ترجمات أدبية

تيان يي: الولد الطيب

بقلم: تيان يي

ترجمة: صالح الرزوق

***

كنا في المدرسة حينما  رأيت أول مرة ماذا يمكن أو ين لي أن يفعل. لا بد كنا في الثامنة أو التاسعة، الفترة التي اعتبر أنه كان خلالها أعز أصدقائي. وبالعادة لا ننفق الاستراحة معا، لكن في ذلك اليوم كنا نلعب بكرة قدم قديمة، بعيدا عن العيون، في مكان يقع بين بنائين من الباحة. وكنا نسأل أنفسنا أسئلة سخيفة. ماذا تفضل أن يكون لديك: حية أليفة أم رتيلاء أليفة؟.

إن كان لديك أي قوى فائقة، بماذا تسخرها؟.

هل تأكل الفلفل الحار جدا إذا منحتك جنيها؟ مائة؟.

وكنا نضحك حينما التف صبي يدعى جوني حول الزاوية وشاهدنا. كان معنا في الصف، وهو نحيل وطويل. ودائما يشتم المعلمين، ولذلك أرسلته المدرسة إلى بيته.

قال: آه. انظروا. إيدي وأوين تحت الشجرة.

تجاهلناه كما يفترض بنا، ولكن لم ينجح أوين لي من كبت التعبير عن خوفه تماما، أو الحمرة التي زحفت على وجهه. وكان دائما أهدأ وأكثر خجلا مني. ركلت كرة القدم على الجدار، وتابع جوني كلامه: هل أنتما توأم أو شيئ من هذا القبيل؟ توأم سيامي، صحيح؟ ولكن لا تعلمان ذلك، فقد رأيت أم كليكما، وكلتاهما بدينتان.

اقتربت منه قبل أن أقرر كيف أتصرف معه. لا أعتقد أنني أردت أن أضربه، ولكن أن أسكته فقط. صدر عن قبضتي، حينما لمست أنف جوني، صوت كأنني ضربت سطحا صلبا بتفاحة. وأدهشني الصوت والألم الفوري الذي لحق بيدي. لم أضرب أحدا من قبل. وجمدت أنا وجوني لحظة. ثم حضن وجهه، وسال الدم القاني من بين أصابعه على البقعة الباهتة التي كان يقف عليها. وبدأ يتشكى بصوت متألم، يدل على تمالك نفسه، وجاء أوين لي قبل أن يبكي. قبض على رأسه بيديه وفحصه، ليس كأنه طفل يهتم بطفل آخر جريح، ولكن كأنه يتقدمه بالعمر كثيرا. راقبته. وفكرت هذا بيطري أو مزارع يهتم بحيوان جريح. ما تلا ذلك كان غريبا - بيد واحدة وبسرعة ودقة نقر أوين لي على طرف واحد من رأسه، قرب أذنه تماما. ثم قال له: كان حادثا. فقد ضربت الكرة وأصبتك. لم يكن إيد موجودا، اتفقنا؟.

خف ألم جوني كما يبدو، وأصبح وجهه فارغا من المعاني على نحو عجيب، تحت الدم القاني الذي غطى فمه وذقنه. وسمح لأوين أن يرافقه إلى مبنى المدرسة. وعلى بعد عدة خطوات، التفت أوين، ونظر لي، ووضع أصبعه على شفتيه. عشت أنا وأوين لي معا في نفس البناء التابع لشقق البلدية السابقة قرب مركز المدينة. هو في الطابق الأرضي، وأنا في الطابق الرابع. وكان بالجوار عدد من العائلات الصينية، وكان والدانا يلعبان الورق في عطلات نهاية الأسبوع، بالعادة في شقة أوين. كان هناك خمس صبيان، كلنا بأعمار متقاربة، وكنا نقفز إلى الحديقة الموجودة في الجانب المقابل من الطريق، ونظهر مجددا في وقت الغداء بركب متهالكة ورؤوس مجللة بالعشب. ونحن ننظر إلى بعضنا البعض بسبب الروائح التي تسبح في الجو من دخان السجائر، وأكوام قشر بذور عباد الشمس المتراكمة على الطاولة. وكان الوالد يصيح بينما العائلات تتفرق: المرة القادمة في بيتنا.

