبغي الإلتفات له أن مثقف غرامشي العضوي هو مثقف أيديولوجي ينطق بإسم الجماعة التي هو منها "مثقف ثوري" مهمته التنظير لـ "الهيمنة الثقافية" لأيديولجيا الحزب الذي ينتمي إليه ذلك المثقف!!، فالمثقف المعبر عن طموحات وآمال "البروليتاريا"، مثلاً، عليه أن يعمل بجد وكد وتعب فكري ونظري مُتميز كي تكون هذه الجماعة هي المهيمنة ثقافياً على المشهد السياسي والفكري والاجتماعي، لأنه هي الأحق بالقيادة من غيرها، فـ "الحزب الثوري" طبقاً لمقولات غرامشي هو الحزب الوحيد القادر على تكوين طبقة من "المثقفين العضويين" الذين بإستطاعتهم تحشيد الجماهير كي يكونوا جماعة قادرة على الرفض الحركي للهيمنة الرأسمالية.

ألا يُعيدنا، أو ألا نستطيع من مقاربة وجهة النظر هذه ولو قليلاً مع دعوات ومتبنيات جماعة "الإسلام السياسي" لا سيما "الوهابية" وجماعة الأخوان المسلمين الذين يقولون بـ "الحاكمية"؟، فالحال هو ذات الحال، فجماعة الأخوان المسلمين عن السنة ومن شابههم من دعاة "ولاية الفقيه" عند الشيعة، إنما هم يدعون لوجود مثقف ديني، وهو المقابل الأرجح للمثقف العضوي عند غرامشي، وهذا المثقف الديني هو الذي يُمهد لقيام "حكومة إسلامية"، لأنه هو من لديه المكنة الفكرية والقافية لخلق جماعة حركية تؤمن بقدرتها على قيادة الأمة الإسلامية لما هو أفضل حال من جاهلية نعيشها نحن المسلمين في ظل حكومات لا إسلامية!!، فغرامشي يدعو لقيادة حزبية تقودها "طبقة ثقافية" مهمتها الدعوة لـ "الهيمنة الإشتراكية" بالقوة!!

ولن نجد في نمط ما دعى إليه الأخوان المسلمين ومن شابههم فيما بعد ما يتنافى ودعوة غرامشي في ترك الإشتغال في "تفسير العالم" والعمل على "تغييره" بحسب الرؤية الماركسية لمهمة الفلسفة التي أساسها "التغيير" لا "التفسير"، ولو أنعمنا النظر في مُتبنيات الطرفين، على الرغم من التناقض في طبيعة المُتبنيات والقواعد المؤسسة لكلا الاتجاهين، فمتبنيات غرامشي تغوص في الواقع لتكشف عن عيوبه لتعالجه من داخله، وإن كان في كل رؤاه ينطلق من هموم ومعاناة طبقية في عالم واقعي، بينما تجد الأخوان المسلمون ومن شابههم ينطلقون من معاناة ذات الطبقة، ولكنها تغوص في الواقع لا لتكشف عن حلول مُستنبطة منه، بل لتجعله أسير رؤية دينية مثالية تستمد قوتها وعزمها من السماء، لكن "المثقف العضوي" عند كلا الاتجاهين، هو ذات "المثقف العضوي"، هو مثقف أيديولوجي يشتغل داخل أطر وأسيجة فكرية و"دوغمائية" تفرضها عليه طبيعة وجوده الاجتماعي داخل طبقته.

ما نخلص له من القول أن مفهوم غرامشي عن "المثقف العضوي" لا يشمل الأدباء والكتاب والعلماء الذين لا ينشغلون بهَم الطبقة الذين هم منها، فهؤلاء في عداد "المثقفين التقليديين"، لأنهم يكتبون ويُنظرون للأدب من أجل الأدب، والعلم من أجل العلم، بينما تكون وظيفة "المثقف العضوي" عنده هي وظيفة اجتماعية تقتضي "التغيير"، لكن أي تغيير، إنه تغيير وفق مُعتقد وأيديولوجيا لها مقبولية وتأثير اجتماعي...    

د. علي المرهج – أستاذ فلسفة

في المثقف اليوم