ملف المرأة

النضال فِعل إنساني لا معالم جنسية له / سعيدة تاقي

 

للتصدير: كي أحتضنَ بدءا الفهمَ بما يكفي من الإضاءة الضرورية لتجنب الالتباس؛ لن أعقِل الأفكار وهي تحتدم عفو الخاطر، بل سأترك لها حرية أن تمارس الجرأة المرصودة ـ بطبيعة الحال وحرية الرأي ـ للخلاف والجدل.. فالإبداع حين ينسحبُ جانباً بوصفه الغلالة الشفافة الجميلة التي توشِّح الفِكر، يُرغم ضمير المتكلّمة على أن ترفع الصوت قليلاً بعزف منفرد قد لا يكون اللحن المألوف لمَسامع المتلقين..

 

ـ  كيف تقيّمين إنجازات المرأة في العالم العربي؟

- لا يروقني أن يُنظر إلى "إنجازات المرأة" تحت هذا الوَسْم. وسأوضّح أولاً قصدي من ذلك قبل أن أتابع الإجابة.

 النضال فِعل إنساني لا معالم جنسية له.. يُهِمُّ الذات البشرية ويعود بالفيض على المجتمع بأكمله. فـالعطاء جِـبلةٌ طبيعية تقتضيها الحياة منذ صرخة الشهيق الأول دون أي تمييز بين الخلية الأنثى والخلية الذكر.. أما التمايز بين الإنجازات، فهي صنيعة اجتماعية مرتبطةٌ بتوزيع الأدوار التي احتكمت إليها المجتمعاتُ في مسار تطوُّرها، وتحقَّـق حولها التوافقُ وغدتْ بفعل التقادم سنَّةً وعرفاً بل قانوناً في بعض الأحيان لا محيد عنه.

في ضوء ذلك فإن الحديث عن ما يُصطلحُ عليه بعبارات: " يوم المرأة العالمي" و"إنجازات المرأة" و"حقوق المرأة" و"نضال المرأة" و"أدب المرأة" وغير ذلك هو ترسيخ للحيْف وتبنٍّ للتمييز ذاته الذي يمارَسُ النِّضالُ لـتَجاوزه.

المرأة تناضل بالفطرة دون أن يحظى فعلها النضالي بالصفة الرسمية أو المؤسّساتية عبر المنظَّمات أو الجمعيات أو النقابات أو الأحزاب أو غير ذلك، فهل نُسقِط عن القروياتِ ـ في الجبال والسهول ـ بأياديهن الخشنة وعـبق عرقهن الشريف، المكتوياتِ بلفْح الشمس وقرّ البرد فِعْلَ النضال ونصطفيه للمعتصمات من النقابة أمام مقر الوزارة، أو للمُحتجّات من داخل المؤسسة الرسمية، أو للمُنخرِطات في العمل الجمعوي أو للمُنـتسِبات لعوالم الإبداع والفكر والعلم؟

لا أعتقد أن الاصطفاف تحت التصنيف من هذا المنظور سيغـيِّر الأوضاع البئيسة التي تحياها المرأة عموماً في عالمنا بريفه قبل مدنه.

"إنجازات" المرأة ليست مرفوعة باسم المرأة ( مثلما يوحي المصطلح في التعابير المذكورة أعلاه) وإنما باسم الحياة، ومن ثم فهي إنجازات الإنسان الذي يمارس الكينونة ضمن اشتراطات وجودية وزمانية ومكانية مخصوصة، ويفعِّلُ قدْرَ إمكانِه وجهْـدَ وُجوده المُمانَعة لِما يَسوؤه من تلك الاشتراطات أو لِمواضعاتها أو لاستلزاماتها. ولا يمكن بأي شكل من الأشكال لهذا التفعيل المُمانِع أن يتوقف، أو أن يستسلم للجُمود لأنه لازِم ٌ لفعل الكينونة ذاته.. ولا يمكن أن ينضُبَ العطاء إلا إن نضبت مياه الحياة في القلب النابض.

و لكل امرأة فيما تستجديه من سُبل في حياتها للعطاء نَصيب..

.. وتستمر الحياة.. والإنجاز والنضال.

ـ هل هي على الدرب الصحيح المؤدي إلى الحرية والمساواة مع حقوق الرجل؟

أعتقد أنّني سأقتصُّ من السؤال المطروح قليلا بالنقاش، في طيّ الإجابة، فاعذري عزيزتي منّي هذا التطاول.