فيبتسم لاو لي والد أوين ويوافق بتهذيب. وبعد سنوات فهمت أن الجميع يفضل الشقة الأوسع والأكثر ترتيبا، حيث ورق الجدران جديد، وليس مقشورا مثلنا، وحيث يمكن للأبواب أن تفتح للخارج على الشرفة، التي زينتها السيدة لي بورود طازجة، عوضا عن شرفتنا الضيقة المغلقة بأسلاك بيوت الدجاج. وكنت أسرع إلى بيتهم دائما دون أن ألاحظ الفوارق.

كان أوين لي صديقي الحقيقي الأول، أكثر من يانغ، أو بيت، أو هاهاو، ببساطة بسبب تجاورنا. تخيل الوقت الذي كنا نمضيه معا، ولدي ذكريات واضحة عن أفلام  الرسوم المتحركة التي شاهدناها بعد نهاية المدرسة، والرقائق والبسكويت التي أكلناها، ونحن نلقي الفتافيت على كنبته التي تئن، ولكن ذكرياتي عن حواراتنا أقل وضوحا.  طبعا أتساءل الآن إذا كان أحد يتذكر صداقاته في أيام الطفولة بمثل هذا الغموض، أم أن هناك سببا آخر وراء ذاكرتي الضعيفة.

بعد ذلك اليوم من حادثة جوني في الباحة، عدت مع أوين لي إلى بيته كالعادة. وكنت متأكدا أن جوني سيخبر أحدا بتلك اللطمة، وسيسبب لي المشاكل. وأردت أن أسأل أوين عن الموضوع. وكيف تمالك جوني نفسه؟ وكيف أصغى له ببساطة؟ ولكن لم أفتح الموضوع. ولا أعلم إذا كان لسؤالي أي معنى.

انضم إلينا لاو لي على الكنبة، وكان يلقي الفستق في الهواء ويتلقاه بفمه. كان له مثل أوين لي كتفان ضيقان، ولكن لأوين طريقة مختلفة فيما يتعلق بمظهره - يكون متماسكا ومتحفزا، بخلاف البساطة التي تميز أباه.

سأل: تشاهدان التلفزيون مجددا؟ أليس لديكما واجبات منزلية؟.

كان لاو لي يتكلم المندرين بلهجة أهل الجنوب السريعة، ودائما أحتاج لعدة ثوان لأفهم ماذا يقول. ربت على ذراعي وكنت مقطبا.

قال: الكد والاجتهاد هو الذي يصنع nan zi han (*بالصينية: رجلا). كانت العبارة جديدة على مسامعي، ولكن نفضت رأسي بثقة كأنني فهمت.

قلت: نحن لسنا nan zi han. بل أولاد.

واستغرب من ذلك. وقهقه حتى رأيت على لسانه ذرات من الفستق الذي لم يمضغه جيدا.

قال طبعا. عموما يجب أن تكون معنا نساء لنصل إلى طور الرجولة الحقيقية، أليس كذلك؟.

فتحت فمي، وأغلقته حينما لاحظت أن أوين لي يراقبنا. كانت تعابير وجهه تدل على الغيرة. لم يتكلم لاو لي على الإطلاق مع أوين، وكان يعطيه أو يرمي له الأوامر. وساءني ذلك.

في ذلك اليوم، بدا كأن أوين لي يتحاشاني، وعموما كنا نتباعد. فقد كان دائما مشغولا بنادي الموسيقا أو الرياضة، أو بحصص إضافية للتقوية، وهذا يشمل عطلة الأسبوع. وحينما أتيت إلى أمام باب بيتهم، عبست السيدة لي بوجهي، بتحفظ وشك رأيته وراء نظارتها المستديرة والسميكة، كما لو أنها تعتقد أنه لا يجب أن يكون عندي متسع من الوقت للراحة. 

توقفت أيضا ألعاب الورق مع بقية العوائل عند اقترابنا من نهاية موسم الدراسة الإبتدائية. ولم يقنط أبوانا من الكلام عمن يجب أن ينجح منا بالامتحان لينتقل إلى صف أعلى في مدرسة البلدة، حيث يكون ارتداء السترة وربطة العنق إلزاميا. وأعتقد أن تلك الفترة لم تكن ممتعة لهم. في النهاية أثبت أوين لي أنه ذكي ويستحق مدرسة سانت فيليبس. ولم ننس نحن البقية ذلك.

