أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

انتهيتُ من قراءة الرواية الجديدة للكاتب سلمان رشدي "السكين: تأملات بعد محاولة قتل"، فوجدت نفسي أمام عمل لا يشبه شيئًا مما قرأته له سابقًا. هذه ليست رواية بالمعنى التقليدي، ولا هي سيرة مكتملة، بل هي نصٌّ هجين، مرقّط بالوجع، مسكون بجسدٍ لم يعد كما كان، ومحمول على ذاكرةٍ حاولت أن تتماسك رغم الدم.

 الرواية تبدأ من تلك اللحظة التي كادت أن تكون الأخيرة: الطعنات الإحدى عشرة التي تلقاها رشدي في صباح 12 أغسطس 2022، على منصة مركز تشوتوكوا الثقافي في ولاية نيويورك. رجل يحمل سكينًا يندفع من العتمة إلى الضوء، يقفز فوق كراسي القاعة، ليغرس نصل الحقد في جسد كاتبٍ ظنّ أنّ سنوات التهديد والاختباء قد ولّت. لكنّ القدر، أو التاريخ، أو الفتوى القديمة، كان له رأي آخر.

 في "السكين"، لا يتحدّث رشدي كثيرًا عن "العدو". لا نكاد نعرف شيئًا عن هادي مطر، منفّذ الاعتداء، لأنّ رشدي اختار ألّا يمنحه سلطة السرد. هو يتحدث عن الجرح، لا عن الجارح. عن الألم، لا عن الانتقام. النص مشبع بتفاصيل موجعة عن أيامه الأولى بعد العملية، عن الأجهزة الطبية، عن فقده لإحدى عينيه، عن يده المشلولة، عن خواء الجسد الذي تحوّل إلى ساحة حرب.

 لكن وسط كلّ ذلك، ينهض الحب. إليزا. زوجته السمراء، الفنانة، التي صارت صوته حين خرس، وعينه حين عمِي، ويده حين شلّ. في كلّ صفحة من الرواية، هناك اعترافٌ نادر لرشدي: بالضعف، بالحاجة، وبالامتنان. لقد كان دومًا كاتبًا مثقفًا، ساخرًا، عقلانيًا. لكن في "السكين" نرى رجلًا ينهار ويُعاد تركيبه بالكلمات، لا بالمبادئ.

 الرواية لا تنفصل عن عالم رشدي الروائي الأوسع. هو يستعيد بعض ظلال "آيات شيطانية"، لكنه لا يعيد الدفاع عنها. لا حاجة لذلك. ما يفعله في "السكين" أبلغ من أيّ دفاع: يقدّم جسده كحجة. لقد حاولوا قتله من أجل كتاب، فكتب عن الموت كتابًا. هكذا يُخضِع الكاتب النصل للكلمة، ويجعل الألم حبرًا.

يكتب رشدي ما يشبه الصلاة: "الكتابة هي طريقتي في البقاء، وهي انتقامي الوحيد من السكين". هنا يتحول النص إلى فعل مقاومة، لا ضدّ فرد، بل ضدّ فكرة: أن يُكمّم الكاتب، أن يُطعن المفكر، أن يُخرَس العقل.

 "السكين" ليست رواية عادية، ولا سيرة شاملة، بل هي بيان وجودي، يكتبه رجل نجا من موت مؤجل، ليذكّرنا أنّ الكلمة، حين تُؤمن بها، قد تصبح أكثر فتكًا من أيّ سكين… أو أكثر حياة.

***

فؤاد الجشي

 

لو التفت إلينا حنظلة لرمانا بالنّار والحجارة..

إلى حنظلة..

حنظلة، أيّها الصّادُّ الغاضبُ عنّا..

أيّها الصّامتُ السّاخطُ الحامل أوْجاع العُرْب الدّامية..

أيها الواقف العاقد يديه حلف ظهره منذ نصف قرن ويزيد..

لعلّ رأسك تعُجُّ بالصُّور، التي تحمل مآسينا والخنوع، كما أبدعتها بغضبٍ وقهرٍ أنامل المقتول غدراً «ناجي»..

أيّها الشّاهد الذي يُذكّرنا عجْزنا وتقاعسنا وتخاذلنا، ورُبّما سيشهدُ اندثارنا.

لا تخطئُه العين، طفلٌ في العاشرة من عمره، حافي القدمين، مرقّع الثّياب، عاقدٌ يديه خلف ظهره، لا أحد يعرف تفاصيل وجهه الطفولي، يحمل كلّ الجنسيات كما يُقدّمه مبدعه ناجي العلي، «أنا مش فلسطيني، مش كويتي، مش لبناني، مش مصري.. محسوبك إنسان عربي وبس» . واقفٌ موَلّي وجهه شطر الأفق العربي الغامض الملوّن بالسّواد، احتجاجا على خنوع العربي ورُخص كرامته.

حنظلة، يحمل مُرَّ الحنظل في حلقه، والألم الدّامي في قلبه، وحده في وقفته، غير منعزل، صامد في رفضه. حين سُئل ناجي متى نرى وجه حنظلة؟ قال: «عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يستردّ الانسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته»، فهل سنرى وجهه وقد استشهد مبدعه؟ ليظل السؤال معلّقا إلى الأبد.

لماذا أخفى حنظلة عنّا وجهه؟ لعله أربأ بنفسه إن التفتَ إلينا أن يرمينا بالنّار والحجارة، أو يسب الزّمن الذي وضعه بيننا، بين أناس لا يسعون إلى الكرامة والحرية الإنسانية، ولا يدركون أو تغافلوا عن مصير يدفعهم إلى الحضيض والاندثار رغم ما يملكون من قوة مالٍ ما لا تحصيه الأرقام والحسابات والسّجلّات.

حنظلة، رغم أنه يدير لنا ظهره، إلاّ أنه يعرف ما نحن فيه من خيبات وانتكاسات وإقصاء وخنوع وصمت، ليته تكلّم أو التفت، ليته رمانا بالحَجَر لنستفيق وننتبه. في وضعه ذاك يؤلمنا، صمته القاتل، يحرجنا ويُعرّينا ويفضحنا، لو استدار نحونا وأرانا وجهه، وقال ما يؤلمه فينا، ونحن أعلم به، لكنّنا نسكت عنه ونتغافل، وننتظر من يبادر، فلعلّه يبادر، لعلّه الشرارة حين يلتفت، لعلّه، وهو الطفل ذو العشر سنوات، يعطينا المثل فنقوم من سباتٍ طال أمده.

كأني به، لو التفت إليها لقرأنا في وجهه الغامض أسئلة تكوي الجباه والقلوب، هل يفهم العربي معنى الكرامة؟ وهل يدرك معنى الغضب؟ وهل يعي ما الحرية؟ وهل نسي العربي أن يبحث عن معنى الكرامة، أم انطمس منّا العقل وعميت علينا القواميس والمعاجم؟ لو التفت إلينا الطفل الغاضب لسأل سؤالا بألف سؤال، ما حالُ غزّة الجريحة؟ ما حال الحال والمآل؟ من منّا سيتكلّف بالجواب؟

عذراً حنظلة، لم نجد من ينبري لك بالجواب، ولا كيف سيكون الجواب، وحال العُرب يُغنيك عن السؤال وعن الجواب.

أنت في ركنك مكشوفٌ، ونحن هنا، بكل العُري العربي المفضوح، نمضغ سؤال المسرحي الفرنسي، جان جونيه حين زار مخيميْ صبرا وشاتيلا، «لماذا العرب عراة إلى هذا الحد؟» أيُّ حدّ هذا الذي يقصد هذا المسرحي الفرنسي؟ هل بعد هذا الحدّ الذي وصلناه حدّ؟

اُنظر إلينا أيها الطفل الضّاجّ بالألم والغضب، كيف وقد وعيْت ما نحن فيه، قل شيئاً، صمتك هذا عذاب، أيها الطفل المترع بالمآسي والخيبات، هل سنظلّ نبحث عنك رغم قُرْبك منّا؟ وهل قدرُنا الانتظار، انتظار من يبادر، من يسأل، هل سننتظرك يا حنظلة لتبادر؟

عذراً حنظلة، عذراً لغزّة أيها الشاهد بعيون بريئة على الخراب واليأس والضياع الذي ضرب ويضرب غزّة، هل سيبقى وجهك مُختفيا ما بقي هذا الواقع المؤلم؟ إلى متى ستبقى مُشيحا بوجهك عنّا؟ اصرخ فينا عسى أن تمتدّ منك إلينا قناطر العبور إلى الحلم العربي، إلى الأرض التي باركها الله والأنبياء، إلى الإنسان العامر والدّافق بالحب والخير.

حنظلة، يُخزّن في ذاكرته الشّتات وهول الفواجع، وتزايد النكبات والتراجعات والانكسارات، كما يُخزّن من الحُزن ما يهدُّ الجبال، شاهدٌ، وهو في كامل وعيه، على المسوخ التي ينظر إليها، يراقبنا عن بعد، يسمع همس من يسيرون فوق أرض غزّة يُرتّقون ما انقطع منها بخيوط من دمهم الزّكي، لا تنازل، لا مساومة، حنظلة يواصل حلمه، يجمع الشتات الفلسطيني، يصله بالعزيمة والاصرار والصبر وكثير من العناد، لأنّه الحد الفاصل بين العتمة والنّور، بين الغضب والثورة، بين الخوف والإيمان والحياة والموت.

لو التفتَ إلينا حنظلة لقال كلام موجعا، هو الآن يدير لنا ظهره، وقد آلمنا ذلك، فكيف إن بادر والتفت، ونظر إلينا، نحن المتسولون سلام الضُّعفاء، نحن الّذين تشاركنا اقتسام «كعكة فلسطين»، نحن الذين وقفنا نتفرّج بغباء على الأحذية الهمجية تجوب أرض الأنبياء، فأنت أكثر منّا ذكاء وجرأة، واجهتَ أكثر من هزّة، تتمنّى الأمهات الأحرار أن يلدن مثلك يحملون همّ العُرب، ثقلا تنوء به الجبال، ويعيا بحمله «سيزيف» الأسطورة. أنت في هدوءك الغاضب، ووقفتك الثّابتة، في هيئتك وأنت تعقد يديك خلف ظهرك كهرم يحمل هموم الزّمان القديم، غير آبهٍ بالزّمن وتحولاته، همّك أن ترى فلسطين حرة، وغزّة توزّع على العاشقين والمؤمنين العزّة.

رجوته أن يلتفت إلينا، لكنّه ولعلّه بنظراته الشّزر يقول «أعرف كثيرا ممّا تعرفون أيها المنغمسون في الأحلام العابرة»، ظل واقفا وقفته في انتظار أن نبادر.

حنظلة، أيها الحامل وصايا الأمهات اللواتي، رغم القهر غرسن أزهار الإصرار، لينبت خبزاً للأطفال الجائعين، واللائي أرضعن الصغار حليب الكرامة والعزة، أيها الواقف على تخوم المواجهة، متى نفهم الوصايا وتخرج من صمتك الأبدي.

***

عبد الهادي عبد المطلب

المغرب/الدار البيضاء يونيو/حزيران 2025

هات حفنة من ترابك كي أمسح عيني

يتبعني الضباب

ومن أعالي الحزن، أترقب صوتك

وأعود لأنفض أرق الليل

مازال صدأ الانتظار يلوّن ملامحي

ومازلت أحتفظ بتذكرة مسرح في دولابي

ما رأيك أن نعدّ أنفسنا للذهاب؟

الشاعرة خديجة كربوب.

***

في هذا النص الشفيف، تفتح الشاعرة خديجة كربوب كوة على عالم متخم بالحنين، محكوم بالانتظار، ومشبع بعبق الرموز المضمخة بألم الغياب. قصيدة مكثفة، يهمس فيها الحزن ولا يصرخ، ويتحول فيها الزمن إلى بطء داخلي ينعكس على الملامح والذاكرة معًا.

العبارة الافتتاحية "هات حفنة من ترابك كي أمسح عيني" لا تُقرأ بمعناها الظاهري، بل بوصفها استعارة ممتدة لطلب الانتماء، للتطهّر من الغربة، لرؤية الأشياء من جديد عبر تراب يشبه العطر الأول أو اللمسة الأولى للوطن/للحبيب/للذات.

"يتبعني الضباب"، ليس ضبابًا في الأفق، بل ضبابٌ في الروح. ضباب يُغيّب الملامح، يربك الطريق، ويترك الذات نهبًا للتيه.

ثم يأتي الترقب من "أعالي الحزن"، حيث يرتقي الحزن مرتبة الارتفاع، ويصير أعلى من الجسد، أعلى من اللحظة. ترقُّب الصوت في هذه الذروة الشعورية يكشف حاجة إلى المعنى، إلى التماسك، إلى الخروج من الشرنقة الثقيلة للصمت.

"أعود لأنفض أرق الليل"، وكأن الأرق صار غبارًا يلتصق بجسد الشاعرة، بذاكرتها، بعينيها. الليل هنا كائن مُتعِب، لا يمنح العزاء بل يضيف وجعًا آخر.

"مازال صدأ الانتظار يلوّن ملامحي"، وهي من أجمل صور النص، فهنا يتحوّل الانتظار إلى عنصر زمني مؤذٍ، لا يكتفي بالسكون، بل يترك أثرًا بصريًا على الوجه، على الملامح، كأنه الصدأ الذي يعلو المعادن المنسية.

ثم تكشف الشاعرة عن احتفاظها بتذكرة مسرح في دولابها، وهذه الصورة وحدها تحمل سردًا كاملاً. إنها لحظة مؤجّلة، عرضٌ لم يُعرض، موعد لم يُكتمل، وحياة تنتظر أن تُستأنف.

وتنتهي القصيدة بدعوةٍ خافتة، هادئة، مليئة بالرجاء: "ما رأيك أن نعدّ أنفسنا للذهاب؟"، ليست مجرد دعوة للذهاب إلى المسرح، بل ذهاب إلى الحياة، إلى ما بعد الغياب، إلى إكمال المشهد.

قصيدة خديجة كربوب تنتمي إلى طراز الكتابة النقية، حيث لا كلمة في غير موضعها، ولا شعور يُقال إلا في لحظته الحقة. نصّ يسكُن القارئ ولا يمرّ به مرور العابرين.

***

قراءة: عبد العزيز الناصري

وُلِد الكاتب الاسباني ميغيل دي سيرفانتس في ألكالا دي إيناريس حوالي 29 سبتمبر 1547. كان والده جراحا و حلاقا، أي أنه عاش حياة متجولة بين المدن القشتالية المختلفة. استقرت عائلة ثيربانتس في مدريد عام 1566، وظهر اسمهم في عام 1568 في نهاية بعض المؤلفات حول وفاة إيزابيل دي فالوا، الزوجة الثالثة لفيليب الثاني. كان في إيطاليا عام 1569، وشارك هناك في معركة ليبانتو الشهيرة عام 1571، حيث هزم انذاك التحالف المقدس العثمانيين الأتراك، وفي هذه المعركة فقد الكاتب يده اليسرى. ومنذ ذلك الحين بات يُعرف بلقب "الرجل ذو اليد المبتورة من ليبانتو". يذكر ان عند عودته إلى وطنه، إسبانيا، تعرضت السفينة التي كانت تقله ويسافر على متنها لهجوم من قبل بعض القراصنة من البربر، وتم أسره ونقله إلى الجزائر العاصمة. حيث طالب الخاطفون فدية كبيرة، لم تحصل عليها الأسرة إلا بعد خمس سنوات. وحين عاد دي سيرفانتس إلى إسبانيا تزوج من الانسة (كاتالينا سالازار إي بالاسيوس)، والتي كانت تبلغ انذاك من العمر ثمانية عشر عامًا.

بحلول سن السادسة والثلاثين كان قد انتهى من كتابة رواية "لا جالاتيا"، وهي رواية جلبت له بعض المال. قرر في البدا أن يكرس نفسه لكتابة الكوميديا، وهو ما بدا أكثر ربحا في ذلك الوقت، ولكن على الرغم من أنه كتب عددًا لا بأس به من الكتب (حوالي ثلاثين)، إلا أنه لم يكتب سوى القليل منها للبحث والحصول على عمل وكسب قوته. لكن تم تعيينه جامعاً للضرائب، ولكن المصرفي الذي أعطاه بعض المال أفلس، وتم إرساله إلى السجن، حيث بقى في السجن لمدة خمسة اشهر حيث يعتقد أنه بدأ كتابة روايته الشهيرة عن دون كيخوت هناك.

الرواية دون كيخوت يحكي قصة رجل يمكن اعتباره عبقريا او مجنونا يدعي دون كيخوت من لامانشا بدأ بكتابتها 1605في مدريد. لقد حقق نجاحًا بعد نشره مباشرة ، ولكن دون اي ريع مالي لصاحبه، الذي واصل كتابة أعمال أخرى دون توقف. أربعة عشر عاما. تحكي قصة هذاً الرجل النبيل الذي أصيب بشىء من الجنون من كثرة قراءة روايات الفروسية. بدا يعتقد أنه فارس، فخرج مع حصانه القديم وصديقه (سانشو بانزا) السمين لحل مشاكل الأشخاص الذين التقى بهم، والأهم من ذلك، محاربة الظلم. أهدى نجاحاته إلى حبيبته زوجته دولسينيا ديل توبوسو. خلال رحلته، يواجه العديد من المغامرات والعديد من المصائب. وينتهي به الأمر دائمًا إلى ان يضرب ويجرح بشديد، كما حدث في مغامراته مع طواحين الهواء، والتي كان يعتقد أنها من العمالقة ويواجه الاعداء . وطبعا هناك حبيته زوجته التي يعشقها في صورة عاطفيةً وخياله كذلك. بعد العديد من المغامرات، يعود دون ألونسو كيجانو إلى منزله ليموت مع عائلته.

في عام 1614 ظهر الجزء الثاني من الرواية، كتبه شخص يدعى أفيلانيدا، الذي ادعى أنه استمرار للجزء الأول. انذاك أُجبر الكاتب ميغيل دي سيرفانتس ، الذي كان مريضًا بالفعل، على كتابة جزء ثانٍ من روايته دون كيخوت ليطلق عليه النسخة غير القانونية. صدر الجزء الثاني من الرواية الأصلية في عام 1615. وظل دي سيرفانتس يمارس الكتابة عملياً حتى يوم وفاته في 23 إبريل/نيسان 1616م في بيته بمدريد. يعتبر دي سيرفانتس الاسم الأكثر شهرة في عالم الأدب الكلاسيكي الإسباني وهناك معاهد تعليمية ومؤسسات باسمه كما يطلق اسمه على الشوارع والابنية وحتى على الفنادق.

***

د. توفيق رفيق التونچي

 

تزخر الصين بكثير من الآثار والمعالم الثقافية والتراثية المؤثرة في خارطة البلاد السياحية الواسعة (قبور مينج المقدسة، مومياوات تاريم، ضريح الإمبراطور كين شيهوانج، مباني فوجين تولو، تمثال ليشان بوذا العملاق.. الخ)، خصوصا في بكين (بيجين) وجيايوقوان ودانون وتيانجين وتشينهايقوان وينتسوان وووي وتشانغيه وداتونغ وغيرها. وقد صدر في عام 1982 قانون حماية التراث من أجل حماية وادامة وصيانة الآثار والأعمال التراثية، وتم اصدار (30) لائحة من أجل تسهيل تنفيذ هذا القانون. مع وجود أكثر من (2300) متحف تضم ملايين القطع والأعمال الاثرية المختلفة من مختلف الأزمنة، بالإضافة إلى عدة ملايين موجودة لدى هواة التحف والانتيكات، و(1،670) مليون قطعة مسروقة ومهربة إلى خارج البلاد ومعروضة في (200) متحف من (47) دولة تقريبا، وفقا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو). وتم استعادة (20000) منها سنويا وذلك بفضل الجهود الحثيثة التي تبذلها الحكومة الصينية في هذا المجال منذ سنوات. بالإضافة إلى (1271) موقع أثري خاضع للحماية المركزية على نطاق المقاطعات ونحو (7) آلاف موقع على نطاق المحافظات. ومن أهم هذه الآثار (سور الصين العظيم) (تشانغ تشينغ) موضوع مقالتنا هذه والذي يعد أبرز وأهم معلم سياحي في جمهورية الصين الشعبية على الاطلاق. وقد أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) في عام 1987 في قائمة التراث الثقافي العالمي، وأختير بتاريخ 7 تموز 2007 كأحد عجائب الدنيا السبع إلى جانب تمثال السيد المسيح في البرازيل ومعبد تاج محل في الهند ومدينة البتراء في الأردن وآثار ماتشوبيتشو في بيرو وهرم تشتشين ايترا في المكسيك والمدرج الدائري في إيطاليا. ويعد الاستفتاء عليها وعلى غيرها من المعالم العجيبة في العالم من قبل (100) مليون شخص تقريبا على نطاق العالم ومن مختلف البلدان وعبر الشبكة العنكبوتية (الانترنيت) والهواتف بمختلف أنواعها. ويعود تاريخ المباشرة ببناء (سور الصين العظيم) (تشانغ تشينغ) إلى بدايات القرن ال (4) قبل الميلاد بحسب بعض المصادر الموثوقة، ولدوافع عسكرية بحتة وفقا لحاجة البلاد وأيضا ليكون رمزا للقوة والهيبة ولهدف اقتصادي أيضا يتمثل في تنظيم التجارة والتبادل التجاري بين الصين والجيران مع تعزيز التصدير والاستيراد على امتداد طريق الحرير وإيجاد فرص عمل كثيرة لسكان المناطق الواقع فيها. واستمر العمل فيه حتى أوائل القرن (17) الميلادي، وبمشاركة ملايين من العمال (500 الف شخص منهم قضى نحبه أثناء العمل فيه لاسباب عديدة كالمرض والحوادث)، ليمتد نحو (6400) كلم تقريبا، ومن (تشنهو انغتار) على خليج بحر (بوهاي) شرقا إلى (غاوتاي) في (غانسو) غربا. وهناك اكتشاف حديث بخصوص هذا السور أعلن عنه مؤخرا الباحث البريطاني (وليام ليندسي) وأشارت إليه صحيفة (دايلي تلغراف) البريطانية، والمتضمن عثور الباحث المذكور على جزء لهذا السور في صحراء (غوبي) عبر الأراضي المنغولية وبطول (100) كلم تقريبا، ويعود تاريخه إلى (120) سنة قبل الميلاد، وهو غير موضوع على الخرائط الجغرافية الحديثة، بعد أن أكب على دراسته منذ عام 1986. وقد نالت من هذا الصرح المعماري العظيم براثن الدهر العسوف، وأثرت فيه عواقب الزمن الظلوم وأضرت به أعمال التنقيب الكثيرة غير المشروعة المجراة في المناجم القريبة منه، وبصورة متكررة وعلى نحو عشوائي وغير مدروس وجائر إلى أبعد الحدود، وذلك خلال فترات زمنية مختلفة، وذلك بحثا عن النيكل والنحاس والحديد وغيرها من المعادن التي ازداد الطلب عليها بمرور الزمن لاكثر من سبب ولعدة أغراض، الأمر الذي أضر به كثيرا وبمستويات مختلفة وفقا للحالات المتوزعة على امتداد السور المذكور. وكانت النتيجة تضرر نحو (70 – 80) بالمائة منه على نحو واضح وبدرجات مختلفة. الأمر الذي  دفع السلطات المعنية إلى تبني خطة ترميم وصيانة مستعجلة وطويلة الأمد وشاملة لهذا الصرح وبكلف عالية جدا، مع التركيز على الأجزاء المتداعية والأكثر تضررا لتدارك الخسائر والأضرار الواقعة بقدر الإمكان، وتلك الواقعة في المناطق النشطة سياحيا، أي تلك التي يرتادها السياح على نحو واسع وكثيف خلال الموسم السياحي وخارجه، ومنها جزء من (بادالينغ) (80 كلم شمال غرب بكين) من (يانتشينغ) في (باين) الذي فتح أمام الزوار والسياح اعتبارا من عام 1975، ويستقبل نحو (60000) زائر في اليوم الواحج كمعدل، ولقاء رسوم دخول رمزية (45 يوان)، وتتوفر في محيطه مرافق ومنشآت إيواء واطعام وشراب وتلفريك وغيرها كثيرة. وأيضا الجزء الواقع في حدود بكين، ويمثل (20) بالمائة تقريبا، وجزء (جيتشاتلينغ) على الحدود بين (مييون) و(خبي) بطول (10،5) كلم، والمدرج من قبل مجلس الدولة ضمن قائمة (المواقع الأثرية المحمية مركزيا) اعتبارا من عام 1988. وقد أعلنت (مصلحة بكين لتخضير البساتين والغابات) في 21 تشرين الثاني 2007 عن مخطط عام لمنطقة السور شاملة المعالم والمناظر الممتدة من (باداكينغ) على (شيسانلينغ) من أجل تنظيم والسيطرة على الحركة السياحية الكثيفة المتوجهة للمنطقة، دون الاخلال بأعمال الترميم والصيانة الجارية فيها على قدم وساق. وتشير الاحصائيات الوطنية إلى استقطاب سور الصين العظيم ل (5) ملايين زائر سنويا في عام 2001، أنفقوا (150) مليون يوان على شراء التذاكر الخاصة بدخول بعض المعالم الجاذبة والمشوقة فيه، أي ما يعادل (18) مليون دولار أمريكي، و(10) ملايين زائر في عام 2007، فكان بحق أهم معلم سياحي في البلاد التي جاءت كثالث مقصد سياحي على نطاق العالم في عام 2010، وذلك باستقبال (56) مليون سائح دولي تقريبا من أصل (935) مليون سائح على مستوى العالم، ويمثل الرقم الأخير حجم الحركة السياحية الدولية في العام المذكور. وقد استحق بذلك ليكون من أهم المواقع السياحية على خارطة السياحة الوطنية والدولية. علما كان هذا السور موضوعا حيويا للعديد من الأعمال الأدبية والفنية الصينية الخالدة منذ القدم، وقد منح عدة ألقاب اعتزازا وتفاخرا به ومنها (التنين الطائر)، كما وصفه الرحالة الإيطالي المعروف (ماركو بولو) ب (أعجوبة الشرق)، وتم الإشارة إليه بقوة في النشيد الوطني الصيني (مسيرة المتطوعين) المكتوب في عام 1935 من قبل الكاتب المسرحي (تيان هان) وتلحين الموسيقار (نيه أر) وجاء فيه (انهضوا، يا من ترفضون العبودية، لنبن بلحمنا ودمنا سورنا العظيم الجديد..).

***

بنيامين يوخنا دانيال 

.........................

* عن (مقالات في السياحة) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2012.

 

في اكثر من لقاء طلاب وادبي ايضًا طرح عدد من المشاركين السؤال: كيف يضع الكاتب الفنان قصته. من أين يبدأ وكيف يشرع في الكتابة ويواصلها إلى النهاية المقنعة المنشودة، بحيث تأتي قصته مقبولة من جمهرة القراء وصالحة لاطلاعهم عليها وربما تأثرهم بها.

سبق وطُرح هذا السؤال وامثاله على العديد من الكتاب العرب والاجانب، وقد تعددت الاجوبة عليه، وتنوعت فمن قائل ان القصة قد تولد من جملة عابرة او مشهد لافت/ يوسف ادريس وجابرييل ماركيز مثلًا، إلى قائل ان القصة قد تولد دون كبير اعداد وتحضير وانها قد تبدا ، تنمو وتتطور وفق نسقها وسياقها الخاص بها/ نجيب محفوظ، إلى قائل إن القصة تحتاج إلى ترتيب وتنسيق مسبقين، وفق ايحاء من حادثة متخيلة عابرة قد لا تلفت احدًا اخر غير كاتب القصة/ حسين القباني. إلى قائل إن القصة ما هي إلا عملية حفر في معنى ما او احساس ما وتهدف في كل ما ترمي اليه إلى تجسيد ما يريد ان يوصله كاتب القصة الى قرائه/ ادجار الان بو.

على هذا ومن منطلقة اتفق الكتاب واقروا بالمجمل على ان كاتب القصة المبدع لا ينقل عن الواقع وانما هو يعيد تشكيله في قصة ذات معنى وتمثل وجهة نظر، وقد اتفق الدارسون وكتاب القصة في هذا السياق على ان القصة يفترض ان تعتمد المخيال الادبي وتتوسل به لتوصيل ما تود ان توصله إلى قارئها، كما اتفقوا وهذه نقطة هامة جدًا، على ان هناك فرقًا كبيرًا بين القصة الصحفية التي تعتمد الواقع الصرف عمودًا فقريًا لها وبين القصة الفنية التي تُبحر في عالم التخييل مقتنصة من الواقع بعضًا من تفاصيله ومعيدة بنائه في الآن ذاته.

القصة بهذا المعنى لا تختلف كثيرًا عن اللوحة الفنية والقطعة الموسييقية، وانما هي تتشابه معها وتتقاطع لا سيما فيما يتعلق بأهمية التخييل الابداعي في تكوين صاحبها لها وفي تشكيله لما يراه من وقائع سيقوم بتوظيفها في قصته، هذا التشكيل قد يتم منطلقًا من واقعة حقيقية إلا أنه لا يعيد سردها بما زخرت به من وقائع، وانما يسعى لإعادة تشكيل ما ضمته من وقائع بحيث تتحول إلى قصة فنية .. قصة اخرى تشبه تلك التي حدثت إلا أنها لا تنسخها، وإلا باتت قصة صحفية لا تحتاج إلا الى نوع من المهارة ليقوم بكتابتها كاتب صحفي ما ويقدمها وجبة مفيدة ومسلية لقرائه. ان عملية التخييل في كتابتنا للقصة تمحنها حياة اخرى وبُعدًا آخر حتى لو قامت هذه القصة على واقعة حقيقية او اعادت بناء هذه الواقعة. يزيد في هذا انه يفترض ان يكون لكل قصة راويها، إضافة لكاتبها، لتوضيح هذا اقول ان الكاتب هو من يكتب القصة اما الراوي فهو شخصيتها المركزية، الشخصية التي يقدمها كاتبها من وجهة نظر راويها وعلى لسانه. ان دور الراوي في القصة يعتبر دورًا اساسيًا، ذلك ان ما تقدمه القصة وتحفل به من وجهة نظر، انما يأتي ضمن عملية تخييل صرفة.. تفترض الرؤية العيانية/ وجهة النظر الخاصة بالراوي وتعبر بلغته.. وفق الحالة.. حزنًا، سخرية او فرحا.

هنا يبرز السؤال ما هو دور كاتب القصة في تشكيلها؟ اجتهادًا في الاجابة على هذا السؤال اقول ان دوره كبير فهو مَن يتخيل ومن يخلق شخصية راوي قصته، غير انه يفترض أن يقوم بهذا كله بعيدًا عن الظهور وابعد ما يكون عن المباشرة، انه يقدم راويه معتمدًا على خبراته وتجاربه التي اكتسبها طوال سنوات عمره الماضية، لهذا يفترض ان تأتي قصته متضمنة تجربة نمطية شاملة تتجاوز ما هو شخصي في محاولة للوصول إلى ما هو انساني ويخاطب المشاعر البشرية في عمقها الموحِّد لكل ابناء البشرية. إن كاتب القصة الفنية الجديرة بهذه الصفة انما يغترف ما يكتبه ويقدمه للناس من قصص.. من خزان تجاربه وليس بالضرورة من تفاصيل حياته الشخصية او تفاصيل ما حدث او قد يحدث لمحيطين به.

هكذا يكتب كاتب القصة الفنية قصته وهكذا يجعلها قادرة على تجاوز ما هو شخصي، مع اهمية التجربة الشخصية، الى ما هو عام وانساني.. جدير بالقراءة اولا وبالبقاء ثانيا.

***

هواجس: ناجي ظاهر

لم أكتب هذه النصوص لأُعلّم، بل لأتذكّر. لأجعل من لحظاتي المتناثرة خيطًا يشدّني نحو ذاتي، ويمنحني توازنًا وأنا أرقص بين أدوار كثيرة.

العِلم بالنسبة لي لم يكن رفاهية، بل كان مرآتي الداخلية حين تغيب عني باقي المرايا. هو الهواء حين تخنقني المسؤوليات، والماء حين تجفّ الروح، والطعام حين يكون التعب أقوى من الشهية.

كل حرف ليس إنجازًا، بل وقفة. وربما وجدتِ فيه نفسك، أو تذكرتِ صوتًا داخليًا خافتًا حاول أن يتكلم يومًا... فأرجوكِ، دعيه يتكلم.

دفتر لا يعرف النوم

في كل مساء، حين يخلد الجميع للنوم، أفتحه كما تُفتح نافذة سرّية على ذاتي. لا أنوي أن أدوّن شيئًا عظيمًا، فقط أسجّل صوت الحياة بداخلي. أحيانًا أكتب: اليوم تعبت. لكنّي قرأت ثلاث صفحات من كتاب المنطق... وما زلتُ هنا.

وأحيانًا أكتب: شعرتُ أنني هامش في قصة الجميع... لكنّي صنعتُ هامشًا لي وحدي، وأضأت فيه شمعة من فِكر.

ذلك الدفتر لا يعرف النوم، تمامًا مثلي. نحن الاثنان نتقاسم العناء، ونستتر بالحبر.

مِن صمتِ الجدران

 ثمة جُدران تشهد أكثر مما نُدرك. لا تتكلم، لكنها تحفظ. تحفظ نبرة صوتي حين أقرأ، وتحفظ تنهيدتي حين أفشل في الفهم، وتحفظ ضحكتي المباغتة حين أكتشف شيئا جديدا.

كنت أظن أني وحدي من تسمعني الكتب، لكنّني بدأت أسمع الجدران أيضًا. كأنها تقول: “هذه الجملة ناقصة... أتمِّيها، اللغة لا تتكلّم فقط في الفصول والمفردات، بل في الفُسح بين الأصوات، في صمت المساء، في انحناءة الضوء على ورقة مفتوحة.

ماذا بعد ...؟

حين تلقيتُ الخبر: تم نشر البحث في العدد الجديد...، لم أحتفل، لم أقفز، لم أصرخ، لم أبكِ. فقط وضعتُ الحاسوب جانبًا، وفتحت النافذة، الهواء ذاته، السماء كما هي...شعرت كأن شيئًا داخلي قد هدأ، لا لأنه وصل، بل لأنه أدرك أن الوصول ليس نهاية الطريق، بل بدايته.

ما كنتُ أبحث عنه لم يكن النشر... بل تصديقٌ داخلي أن جهدي ليس وهمًا، وأن ذاتي الموزعة بين العمل والمسؤوليات... ليست متناقضة، بل متكاملة.

ثم جاء السؤال الأكبر... ماذا بعد؟ هل أواصل لأثبت شيئًا للعالم؟ أم لأثبت لنفسي أن المعرفة لا تكتمل أبدًا، وأن كل إجابة تفتح ألف سؤال؟

جلستُ أكتب: إيماني الآن ليس بأنني وصلت، بل بأنني وُجدتُ لأطلب، لأفكّر، لأتساءل... وأن العلم ليس منزلًا أسكنه، بل طريقًا أمشيه، حتى آخر الحرف، وآخر النَفَس.

ضدّ الجاذبية...

بعض الأيام، تكون الأرض أثقل من المعتاد. الوقت بطيء، والأفكار مثقلة، والإنجازات السابقة تبدو بعيدة، كأنها إنجازات امرأة أخرى لستُ أنا.

يقولون إن لكل شيء جاذبية: الأرض، الحزن، وحتى التعب... لكنهم لا يتحدثون عن جاذبية المعرفة، هذه التي تجعلني أقوم من فراشي رغم السهر، رغم المرض، لأفتح كتابًا بينما الجميع نيام.