لماذا هذا الحرص على منطق "المساواة مع الرجل" وكأن الأصل ذكر والأنثى طفرة جينية تحتاج إلى مواثيق أُممية وقوانين منظِّمِّة للولادة والنشأة  والتطور؟!

أستغرِب فعلا هذا المطلب كلّما عنّ له  أنْ يتسّلق الواجهة مع إطلالة ثامن مارس.

و ما المقصود بالحديث عن " الدرب الصحيح"، وكأنّ القدر وضع المرأة في سياق سباق عليها أن تثبت فيه أحقِّيتها بالإنسانية وجدارتها في الدفاع عن كل حق يُفترض أن تناله عن نضال، بينما يتمتّع به الرجل جهاراً وهو شريكها في فعل الحياة؟  أتحدّثُ هنا عن مفهوم الشّراكة من منطلقات بيولوجية مرتبطة بالتكامل الفيزيولوجي في التزاوج والإنجاب.

كيف تنمُّ الطبيعة والفطرة عن الاحتياج المتبادَل بين الطرفين من أجل تلقيح الحياة وتخصيبها وإرسال البذرة نحو طور آخر من الإنتاج والعطاء، ويأتي المُكتسَبُ والمُصطنَع من الفعل البشري الاجتماعي للتفرقة والتمييز بمنظور تراتُبي استعلائي؟

إن شعار "المساواة مع حقوق الرجل" تصعيد يؤكّد في العمق روحَ الصراع ويُذكي منذ البدء، التصور الدُّوني الشائع لِـيَتعالى عليه من خلال إرساء أسس المواجهة. ولا تُعلن المواجهة عن ذاتها من زاوية بناء المجتمع المتصالِح والمتكامِل في مكوناته، وإنما من زاوية رفْع الظلم الذي يكيلُه بالضرورة الطرف الثاني أو الأول أي الرجل للطرف الأول أو الثاني أي المرأة.

هذا المنظور من خلال هذه المقاربة لا يُنتج التعديلَ المأمول في بنية استقبال جاهزة لاحتضانه وقبوله وإقراره، ضمن مجتمعاتنا نحن التي ندرك خصوصيتها الثقافية والفكرية. بل يُنتِجه وسيُنتجه والرفض والإدانة، أو على أقل تقدير التوجس والازدراء ردَّ الفعل الطبيعي للمجتمع الذكوري في بُنى الاستقبال وأيضا في مسار الترسيخ والتنفيذ. ولا أحيل هنا على النُّخَب، رغم ما يعتورها بدورها أحيانا من ازدواجية في النظر، بل أحيل على السَّواد الأعظم وبُنى المجتمع بمختلف فئاته وأنماطه وأفراده.

 

سأقدم نموذجاً تشخيصياً للإيضاح.

إن أنظمة "الكوطا" أو النسبة التفضيلية التي تُمنَح للمرأة في تمثيلية المجالس المنتخَبة امتيازٌ مخادِع؛ بقـدْر ما توهِم بالإيمان بحتمية الحاجة إلى توسيع دائرة مشاركة المرأة في التسيير والفعل السياسيين في ظل ما تَـلْقاه من مناهضة اجتماعية مرتبطة بثوابت الفكر الذكوري (البطرياركي)، يكشِف ـ ذلك الامتياز المخادِع ـ عن الارتكان إلى أُفُـق الهِبات والعطايا والتبعية، فالسيطرة للمانِح الواهِب القائد. والمرأة لها ما تناله من امتيازات تُـنتقى لها على المقاس أو المِعيار المرسوم سلفاً.

 في ضوء ذلك يغدو الوضع محاولةً للانزياح عن السائد المهيمِن المُحتكِم إلى منطق تبعية المرأة للرجل والمُحتكِم إلى التصور القائم على دونيّة المرأة وتفوّق الرجل، بنفس شروط ذلك المنطق وذلك التصور.

في تقييمي الشخصي للمتغيّرات الثقافية والاجتماعية التي تشهدها الحياة في عالمنا، الدعوة أو المطالبة بـ "الحرية" و"المساواة في الحقوق" لن تغيّر التصورات الجاهزة في عموم المجتمع، رغم ما يبدو من ملامح للتغيير لا مراء في تراكمها عبر سنوات النضال من داخل المنظمات والهيئات المؤنَّثة، فضلاً عن الحِراك المتكامل بين المرأة والرجل في مجالات مختلفة ثقافياً وفكرياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً...