كنا نقلد كلام آبائنا بلهجة أنفية حينما اجتمعنا جميعا للاحتفال بالعام الصيني الجديد أو خلال حفل مهرجان منتصف الخريف:  كونوا مثل أوين. أوين zhen guai (*متميز. بالصينية). وكان هذا يخجل أوين، ولكنه تأقلم مع ذلك، وتركنا نجرحه قدر ما نشاء.

كنت أعلم أن بقية الأولاد يعاملونه بشكل أسوأ أحيانا، ولا سيما بيت، الذي كان يدفعه بقوة لا لزوم لها، ويضحك وهو يشخر بينما وجه أوين محمر ولسانه صامت. قررت أن لا أجاريهم بهذا السلوك. وكنت أشعر أنني مدين له بشيء ما يعود ليوم مشكلتي مع جوني. وحتى مع أنني قلت لنفسي إن لدى جوني الكثير من الأسباب كي لا يتباهى. ولا بد أنني تصورت أمورا غريبة. وفكرت مطولا بالطريقة التي تكلم بها أوين لي مع جوني، بثقة لم ألحظها منه سابقا، وطريقة تبدل وجه جوني. لم أنس ذلك تماما. وتوقفنا عن مضايقة أوين لي بسبب الدراسة الخاصة، ولكن تابع آباؤنا ما كانوا عليه. كانوا يؤكدون أقوالهم: يا له من ولد طيب. العلامة التامة في كل حصصه. انظروا. أصبح لديه عمل في يوم السبت. لا حاجة ليقلق أحد عليه.

وزادت وتيرة هذه الأقوال، وبصوت مرتفع، ولا سيما بعد ترقية السيدة لي إلى وظيفة رئيسة قسم في عملها، وبعد أن غادرت العائلة شقتها إلى بيت في الضواحي له حديقة بمشاهد طبيعية واسعة.

في ذلك الصيف، أقام ذوو أوين لي حفلة. وانتهى الأمر بالأولاد إلى استديو الحديقة مع زجاجة من بايجيو اختلسناها من خزانة مشروباتهم. كنا حينها في سن المراهقة، ومتلهفين لإثبات قدراتنا أمام بعضنا البعض. وكنا نحاول التخلص من الأصوات الزاعقة والمهينة، ونستعد لاستعمال أطرافنا الأخرى، الأطول والأقدر من اللسان. لعبنا بالورق، كأننا نقلد آباءنا، ونستعيد أجواء أمسياتهم المعتادة. وفي لحظة من اللحظات اقترحت إحدى البنات لعبة تدوير الزجاجة. وحاول معظم الأولاد أن يبدوا موافقين، ولكننا سرعان ما تحمسنا وتخلينا عن الرزانة. أما أوين لي فقد رفض أن يلعب. وراقبناه وهو ينفرد بنفسه في الحديقة، بكتفين متهدلين، تحت قميصه الفضفاض.

لم نلق له بالا، وتابعنا اللعب. كانت لعبة قصيرة، حصلت بنهايتها على أول قبلة من ماري هان لمرحة ذات الغمازة التي تضحك كثيرا، ولذلك بالكاد تلامسنا. أما الثانية فقد حاصرتني الصيحات، وكانت نقرة من أخيها يونغ. انحنيت، وأنا أغمز بعيني لماري. ومسح يونغ فمه بمبالغة لا ضرورة لها.

قال: فظيع. وهو يبقبق بفمه.

قال بيت: كأنك تقبل أختك.

ورشف مجددا من قارورة بايجيو، وهو يهز رأسه للطعم.

قال هاوهاو: كلنا كنا معا في ذلك.

كان مضجعا على ظهره فوق الأرض الخشبية، ولأن كلماته ذات غنة، علت أصوات ضحكنا. في وقت لاحق من تلك الليلة، حينما كانت الحفلة في لحظاتها الأخيرة، ذهبت إلى للبيت. وذهبت ماري إلى الحمام لعدة دقائق، وأملت أن ألحق بها في طريق العودة. رفع البايجيو معنوياتي، وكان هواء الليلة دافئا، وجعلني الضوء المتسلل والبطيء أشعر أن كل شيء ممكن.

كان بعض آبائنا يثرثرون في غرفة الطعام الكبيرة، والأبواب المطوية التي أضافتها السيدة لي من قبل مفتوحة على الحديقة. تنهد والدي وأنا أمر به، في وسط حديثه. كان يقول: ابننا إدي على سبيل المثال لا يمتلك أي طموح.

لم أتمهل للدفاع عن نفسي. في الأعلى توقفت على السجادة الباهتة الممدودة تحت قدمي. وشعرت بدافع قوي لأستلقي عليها. رغبت بتحريك أطرافي على الأرض وأن أترك بصمة من نفسي بالطريقة التي قمت بها مرة واحدة فقط قبل الآن، في يوم صباحي راكد منذ سنوات، حينما غطى المنتزه المقابل للشقق بساط ناعم من الثلج الطازج. وتلاشت الرغبة حينما سمعت أصواتا عالية، تأتي من إحدى غرف النوم... أنت لم تكوني هنا. حسنا؟ أنت لم تكوني هنا.

كان أوين لي. كنت سأتجاهله، ولكن كلماته المألوفة جعلتني أشعر بقشعريرة تسري في ذراعي. ثم جاء صوت آخر، هو صوت ماريتقول: هذا كل ما يتوجب عليك؟.

وحالما توجهت نحو الباب الموارب، خرج لاو لي من الغرفة. كأنه لم يلاحظني. بقي وجهه خاليا من التعابير. لم أشاهد إنسانا يمشي في نومه، ولكن توقعت أن هذا يشبه حالة لاو لي حينها، كان يمشي ببطء نحو السلالم. وحينما مر بي، شاهدت خدوشا عميقة على قفا يده، وهي حديثة وتنزف. وفي غرفة النوم، جلست ماري على كرسي، وأوين لي واقف بجانبها.

قفز كلاهما حالما شاهداني.

قلت: ماذا يجري؟.

تجاهلاني.

قالت ماري: أسرع. فقط افعلها.

وكانت تمسك بقميصها بكلتا يديها، لسبب ما - لشيء لم أتمكن من تفسيره - ولكنه حصل وكانت تستره بقميصها. حك أوين لي عينيه بيده، وكانت ماري عصبية وتحرك إحدى ركبتيها لأعلى وأسفل، وبدا كأنهما على وشك أن يعانقا بعضهما بعضا.

قلت بغباء  ماذا تفعلان؟. فقد كنت أعلم بالأمر من طريقة جلوس ماري، ومن الخدش الذي لاحظته على لاو لي. كنت أعلم بوجود شيء شيئ في الغرفة، شيئ هام ومرعب، ولكنه يتوارى عن النظر، وسوف يجعل كل شيء أسوأ مما كان. وكل ما كنت أتمناه أن ينفي أحد ما توقعاتي. ويؤكد أننا على ما يرام.

هزت ماري رأسها.

وقالت: هيا يا أوين.

رفع أوين يديه نحو وجه ماري، ثم، بهدوء، نقر على صدغها بالسبابة. كانت يداه ترتعدان، ولكن صوته متماسك.

قال لماري: أنت كنت في الطابق العلوي. وذهبت إلى الحمام. ولم تشاهدي أحدا. ولم يعتد أحد عليك.

لم أرغب بسماع المزيد. فاستدرت وأسرعت بالهبوط إلى أسفل، مرورا بغرفة الطعام، متجنبا البالغين الذين هتفوا باسمي، كنت خائفا من النظر إلى أعلى كي لا أرى لاو لي في الغرفة. في الحديقة شعرت بنوبة غثيان قوية، فانكفأت على حوض الزهور لأتقيأ.

هل أنت على ما يرام يا إيد؟. لم أشاهد يونغ يقترب، ولكنه كان هناك أمامي، يتأملني بفضول. تنفست، ولم أجد القدرة على الكلام.

آه يا إيد. أنت إنسان رقيق.

فجأة ظهرت ماري أيضا، وبرفقتها أوين لي، وكانت تبدو سعيدة، وطبيعية تماما.

نظر ثلاثتهم نحوي. نظرت إلى أوين، أوين فقط، أتحداه أن يقول أو يفعل شيئا، ولكنه لم يحرك ساكنا. في هذه المرة لم يكن بحاجة ليطلب مني الاحتفاظ بالسر. بعد ذلك لم أشاهد أوين لي أو أيا من الآخرين لفترة طويلة. ثم استبدلنا المسكن، وانتقلنا إلى برمنغهام، بسبب عمل والدي. وانتظرت هناك لاستكمال الجامعة، وكنت أحضر الحفلات أكثر من المحاضرات. وعشت بعيدا عن والديّ ولم يكونا يزوراني إلا بعد إخطار مسبق، ولم يقلقا علي أيضا.

وفي إحدى زياراتي إلى البيت، سمعت أن أوين لي أصبح في كامبريدج. وأخبرني والدي أن لاو لي، المتعثر كعهده دائما، أرسل بالإبميل بعض صوره في نادي التجديف  الجامعي. طلبت الوالدة أن يعرضها علي. ولمحت شكل أوين الهزيل والمتداعي، ولكن لم أتمكن من معرفة إذا كان يبتسم أم لا. لانها اختطفت اللابتوب مني لتبحث عن شيء آخر. يا له من ولد متفوق، وهو يجدف في كامبريدج. Zhen guai. كان لأوين صديقة جميلة ومهذبة، من قسم الدراسات الصينية. وحزن أبواي لأنني لن أوفق أبدا بالعثور على بنت مثلها، أليس كذلك؟.

أصابني الغثيان. دوار محسوس. لأن والدي لا يزال يزور لاو لي، ولكن كلما أوشكت أن أكشف السر لأي شخص أشعر بالأسوأ. وبدأت أحلم، ولا أكثر من ذلك. وهي أحلام حافلة بمشاعر غريبة، مثلا أني أطفو في السماء دون أي طريقة لوقف ذلك. أو أنزلق في الطريق مثل غول، على ارتفاع بوصات من الأرض، دون إمكانية للهبوط والوقوف. وفي بعض الليالي أستيقظ وأنا أتكلم، دون أن أعرف ماذا قلت. وهذا ما أرعبني. وعقدت مواعيد غرامية مع بعض البنات. ولم تتطور لشيء جدي.

لم أتمكن من توضيح نفسي. من أين أبدأ؟

حاولت أن أكتب شيئا، ولكن الكلمات تعثرت ولم تتدفق الجمل. وكل ما كتبته هو: قديما كان لي صديق. والتقيت به في حفلة. ومرة ضربت ولدا.

لم تمر فترة طويلة بعد التخرج، حتى تقدم بيت لخطبة صديقته في المدرسة الثانوية. وعزما على الزواج في مكان قريب من بيت العائلة. وصلتني دعوة الزفاف، وأدهشني أنني ضمن المدعوين. فقد قطعت علاقتي مع كل المعارف منذ أيام المدرسة. وأخبرني أبواي أن عائلة هاوهاو ستكون موجودة أيضا، بالإضافة إلى بعض الآخرين من الذين اعتادا أن يلعبا ااورق معهم، ولكن خمنت أن عائلة يونغ قد سافرت إلى الخارج، ولم يذكر أحد أوين لي. وإذا بدا أنني تحررت من الضغط النفسي، فأبواي لم يلاحظا ذلك. تنهدا وفكرا كيف يجب أن يكون مظهري أمام شلة الأصدقاء. فقد كنت لا أزال أعيش في بيت الطلبة الرطب مع الزملاء، ولازلت أعمل في متجر ستاربكس المجاور. وأصرا أن لا أغيب وأن أكون حاضرا.

في الطريق إلى الزفاف، تابعت الوالدة تعليقاتها. انظروا الى بيت، سيتزوج. وأنت يا إيدي متى ستجد من تتزوجها؟.

قال والدي: لا زال الاثنان صغارا. وأراهن أنهما سينفصلان بالطلاق.

قابلت هاوهاو قبل الحفل، ودخلنا بكلام بسيط ولا معنى له عن أيام المدرسة. وانتابني الشعور أن كل شيء مرت عليه عهود، ولكن حينما رأيت بيت يؤدي القسم، لم أفكر به إلا كمراهق، كله طاقة مفعمة بالقلق والتهور. اعتدنا أن نلعب لعبة خمس أصابع بالفرجار. وفي أحد الأيام أصاب بالصدفة بطرف الفرجار المنطقة الطرية بين الإبهام والأصبع التالي، ولاحقا حرّمت المدرسة الفرجار لبعض الوقت، واستعانت بفرجار غير حاد وآمن.

وبعد إفطار يوم العرس وحينما كنا نجتمع لنشاهد أول رقصة للزوجين، سمعت والدتي وهاوهاو يتهامسان.

بلغني أنه انتقل إلى ألمانيا.

أنا على يقين أنه في الولايات المتحدة. كان لاو لي يتكلم عن الولايات المتحدة.

حسنا. لايدهشني أي شيء في الموضوع أيا كان. بعد كل تلك النساء.

ولكن هل هي تعلم؟ نحن نعلم لأن أزواجنا أخبرونا بمشكلته.

متأكدة أنها تعلم. وكيف يمكن أن يغيب عنها؟.

أشعر بالأسف على الطفل عموما.

توقعت أنهما تتكلمان عن أوين لي، وانتابتني رعدة لا تشبه الشعور باليقظة المباغتة من أحد أحلامك. وفجأة ارتفعت حرارة الغرفة. تسللت من أجل بعض الهواء النقي، ثم وجدت نفسي أغذ خطاي وأبتعد.

لم أقرر إلى أين أتجه. تمنيت، في الشارع الرئيسي المتهالك، أن أعود الى المدينة، حيث جرس الإنذار في الليالي المتأخرة، والسكارى، والحشود الصاخبة، تمنحك الاسترخاء أكثر من هذا الصمت. عبرت من موقف سيارات سوبر ماركت قليل الإضاءة، وافتقدت لأنوار سيلفريدجز بيلدنغ، الذي ينير لي دربي حينما أعبر من وسط برمنغهام بعد ليلة سفر، وفكرت بإرسال رسالة إلى بنت رافقتها مؤخرا وأنا أتجول في الشوارع السكنية الفارغة، باتجاه منتزه معروف. وفي الطرف البعيد، لاحظت أمام السماء خيال بناء من خمس طبقات.

حينما اقتربت لم يحل الظلام تماما. ولكن أمكنني أن أقول إن المكان مرتب. الشرفات والأبواب والنوافذ الجديدة مطلية بألوان ناصعة ولكن لا تبدو مقنعة. ولم أعرف أيها يعود لنا. وكان من الأسهل أن تحدد شقة الطابق الأرضي في الزاوية والتي أمضيت فيها معظم وقتي، كانت منصتها مغطاة بألعاب بلاستيكية، وهذه فوضى لا تسمح بها السيدة لي. توجهت إلى شجرة صنوبر قديمة على جانب الطريق، فرأيت شخصا هناك. والغريب في الموضوع أن ذلك لم يدهشني.

كنا نتسلق الشجرة دائما في طفولتنا، ونصيح ونحن نقفز من غصن منخفض على الأرض. كانت الشجرة تبدو أصغر في الوقت الحالي. والشخص الواقف بجانبها أطول وأعرض مما أتذكر. ولم أفهم لماذا هو هنا، وكأنه ينتظر شخصا ما.

ومثلي لم يظهر على أوين لي أنه يشعر بالدهشة لرؤيتي. وقفنا معا، دون أن ينظر أحدنا بعين الآخر. رذاذ خفيف بدأ بالهطول. وحط على شعري وبذتي حبات ناعمة من المطر.

قلت أخيرا: هل لديك صديق يخبرك بكل شيء. حتى الأشياء التي لا تريد أن تعرفها، أو صديق لا يخبرك بأي شيء؟

قال بصوت مرهق: لا أعلم.

قلت بصوت مباشر دون تعمد: هل تستطيع إصلاح أشياء معطوبة، أو أنك لا تنتبه أساسا أنها معطوبة؟ ولمن أديت هذه الخدمة في حياتك؟.

لا: يا إيدي.

وأنا؟ كيف حصل - لماذا لم تساعدني على نسيان بعض الأمور؟.

كانت يداي مضمومتين في جيبي. كان لدي أسئلة كثيرة، ولكن لم أعلم إذا كنت مستعدا لسماع الإجابات. وأردت أن أسأل: كم مرة غطى على بعض الأشخاص. وكم مرة غطى على والده.

رفع أوين نظره نحوي. كانت عيناه مبلولتين.

قال: لن تعلم إذا فعلت.

شتمت، وتخطيته، ولكن بحركة مفاجئة، قبض على ذراعي.

قال: أنا فقط.