أن أستمر لا يعني أنني لا أتعب، بل يعني أنني لا أُسلّم نفسي لما يُريد أن يُسكت صوتي الداخلي.

أحيانًا، لا أكون طموحةً بقدر ما أكون مُتمرّدة على حدود رسمها لي غيري: سنّي، دوري، مكاني، طاقتي، أشخاص حولي ... كلّها محاولات لربطي بالأرض، لكن العلم يمنحني أجنحة تجعلني أحلق هاربة من كل شيء.

أنا لا أطير، لا أتسلق جبالًا، ولا أقف تحت الأضواء. أنا فقط أُكمل جملةً بدأتها بالأمس، وأراها اليوم تكتمل.

 بين الجُمَل...

كثيرًا ما يُخيَّل للناس أن الحياة تكمن في العبارات الصريحة، في الجُمل المكتملة التي تنتهي بنقطة أو علامة تعجّب. لكنني وجدتُ نفسي بين الفواصل، في تلك الوقفات الخفيفة التي لا يلتفت إليها أحد.

أُحبّ ما بين الجُمل، لأنني هناك لا أكون ملزَمة بأن أُثبت شيئًا. ليس مطلوبٌ مني حُجّة، ولا ينتظر أحدٌ نتيجة. إنها اللحظات التي تُقال فيها أعمق الأفكار على استحياء، حين يصمت العالم وتتكلم الذات.

أحلم أحيانًا بأن أكتب نصًّا كلّه فواصل... بلا بداية ولا نهاية، فقط تتابع لما لا يمكنني قوله.

وبينما أراجع مقالةً أكاديمية، كثيرًا ما أتوقف، ليس عند الادّعاء أو البرهان أو نظرية، بل عند تلك اللحظة التي يسكت فيها الكاتب ليلتقط أنفاسه... هناك، أنتمي.

أن أعيش بين الجُمل لا يعني أنني ضائعة، بل أنني أقيم في المساحات التي تُترك لتتنفّس. الهوامش هي طريقتي لأقول: أنا هنا...

أتنفّس علمًا...

حين بدأتُ، لم أكن أبحث عن منصة أرتقيها، ولا عن لقبٍ يتقدّم اسمي. كنتُ فقط أبحث عن هواء أتنفّسه في زحمة الواجبات، بين الجدران الصامتة، وتحت سقفٍ كثير الانشغالات كتبتُ قرأتُ لأنّ الحروف كانت ماء قلبي. ودرستُ لأنّ الجهل كان يخنقني.

وحين تنُشر أعمالي، ويتلألأ اسمي على صفحاتٍ...لا أشعر بالظَفَر… بل بالتصالح. كأنني عدتُ إلى ذاتي الأولى، تلك التي كتبت في دفتري: لأعرف، لأفهم، لأكون، ذاتي التي ولدت معي قبل أن تسرق مني...

العِلم، يا رفيقتي، لم يكن سُلّمًا أعلو به على غيري. بل سلّمًا أستعيد به نفسي، شيئا فشيئا. وأعلمُ الآن أنني سأُكمل، لا لأصل، بل لأُبقى حية.

***

بقلم: غزلان زينون

رحم الله سنوات الستينيات والسبعينيات، إلى ما قبل فاتحة القرن الجاري، ايامها كان صدور رواية يتسبّب في تحريك الحياة الثقافة فكانت الصحافة تبادر الى الكتابة عنها، كما كان النقاد يبادرون للترويج لها لافتين القراء الى اهميتها اذا كان فيها ما يستحق وما يوحي بولادة عبقرية روائية جديدة، كما حدث مع الكاتب السوداني الطيب صالح، عندما اصدر روايته "موسم الهجرة الى الشمال"، في سنوات السبعينيات الاولى، فقام الناقد رجاء النقاش باللفت اليها، ليشعل جذوة اهتمام بها ما زالت متوهجةً.. بشكل او بآخر.. حتى ايامنا هذه.

اليوم في هذه الفترة المُسربلة بضباب الغموض وسديمه الممتد، اختلف الامر، فها نحن نشاهد سيلًا عرمرمًا من الروايات يصدر بصورة يومية او شبه يومية في عالمنا العربي خاصة، حتى اننا بتنا لا نستهجن ان يقوم كاتب واحد.. فرد.. بإصدار اربع روايات دفعة واحدة، صحيح ان ذلك الكاتب قد يكون كتب هذه الروايات خلال سنوات، غير ان اصدارها بهذه الصورة.. دفعة واحدة.. ان دل فانه يدل على حالة مستجدة في حياتنا الثقافية والروائية بصورة خاصة.. حالة تستوجب النظر والمعاينة.

اعرف انني لا اتي جديدًا بملاحظتي هذه فقد لفت اليها وكتب مثلها آخرون، ومن المؤكد انه سيكتب عنها آخرون وآخرون غيرهم، غير ان السؤال الجدير بالطرح في رأيي هو لماذا وصلنا الى مثل هكذا وضع، لا مبالاة من الكتاب بين قوسين، تقابلها لامبالاة من النقاد والمهتمين، ومع هذا يتابع سيل الروايات جريانه، فيما يتابع كتبتها اصدار الرواية تلو الاخرى غير عابئين بانهم انما يكتبون ما قد لا يستأهل القراءة والاهتمام، ومقتحمين ملكوتًا لا يمكن للمرء اقتحامه الا بعد التسلح بالاطلاع والتجربة الصادقة العميقة. يعود السبب في هكذا وضع.. الى اكثر من سبب وسوف اجتهد فيما يلي في ايراد اهم ما اراه من اسباب، اورد بعدها مجمل ما اود قوله. فيما يلي عدد من اسباب الاقبال الجنوني على كتابة الروايات واصدارها.

* التغيرات الحاصلة في حياتنا المعاصرة، في تفصيل هذا اقول، اننا كنا قبل سنوات قليلة نردد ان عالمنا سيتحول في المستقبل القريب الى قرية صغيرة، غير ان الوقت مضى بسرعة هائلة.. اسرع مما توقعنا وترقبنا، لنجد انفسنا نعيش تحولًا اسرع بما لا يقاس.. ولننتقل بالتالي متخطين الحديث عن "العالم قرية صغيرة"، إلى "العالم غرفة صغيرة"، وقد تمثل هذا التغير المتسارع المحموم في التطورات التكنولوجية الفلكية، وفي امتلاك معظم سكان العالم اجهزة خلوية، يمكن الواحد منها صاحبه الدخول إلى غرفته بصحبته.. خلويه.. ليدخل تاليًا وتابعا له .. العالم كله مرافقا اياه. لقد تسبب هذا الوضع المستجد، في شخصنة الوجود وفي بروز الانوية كما لم يحدث في السابق، وعليه بات كل من يعلم ومن لا يعلم يريد ان يكون وان ينوجد، ساهم في هذا الوضع ظهور وسائل الاتصال الاجتماعي والانتقال العام من ثقافة النخبة الى الثقافة الشعبية. لتوضح هذا اقول ان الناس المعنيين لم يعودا بحاجة الى من يأخذ بأيديهم، فقد فتحت كل الدروب المغلقة في وجوههم، وبات بإمكان الواحد منهم اخذ زمامه بيده، فاذا ما اراد ان ينشر كتابة كلمة او كلمتين، لا تفرق كثيرا، بادر الى نشرهما دون حسيب او رقيب، وتحفيز من حوله لقراءتهما والتعليق عليهما.. اما على مستوى اجتماعي فقد جرت تحولات جذرية.. سنشير اليها في النقطة التالية.

* التغيرات المتسارعة في حياتنا المعاصرة كما هو واضح، تسببت في المقابل بمتسارعات موازية، لا سيما في مجال نشر الكتب والروايات بصورة خاصة، ففي حين كانت دار النشر في الماضي تعتبر قوة وتمتلك السلطان والصولجان، فتقرر ما تنشره من كتب وروايات، او ترفضه، باتت هذه الدور راضخة لمن يملك المال، وتحولت بالتالي من دور نشر للثقافة، الى دكاكين تجارية تطبع لمن يدفع لها، هكذا بات بإمكانك ان تطبع ما تيسر لك من روايات قد لا يقرأها احد، وتوزيعها مجانا، فالرواية ابقى من الثوب كما قالت لي احدى الروائيات المحدثات. واذكر انها فسرت قولها هذا سائلة اياي: ثمن الثوب الف وخمسمائة دولار وفي المقابل طباعة رواية يتكلف مثل هذا المبلغ، لو سالتك ايهما افضل أيهما تفضل؟ شراء الثوب ام طباعة الرواية؟.. في العودة الى هذه النقطة اقول ان هذا التحول في اداء دور النشر بصورة عامة، ادى الى ما نتحدث عنه وهو ظهور الروايات بالكيلو.

* يبدو ان هكذا واقع لفت انظار طامعين كبارًا .. صيادين ومترقبين متنظرين.. يريدون الهيمنة عبر توسيع دوائر نفوذهم، كما لفت انظار جهات معنية بتكريس ذاتها قوة ضاربة، وذات سلطان وهيلمان، فبادرت الى تأسيس هذه الجائزة او تلك، مخصصة الميزانيات الطائلة والشروط المسيلة للعاب صاحب الرواية الفائزة، وذلك من عدة نواح سواء من ناحية المقابل المالي للرواية الفائزة، او من ناحية نشرها والترويج لها وحتى ترجمتها في بعض الجوائز. اذا عدنا الى السبب الاول وهو انوية العالم للشخص الفرد وتكريسه عالمًا قائمًا بذاته في غرفته الوحيدة، بات الوضع والحالة هذه على النحو التالي، سأكتب رواية وسوف اقدمها الى هذه الجائزة او تلك فاذا ما فازت ربحت حياة اخرى واذا خسرت لن اخسر شيئا.

ماذا اريد ان اقول من هذا كله؟ ربما اردت ان ادلي بدلوي في توضيح ما قد يكون غامضا للبعض فيما يتعلق بهذه الظاهرة، علما ان احدا لا يستطيع ان يقف في وجه التغيرات والتبدلات الجارية في عالمنا، كما لا يحق لاحد ان يمنع احدا من التعبير عن ذاته.. ربما اردت ان اتساءل الى اين تتجه سفينة الرواية.. ربما..

***

ناجي ظاهر

تعيدنا رواية "شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة"، الى طفولتنا الرائعة بكل ما فيها من افراح صغيرة واحزان كبيرة، وتدفعنا بيدٍ من شوق إلى ايامها العذبة الدافئة الحنون.. التي لا تتكرّر ولا يمكن لها ان تفعل ذلك، بحكم التقدّم في العمر والمضي في دروب العمر المتعرجة، المنطلقة في الان ذاته عبر غاية محدّدة هي.. الحياة الراسخة.

مؤلف هذه الرواية هو الكاتب البرازيلي ورجل السياسة البارز خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس، وهو من مواليد ريو دي جانيرو عام 1920، وقد توفي في ساو باولو عام 1984. عاش مؤلف الرواية طفولة قاسية، صعبة اذ كان مولده في عائلة فقيرة، وهو ما انعكس في كتاباته الروائية والسينمائية، وقد تخصص في الكتابة للأطفال، وانتج في مجالها العديد من الروايات اللافتة، وقفت في مقدمتها روايته هذه "شجرتي.."، واحدة من ابرزها علما انه وضعها عام 1967. وقد ترجمت هذه الرواية الى العديد من اللغات ولاقت الكثير من الحفاوة لما اتصفت به من عودة ذكية، شاعرية وإنسانية، إلى الطفولة وافاقها المسربلة بالغموض حينا وبالوضوح أحيانا.

هذه الرواية حافلة بالمشاعر والاحاسيس وتعيدنا الى أيام عزيزة غالية مذكرة ايانا بما اعتور تلك الأيام من شقاوات بريئة وغير مقصودة.. وعادة ما احتاجت لمن يخلصنا منها ويأخذ بيدنا كي نحافظ على ما حفلت به وجوهنا من ماء الحياة والمحبة لكل ما هو لافت وجميل في مغائرنا واشجارنا العظيمة.

تدور احداث الرواية حول الطفل "زيزا" وهو طفل ذكي وشقي في الان، فطالما أوقع بعضا ممن دفعتهم اقدارهم لان يمضوا في طريقه في هذا المقلب او ذاك، ويبرز مقلب تخويف امرأة تمر من طريقه وايهامه لها بانها تتعرض لهجوم افعى عليها، واحدا من المقالب اللطيفة الطريفة التي لا تنسى. اما قصة الطفل زيزا مع "سرقته"، للزهور من اجل تقديمها لمعلمته المحبوبة وردعها له عن سرقتها بعد مصارحته لها، فإنها تبلغ ذروة عالية من العذوبة التعبيرية لا سيما عندما تقول له معلمته المحبوبة انه من الأفضل ان تبقى الزهور في اماكنها العامة لتمتع الجميع، موضحة ان سرقته لها لا تعدو كونها عملا غير أخلاقي. اما رده عليها وهو: الم يخلق الله الزهور لكل الناس.. فانه يدخل في لب الطفولة ويرتقي الى اعلى ما يمكن ان تصل اليه من ذرى عالية.

بطل الرواية ابن الخامسة، يتعلّم القراءة مبكرا جدا.. في الرابعة ودون معلم، ويلفت انظار المحيطين به بالعديد من الصفات والميزات، فهو فقير جدا، وهو ما يذكّر بمبتكره، صاحب الرواية، كما انه ذكي جدا ما يذكر بالعديد من الشخصيات الأدبية المعروفة عالما مثل الطفل هكلبرى فن في رواية مارك  توين المشهورة، او الطفل في رواية مديح الخالة لماريو فارغاس يوسا. هذا الطفل الذي يناديه الجميع بالشيطان الصغير ويصفونه بقط المزاريب، يروي لنا، نحن قراء الروية، تفاصيل ما واجهه من احداث ومغامرات، ابتداء من احاديثه الطلية الى شجرته.. شجرة البرتقال الرائعة، انتهاء بتفتح تلك الشجرة، مرورا بما واجهته من مخاطر الازالة بيد التغير والتبدل. هو طفل يحمل في قلبه عصفورا وفي راسه شيطانا يهمس له بأفكار مربكة عادة ما توقعه في متاعب الكبار ومشاكلهم المعقدة.

هذا الطفل، كما تذكر مترجمة الرواية الى العربية ايناس العباسي، لا يروي حكاية خرافية ولا أحلام الصغار في البرازيل فحسب بل يروي مغامرات الكاتب صاحب الرواية ذاته في طفولته، وهو ما يمسّ طفولة الكثيرين ممن كبروا في عالمنا هذا.

يلفت الاهتمام ان الرواية انها تروى على لسان الطفل "زيزا" ابن الخامسة، وذلك عبر ما يراه هذا الطفل ومِن وجهة نظره، وفق تعبير الناقد بيرسي لبوك في كتابه الشهير " صنعة الرواية"، الامر الذي يجعل منها/ الرواية، اشبه بمسرحية تتسلل احداثها الى اعماقنا دون طلب او استئذان.

لقد حظيت رواية شجرتي- شجرة البرتقال الرائعة باهتمام عالمي كبير، لما حفلت به من عذوبة تذكر بعذوبة ثمرة برتقال حلوة المذاق، ولما حفلت به من مشاعر إنسانية تصرّ على تذكير قارئها بها وبما انطوت عليه من براءة طفولية. انها رواية الطفولة الخالدة.. رواية شاعرية تحمل دماء أهالي البرازيل الأصليين.. وقد دأبت مدارس برازيلية عديدة منذ سنوات صدورها الأولى على تعليمها لطلابها، كما حض مربون في انحاء مختلفة من العالم، فرنسا مثلا، على قراءتها.. بهدف معايشة تفاصيلها الإنسانية الشاعرية الثرية والمؤثرة.

***

ناجي ظاهر

ثلاثة شعراء من بيئات مختلفة وازمان متباعدة اعلنوا عن توبتهم وطلبوا الرحمة والاستغفار بعد صولات وجولات مع الخمرة ومعاشرة النساء والشعر الماجن، فهل كانت توبتهم حقيقية ام انها مجرد ديكور لتجميل ايامهم الأخيرة؟ فالظاهر ان الخوف من المجهول أي الخوف من الموت وما بعد الموت هو الدافع وراء هذه التوبة وقد وصفهم القران (بأنهم يقولون ما لا يفعلون الا الذين امنوا). سورة الشعراء،224، وهذا يعني ان القران استثنى المؤمنين من الشعراء، في صدق اقوالهم اما الباقين فانهم غير جديرين بهذه الثقة التي اولاها القران للصادقين من الشعراء.

الشعراء الثلاثة هم: عمر ابن ابي ربيعة، الحسن بن هانئ (أبو نؤاس) وعمر الخيام

عمر ابن ابي ربيعة: 23-93 هـ

كلمـا قلــــــت متـى ميعــــادنا

ضحكت هند وقالت بعد غد

ولد عمر عام 23 هـ في نفس الليلة التي توفي فيها الخليفة عمر ابن الخطاب لذلك سمي بهذا الاسم تيمناً باسم الخليفة الراحل نشأ في مكة في كنف عائلة امتازت بالثراء لذلك اصبح فتى قريش المدلل، كانت جميل الوجه بهي الطلعة نرجسي النزعة أي انه كان مغرورا بجماله وعاش معشوقا وعاشقا في نفس الوقت في صباه كان يتردد على المدينة واليمن والشام والعراق، يعتبر موسم الحج بالنسبة له موسم الحب والغزل شاعرا لا يمدح ولا يهجو فهو شاعر غزل من الطراز الأول تفوق على استاذه في شعر الغزل (امرؤ القيس) .. ولكن السنين بدأت تؤثر فيه فاشتعل رأسه شيباً وتجعد وجهه وانحنى ظهره وتكحلت عينيه بكآبة جليلة ولكنه لم يفقد مرحه وضحكاته ولكنه بدأ يخشى العقاب على ما ارتكب من أفعال  واقوال فلجأ الى القوة الغيبية يتوسل اليها وفكر في ان يتوب على يديها واخذ يسكب امامها دموع الندم، تاب عمر الى الله وتاب عن قول الشعر الماجن وعاهد الله على انه لو قال شعرا فسوف يعتق عبدا عن كل بيت واستبدا حياة اللهو والغزل بحياة العبادة وزار الكعبة وطاف حولها طوافا بريئا هذه المرة،ولم يؤثر عنه انه تاب شعراً فلا يوجد في ديوانه قصيدة او بيت من الشعر ينم عن توبته لقد تاب نثرا واقسم ان لا يعود الى المجون مرة أخرى .

أبو نؤاس: 756-814 م.

حامل الهوى تعب     يستخفه الطــــرب

ان بكى يحق لـــــه      ليس ما به لعـــب

أبو نؤاس

ولد الحسن بن هانئ في الاهواز عام ٧٥٦م وقدم إلى البصرة وعمره ست سنوات مع والدته (جلبان) ثم غادرها إلى الكوفة ومنها إلى بغداد في عهد الرشيد وقربه الرشيد إلى بلاطه، عرف عنه انه كان شاعر الخمرة والغزل بالمذكر، تعلق بجارية تدعى (جنات) فعندما خرجت جنات الى الحج خرج وراءها لعله يحظى منها بلقاء وهناك وقف امام الكعبة فراح يبكي كأشد المؤمنين ايماناً وقد هزه منظر الحجاج وهم يطوفون حول الكعبة فانشد يقول:

الهنا ما اعدلك      مليك كل من ملك

الى آخر هذه التلبية ... وبعد ذلك قال قصيدته التي اعترف فيها بكثرة ذنوبه فقال:

ولقد تلوت مع الغواة بدلوهم

وأسمت صرح اللهو حيث اساموا

*

وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه

فاذا عصارة كل ذاك آثام

وتعد هذه القصيدة اعترافاً منه بذنوبه ثم كتب وصيته قبل وفاته التي طلب فيها من النبي محمد الشفاعة له يوم القيامة وبعد وفاته دفن في مقبرة الصالحين

عمر الخيام 1048-1131 م.

أولى بهذا القلب ان يخفقا

وفي ضرام الحب ان يعشقا

عمر الخيام

وُلد عمر الخيّام في مدينة (نيسابور)، ومات فيها. وقد اشتهر برباعياته التي جُمعت بعد وفاته بـ(250) عاماً. وذهب النقاد في شأنه مذاهب شتى فمنهم من قال إنه كافرٌ وزنديق، وإنه كان يؤمن بتناسخ الأرواح، وأن بينه وبين أبي العلاء المعري صلة قرابة. وقال غيرهم إنه كان مؤمناً بالله واليوم الآخر، وإنه كان متصوفاً. أما المؤرخ هارولد لامب فقد وصفه بقوله (ان الخيّام كان يسكر، فيكفر، ثم يفيق، فيندم).

تُرجمت رباعياته إلى مختلف لغات العالم، فقد تُرجمت إلى الإنكليزية عام 1809م.وفي العراق، ترجمها الشاعر أحمد الصافي النجفي أما في مصر، فقد ترجمها أحمد رامي، وتُعد من أروع الترجمات. ثم تُرجمت إلى اللغة العبرية...

لم تذكر كتب التاريخ أن الخيّام قد تزوج لكنه كان يتُغزَل بفتاة تُدعى (عائشة). قضى الخيام حياته باحثاً عن أسرار الحياة. وقد تاب أخيرا كما تاب قبله أبو نواس، وقد ذهب الخيّام إلى الكعبة حاجاً. وقد قال أشعاراً في التوبة، من رباعياته:

يامن يحار الفهم في قدرتك

وتطلب النفس حمى طاعتك

*

اسكرني الاثم، ولكننـــــــي

صحوت بالآمال في رحمتك

وقال:

يا عالم الاسرار علم اليقين

وكاشف الضر عن البائسين

*

يا قابل الاعذار فئــنا الى

ظلك فاقبل توبة التائبين

***

غريب دوحي

 

إنه يوم جديد في قصتي مع الحياة ومغامراتي مع الألم.. يوم عادي جدًا، شروق وغروب وشمس وقمر، لا جديد، أو ربما أنا من لا يتذكر أبسط التفاصيل فيه، كل ما أتذكره بوضوح هي عملية الكتابة، كتبت في ساعة من ساعات النهار، وبينما كنت أشهد على ولادة الكلمات، ضاع المعنى، ومات جنين الفكر في رحم الوعي!

كان الضياع من نصيب كلمة ما، ولا أستطيع تحديد سبب ضياعها حتى الآن.

قلة نوم؟

قلة تركيز؟

لا أظن، الفكرة نضجت وكل عوامل النجاح توفرت، فما المبرر وراء غيابها إن كانت البيئة الأدبية مناسبة للإبداع؟!

استمرت محاولات البحث حتى عن أقرب المرادفات لها، ليس بالضرورة الكلمة ذاتها، أعرف أنه في أزمات مثلها مسموح ببعض المرونة، أي شيء يُخرجني من المأزق والسلام، ولكن عقلي بقسوة الصخر، رفض الفرصة وضعت أنا!

ساد الصمت وقتلتني الحيرة.. فهل تستحق كلمة واحدة إشعال كل هذه الفوضى؟!

كلمة بسيطة للغاية، تُعبر في مضمونها عن الخير والشر والمعرفة والجهل والحب والكره وكل الحقائق والتناقضات، ورغم بساطتها فهي نبع الحياة، وأصل العدم!

يبدو أنها فوازير رمضان ولكن على طريقتي الخاصة!

حاولت مرارًا وما باليد حيلة، عُدت بالزمن لعهد الطفولة وأيام "الحضانة" وحصص القراءة والنحو.

ألف.. باء.. تاء.. ثاء

زرع.. حصد

فعل وفاعل ومفعول به

لكم أن تتخيلوا كم كلفني ذلك الموقف المهيب أمام ذاكرتي المُشتتة!

إنها تحتضر!

بعد أن كانت في أقصى درجات الانتعاش، صارت تتأرجح بين مغالبة النسيان والخضوع إليه، ثمة خلل في التواصل بيني وبينها، وللمرة الأولى أشعر بمعنى "إيرور 404" في رأسي، لقد كانت تمدني بالمفردات والمشاهد بكرم العطاء، وأصبحت فجأة في سن الشيخوخة، ضعيفة، تأبى حتى مساعدتي من أجل النجاة!

لا بأس، ربما أحتاج إلى قسط من الراحة أو أن ذاكرتي تتلهف ذلك الهدوء اللذيذ بعيدًا عن صخب الأحداث وشد الأعصاب، حسنًا، إنها المحاولة الأخيرة.

وبالفعل، اعتزلت أوراق الكتابة وكل الأحلام لعلها بداية حل اللغز، ولا جدوى، لم تمر أمام شريط الإدراك ولو مرورًا خاطفًا، وكأنها في الأبجدية مجرد أوهام!

ولكن كيف؟!

إنها كلمة ذات شأن عظيم في الأدب، ومقالي المسكين هذا، أخشى عليه من الانهيار بعدما رأيت فيه القيمة.

يا ذاكرتي العشرينية، لمَ أصبح التفاعل معك شاقًا لهذه الدرجة؟!

كل شيء توقف!

اضطررت إلى الضغط على "فرامل" أفكاري خشية الهلاك في سبيلها، وأما عن عقلي، فهو يتألم من فرط المحاولات، أحسست بصداع فكري هائل يتصاعد كلما حاولت استدعاء الكلمة من عالمها الغامض، ومن المؤسف أنها ترفضني تمامًا وكأني من أعداء اللغة مثلًا.. إنها القطيعة!

لا يهم.. لن أتهاون في البحث عنها في كل حروف العربية.

السين مع الراء، الباء بجانب الفاء.. عبث!

كلها تركيبات لغوية لا معنى لها على الإطلاق، لقد كانت المخرجات أشد هذيانًا من حالي وقتها!

ثم ماذا بعد؟

لجأت لمن حولي بعدما فقدت القدرة على اللحاق بها وحدي..

ارتميت في أحضان قوة ملاحظة غيري، وأخذت أصف معناها لأي عابر سبيل ربما تنقذني ذاكرته، لن أنكر أني رأيت شعاع أمل حين سمعت كلمات تقترب منها إلى حد التطابق، ولكنها ليست الكلمة المطلوبة، وفي تلك الأثناء تبين لي أنها ضاعت منهم كذلك.

لقد جُننت.. ماذا أصاب ذاكرة البشرية يا سادة؟!

في كل الأحوال، دعكم منها.. نحن الآن أمام استفهام صريح وحاسم.

ماذا لو فقد المرء نفسه؟!

إنها لحظة التي فصلت بين الإدراك والضياع، تبدل فيها الوعي إلى فقدان ذاكرة مؤقت، كل التفاصيل فقدت معناها، اللمسة باردة، النظرة عمياء، النطق أخرس، كل الحواس على حافة النهاية، وأنا.. لست أنا!

لقد ألهمني الهذيان بحق، رغم قسوته وغياب “كتالوج” التعامل معه، فقد جعلني أتساءل بعد أن تمكنت بصعوبة بالغة من اقتناص الكلمة وإتمام المقال على خير.. ماذا لو خسرت ذاكرة وجودي؟!

لو أصابني الزهايمر في جرح نازف، كل الذكريات تتطاير، كل الأرواح يدفنها الزمن في قبور النسيان، ولكن في رأيي المتواضع أن كل النسيان في كفة، ونسيان المرء منا لحقيقته في كفة أخرى!

من يكون؟

ماذا يفعل في الأرض؟

ما اسمه، عمره، هدفه، وفكرته الأبدية؟

لقد ضاعت كلمة واحدة عن بالي، كلمة واحدة فقط، وفعلت بي الأفاعيل، فكيف عن ضياع الروح من الروح؟!

ماذا لو وقفت الآن أمام نفسك فلم تجد أي شيء؟!

صورة ضبابية، لا تعرف ملامحك، أسرارك، مشاعرك وأفكارك.. لا تعرفك بكل بساطة.

أتساءل كذلك.. كيف يكون إحساس من فقد إحساسه بذاته؟!

من يُقاوم من أجل أن يفهم تكوينه.

يتساءل عن ماهية الحياة من وجهة نظره، وهل له وجهة نظر أصلًا أم هو تكرار ممل للقطيع؟

أجبني بصراحة، أي كلمات يُمكنها إسعافك في وقت مصيري كهذا؟!

إنها مهزلة كبرى أن نتذكر ماركة الساعة وسعر القميص وآخر أكلة مهضومة.. وننسى أنفسنا!

أليس كذلك؟

بالمناسبة.

"إنسان"..

هي الكلمة الضائعة التي خضت من أجلها معارك نفسية وفكرية ضارية، ليتني عرفت أن الحل بين يدي، أن أتأملني فحسب، لقد كانت الإجابة هُنا، بينما كنت أبحث عنها هُناك!

***

بقلم: نورا حنفي

من ضمن النشاطات الابداعية السنوية التي كانت تنظمها مديريات التربية لمدارسها في المدن العراقية والتي للأسف توقفت مؤخرا هي اقامة الاستعراضات الرياضية لألعاب الساحة والميدان وكذلك معارض الرسم والنحت التي من خلالها يتم التعرف على المواهب الواعدة للطلاب في هذه المجالات ، كما كانت هذه الفعاليات حافزا للاجتهاد والمثابرة وأفرزت عددا من المواهب الكبيرة التي واصلت التطور حتى وصل بعضها الى العالمية.

في العام 1968 شهدت الديوانية معرضا سنوياً لفن الرسم والنحت واحتضنت صفوف متوسطة الديوانية ــ دائرة الكهرباء حاليا ــ لوحاته وأعمال النحت التي كانت من تنفيذ طلاب المدارس المشاركة ، وكان الأبرز في ذلك المعرض لوحة حملت عنوان (العاصفة) تمكنت من استقطاب جمهورا واسعا من متذوقي فن التشكيل لما فيها من الدقة في تنظيم الدرجات اللونية وكذلك في ابراز قيم الضوء والظل والاحاطة بباقي مكونات اللوحة على الرغم من ان اللوحة كانت تقليدا للوحة عالمية معروفة بـإسم ــ غرق ميدوزا ــ للفنان الفرنسي " تيودور جيريكو " الا ان جمهور الزائرين للمعرض أغفل ذلك ووقف مذهولا امام اللوحة وكأنه ينصت لصراخ الحيوات المتشبثة بأركان المركب الذي يوشك على الغرق وسط البحر ، ولم يخيل لأحد ان الطالب الصغير النحيف الذي نفذ تلك اللوحة ستقوده هذه البداية المذهلة وما تلاها من اجتهاد ومثابرة الى العالمية ويصبح واحدا من الفنانين الذين يحظون بمكانة عالمية ذلك هو العراقي الديواني المقيم في هولندا الفنان التشكيلي " بشير مهدي" .

واختيار " بشير مهدي " لتلك اللوحة يشير الى انه فنان مجتهد ومثقف وكان مطلعّا على انجازات الفنانين العالميين وتأثر فيما بعد بعصر النهضة مما دفعة للهجرة الى ايطاليا ليعمل في فلورنسا رساما ويوقع لوحاته باسم ايطالي بسبب القوانين التي تمنع بيع لوحات الاجانب ويستقر أخيرا في هولندا التي كرمته بوضع احدى لوحاته الى جانب اللوحات المميزة في متحفها الشهير .

حظيت تجربة الفنان بشير مهدي باهتمام عراقي وعربي وعالمي ، فقد كتب عنها عدد كبير من كبار النقاد والشعراء والأدباء والفنانين العراقيين حيث جاء في شهادة الناقد الكبير ياسين النصير (ان الفنان بشير يجسد في أعماله انفعالات الأشياء وحركاتها الذاتية، وطيات الأقمشة وتناسقها وتوزيع الضوء، ويعكس حساسية شعرية تفصيلية للأشياء)، اما عالميا فقد خصها الناقد الهولندي " خريت لادونخا " بكتاب تناول بالتفصيل ابعادها الفلسفية والفنية ومن ضمن ما قاله في تجربته (بشير مهدي واحد من الرسامين الكبار ولديه خيال واسع ومميز من الحرفية والتكنيك ، عوالم هذا الفنان تشترك بطريقة لم نألفها من قبل ، انه يمزج بين أعماق الانسان والحقيقة) وفعلا تجربة بشير مهدي مميزة وفريدة ولوحاته تنطوي على ابعاد فلسفية تجسد الوجود والعدم والحضور والغياب اضافة الى الفنية العالية التي تظهر بها ، فالدهشة التي تعيشها وانت تجول بنظرك بين لوحاته وترى الدقة في تجسيده لمساقط الضوء وانكسارات الظلال تشعر انك امام صورة فوتوغرافية وليس لوحة من الزيت والقماش .

من حقنا ان نفخر بالفنان العراقي المجتهد " بشير مهدي " فهو ثروة وطنية رفع اسم العراق عاليا في أهم المحافل الفنية العالمية ومعارضه الشخصية طافت بلدان اوربية عدة ونالت جوائز كبيرة ومهمة .

***

ثامر الحاج امين

(فليتباهى غيري بما وُضع من كتب، أنا لي أن أتباهى بالكتب التي قرأتها).. خورخي لويس بورخيس

لا توجد طريقة واحدة لقراءة الكتب التي تشعر انها مملة، لكن هناك سبب رئيسي يجعلنا نسعى للحصول على هذه الكتب وضمها إلى مكتبتنا الشخصية، وتصفحها أو قراءة صفحات منها بين الحين والآخر.. وبالتاكيد لا توجد نصيحة واحدة تعلمنا كيفية قراءة مثل هذه النوعية من الكتب، وسبق للروائية الانكليزية فرجينيا وولف ان حذرتنا قائلة:" فيما يتعلق بالقراءة فان النصيحة الوحيدة حقا التي يمكن أن يسديها شخص لآخر هي إياك أن تأخذ نصيحة احد "، لكن رغم ذلك تجدنا دائما نسأل هل هذا الكتاب ممتع، وما الفائدة من شراء هذا المجلد ؟. في النهاية نحن نقرأ وغايتنا كما شرحها لنا فرانسيس بيكون تقوية النفس والقراءة تجعلنا نعيش لذة المتعة. فيما كان الناقد الانكليزي الشهير صمويل جونسون يصر على ان القراءة تمارس فعل " تطهير العقل من اللغو ".

لا يزال حبي للقراءة يدفعني الى اقتناء الكتب، ابحث في المكتبات عن كل ما هو جديد. فانا اؤمن ان الكتب توسع رقعة الحياة.. نحن نقرأ لاننا نحتاج الى المعرفة. لا معرفة انفسنا والآخرين فقط. بل لكي نعرف الحالة التي تكون عليها الاشياء التي حولنا.

كان بورخيس قد وصف الكون بالمكتبة، واعترف أنه تخيل الجنة على شكل مكتبة، كانت مكتبته بالنسبه لزواره مخيبة للآمال، كان الجميع يتوقعون مكاناً مكسواً بالكتب، يردد على زواره مقولة شوبنهاور " ان كثيرين يخلطون بين شراء كتاب وشراء مضمون الكتاب "،  ويصف بورخيس نفسه بأنه قارئ أولاً قبل أن يكون كاتباً، ويرى أن " العالم الفيزيائي هو استحضار لقراءاته "، فالقارئ هو الأساس، وكل قراءة لنص تفترض معنى خاصا بالقارئ وهذا في حدِّ ذاته مغامرة.

عام 1985 طلبت أحدى المجلات من بورخيس أن يختار مجموعة من الكتب التي سيضمها لمكتبته الخاصة على أن لا تتجاوز مئة كتاب. وصل بورخيس إلى خمسٍ وسبعين عمل فقط قبل وفاته بسرطان الكبدعام 1988.

المثير في اختيارات بورخيس انها خلت من كتابات شكسبير وتولستوي وجين اوستن، فقد اختار دستويفسكي وهرمان ميلفل واوسكار وايلد وكان ابرز الكتب في قائمته الذهبية: قصص خوليو كورتاثار. وامريكا لفرانز كافكا. صحراء التتار للروائي الإيطالي دينو بوزاتي. بعض مسرحيات موريس ميترلنك. المزيفون لاندريه جيد. آلة الزمن لويلز، الشياطين دستويفسكي. مسرحيات يوجين اونيل. قلب الظلام جوزيف كونراد. مقالات اوسكار وايلد.لعبة الكريات الزجاجية هرمان هيسه. أسفار ماركو بولو. نظرية الطبقة المترفة ثورستين فيبلين. الف ليلة وليلة. كتابات آرنولد بينيت. الميجور بربارة جورج برنادشو. الخوف والرعشة كيركغارد. درس المعلم هنري جيمس. كتب هيردوت عن التاريخ، مول فلاندرز دانييل ديفو. حكايات روديارد كيبلينغ. نصوص جان كوكتو، الأيام الاخيرة لعمانؤيل كانط توماس دي كوينسي. الليالي العربية الجديدة روبرت لويس ستيفنسون. ملحمة كلكامش. رحلات جليفر جوناثان سويفت. الأشعار الكاملة ويليم بليك. قصص إدغار آلن بو. قصص فولتير. تنوع التجربة الدينية ويليام جيمس. كتاب الموتى الفرعوني.

مع تدهور بصره، اعتمد بورخيس بشكل متزايد على مساعدة والدته. عندما لم يعد قادرا على القراءة والكتابة، لم يتعلم أبدا القراءة بطريقة برايل:" للاسف كان هذا سيغير حياتي كلها، لكني كبرت على هذا، شاخت يداي ".أصبحت والدته، التي كان دائما قريببة منه سكرتيرته الشخصية.

في كتابه " هوامش السيرة " يكتب بورخيس:" لو طُلِب منّي أن أذكر أهم حدث في حياتي لقلت إنه وجود مكتبة أبي. "

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

لا يمكن للمرء أن يعايش لحظة فنية بهية كتلك التي وفقت إليها في مسرح الطليعة، حيث استقبلتنا تحفة مسرحية تذكرنا بأن الفن الحقيقي، ذلك الفن الذي يخترق الأزمان ويعبر الحدود، ما زال ينبت في أرض مصر الخصبة، كالنخلة الشامخة التي تصمد أمام رياح التغيير العاتية. "كارمن"، الرواية الفرنسية التي أبدعها بروسبير ميريميه، عادت إلينا بلغة عربية فصيحة، وكأنها ولدت من جديد في حلة شرقية تليق بعراقة المسرح المصري. 

ما أشد حاجتنا اليوم إلى هذا الالتزام باللغة العربية الفصيحة، لغة الضاد التي كادت تذوي في زحام العاميات والألفاظ الدخيلة! فقد جاءت حوارات المسرحية مشكلة تشكيلا دقيقا، منطلقة من أفواه الممثلين بسلاسة تذهل السامع، وكأنها نقلت من بطون الكتب القديمة إلى خشبة المسرح حية نابضة. فلم نسمع لحنا في القول، ولا زلة في الإعراب، بل سمعنا لغة تغني كما تغني "كارمن" نفسها، لغة تصف العاطفة الجياشة والصراع الإنساني ببلاغة تذكرنا بأسلوب كبار الأدباء. 

أما الديكور والملابس، فحدث ولا حرج! لقد صاغ الفنان أحمد شربي عالما يجسد روح "كارمن" بكل ما فيها من نار وثورة، دون أن يهمل التفاصيل الصغيرة التي تكسب العمل مصداقيته. فكل قطعة في الديكور، وكل ثوب يرتديه الممثلون، كان شاهدا على إخلاص القائمين للعمل. والإضاءة، ذلك العنصر الذي يغفله الكثيرون، جاءت هنا لتكمل اللوحة، فكانت تارة خافتة كهمس العشاق، وتارة حادة كصرخة الغضب. 

ولا يمكن إغفال الاستعراضات التي أبدعتها سالي أحمد، فكانت حركات الممثلين على أنغام الموسيقى كالكلمات المنظومة في قصيدة، تعبر عن المشاعر دون حاجة إلى كلام. أما الممثلون، وعلى رأسهم ريم أحمد وميدو عبدالقادر، فقد أحيوا شخصيات الرواية ببراعة، فلم يكونوا ممثلين فحسب، بل أصبحوا أبطال القصة أنفسهم. 

 الفن الذي لا يموت 

بينما يتساءل الكثيرون اليوم عن مصير الفن الأصيل، تأتي "كارمن" لتجيب بأن مصر، رغم كل شيء، ما زالت تضم بين جنباتها فنانين يجددون التراث دون أن يخونوه، ويخوضون غمار التجديد دون أن يقطعوا جذور الأصالة. فتحية لناصر عبدالمنعم ومن معه، أولئك الذين يذكروننا بأن المسرح، كما قالوا، هو بيت الإبداع الأول، وأن مصر، ما دام فيها مثل هؤلاء، ستظل بخير. 

هكذا، أيها القارئ، يصبح المسرح مرآة تعيد إلينا ثقتنا بأن الجمال والحقيقة ما زالا يضيئان دروبنا، إذا نحن أردنا لهما ذلك. 

المسرح مرآة للهوية الثقافية 

لم تكن "كارمن" مجرد نقل حرفي لنص غربي إلى خشبة المسرح العربي، بل كانت حوارا جريئا مع الذات والآخر. فبينما يحتفظ العمل بالروح الثائرة للبطلة التي أبدعها ميريميه، فإنه يعيد تشكيلها في إطار شرقي يذكرنا بتلك الشخصيات النسوية المتمردة في تراثنا، كـ"ليلى العامرية" أو "عنترة بن شداد"، لكن بعين معاصرة. فـ"كارمن" هنا ليست مجرد امرأة غجرية، بل أصبحت رمزا للحرية التي تتحدى الأعراف دون أن تفقد أنوثتها أو كرامتها. 

أما المخرج ناصر عبدالمنعم، فقد قدم لنا عملا يعبر به المسرح المصري من المدرسة الواقعية التقليدية إلى فضاء أكثر تجريدا، دون أن يقع في فخ الغموض أو التكلف. لاحظنا كيف مزج بين العناصر السينمائية (كالإضاءة المظلمة في مشاهد الغيرة) والمسرحية الصرفة (كالحوار المباشر مع الجمهور في لحظات التهكم). هذا التنقل المتقن بين الأساليب يجسد رؤية فنية ناضجة، تدرك أن المسرح ليس وسيلة تسلية فحسب، بل أداة تفكيك للذات والمجتمع. 

لا يسع الناقد إلا أن يقف إجلالا أمام أداء ريم أحمد التي حولت "كارمن" من أيقونة غربية إلى امرأة شرقية بكل تناقضاتها: قوية لكنها هشة، متحررة لكنها أسيرة عواطفها. أما ميدو عبدالقادر (دون خوسيه)، فقد قدم شخصية معقدة، تجسد صراع الرجل الشرقي بين حبه المدمر وغروره الذكوري. والأكثر إدهاشا هو أداء ليديا سليمان في دور "ميكايلا"، التي حولت شخصية ثانوية إلى نموذج للإنسانية الهادئة، وكأنها تذكرنا بأن المسرح لا يبنى على الأصوات العالية وحدها. 

الموسيقى والاستعراض 

لعل أبرز ما يلفت النظر في هذا العمل هو تحويل الموسيقى الغربية الأصيلة لـ"كارمن" إلى لوحات استعراضية تحمل روح الفن الشعبي المصري. فلم تكن الرقصات تقليدية، بل مزجت بين الفلامنكو والرقص الشرقي، وكأنها تعلن أن الفنون لا تعرف حدودا. هذا التفاعل بين الثقافات لم يضع هوية العمل، بل عززها، كما فعل يوسف شاهين في فيلم "وداعا بونابارت" حين حول التاريخ الفرنسي إلى حكاية مصرية. 

 سؤال يظل معلقا: هل يمكن للمسرح أن يكون وطن المهمشين؟ 

رغم كل هذا الإبهار، فإن الناقد لا يمكن أن يتجاهل سؤالا جوهريا: إلى أي مدى استطاعت هذه المسرحية أن تمثل صوت المهمشين الحقيقيين في مجتمعنا؟ فـ"كارمن" في النهاية شخصية نخبوية، حتى في ثورتها. ألم يكن الأجدر بالمسرح، ذلك الصندوق الأسود للجماهير، أن يمنح صوتا للفئات الأكثر هشاشة؟ هذا لا يقلل من قيمة العمل، بل يفتح الباب أمام حوار أعمق عن دور الفن في زمن اللاانتماء. 

"كارمن" ليست عرضا مسرحيا عابرا، بل بيانا فنيا يعلن أن المسرح المصري، رغم كل التحديات، ما زال قادرا على أن ينتج أعمالا تحافظ على الجذور وتغرف من المعاصرة. فإذا كان الفن هو آخر ما يموت في الأمم، فإن هذا العمل يثبت أن مصر، برواد مسرحها، ستظل حاضنة للإبداع الذي يضاء كشمعة في عتمة الزمن العابث. 

فهل ندرك نحن، كمتلقين، قيمة هذه الشموع قبل أن تنطفئ؟!

***

عبد السلام فاروق

حان الوقت لإعادة تعريف المفاهيم

الضعف، والهشاشة النفسية التي تجتاحنا بين حين وآخر، ليست عيبًا ولا نقصًا، بل جزء من طبيعتنا البشرية. نحن مزيج من النور والظل، من الخير والشر، ولا تُلغى إحدى الصفات الأخرى، بل تتجاور وتتمازج في تدرجات الحياة.

مواقف الخير فينا لا تمحو إمكانية تمظهر الشر، كما أن الحزن لا ينفي وجود الفرح، والضحك لا يُبطل قيمة البكاء. كلها وجوهٌ لماهيتنا... لجوهرنا الإنساني الذي يحمل التناقضات في أحشائه.

الاتصال الصادق مع الذات يتيح لنا أن نظهر كما نحن:

قوة هنا، وضعف هناك... سطحية أحيانًا، وعمق في أحيانٍ أخرى.

التجربة والوعي، وتنمية الإدراك، والذكاء العاطفي، والحكمة… كلها عناصر تساعدنا على ترتيب هذه المتضادات، لا على إنكارها.

الاعتراف بمواطن الخلل والضعف في الأشخاص القابعين داخلنا هو بوابة للتشافي والنمو. أما المثالية... فهي حالة مرضية، والكمال الإنساني لا يعني إلا أن تسعى لتوازنٍ حقيقي:

أن تحزن وتفرح، تبكي وتضحك، تخطئ وتعتذر، دون أن ترفض جانبًا منك وتتقمص جانبًا واحدًا فقط. حين تفعل ذلك، تتحول تدريجيًا إلى شخص جاف، لا يتعاطف، ولا يربّت على قلبٍ يداهمه الحزن، لأنك أقنعت نفسك أن الحزن ضعف… وأن الضعف فشل.

لكن الحقيقة أن من يأتيك باكيًا أو شاكياً، لا يحتاج خطاب قوة، بل يحتاج حضنًا من الثقة. جاءك لأنه رأى فيك فضاءً آمنًا لا يُصدر الأحكام. فلا تردّه بحجة تقويته. لا تنكر عليه ألمه، ولا تشكك في مشاعره، ولا تَعِظه أن الضعف لا يليق به.

بل قُل له: "أنا أراك… أشعر بك… وأحس بألمك… هذا الألم سيأخذ دورته ويرحل، وأنا هنا معك إلى أن يفعل." هكذا يكون الدعم الحقيقي… لا بالإنكار، بل بالاحتواء.

***

د. حميدة القحطاني

 

أعماقي العارية تستغيث.. فمن يشعر بها؟

قبل أيام، انتابني شعور عميق بالندم، تصاعدت حدته مع تطور سواد الليل، ومع سيطرة الأحلام على المدينة، طاردتني  كوابيس التساؤلات بضراوة غير مسبوقة!

لماذا ارتكبت هذا الفعل البشع؟!

منذ متى وأنا بهذا الغباء؟!

لمَ التهور والاندفاع دون التفكير في العواقب؟!

لماذا وكيف ولمَ ومتى وأين؟!!

واستمر هذا الحال حتى تسلل شعاع الفجر عبر الفضاء الواسع،  وأنا في غرفتي الضيقة أغرق في الظلام وحدي.

كم كانت ليلة غليظة وباردة!

حاولت النوم ولو لساعة واحدة، لتجديد الخلايا واستئناف الروتين الممل في الصباح، ولا جدوى من المحاولات.. فقدت الاتزان، وهي بداية النهاية!

انتكست كلما هربت بخيالي من الحسرة واللوم الفتاك، وفي كل مرة أصطدم بهمسات توبخني: "لا مجال للراحة يا حمقاء، إصلاح الموقف أولًا ومن ثم النوم كما يحلو لكِ"

موقف؟

أي موقف يستحق هذه الجلبة؟!

سأنقله لكم بأمانة وكما هو، وإن كنت أخشى عليكم من الصدمة!

كانت مكالمة هاتفية عادية مع صديقة غالية، استغرقت دقيقة وربما أقل للاستفسار عن أمر ما، لاحظت من نبرة صوتها الانشغال وبصوت يُناديها: "يا فلانة، تعالي"، فأنهيت النقاش بالاتفاق معها على موعد آخر يُناسبها، واختتمنا المكالمة بسلامات لطيفة، ووضعتني أنا في ورطة خطيرة لم تكن في الحسبان!

كيف أجرؤ على الاتصال بها في وقت غير ملائم كهذا؟!

وإن كنت لا أعلم بانشغالها!

هل طالها الضيق من إزعاجي؟!

الذي يُصوره لي ذهني!

وماذا قال عني الشخص مجهول الهوية بجوارها؟

لا تُحسن اختيار الوقت؟ كانت ساعة المغربية.

ثرثارة؟ لم يرن هاتفي على رقمها منذ زمن.

عاطلة بلا مسؤوليات تقوم بها؟ أوراقي في تكدس دائم فوق المكتب ولا تحتمل مكالمة تقطعني عن حبل أفكاري.

كل هذا وأكثر دار في خاطري، وهو كما ترون لا يمت للواقع بأي صلة!

فما العمل الآن؟!

قررت أن أرسل لها اعتذار صريح على اقتحامي ليومها بغير تعمد، وفجأة تراجعت عنه ولجأت إلى الصبر والحكمة في فك الاشتباك بيني وبين نفسي.

تمهلت، وفكرت أنني لو انجرفت وراء اضطرابي وأرسلت لها أسفي فلن أصل إلى نتائج مُرضية.

هل ستدرك أسبابه؟

ستقول لي في ذهول: ولمَ الأسف؟!

وسأجيب عليها بلا تردد: لا أعرف!

وهكذا نقع في قبضة صراع أشد عنفًا.. الحيرة أمام اللا شيء!

كان السؤال الأهم حينها.. ماذا أصابني؟!

لقد عشت صعوبة بالغة في تخطي ثورات الغضب الناجمة عن دقيقة واحدة!

كنت في حاجة إلى تماسك عاجل، فلا حلول وأنا أُهشم رأسي في الحائط كالمجانين!

التقطت أنفاسي الساخنة، تأملت الوضع، وتبين لي أخيرًا أني وقعت ضحية "الحساسية المفرطة"!

ذلك الخوف القابع في وجداني أنا يقتلني بوحشية من آن لآخر! خوفي من إيذاء أي مخلوق بلا قصد، أو أن أكون ثقيلة الحضور ولو بذكر اسمي، لدرجة تقليص دائرة معارفي على من يتفهمون حالتي تمامًا، فلا تهزمني مشاعري غير المنضبطة أمامهم.

أصبحت في مراقبة مستمرة لخط سير حروفي وتصرفاتي، وبمجرد أن أنتهي من مجالسة إنسان، أعود بسرعة البرق إلى أرشيف ذاكرتي، لأقتنص من شريط الحوار كل العبارات واللمسات التي قد تُلحق الضرر به بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فلا تصدر مني مجددًا ولا تُراودني الفكرة من الأساس.

يبدو أنها نتيجة رائعة تضمن سلامة العلاقات من الموت، ولكنها لن تضمن لي الحياة!

إنها ليست فوضى عارمة تمر بي في مواسم محددة، وإنما هو مأزق كبير معي في كل الأزمان، أنا أواجه أزمة حقيقية سأختصرها لكم في جملة بسيطة لعلها تكفي.. لقد خُلقت في عالم لا يُرحب بأمثالي!

أتساءل.. هل ما أنا عليه الآن منزلة عالية من الإنسانية كما يُقال، أم هي مرحلة نفسية أكثر تعقيدًا؟!

ما أعرفه وبحق أن من تكتب إليكم ليست الأولى ولا الأخيرة التي تحكمها عاطفتها، فما أكثرنا!

نحن من تُدمرنا نظرة سخرية لأحدهم ولو بدافع المزاح.

من نموت قهرًا برؤية طفل يبكي، مسنة تُطرد، مسكين يُهان، كلها مشاهد مرعبة تقتلع سلامنا من الجذور.

من تجملنا بالعطاء والاحتواء، ولم نجد من يتكفل بتهدئة ذعرنا من قوة الملاحظة وهشاشة الأنفاس.

حتى السعادة تؤلمنا!

نفرح من الأعماق، نحزن من الأعماق، نبدع من الأعماق ونعشق من الأعماق.. لم نعرف الاعتدال يومًا، تضخم الشعور يُلازمنا كما الظل الوفي، ولا انسلاخ منه حتى قيام الساعة!

أنا اليوم أشعر برجفة عروقي أكثر من قبل، والسبب لا يعود لتذبذب مستوى ضغط الدم مثلًا أو لأنيميا حادة، أنا بخير، أتعايش بطاقتي المتبقية ولا اختلاف كبير في ظاهري، فتاة عشرينية ذات ملامح شبابية وهيئة مقبولة وفكر يُكافح الغفلة، لكنها الروح.

ثمة تغيير طرأ عليها دون سابق إنذار، أشبه بجرح ملتهب لم يلتئم بعد وأقل احتكاك به يُفجر الأوجاع، ورغم ذلك لا أستطيع حتى الصراخ!

روحي عارية بحق، فماذا عن الضلوع المتجمدة؟!

ومن أين يُمكننا شراء ما يستر دواخلنا المتجردة من رداء الطمأنينة؟!

روحي الآن متلهفة لشعاع ضوء ساخن يمنحها القليل من الاستقرار، إنها نكتة سخيفة أن أملك عشرات "البلوفرات" في خزانتي وأفتقر لما يرتديه كياني لحمايته من عواصف التأثر!

رقة الشعور هذه تُنقذنا من تحجر النبض، ولكنها تُعسر علينا مهمة الوجود!

فأنا أظهر بكامل أناقتي وأملي ونجاحي، وأشتاط غيظًا على عقاب طفلة كسرت كوبًا وهي تلهو ولو كانت على المريخ!

أتكاتف معها دون أن أعرفها.. هل تعي مأساتي؟!

تفترسني الرغبة في البكاء، وأخشى أن أستسلم لدموعي كي لا تذمني ألسنة الناس بالضعيفة! ولكني أمارس حقي المشروع.. "إنسانيتي"..

فهل أصبح البكاء من الجرائم التي يُعاقب عليها القانون؟!

تحضرني الآن المرات التي انقلب مزاجي فيها رأسًا على عقب حينما صادفت قطة تطلب شربة ماء دون الرحمة بها، شعرت بمدى عجزها وهوان روحها، وربما روحي أنا أيضًا، طعنت قلبي وقتها بشراسة تأديبًا له على إحساسه ليكف عن تعذيبي بهذا الشكل.

المؤسف أن قلبي كان ينزف بغزارة، بينما كانت المدينة تضج بالحيوية والأضواء وسيارات الأجرة والملاكي وكأن شيئًا لم يكن!

فمن يهتم بالأرواح المرهقة؟!

لست وحدي؟ أحسست بمواساة من هذا القبيل.

أعرف، ولكن شعوري ربما تجاوز المعقول، وعزائي أنه في مكان ما على الكرة الأرضية من يتنسم الهواء بـ "إحساس مفرط" كما يُسمونه، لكنه صادق.

الحمد لله أنني لم أتسرع في إرسال اعتذاري لها، كانت رسالة عبثية بالفعل، سأعيد صياغتها في هذه الأثناء بكلمات امتنان وشكر وإلى أصحابها البواسل.. إلينا نحن، أصحاب القضية.

صحيح أننا نخرج للعالم بفكر ينصهر في أبسط التفاصيل، وفي أشياء لا معنى لها أصلًا، والحق أننا لسنا ضحايا كما كنت أعتقد، المنطق يؤكد ذلك، وإنما نحن أبطال من طراز فريد، نقاوم العذاب بعذاب أشد!

أتفهم أن بعض الدروب لا تليق بنا وبحالتنا الخاصة المزمنة، إن المعضلة ليست وليدة اللحظة، لقد بدأت معنا منذ زمن بعيد وتراكمت في سراديب الروح حتى تحررت كلماتي بهذا الشجن، فإن أزمتنا تكمن في الخروج عن إطار اللوحة، بعيدًا حد السماء، ولا عجب في ذلك، "لم نعرف الاعتدال"، ألا تتذكر تلك السطور؟ فكان الابتعاد عين الرؤية، لتتضح لنا الصورة بكل المحاسن والمساوئ بينما غيرنا يمتزج بزاوية عقيمة.. وهو الفرق الجوهري بيننا وبينهم.

خلاصة القول.. يكفي أننا نُحارب من أجل الحفاظ على فطرتنا السليمة في عالم ملوث والإنسان فيه لا يهم.. مريض، جائع، مفتقد الأمان.. لا يهم!

نحن في عالم السطحية والماديات والتفاهات، عالم جامد لا يشعر.. فكيف نلوم أنفسنا على نُبل المضمون؟!

لن أغضب من نفسي أبدًا، وأنتم كذلك، سأحترم فيها المصداقية والشفافية ولو كان المقابل حياتي، إحساسي بالأكوان هو الغاية الأسمى مهما كلفني الأمر.

وهُنا شكر واجب لمن دفع الثمن كما دفعته، الشكر لنا على الثبات في حربنا مع الواقع، وإن كانت غير متكافئة الأطراف.

شكرًا على الإنسانية.. أقولها لي ولكل محارب شجاع يقرأ بصمت أنيق وإحساس عميق.. وبعض الألم!

***

بقلم: نورا حنفي

كل الانهار تجري الى البحر. الزمن قد يُقدّم نسخةً اخرى لسيلانه وتدفقه لكنه لا يكرّرُ ذاتَه، وقد يُقدّم نسخة تشبه سابقة لها، غير انها لا تنسخها بالحتم. لهذا اطلق الفيلسوف اليوناني القديم هيراقليطس مقولته الخالدة" انت لا تنزل النهر مرتين"، وذلك ضمن اشارة ذكية تشبّهُ الزمن بالنهر الجاري إلى الامام، ومشبها المكان بالمجرى الحاضن له. لقد دشّن هيراقليطس بمقولته هذه خطوة عظيمة اخرى تضاف إلى سابقات لها منطلقة باتجاه المنطق الجدلي في الفلسفة. وقد اشار بقوة إلى أن النهر/ الزمن دائم التدفق إلى الامام، وانه لا نهر هناك في الارض يمكنه ان يجري إلى الوراء. 

ان نقول ان الزمن لا يكرّر ذاته يؤكد أن اللحظة التي تمضي مخلفةً ايانا وراءها، انما مضت بكلّ ما ضمّته وفاضت به من فرح وحزن، احداثٍ وذكريات، وان اللحظة المُقبلة ما هي إلا لحظةٌ اخرى مختلفة تمام الاختلاف، وهو ما يذكر بما اشار اليه اكثر من فيلسوف ومفاده ان الزمن دائم السيولة وان اللحظة التي نعيشها الآن ، اللحظة الحاضرة، انما تضحي بسرعة البرق لحظة ماضية.

انطلاقًا من هذا المفهوم، فإننا كلما دنونا من الحياة وقصصها الغامضة الحافلة بالأسرار، سنكتشف اننا في الامس غيرنا اليوم، واننا في الغد غيرنا في الامس. اننا دائمو التغير، والتبدل نكبر ونندفع إلى الامام، نحو نهايتنا البحرية المحتّمة، مضيفين إلى اعمارنا اعمارًا اخرى، وإلى اشكالنا اشكالًا اخرى. لهذا سيكون من العبث ان نعود إلى الوراء، وان نعيش اللحظة بكل ما احتوته من تغيّر وجِدّة.

فيما يلي اشير إلى ثلاثة مواقف، او قصص، كنت مشاهدًا لها، حينًا من قريب، وآخر من بعيد، تؤكد هذه الحقيقة المتغلغلة الى اعمق اعماق الوجود.. والحياة.

القصة الاولى: كان لي صديق دائم الحنين إلى ابن له تركه مضطرًا ايام كان ابنه صغيرًا مع امه الاجنبية. عندما كبر هذا الابن. قرّر هذا الصديق ان يتوجّه لزيارة ابنه في وطنه الاجنبي، وجاءني يسألني عن رأيي في تلك الزيارة، فقلت له اعتقد انه من واجبك ان تزور ابنك، من زوجتك الاجنبية، لكن اطلب منك ان تخفض سقف توقعاتك فانت لن تلتقي ابنك العائش في مخيالك. اندهش محدثي راسمًا على وجهه أكثر من علامة تعجب، فبادرت إلى القول: صحيح انك ستلتقي ابنك. لكنك ستلتقي في الآن ذاته شابًا اجنبيًا، غير ذلك الطفل الذي تركته وراءك قبل سنوات مديدة. بعد انتهاء رحلة ذلك الصديق وعودته إلينا هنا في بلادنا، ارسل نحوي نظرةً حافلة بألف معنى ومعنى وقال: ان ما قلته لي لم يبعد عن الواقع كثيرًا.

القصة الثانية: صديق آخر. تعرّفت إليه قبل اكثر من عشرين عامًا. وكنت طوال فترة تعرّفي عليه. اتردّد عليه بشكل شبه يومي. لأسباب تتعلق بالعمل، تغيرات الحياة وتبدلاتها التي لا بد منها كما ورد آنفًا، فرّقت بيننا الايام فانقطعتُ عن التردّد عليه مدة عشرين عامًا اخرى. هذا الصديق كان كلّما التقينا في هذا الشارع او تلك الساحة من اماكن مديتنا المشتركة الناصر. يستوقفني، ويرسل نحوي ألف نظرة ونظرة كلٌ منها يحمل معنى وحنينًا إلى ما كان يدور بيننا، هو وانا، من أحاديث الادب والفن والقرى المهجرة. علمًا اننا من المهجرين الفلسطينيين العائشين في غربة الوطن، وقد كنت استقبل نظراته بنظرات أخرى مماثلة، فلا اجد بعد البحث عمّا اقوله له، إلا ان اعده بانني سأزوره في القريب لنستأنف ما انبتّت اواصره بيننا من احاديث وذكريات. وعندما كنت اقترب من مكان لقاءاتنا السابقة.. كنت اسارع للنكوص على عقبي والعودة من حيث اتيت. والآن وانا اكتب هذه الكلمات، افكّر في سبب نكوصي ذاك فلا اجد سوى سبب واحد. لقد جرت مياه الزمن متدفقة غزيرة في مجراها النهري، فتسببت في تغير كل شيء. لقد كبر ابن صديقي الصغير وابتدأ في اخذ مكان والده. اما والده فقد اصبح شيخًا مسنًا. وإبتدات اضواؤه في الخبو رويدًا رويدًا. قبل اقل من شهرين رحل صديقي هذا عن عالمنا الموار بالحركة تاركًا وراءه اثرًا وصورةً اخرى للتغير. وقد ولّى الراحل تاركًا صفة الباقي لسواه من اهله، اصدقائه واحبائه.

القصة الثالثة: قرأتها منذ سنوات في كتاب "ناظم حكمت، المرأة السجن الحياة"، للكاتب الروائي السوري حنا مينة. وهو كتاب مثير جدًا، اقترح على من يبحث عن كتاب مختلف أن يقرأه. يدور محور هذه القصة في أن السلطات التركية سفّرت او نفت بالاحرى سجينها السياسي الشاعر الشيوعي ناظم حكمت إلى موسكو، موئل حُلمه ووطن افكاره، في محاولة للتخلّص منه ومما وجهه الرأي العام اليها من انتقادات ومطالبات بإطلاق سراحه. زوجة حكمت التي قضت سنوات سجنه في إسطنبول، زائرةّ دائمةّ له، تحمل إليه الكتاب تلو الكتاب، وترسل إليه الرسالة تلو الرسالة، وهو ما كان يفعله هو أيضا عندما يردُّ عليها مراسلًا اياها. منورة زوجة حكمت لحقت به إلى منفاه في موسكو للالتقاء به. إلا انها قرّرت عدم اللقاء به بعد كل تلك الاشواق وذلك الحنين، وعادت مستقلةً الطائرة إلى بلادها. فلماذا فعلت هذا؟ حنا مينة يُقدّم تحليلًا طريفًا وعميقًا في الآن: يقول إنها- منور- خشيت ان تلتقي رجلًا آخر، غيرَ شاعرِها الذي قضى في السجن التركي فترة طويلة من الزمن.

ماذا اريد أن اقول من هذا كله؟ لا جواب لدي جامعًا مانعًا، باتًا وقاطعا. كل ما يمكنني ان اقوله انه علينا ان نعيش اللحظةَ وان نتعمّق فيها معانقين إياها بصدق وعمق- التعبير لحنا مينة-، وان نغنم من الحاضر امن اليقين، كما قال فيلسوفُ الحكمة المتفائلة وناظمُ رباعياتها المذهلة الشاعر الفارسي عمر الخيّام.

***

ناجي ظاهر

تقوم فكرة (السياحة الخضراء) على الأخذ ببعض الاتجاهات الرامية إلى الاهتمام بالبيئة الطبيعية وما تزخر به من حياة نباتية وحيوانية مختلفة وعناصر متميزة وتنوع بيولوجي (حيوي) أولا، والمحافظة عليها وتنميتها على نحو مستدام وفقا لضوابط وأسس الاستدامة المعروفة ثانيا، مع الحيلولة دون تلوثها على قدر المستطاع ثالثا، وتخفيف حدة الآثار السلبية التي قد تتركها بعض الممارسات السياحية التقليدية عليها رابعا، وتجنب مثالبها وعيوبها خامسا. ويمكن تحقيق كل ذلك من خلال تكييف أنشطة وبرامج الشركات السياحية المعنية لتغدو خضراء وصديقة للبيئة ومستوعبة لاهميتها من جانب (البرامج السياحية الخضراء)، ومجدية اقتصاديا من جانب آخر، وبما يتماشى مع هذه الاتجاهات التي باتت ضرورية في الوقت الراهن، مع الارتقاء بمستوى الوعي البيئي لدى السواح وغيرهم، فتكون بذلك : أولا – قائمة  على جملة من الحلول المبتكرة والنماذج الحديثة ل (مبادرات مستدامة) بهذه الاتجاه، مثل إيجاد طاقة بديلة جديدة مستمدة من الرياح أو الشمس أو مياه الينابيع المعدنية الساخنة ومياه البحر، وذلك لتغطية احتياجات (المشاريع السياحية الصديقة للبيئة). وتقديم الأطعمة المعتمدة على المنتوجات الزراعية المزروعة بالوسائل التقليدية وغيرها. ثانيا – محققة لمبدأ الاستغلال الأمثل لمكونات هذه البيئة والاستثمار الرشيد لل (أرث الطبيعي والحضاري) القائم وتوسيعه وتكثيفه وتنويعه، باعتبارها مغريات (مشوقات – مجذبات) سياحية مهمة تدخل وبفاعلية في المعادلة التي تربط السياحة بالبيئة. ثاثا – جاعلة السياح على علم بأهمية البيئة الطبيعية عموما، وبالنسبة للنشاط السياحي ومدى ارتباطه بالبيئة على وجه الخصوص باعتبارها أرضية شاسعة وخصبة، تستوعب العديد والعديد من الأنشطة والفعاليات السياحية في ظل تنامي وعي هؤلاء بأهمية هذا الجانب. رابعا – ضامنة لبيئة طبيعية نظيفة ومريحة وخالية من التلوث بأنواعه. مع طرح السبل والكفيلة بحفظها وادارتها على نحو رشيد ومستدام. خامسا – مستوعبة لمعالجات تخص مواضيع جوهرية في الوقت الراهن، مثل إدارة النفايات، صلبة كانت أو سائلة والأخذ بالاتجاهات القائمة على المعالجة وإعادة التدوير، والتقليل من انبعاثات غاز الكربون التي تساهم النشاطات السياحية في توليد (5 %) منه عالميا، والمحافظة على التنوع البيولوجي (الحيوي) الذي بات مهددا خلال الأعوام ال (20) الأخيرة بسبب هذه النشاطات بدليل تزائد السياحة الموجهة إلى المناطق الغنية بهذا التنوع بنسبة (100 %). وإدارة المياه التي تزداد ندرة يوما بعد يوم لعدة أسباب. وصارت تشكل مشكلة فعلية فائمة بعينها، مع إيجاد السبل المثلى للتخلص من المياه غير المرغوبة، وذلك باستخدامها في الحدائق بطرق علمية آمنة، أو لتصنيع السماد العضوي المستخدم في استنبات وانتاج المحاصيل الزراعية الصحية التي باتت مرغوبة الآن لأسباب كثيرة. وبإمكاننا أن نسوق هنا العديد من الأمثلة على هذه الحلول والنماذج التي تزداد وتنتشر يوما بعد يوم. ومنها مشروع السيدة (مليكة حكار) وزوجها الذي أطلق قبل أعوام في منطقة (الشعيبات) ب (دكالة) في (تازوران) جنوب مدينة (الدار البيضاء) المغربية، وهو عبارة عن استراحة قروية روعيت فيها خصائص المجتمع المحلي القائم فيها، وباعتماد مجموعة شروط وتفاصيل تخص جوانب الخدمات والإقامة والاطعام والشراب والترفيه والترويح وغيرها كثيرة. وكلها منسجمة ومتماشية مع المبادئ والأسس البيئية، مثل إيجاد طاقة بديلة عالية المستوى لتوفير قدر وافر من الإضاءة، واستخدام المياه الباردة المستخرجة من الآبار القريبة. كذلك مشروع (حديقة سلام نهر الأردن) بالقرب من (باقورة) أو (نهاريم) جنوب بحيرة (طبريا) على الحدود الأردنية الإسرائيلية الممتد بطول (200) كلم، والذي خططت له منظمة حماية البيئة (أصدقاء الأرض – الشرق الأوسط)، ويدعمه الاتحاد الأوروبي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والمتضمن مجموعة فنادق صديقة للبيئة والدروب الخاصة بالتنزه وركوب العجلات الهوائية (البايسكلات) وغيرها من الخدمات. أما جهود حكومة كوريا الجنوبية الأخيرة المنصبة في هذا الجانب فقد شملت اطلاق (10) مشاريع صديقة للبيئة في المنطقة المنزوعة السلاح بينها وبين كوريا الشمالية وبمحاذاتها وبطول (5 – 10) كلم تقريبا وبمساحة (4) كلم 2 والمعروفة بغناها وتنوعها البيولوجي إثر تركها لسنوات عديدة، حتى باتت مرتعا لمختلف الحيوانات البرية ومنبتا لمختلف الأشجار والنباتات البرية، وهي من أكثر المناطق تسليحا في العالم، وكانت محظورة حتى عام 2005 باعتبارها منطقة عسكرية خطرة، وذلك بعد تهيئة بنيتها التحتية، وبما يؤسس ل(سياحة خضراء) ذات ملامح مستدامة، وتوفير الخدمات الضرورية للسواح، مع محاولة ادراجها ضمن قائمة منظمة (الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) (اليونسكو) الخاصة بالمناطق الطبيعية المحمية. كذلك مملكة تايلاند التي تبنى (المجلس الوطني للنهضة الاقتصادية والاجتماعية) فيها فكرة تعزيز (السياحة المستدامة) ومنذ عام 1997 وتحت شعار (مجتمع أخضر وسعيد) وتخطط وتعمل بجدية ومنذ عام 2010 ومن خلال أجهزتها الرسمية والخاصة (القطاع العام والخاص) لترسيخ وتطوير مبادئ (السياحة الخضراء) للسنوات ال (50) التالية، فأطلقت هيئة السياحة التايلاندية جملة (مبادرات مبتكرة) في سبيل ذلك، تتعلق بالفنادق والمنتجعات السياحية (الورقة الخضراء) وأنشطة الغوص (الزعانف الخضراء) وغيرها كثيرة. ومن مشاريعها الرائدة في هذا المضمار تلك التي بوشر بتنفيذها في (باي) بمنطقة (ماي هونغ سو) وفي (كوساموي) بأقليم (نان) الشمالي (ينظر أيضا : رومباباك لويكفير اواتانا – السياحة الخضراء الناجحة في المناطق المجتمعية الثقافية النائية، مجلة العلوم الاجتماعية. وهي حول تجربة السياحة الخضراء في قرية وانغ ياي من مقاطعة وانغ سام سو التايلاندية وتقطنها جماعة فو تاي العرقية). بالإضافة إلى تجربة جمهورية جنوب أفريقيا الرائدة في هذا المجال وتحت مظلة مؤسسة (فير تريدينغ ان تورزم جنوب أفريقيا) الهادفة إلى ترسيخ وتطوير مبادئ (سياحة خضراء مستدامة) بعمل على منوالها في جنوب أفريقيا والعالم. ومشروع مصر الأخير الرامي إلى تحويل عدد من الفنادق التقليدية في شرم الشيخ إلى (فنادق صديقة للبيئة) باكسابها المواصفات والسمات البيئية الضرورية المرتبطة بالاستدامة، وبدعم من (مؤسسة التمويل الألمانية) (جرين ستار هوتيل انيتيتف) المعروفة اختصارا ب (جي آي زت)، بحيث توفر (سياحة خضراء) بأداء بيئي متميز وفريد، ومعول ومعتمد عليه وموثوق فيه على النحو المشروح أعلاه. ومن التجارب الرائدة في مجال (السياحة الخضراء) التي طرحت كمصطلح منذ الثمانينيات من القرن الماضي تلك التي تبنتها السلطات السياحية في ماليزيا في منطقة الساحل الشرقي الاقتصادية المتكونة من ثلاث ولايات ومنطقة واحدة (كلنتن، ترينجانو، بهانج، ومنطقة ميرسينغ في جوهور) (للمزيد من الاطلاع ينظر : الدراسة القيمة لمحمد بهويان وشاموري سيوار وخير الأدهم بعنوان – السياحة الخضراء من أجل التنمية الإقليمية المستدامة في المنطقة الاقتصادية للساحل الشرقي من ماليزيا). وهنا لابد من الإشارة إلى التعريف الذي قدمته (منظمة السياحة العالمية) التابعة للأمم المتحدة عن (السياحة الخضراء) بأنها (أنشطة سياحية يمكن الحفاظ عليها أو استدامتها إلى أجل غير مسمى في سياقاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية 2012). وهو تعريف يتداخل مع مفهوم السياحة البيئية والسياحة الطبيعية والسياحة الريفية وفقا ل (سونغ – كوون وآخرون 2003، آثار تطور السياحة الخضراء المحتملة، حوليات أبحاث السياحة، 30 : 323 – 341).