فالتصورات الجاهزة حول تقسيم الأدوار وفكرة الدونية  والتبعية والتفوق وغير ذلك، للأسف ليست فكراً ذكورياً يحمله ضمير المذكَّر الجَمْع، بل تحمله الذاكرة الجَمْعية والثقافة المجتمعية. لأجل ذلك تُعيد التربية والتنشِئة الاجتماعيتان، دون وعي، إنتاجَ المنظومة ذاتها بشكل متواصل. لتـتّسِع الهُـوَّة بين مكتسَبات النضال في الحِراك المؤسَّساتي من داخل الجمعيات والمنظمات والهيئات، وبين واقع التصورات والأعراف الذي لا يَـرتفِع مهما تطوَّرت ترسانة القوانين والمواثيق والبنود والمدوَّنات المنظِّمَة للحياة.

 

ـ ما هي العقبات التي تحول دون تحقيق هذا الهدف السامي على يد المثابرات في نضالهن الطويل؟

-    تتميماً لِما تضمّنته إجابتي السابقة من توصيف للوضع الراهن، أقول: القضايا العادلةُ لا تبلغُ الإحقاقَ لأنها قضايا عادلةٌ فحسْبُ، فكمْ من قضية يؤمِن "المنتظَم الفكري" الدولي النزيه، وليس فقط الأفراد أو المجتمع الواحد، أشدَّ الإيمان بعدالتها لكن دون جدوى...

 تبلُغُ القضايا العادلةُ الإحقاقَ لأن الهيئات المثابِرة للدفاع عنها تمتلك رؤيةً موحَّدَة للدَّوافع والمَقاصد والأدواتِ والكيفياتِ والحيْثِياتِ والشروط. وهنا مَكْمَن العقبات في نضال صادقِ النّوايا، لكنه يخوض في مُعْـتَـرَكٍ تتوزَّعه آراء متبايِنة وتحاوِرهُ مجالاتٌ مختلِفة، وتواكِبه خلفياتٌ مناهِضة وتحايِـثه أزماتٌ آنـيَّـة..

لا شكَّ أنّ المنجَزَ قيِّم لكن المَطْمَحَ، حين ننظر لواقع المرأة بعيداً عن أي عصبية أو انحياز، يظلُّ بعيدَ المنال..

و بالانفتاح على المنظور العالمي، رغم أنّه لا قياس مع وجود الفارق البيِّن، والذي يوحي بأن المسافة الفاصلة تقاس بالسنوات الضوئية، نُلفي النضالَ ما زال متواصلاً في الدول التي رسّخت مبادئ الحرية والديموقراطية والمساواة.. فكيف لمجتمعاتِنا التي يلُوح الدَّربُ أمامها طويلاً في إرساء تلك المبادئ وفي الاحتكام أوَّلاً إلى دولة المؤسسات بَدَلَ مزاجية الأفراد أو زعماء "العبقريات" الفذة.

 

ـ هل ترين بصيص أمل في نهاية سراديب ما يُسمى بـ "الربيع العربي" لفك قيود المرأة العربية؟

- من كانت أغلالُه الأغلالَ المُقيِّـدة للعقل والفكر لا يمكن لأيّ ربيعٍ، مهما أزهرت فُصوله بدَل أنهارِ الدّم القاني حقولَ ياسمين ناصعَ البياض، أنْ يدرِكَ الحُلم المشتهى في نهاية مسيرٍ يحملهُ من السراديب المُظلمة إلى نور الصَّباح، إلا إن فكّ الأغلالَ التي يُواريها في داخله.

القيدُ لا ترسُفُ فيه المرأة بمفردها بل يرسُف فيه المجتمع كاملاً.. وأَشَـدُّ من التخلف الذي نتعامى عن بُؤرِه المُتفشّية في القِيَم الفاسدة والعادات البالية والتقاليد الموروثة، والتي لا علاقة لها مطلقاً بالدين أو بشريعته السمحة، أشدُّ من التخلُّف الجهلُ المركَّب.. ولا أقصدُ بالجهل المَظاهرَ البَادية للعيان، بل ما لا تُظهِره عدساتُ المِجْهر المصقولة.. ولذلك كان الجهل المركّب بالتمثّلات الجَمْعية وبالتصورات الجاهزة والسائدة، سبيلاً يسيراً لإعادة الإنتاج بشروط متخلِّفة عن القِيَم السَّامية التي تصبو إليها مَرَامِي "الإنسانية كافة" و"التكريم الإلهي" و"الاستخلاف في الأرض"، في زمن منفتِح على الرقمية والعولمة.

و لنا ـ رغم الألم ـ في الغد أمل...


خاص بالمثقف، ملف: المرأة المعاصرة تُسقط جدار الصمت في يومها العالمي

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2054 الجمعة 09 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم