تجديد وتنوير

المثقف النقدي واسئلة العصر

نبيل دبابشلقد كنا بالأمس ونحن طلبة جامعيون نميز بين نوعين من المثقفين، مثقف عضوي راديكالي بسبب انتماءه إلى النشاط النضالي الحزبي وتمسكه بأبجديات الممارسة السياسية المنصوص عليها في المنشورات الثورية – وفق تصنيف غرامشي-، وبين مثقف السلطة الذي اختار أن ينتسب إلى مشروع المؤسسة الحاكمة ليكون صوتها لدى الجماهير في مجال الكتابة وإنتاج المعنى وفق أجندة مناسباتية...لم يكن حينها التميّز بين المثقف السلطوي والمثقف الأصولي قائما بشكل واضح .بل هما – في الغالب – يحملان نفس الرؤية وينتجان نفس الخطاب بأسلوبين مختلفين.

غالبا ما كان مثقف السلطة هو من يحتكر إلى جانب الفضاءات العمومية ، قيم المواطنة والوفاء وشرعية الخطاب، في مقابل المثقف العضوي الذي لم يلق إلا التخوين والإقصاء بسبب عداءه لأيديولوجية الدولة الوطنية وأساليبها في معالجة الانشغالات الاجتماعية، بعد أن كان في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي هو من يمثل الخطاب الشرعي. نعم تغيرت الأحكام والمراتب بتغير موازين القوى.

سؤالنا اليوم، هل تغير الوضع كثيرا ؟

 وهل التصنيف السابق يصدق على واقعنا المعاصر بعد انتهاء عصر الإيديولوجيات وتراجع الأصوليات المختلفة، وبعد أن ساهمت الانتفاضات الشعبية بدءا من 2010م في زعزعة مصداقية الدولة الوطنية وما تركته من منظومة معرفية كبيرة لا تزال تتحكم في كتابة برامج التعليم والإعلام؟... اننا نظن بأن تلك الثنائية لم تعد تملك حظوظا كبيرة في تفسير الواقع في هذا الظرف التاريخي، وأن ذلك التصنيف لن يكون صادقا بما فيه الكفاية لو اخترنا الاعتماد عليه.

ربما نفضل– اليوم- تصنيفا أخر نظنه اقرب إلى الواقع. يتمثل في الفصل بين مثقف في التاريخ ومثقف خارج التاريخ، بين مثقف نقدي يعيش مشكلات زمانه المعرفية أو الاجتماعية بوعي ومشاركة، يسعى إلى الكشف عن الآليات الخفية التي تتحكم في إنتاج المعنى في واقعنا، وبين مثقف أصولي يرى في اسئلة الواقع المتغير اختبار لوجوده الراكد والحالم، ولا يرى في حركية التاريخ إلا ذبابة تريد أن توقظه من نعاسه الجميل...

صار عندنا اليوم مثقف نقدي يعمل على تفكيك مجموعة كبيرة من المعطيات الفكرية والاجتماعية في سبيل تقديم قراءة أكثر وضوحا، ومثقف يتقمص دور الداعية ليعتقد في نفسه المسؤول الأول عن الغنم الضالة، ولا يرى في الوجود الاجتماعي إلا أخطاء تنتظر منه الوصاية. إن الاختلاف هو بين من يبحث عن الحقيقة ولا يدعي أبدا بأنه قد أدركها وبين من يرى الشيطان في كل شيء وهو وحده من يمتلك خاتم سليمان لتطويع ذلك الجن المارد، ثم يقر – ضمنيا - بعجزه على المواجهة في غياب القاموس الجاهز الذي ورثه عن القرون الماضية.

ليس بالضرورة أن يمثل دور الداعية ذلك المتدين الكلاسيكي– دائما -، بل قد يكون من بين المثقفين المحسوبين على التيار التقدمي أو ضمن الذين لم يفهموا الديموقراطية إلا بعد تجويفها من معانيها التاريخية. المشكلة هي في اسلوب الرؤية وفي مسافة التموقع من الحقيقة. الدوغمائية والتعصب إلى الرأي وتعظيم الخطأ كلها معايير تتنافى والموقف النقدي.

يردد الكثير من الباحثين في – أيامنا - عبارة عودة الديني إلى الفضاء العام بعد غياب طويل، والمقصود هو عودة الخطاب الديني وانتشاره بين الفئات الاجتماعية. نحن لا نوافق على هذا التصور، ربما لقصوره الواضح في مقاربة الواقع. بل نقول بوجود مراحل عرفها الخطاب الديني وصورا متعددة تميز بها خلال التاريخ فليس هناك غياب أو حضور، بل كل ما في الأمر هو انتقال من حالة إلى أخرى ومن وضع إلى آخر.

هي نفسها الحالة التي تميز بها الخطاب النقدي، فهو يتغير بتغير موازين القوى. قد يكون هو الخطاب السائد في مرحلة من التاريخ، أو عكس ذلك هو الخطاب المضطهد. لقد عرفت بغداد وقرطبة لحظات تاريخية عظيمة تعالت فيها أصوات العقل والإبداع لتشكل نموذجا لا يزال يلقى الإعجاب إلى يومنا هذا، ونقلت الينا المدونات اخبار ما كان يحدث من لقاء ونقاش بين الطوائف والملل في بيئة اتسمت بتغليب لغة المنطق والعقل، لتأتي بعدها مراحل الردة وانتشار كبير لمجالس التفتيش وحلقات التكفير.

المثقف النقدي هو صاحب رسالة من نوع خاص، ليس من الضروري أن يستمر التعامل معها بمعايير المنفعة التي نستعملها مع السياسي او كل نشاط ذو طبيعة إجرائية...للمثقف أسئلته وهواجسه فليس من المعقول أن نرى فيه بائعا للحلول أو ننتظر منه الحضور في كل مناسبة...يجب أن يعاد ترتيب المقاييس. رسالة المثقف لم تعد النهي عن المنكر والأمر بالمعروف...اذ قد يسهم بقلمه في تقديم تصورات حول مشكل اجتماعي أو سياسي ولكنها ليست رسالته الوحيدة.

قبل أن يحدثك عن فوضى المجتمع وتناقضات النشاط السياسي ، فان المثقف النقدي يبدأ - اليوم - بالحديث عن فوضى التفكير والحدود المنهجية لبعض الأنساق المعرفية والتصورات. هو لن يحدثك عن الواجبات والأحكام بقدر ما يشد بيدك للتفكير سويا في سياق عقلي أنجع يتجاوز الاختزالية المتوارثة عن المعطيات الأيديولوجية. هو لا يرى في السلوكيات الممنوع والمحرم بل التعدد والاختلاف، ولا يفكر ضمن الجاهز كما يريد له الاصولي، بل هو من يعلن الثورة على الجاهز ويسعى الى تفكيك اصوله وكشف المسكوت عنه. ليس في نية المثقف النقدي تأسيس خطاب منتهي او التشريع لبرنامج حياة، بقدر ما يهدف الى تقديم صورة اوضح عن المجال المعرفي والسوسيولوجي بعدما يقوم بتنقيتها.

ان صورة الاب والنموذج الناجح الجاثمة في ذواتنا هي نقطة انطلاق المثقف النقدي، الذي سيجد نفسه بسببها امام تحد كبير. القبول بها يعني السقوط في التفاصيل، رفضها يعني الدخول في صراع مع المحيط، وهنا يكمن سر معاناته.

ان نكون مثقفين اليوم يعني ان تكون لنا مواقف وليس مهن نتعلمها لنسترزق منها. من المؤسف ان الكثير من المثقفين الاكاديميين اختاروا الابتعاد عن الكتابة النقدية لأجل الاهتمام بمقتضيات الدرس والمحاضرة اي الانغماس في التفاصيل، وهو ما يميز الكثير من الاقسام الجامعية في المنطقة العربية، ويؤهل نسبة معتبرة من المتخرجين الى تبني الخطاب الدوغمائي...اننا في امس الحاجة الى فئة طلائعية، تؤسس لفكر نقدي جديد وتؤمن بضرورة احداث القطيعة الفكرية مع المنهجية التقليدية. لا نعتقد ان المؤسسة الجامعية في منطقتنا العربية تتوفر على الامكانات الكافية لصنع هذا النوع من النخبة في الظرف الحالي.

اذا كان خطاب المثقف التقليدي يتميز بالثبات، معتمدا على منهجية السلف دون اي تحيّين منهجي لمعطياتها بما يتطلبه الراهن او لأن معطياتها تحكمها الضرورة التاريخية ولذا يصعب كثيرا الاحتفاظ بها كاملة. فان المثقف النقدي لن يكون إلا بإحداث القطيعة مع اجيال من التصورات، من خلال انتاج خطاب يكشف المسكوت عنه ولا يتوقف عند الاسس والاصول بسبب قداستها بل يسعى الى اعادة قراءتها وتبيان الخلل الذي اراد المؤرخ ان يخفيه عنا . وفي هاته الحالة لا بأس ان نشيد بجهود الدكتور محمد المسيح في كتابه الصادر سنة 2018 م '' مخطوطات القرآن. مدخل لدراسة المخطوطات القديمة '' وجهود الباحث المغربي رشيد ايلال '' صحيح البخاري نهاية اسطورة ''. لما لهاته البحوث من قيمة في كونها كانت السباقة الى اعادة قراءة ما اصطلح على تسميته بالأصول والثوابت.

و نحن نتعمد اختيار النموذج من بيئتنا حتى لا يقال اننا ننسخ افكار الغرب لندمر بها دار الاسلام ونزيل بها مجد المسلمين وعزهم. الاسئلة التي ورثناها كثيرة ويصعب تعدادها، ولكن المشكلة التي نواجهها هي في قلة الجرأة وضعف الادوات.

كثيرا ما يرتدي المثقف التقليدي ثوب المثقف الحداثي والنقدي ليخفي اهدافه الايديولوجية او احيانا العنصرية والاقصائية ، وهي ليست ميزة التقليدي – عندنا – فحسب بل موجودة وبكثرة في بلدان اوروبا ..و لا بأس ان نشير الى كتابات اودون لافونتان Odon lafontaine حول الرسول (ص)، او منشورات سامي الذيب... فبالرغم من ان هؤلاء الباحثين يّدعون الانتساب الى الرؤية العلمية والنقدية فهم لم يعيدوا سوى انتاج خطاب القرون الوسطى، الذي تميّز بتفضيل ثقافة المنتصر واعلاء شأنها.

آن الوقت لفتح قارات جديدة من الاسئلة يساهم المثقف العربي فيها لأجل اعادة الاعتبار لوجوده المهدد بالزوال على حد تعبير ادونيس، مهدد بالانقراض لأنه عجز عن المشاركة في صنع تاريخه الراهن والمساهمة في انتاج المعنى الذي غالبا ما يلجأ الى استيراده جاهزا من مجتمعات اخرى.

مشكلة المثقف في المنطقة العربية واحدة، الانتظار المستمر ان توفر له السلطة كل ما يحتاجه وتهيئ له المناخ والامكانات. وكأنه لا يعلم لأي سلطة ينتمي؟...لا نريد السقوط في ابجديات خطاب الاسلام السياسي بتعداد مواصفات الزامية يتحلى بها المثقف النقدي، كأن نبدأ بجرد الخصال اللائقة والمباحة وتجنب المشبوهة او المكروهة. ولكننا نسعى – بكل بساطة – الى تقريب صورة النموذج الحي بوضعه بين هلالين.

فشلت الكثير من موجات الانتفاضة الشعبية في المنطقة العربية بسبب غياب المثقف النقدي الذي يعطيها معنى، ويخرجها من سياج العاطفة والحاجة لتصبح مشروع مجتمع جديد...ربما لان الظرف التاريخي وتسلسل الاحداث لم يوفر الوقت او الفرص التي قد يحتاجها المثقف لإبداء رأيه بكل حرية، ورغم ذلك نعتقد انه لا يزال في وسعه ان يقدم الكثير .هذا هو عصرنا ولا خيار امامنا ان اردنا ان نعيشه برؤوس عالية وبحضور حقيقي،علينا ان نمارس وجودنا ثقافيا هو اهم ما نحتاج اليه.

هل يمتلك المثقف العربي مشروع معرفي بمعزل عن الخطاب الايديولوجي المتداول منذ خمسينيات القرن الماضي او قبلها بقليل ؟ لا اعتقد ذلك ولا نتفق مع الدكتور على حرب عندما ذهب الى القول باننا نساهم في صنع الحداثة من خلال مناقشة قضاياها عربيا. اظنه فرق كبير بين أن تترجم مفاهيم كبيرة َأنتجها عقل غريب وبين أن نكون السباقين الى توليدها من رحم بيئتنا.

ذلك هو ما يجعل من المثقف نقديا. أن يمتلك مشروعا لمجتمع ومشروعا للعقل.

 

نبيَــــل دبابـــــش.

 كاتب من الجزائر

 

في المثقف اليوم