***

بنيامين يوخنا دانيال

....................

* عن (مقالات في السياحة) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2012  *

 

شَـكـوتُ مـن الـمـكـانِ الـى زمـانـي

ومن زمَـنـي شـكـوتُ الـى مـكـانـي

*

وفي الـحـالـيـن كـنـتُ أســأتُ ظـنـاً

فـمـا جـاوزتُ في الـشـكـوى لـساني

*

أرانـي لـو طـلـبـتُ سـوى نـصـيـبـي

مــن الأيــامِ لــم أُضِــفِ الــثــوانـي

*

ومَـنْ ســألَ  الـورى تـغـيـيـرَ حـال ٍ

كـمَـنْ ســألَ الــمـزيـدَ مـن الـهَـوان ِ

***

أربعة ابيات لا أكثر حملت هما كبيرا وتمثل شكوى وجودية عميقة، تنضح بالتأمل والحيرة والتسليم في آنٍ معًا. وهي على قصرها تنطوي على ثنائية فنية ثرية تجمع بين الزمان والمكان، وبين الداخل والخارج، وبين الشكوى والرضا.

البيت الأول:

"شكوت من المكان إلى زماني

ومن زمني شكوت إلى مكاني"

يبدأ الشاعر شكواه بعنصرين ثابتين في الوجود الإنساني: المكان والزمان. وهما في جوهرهما ليسا مذنبَين ولا واعيَين، لكن الإنسان حين يعاني يفتش عن مشجب يعلّق عليه ألمه، حتى لو كان ذلك المشجب هو الإطار الذي يحتوي حياته كلها.

الشكوى من "المكان" إلى "الزمان" تعني أن البيئة أو الواقع المحيط (المكان) أصبح ضيقًا كئيبًا، فيستنجد بالزمن علّه يحمل التغيير.

ثم تتكرر الشكوى بشكل عكسي: من "الزمن" إلى "المكان"، ما يعبّر عن دورة معاناة لا تنتهي، كأن الوجود كله تواطأ على الألم.

وهذا البيت يحمل طابعًا فلسفيًا سوداويًا يعكس حيرة الوجود، وكأن لا مهرب من المعاناة، سواء في البعد الزمني أو المكاني.

البيت الثاني:

"وفي الحالين كدت أسأت ظنّا

فما جاوزت بالشكوى لساني"

يضع الشاعر نفسه في موضع المحاسبة، وكأنه خشي أن يكون قد أخطأ مع الله أو مع القدر حين أطلق شكواه.

لكنه يُخفف من وطأة تلك الإساءة بأنه لم يتجاوز القول باللسان، أي لم يكن في قلبه اعتراض، بل هي مجرد أنين إنساني لفظي.

هذا البيت يمثل لحظة تأمل أخلاقي، فيها حسّ ديني رقيق، وحرص على ألا تكون الشكوى تمردًا، بل تنفيسًا.

البيت الثالث:

"أراني لو طلبت سوى نصيبي

من الأيام ولم أضف الثواني"

هنا تتجلى قناعة ضمنية يعبّر عنها الشاعر بتواضع بالغ. فهو لا يطلب إلا نصيبه المقدّر من الحياة، من "الأيام"، بل يؤكد زهده حتى في "الثواني" الزائدة.

هذا التصوير البسيط فيه تجريد جميل، حيث تتحول الثواني إلى رمز للجشع أو الطمع. وفيه أيضًا نقد مبطن لمن يسأل فوق ما قُسِم له، بما يشير إلى حكمة الرضا والتسليم.

البيت الرابع:

"ومن سأل الورى تغيّر حالٍ

كمن سأل المزيد من الهوان"

هذا البيت يحمل حكمة قاسية تستند إلى تجربة: أن طلب العون من الناس أو التماس التغيير من البشر غالبًا ما يؤدي إلى ذل أو خيبة.

فالشاعر يشبّه من يسأل الناس بتحصيل "الهوان" نفسه. هنا نبرة تشاؤمية ممزوجة بنزعة زهدية، وربما تصوفية، فيها انكفاء إلى النفس والاعتماد على الله لا على الخلق.

السمات الأسلوبية والفنية:

التوازي التركيبي في الشطرين الأول والثاني من البيت الأول، أعطى إيقاعًا دائريًا يعكس فكرة الدوران في الألم.

استخدام المقابلات (مكان/زمان، قول/فعل، أيام/ثواني، الورى/الهوان) منح النص عمقًا فكريًا وديناميكية فنية.

اللغة تتسم بالرقة والإيجاز، لكنها مشبعة بالدلالة. كل بيت كأنه حكمة مستقلة.

غلبة التجربة التأملية والوجدانية على الشكل الخطابي، ما يجعل القصيدة أقرب إلى المونولوج الداخلي منه إلى الخطاب للغير.

وأخيرا فإن شاعرنا المبدع رسم  هنا لوحة شاعرٍ حكيم، واجه صراعه الوجودي بالتأمل لا بالسخط، وبالشكوى المهذبة لا بالتمرّد. تتجلى فيها فلسفة الرضا والزهد، ممزوجة بألم إنساني شفيف، مما يمنحها قيمة وجدانية وفكرية كبيرة.

***

قراءة: عبد العزيز الناصري

هي ورقة، لكننا لو أبحرنا في رمزيتها، وتعمّقنا في إيحاءاتها، وتفكرنا في ظلالها لوجدناها تحمل الكثير المثير الخطير.

هي ورقة نقلّبها كل يوم، وبعضنا يمزقها، والآخر يستخدمها مسودة للكتابة عليها، وتسجيل مهامه اليومية.

هي ورقة نقطعها يوميا، لنقطع معها ذكرياتنا وأحلامنا، وآلامنا وآمالنا، وإنجازاتنا، وإخفاقاتنا، ومشاريعنا وبرامجنا، وحركاتنا وسكناتنا.

هي ورقة صمّاء، لكنها لو نطقتْ لحدثتْنا بما استودعناه، وإن تكلمت فستشهد بما اقترفنا فيها.

هي ورقة تكوّن مع أخواتها اللائي يزدن عن ثلاث مئة وستين، بقيتْ هي الأخيرة، لكنها ستُقطع كما قُطعت سابقاتها، وتُرمى، أو تُقلب بلا اكتراث، أو بعنف، وتعلم هي كبقية الأوراق أنها أُكلت يوم أكل الثور الأبيض، لكنها لم تحرك ساكنا، فأصابها ما أصاب أخواتها، ثم نأتي بحزمة أخرى؛ لنمارس هواية القطع والتمزيق والقلب فيها.

مضى عام 1446، وبدأ عام 1447

جعله الله عام خير وبركة ورزق وفلاح وتوفيق

***

طارق يسن الطاهر

 

يُقال إن سبعة من كل عشرة أشخاص يعيشون حياة لا تُشبههم.

لكن، متى تبدأ الحياة التي تُشبهك حقًا؟

تبدأ حين تتوافق أقوالك مع قناعاتك، وأفعالك مع ما تؤمن به.

حين ينسجم ظاهرك مع باطنك، وتصبح الحقيقة التي تعيشها امتدادًا لصوتك الداخلي، لا صدى لما حولك.

تعيش حياة تشبهك عندما لا تُغفل ذائقتك الخاصة، ولا تذوب في الذوق العام.

حين تذوق الأشياء بروحك، لا بما يُملى عليك، وتختار ما يُبهرك أنت، لا ما يُبهر الآخرين.

تسكن بيتًا صممته بذوقك، كل زاوية فيه تحمل أثر روحك، كل لون ولمسة وتفصيل يُشبهك،

لا لأنه يثير إعجاب الناس، بل لأنه يُلامس عمقك ويُعبّر عنك.

تعمل ما يُحرّك شغفك، وتختار ما يعبّر عن غايتك،

فتتجلّى رؤيتك من خلال أدقّ تفاصيله، وتُرى بصمتك الخاصة رغم كل التشابهات من حولك.

تخون روحك حين تمرّ في رحلتك بالدنيا مرور الكرام،

مرورًا باهتًا لا تتجلّى فيه حقيقتك، ولا تظهر فيه مواهبك، ولا تُرسم فيه ملامحك بما تحبّ ويلامس قلبك.

تخونها حين تهمّش نداءها، وتغفل إشراقاتها، وتمنعها من أن تكون كما خُلقت لتكون.

وتخونها أكثر…

حين تختفي عفويتك، ويموت الطفل بداخلك، وتبتعد كثيرًا عن فطرتك النقيّة.

حين تغترب عن نفسك وأنت تحاول أن تُرضي العالم، وتخسر نفسك الأصلية على طريق الزيف والتكيّف المفرِط.

الحياة التي تُشبهك…

هي الحياة التي لا تُخضِع فيها روحك لإرضاء الآخرين،

ولا تُفرِّط في ملامحك لتنال قبولهم.

هي الحياة التي تكون فيها أنت… انعكاسك الحقيقي، وتجلياتك الصادقة.

***

د. حميدة القحطاني

 

تنبيه أول.. (هذا وجهي، لا أعرفه، لا يُرى بوضوح إلاّ من بعيد)

قبل أن تدخل غمار هذه الشذرات/المتاهة، وتجتاز عتبتها، عليك أن تنظر إلى وجْهِكَ في المرآة أوَّلاً، فلستُ مسؤولا إنْ أنْتَ خرجتَ من هذه المتاهة بوجهٍ غير الذي به دخَلْتَ، أو بوجهٍ لا تعرفه، فوجهي، أنا الذي عشتُ هذه المتاهة، لا يُرى بوضوحٍ إلاّ من بعيد، لهذا فأنا لا أعرفه.

تنبيه ثاني.. (لا تقل إنّك تعرفُ وجهك الذي تحمله)

هل تؤمن بقولهم: «يخلق من الشبه أربعين»؟ أنا شخصيا لا أومن بهذا، إذ لا يوجد أساس علمي يُثبتُ صحّته، لكنّ بوجوهي المتعدّدة التي ستراني بها، والّتي تلاحقني وأُلاحقها، والتي لا تشبهني ولا أُشْبِهُها، بدأتُ لا أعرفني كأنّما وجهي قناع.

كأنّي قارئُ وجوه، تتبدّل لكلّ غاية مفيدة، حتّى أنّي نسيت وجهي الأصل، نسيت هويته حين اعتاد على التّخفّي وراء الوجوه الأخرى، ولم يَعْتَدْ على الظّهور المكشوف، فهل بعد تبديل الوجوه فرصة للعودة إلى الوجه الأصل؟ أمارس عادات اكتسبتها من فرط الوجوه التي أحملها وتحملني؛ كالبكاء بلا دموع، والضّحك بلا تهاليل؛ أمارسُ طقوسَ التّصنُّع والاختباء. الوجه كما يقول الكاتب والروائي المصري سعيد مكاوي «دائما ملتبس، غالبا ما يعكس خلاف مكنونه، في قسوته مُحيّر، وفي براءته مزيّف، وذمامته جمال مستتر، الوجه الإنساني بمفهومه المتّفق عليه هو الذي لم نعرفه بعد» .

تنبيه ثالث.. (الوجوه متاهات مُضَلِّلَة)

من كثرة ما قلَّبْتُ الوُجوه وتقلَّبتُ فيها؛ أعتقد، غير جازم، أني فهمتها، أو على الأقل فهمت وجوهي التي أحمل، أو هكذا يُخيّل إليّ حين أنظر إلى معرض الوجوه وهي تمر أمامي مرَّ الهواجس والشُّكوك التي تعتريني، وتوقظ في داخلي أسئلة تتعدّد بتعدُّد الوجوه الضّاحكة والباكية، المكشّرة والمُنْفرجة، الحالمة واليائسة، المُتعقّبة للعورات والسّاكنة همومها.

تنبيه أخير..       (وجوهٌ كالمتاهة لا تُشْبهُني)

هذه الوجوه التي سأعرضها، تخصُّني، رغم أنّها لا تشبهني، لا أتنَكّر لها، هي ليست وجوهاً لأُناس أعرفهم أو أُنكر معرفتهم، هي وجوهي مهما تعدّدت، تحملني وأحملها، تواجِهُني وأُواجِهُها، لكنّنا نعرف بعضنا عزَّ المعرفة. ليستْ مَسْخاً، ولكنّها حقيقية رغم تعدّدها؛ فأنا هنا، لا أقصد مَسْخَ «كافكا» حين تحدّث عن انمساخ «سامسا» بطل قصته، ولكنه هنا، المسخ الذي يعجُّ به الواقع المعيش، من خداع وكذب وظلم وإقصاء. قد يكون لك، أيّها الدّاخل إلى هذه المتاهة، من هذه الوجوه نصيب؛ لذا فالرّجاء، الدّخول إليها بحذر شديد.

الوجوهُ المتاهة..

1ـ وجهٌ تائه..

استيقظت هذا الصباح ولم أجد وجهي، تِهْتُ أبحث عنهُ.. وجدته هو الآخر تائها يبحث عنّي. حملته بين يدي، نظرت إليه مليا وقلت له: ماذا أصابك، أين كنت؟ لمْ يُحر جواباً.

أعدته إلى وجهي وأنا أشك في أنه لي.

2ـ وجهٌ لقناع..

قلتُ: ما هذا التجهّم الذي يغطي محياك يا وجهي؟

قال وجهي غاضبا: سئمت هذه الملامح التي أحملها رغما عني مُذْ عرفتك؟

قلت وأنا أمد له قناعا: خذ، غيّرْ ملامحك واسترِحْ..

3ـ وجهٌ للبيع..

حملتُ وجهي بين يديّ، تهتُ به في الشوارع والأسواق أريدُ بَيْعه... لم يلتفت إليَّ أحد ولم يساومني أحد... نظرت إلى وجهي وقد سالت من عينيه دمْعة..

4ـ من دون وجه

كعادتي كل صباح، فتحت الدولاب لأختار وجهاً لهذا اليوم ... احترت، كلّ الوجوه جربتها، تعبت منها. قرّرت أن أخرج هذا اليوم من دون وجه.

5ـ وجه يضحك..