تململت بقوة وحاولت أن أفلت منه. ثم دون إنذار أطبق أوين لي بشفتيه على شفتي. كان جلده خشنا، ويداه حرتين، وخلال نصف ثانية انتهى كل شيء.

قال: آسف.

كان لا يزال قريبا مني وشعرت بلفحة أنفاسه على أنفي. ومعها تدفقت مشاعر جياشة بالديجا فو (*خبرة سابقة)، وعبر رأسي سؤال جديد. هل فعلنا هذا من قبل؟.

كان سؤالا آخر لم أتمكن من الإفصاح عنه. ابتلعت. كان هذا سخيفا. كله. أشياء مستحيلة يمكن لأوين أن يفعلها. شيء لا يحتمل أنني أعرفه وبنفس الوقت لا أزال أجهله تماما. ولم أفهم لماذا يتصرف معي دون تعقل، وإذا كان ما أشتبه به صحيحا، يجب أن أغضب منه.

وفكرت أن أمد يدا، وكان هذا تقريبا ممكنا، تقريبا. ولكن أوين لي تراجع. وتعرفت على سقوط فمه البائس وتهدل كتفيه الضيقين. ولاحظت رجفة يديه حينما رفعهما نحو كتفي. تردد.

وقال: هيا.

وتهيأت كأنني أتوقع لكمة. وتوقعت أنها ستؤلمني مهما كانت. حتى أنني حبست أنفاسي وأغلقت عيني.

ولكن لم يحصل شيء. الشيء التالي الذي انتبهت له أن أوين لي اختفى. وقفت هناك لحظة، حتى أدركت أن المطر أصبح غزيرا، وأن البرد داهمني. من غير المفيد أن أدون كل هذا. وأنا لا أصدق ذلك، ولكن لدي نصف وعي بالحقيقة طيلة الوقت: ولو أن أوين لي دفعني لنسيان أي شيء، سواء في تلك الليلة أو قبلها خلال حياتنا، فقد نسيته وانتهى الأمر. ولا يمكنني تذكره. ولكن بمقدوره أن يأتي ويجدني متى أراد. ولا تزال هناك إمكانية أن أنسى شيئا آخر. وهكذا وأنا أدون الكلمات أخيرا، بعد الزفاف، حرصت أن أحتفظ بها. وبين حين وآخر أحفر لإخراج ما كتبت وقراءته مجددا. أريد أن أتأكد أنني لا أزال أتذكره كله. وإذا قابلته مجددا، يجب أن أضيف له - اي شيء تذكرته.

زرت مؤخرا والدي ثانية، وسمعت منهما أن أوين لي تزوج أيضا. وليس بصديقة أيام الجامعة، ولكن بامرأة قابلها مؤخرا. وتمنيت أن أعرب عن سروري لأجله، وعوضا عن ذلك تساءلت كم تعرف، وإذا احتاج أن يناور أمامها أو معها بألاعيبه. ثم بعد الخبر نفضت كتفي. أولا لأنني مشغولا بأخباري. كنت على وشك الانتقال إلى لندن للعمل بوظيفة ناسخ، وهو أول عرض دائم كسبته، وتهيأت لأسئلتهما.

توقعت الأسئلة المعتادة: إذا كان ذلك سيوفر لي فرصة مهنية جيدة، وإذا وجدت مكانا مناسبا أعيش فيه، ولكن أدهشاني بلحظة اعتزاز نادرة، فقد ربت والدي بيده على ظهري وأرسلت الوالدة على الفور رسالة قصيرة إلى أقاربها. واستعادا ذكريات قدومهما إلى المملكة المتحدة كطلبة مثاليين من جامعة بيدا Beida في أيام الثمانينات.  حتى أنهما اختارا صورة قديمة من الألبوم حصل عليها الوالد من أحد أبناء أعمامه في الصيف السابق. وفيها عماتي وأعمامي الكبار وأعمام لم أقابلهم أبدا، بوجوه نمطية بالأبيض والأسود وتنظر بإصرار نحونا. وحينما استفسر والدي عما يفعله أصدقائي في هذه الأيام، كأنه حفز الوالدة لتستعيد نفسها. تنهدت وقالت: أوين لي أصبح محاميا، كما تعلم، يا له من ولد طيب.

***

* منشورة في الغارديان 23 تشرين الأول 2023

* تيان يي Tian Yi كاتبة قصة بريطانية من لندن.

في نصوص اليوم