نظرتُ مليّاً إلى وجهي، نظر إليّ مليّاً وقال: من أنت؟

قلتُ: أنتَ، أنا أنتَ. نظر إليَّ مليّاً، ثم انفجر ضاحكاً.

6ـ انتهت صلاحيته..

اعترض طريقي وجهي الذي ألفتُ أن أحمله بين يديَّ كلّ صباح، وصاح في وجهي: ألم تلاحظ أن صلاحيتك انتهت...؟

نظرت إليه مستغرباً وقلت: هذا يعني أن صلاحيتنا انتهت نحن الاثنين. فغر وجهي فاه حين أدرك الحقيقة، غير أنه ابتسم ابتسامةً عرفت مغزاها حين وضعت يدي على قناع قديم مهترئ، كنت عند الحاجة، أستعمله.

7ـ وجهٌ بالتّقسيط..

عرضتُ وجهي للبيْع مرّة، وبالتّقسيط..

لا أحد ساومني..

عدتُ به كسلعة بارَتْ.

8ـ وجهٌ وقناع..

قال القناع: سئمتُ من هذه الصورة التي أنا عليها، ما تَغيَّرَتْ منذ خُلِقْتُ.. قال الوجه: اصنع ما أصنع، البسْ لكل مقام وجهاً، أقصد قناعاً. رد القناع مندهشا: إذاً أنافق!

9ـ وجه لا يشبهني..

كعادتي كل صباح أقف أمام المرآة أُصفِّفُ شعري فارتسمت على وجهي علامة استفهام كبيرة غطَّت مساحة المرآة.

لمن هذا الوجه؟

حملقْتُ جيدا في الوجه الذي أمامي، تأكدتُ أنّه ليس وجهي، هذا الذي يُطِلُّ عليَّ من الجهة الأخرى من المرآة..

لفتت نظري أدوات التجميل التي تستعملها زوجتي.. لِمَ لا أستعمل بعض المساحيق لأعيد إلى وجهي وجهه الذي ألِفَهُ النّاس..

10ـ عملية تجميل..

قصدتُ عيادة طبيب التجميل وكُلّي عزمٌ على تغيير وجهي الذي أحمله رغماً عنّي..

هذا الأنف الأفطس، وهذه الزبيبة التي تحْتلُّ نصف الوجه، وهذان الخدان غير المتناسقين.. هكذا كنتُ أظُنّ إذا نظرتُ في المرآة. أما إذا نظر إليَّ أحدٌ أشيحُ بوجهي ظنّاً مني أنه يتفحص وجهاً غريباً من كوكب غريب.

جلستُ أمام الطبيب وكلّي أملٌ في أن يصلح هذه التشوهات.

ـ وجهك لا يحتاج إلى تعديل أو تجميل...

ـ انظر جيدا يا دكتور إلى هذا الوجه.. سأدفع لك الثمن الذي تتطلبه العملية.

ـ هذا الوجه يناسبك جيداً، قال الطبيب.

خرجتُ منْطرداً أجوب ممرّات غابة قريبة، عند بركة ماءٍ، خلّفتها أمطارٌ مفاجئة، نظرتُ فيها، فرأيتُ وجهاً، استحسنتُ تفاصيله وقسماته، وهمست حتى لا يسمعني وجهي وأنا أردّد قول الجاحظ، «قبح الله هذا الوجه وقُبّح حامله».

11ـ نهايةُ المتاهة..

لم أجد وجها يلائمُني، ولن تجدوا وجوهاً تلائمكم، فمتى يحين الوقت ونكفّ عن تسوّل وجوهٍ غير التي نحملها!؟ ...

***

عبد الهادي عبد المطّلب

المغرب/الدار البيضاء في: 14 يونيو/حزيران 2025

هل تفهم معنى أن تغترب دون أن تخطو خطوة واحدة من مكانك؟!. أعتقد بأن الغربة لم تعد تقتصر على شنطة سفر وتذكرة طيران فحسب، فإن الواقع تخطى الحدود الجغرافية بمراحل. هي زمن غير زمنك، وجوه تشبه ملامحك وأنت لا تشبه باطنها، وأفكار تجبرك على التأقلم معها وأنت أبعد ما يكون عن منطقها.. إن الغربة ليست في تغيير خريطة الوطن وتعديل ساعتك البيولوجية، فقد تشعر بها وأنت على أرضك!

إليكم كيف تسير الأمور معي.. ومع الكثير منكم.

تشغلني أحيانًا كلمة ما على غلاف مجلة ممزق، "سوبر ميكي" على سبيل الطفولة، يراها البعض عادية جدًا، لا تعبر عن أي مضمون ولا تستحق إثارة الجدل، ولكنها ألهمتنى بقوة، وضعتني على أول الطريق لاكتشاف يُبدد جهلي به وبجانب آخر في تكويني الذي يتشكل بالأيام رويدًا رويدًا، إنها لحظات فارقة في تاريخك تلك التي تخلع فيها ثوب المجهول عن الأشياء بجهودك الذاتية، والمؤسف أن إنجازي لم يكتمل بعلمي أن الصعوبة تكمن في المواجهة لا الفهم، فأغدو بكلماتي مرتبكة الحواس!

أنطقها أم أحفظها في نفسي بمأمن عن ردود البشر المزعجة؟

هل يستقبلها إدراكهم أصلًا؟!

وإذا.. كيف سيكون أثرها عليهم؟

عادية كما هي، أم فيها النجاة لنا؟

وتمر ساعات وأنا أشكو من اضطراب وجداني حاد.. بلا علاج!

يؤرقني التردد بين أن أشرح ما يشتعل بخاطري، أو أختار ذلك الكتمان البارد.

بحسب خبرتي المتواضعة في الدنيا، أيقنت بأن السكوت ليس علامة على تمام الرضا كما يزعم البعض، فهو بنسبة كبيرة احتماء من الهجوم اللاذع وتحطيم الشغف، والبشر الآن أصبحت في ذروة توحشها!

فكرت اليوم كثيرًا قبل أن أعلنها، وقراري الأخير أنني سأتنازل عن سكوتي الليلة وأعترف بأنني تعبت من الاغتراب عن العقول، لقد سئمت حقًا من الاختباء وراء جدران الصمت القسري!

ألا يود أحدكم مشاركة ضوضائي ولو للحظات ومن باب المواساة؟!

حتى النظرة تُعاني من أوجاع الغربة!

فمن ينتبه أن لمعة العين تبوح بما تعجز الشفاه عن سرده؟

يعتبرني البعض خجولة إن حجبت نظراتي عنهم أثناء الحوار، بينما أنا غارقة بكل حرف وأنصهر فيما بين السطور انصهارًا يحرقني، ورغم ذلك، كنت أحس بهمساتهم ينعتوني بالانطوائية أو الفاشلة في التواصل البصري أو حتى بالفتاة ذات النوايا الثعبانية الخبيثة! لدرجة أني طالني الشك حيال سلوكي مع المجتمع، حيال "نورا" التي أعرفها، فغرقت بين جدران غرفتي بلا إرادة مني!

ليتهم يعلمون أن روحي تتجلى فيها، فإن إنسانيتي تعشق الحرية، ودواخلي مكشوفة بالكامل لمن يتأملها بصدق، أحزاني وقلقي وهمومي وحبي وكل أسراري تفضحها النظرات الطويلة، بشرط أن تكون جديرة بالثقة، ولذلك ألوذ بالفرار ممن يقتنصها ويعرف كيف تُنسج اللغة مع شخصي الغريب.

وأما اليوم، أصبح من يتفاعل معي بهذه الطريقة بمثابة إبرة في كومة قش! للحد الذي دفعني إلى تسجيلهم بالأسماء في دفتر ملاحظاتي كي أعود إليهم من نوبة غربة لأخرى.. نكتة سخيفة أليس كذلك؟!

الأولوية اليوم تميل لأذن تسمع قشور الأبجدية، وصوت مُقيد عن تجسيد نبضنا، وأما عن رسائل العيون، فلا تعليق.. كم هو مؤلم أن تُهمل حقيقتنا!

وذلك الإحساس.. أول ما يدق ناقوس الخطر ويُنذر باغتراب جديد!

يقولون: "أشعر بك، أعرفك تمامًا، قلبي انقسم عليك"

على أي أساس تلك الادعاءات؟

هل أبكتهم الأقدار مثلما فعلت بضلوعنا؟

قلبك ينقسم! تبدو في ظاهرها مجاملة طيبة، ولكنها على الأرجح شفقة غير مقبولة.

فكم من مرة أطلقوا على دموع ألهبت جفوني "دموع الفرحة" وهي صرخات ضاق صبرها وكل ما فعلته هو أنني أطلقت سراحها فحسب!

وأخرى يحسبونها كارثة حكمت بالإعدام على ابتسامتي، وسرعان ما يفتعلون التضامن معي لإزاحة الشجن عن كاهلي، فأصعقهم بأنها دموع "تقطيع بصل" ليس أكثر!

مهزلة بكل المقاييس!

إنهم لا يُفرقون بين قطرات دافئة، فأين الدليل على معرفتهم بما يضج في رأسي؟!

المُضحك أنني وبعد كل شيء أُعاقب على غيابي بينهم!

هيامي باللون الأسود = كئيبة

حديثي مع أفكاري = غريبة الأطوار

تلقائية أفعالي = ساذجة لم تنضج بأواخر العشرينات

حرصي على التفاصيل = "موسوسة" وقلبها في خفة الريشة

فماذا أصنع وأنا أمقت التبريرات؟

الإجابة باتت واضحة الآن.. غربة.

وفي جلسات اللوم أتراجع عن غطرستي وأقول: ربما أنا كل المشكلة!

لعل البشرية بريئة مما يعوق تدفق خطواتي ويحرمني من الانغماس وسط الزحام، وعليه فيلزمني إعادة ترتيب لأوراقي في أقرب وقت ممكن، وهي ورطة بالطبع.. فكيف نتفق وحبل الوصال بيننا مقطوع منذ الأزل؟!

أصدقائي، أنا هُنا، معكم، بشحمي ولحمي، أُرحب بالجميع ويمكنكم كسب مودتي بعقد فل وياسمين، الأزمة كلها أنني بنصف انتماء!

ولكن، ثمة أمل في نهاية المطاف، وهو الخبر السعيد في قصتي وقصة أمثالي.. انفراجة كنت أنتظرها وأنتم كذلك.

ربما بدون من لمست أناملهم أعماقي وعرفوني حق المعرفة كنت سأفقد صوابي في وضع لا يُمثلني على الإطلاق، لقد أنقذتني تلك الأرواح من ظلامي ووحدتي، وهي نعمة عظيمة أن تنتشلني في اللحظة المناسبة قبل انهياري الأبدي.

أرواح شفافة، تسمع التنهيدة بدلًا من الثرثرة، تحتويني وتُلملم بقايا اتزاني بمنتهى اللطف والرحمة، ليس تفضلًا منها، وإنما انعكاس لما تمر به أيضًا، فأنا وهي في مركب الوجود نُصارع دوامات العدم، لقد اجتمعنا من أجل هدف بعينه.. الخلاص.

نحن لم نطلب المعجزات، أحلامنا تتلخص في سلام واستقرار وتناغم، وحين تقهرنا العزلة نجد من يحتضن ضعفنا ويتشرب معنا الرفض والملل وكل مخاوفنا التافهة وكلماتنا العبثية، بل ونطمئن برفقته أننا بخير، ولو أصابنا الجنون في مقتل!

أنا لا أتحايل على الحقائق، أعي جيدًا أن الوجع لن يختلف اختلافًا جذريًا بأي مؤثرات خارجية، إنه العذاب يا سادة، لقد تبين لي أن انسحابه مُهلك كحضوره، ولكنه يهون إن تقاسمه معنا من احترق به، على الأقل سنهدأ إن افترسنا السؤال عن المعنى.. مجرد السؤال.

فأي فرحة تُعادل أن ينجذب إليك من واجه مصيرك!

من يحتضن غليانك وحرارة كلماتك وصمتك وضعفك وغضبك.. باختصار.. هو ثوراتك التي لم تجرؤ على إعلانها قط.

ستندهش من فرط التوافق بينكما!

أخطر منعطفاتك عاش مثلها ونجا منها بأعجوبة تمامًا كما نجوت، حتى يتهيأ لك أنك تقف أمام نسخة استثنائية منك، تجربته خاصة به، صحيح، ولكن أطرافها تتشابك معك، وهو ما افتقدته معهم!

لقد أرشدك الله لمن ينقذك من شرودك، وبدورك تمد له يدك، فتتعاقب الأيام والفصول بأقل الخسائر، ليتضح لك أنك في النهاية.. لست وحدك.

دعوني أُكررها لنلتقط أنفاسنا المتمردة.. بمذاق النصر.

في مكان ما، يرتجف جسد آخر، يبحث عن نظيره في عالم متناقض، وبمجرد أن يعثر عليه يُشاركه الهذيان ويتراقص معه على الأشواك ويُقيم له سهرة الأنين.

هكذا تستمر الغربة بلا اغتراب، وهكذا نقاوم بشرف.

هل فهمت الآن؟

***

بقلم: نورا حنفي

في غمرة واقع يعتصر القلوب، وتثقل فيه المحن كاهل الأرواح، وبينما ترخي سحائب الحرب الثّقال بظلالها الكئيبة على أرجاء أوطاننا، يأتي يوم الأب العالميّ ليبرز لنا قيمة آبائنا الأماجد، فهم أعمدة الصّمود الرّاسخة الّتي لا تهن، وقناديل الأمل الوضّاءة الّتي تبدّد ظلمات اليأس، فالأب هو السّند المتين الّذي لا يميل، والحضن الدّافئ الّذي يضمّنا في غمرات الشّدّة، واليد الحانية الّتي تمتدّ لترفعنا كلّما تعثّرت خطانا.

نبعث بأصدق الأمنيات وأرقّ الدّعوات بالخير والسّلامة للجميع، وللآباء الأجلّاء أيّنما حلّوا وارتحلوا، متمنّين لهم دوام القوّة وعظيم الصّبر، ليظلّوا ينبوعا فيّاضا بالإلهام، يروي ظمأ عائلاتهم، وليبقوا نجوما ساطعة في سماء أُسَرِهم، مضيئين بيوتهم بنور المحبّة وعمق الحكمة.

وبينما نفيض تقديرا للآباء الّذين ما زالوا بيننا، لا تملك أرواحنا إلّا أن تستذكر أرواحا عزيزة فارقتنا، لكنّها أبقت حضورها الخالد في حنايا أرواحنا، فوالدي الّذي رحل عن دنيانا قبل ما يزيد عن ثلاثة أعوام، ما زال يسكن أعماق قلبي، نبضا لا يهدأ وذكرى لا تضمحلّ، روحه ما برحت تحلّق حولي، وابتسامته الطيّبة محفورة في ذاكرتي كوشمٍ لا يمحى.

وليشهد العالم أجمع، أنّني قد حططتُ رحالي في كنف أعظم أب؛ رجل فاق الوصف جودا وعطاء، وعلّم الحياة كيف تكون معاني السّند والعشق.

فسلام على روحه الطّاهرة، وخلّد الدّهر ذكراه في صحائف الذّاكرة، وليبقَ أنشودة تتجدّد، أردّدها ما بقي بي من نبض.

رحم الله كلّ أب غاب عن دنيانا، وجعل ذكراه العطرة باقية، تذكّرنا دوما بقوّة الأبوّة الّتي لا يطويها الفراق، فقد خلّفوا وراءهم إرثا من العطاء، يتجاوز حدود الزّمان، محفورا في صحائف الأيّام بمدادٍ من نور.

على أريج هذه الذّكريات الّتي تتجلّى في أرواحنا كنجوم لا يأفل نورها، نحلم بأبصار القلب إلى فجر وشيك، يحمل بين طيّاته وعدا بسلام ينسج خيوطه من وشوشة الأماني الصّادقة، يُسكَبُ على الأرض كالمطر؛ ليروي ظمأ القلوب، فيُزهِر الأمن في كلّ درب، وتتعانق الأرواح تحت ظلال الوئام، وتشرق شمس الطّمأنينة على هذا الكون؛ لننعم جميعا بفيض من السّكينة الأبديّة.

*** 

صباح بشير

........................

– هذه الصّورة هي ما خطّته يدي إهداء لأبي في مؤلّفي "شذرات نقديّة".1601 sabah

كانت ذاكرتي تستعيد بضع صور ولوحات من البدايات ومن البدايات شكل البنفسج والأزرق انطباعاتي عن فنان حركي شفاف في أسلوب معالجته للمساحة وعاشق متصوف تربطه علاقة حميمة مع الموضوع لم يغادر البحر (موضوع بداياته) إلا حين شكل غيمته من بخاره وامتطاها راحلاً نحو تلك الجبال ليهطل على تلك الوديان والسفوح وليكشفها ويكتشفها وليصير الشاهد على أسراراها في كافة أعماله اللاحقة.

هو الفنان علي مقوص وتلك هي مقالتي التي تأخرت عنه لأسباب لست بصددها الآن .. فأن تصل ولو متأخراً خير من ألا تصل أبداً .. وأخيراً وصلت .. وصلت إلى حيث البداية وعند أبواب مرسمه الفسيح أسرد لكم الحكاية وقبل كل حكاية وجب علينا الوضوء فرحلة سبر أغوار الطبيعة هي صلاة وهي المدخل للتسليم بعظمة الخالق في خلقه وهي المدخل أيضاً لفهم الذات وفلسفة الحياة.1599 saqour

وُلد علي مقوَّص في مدينة اللاذقية عام 1955 وتخرّج من قسم التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام 1978. وأصبح أستاذاً جامعياً مرموقاً في مجال الفنون البصرية، ودرّس في الجزائر والإمارات العربية المتحدة وعُمان وسوريا.

أما بدايته الفعلية تلك التي مهدت لأسلوبيته الحالية فكانت أمام تلك الشجرة العظيمة وحولها إذ صورها مراراً وتكراراً في لوحاته بتقنية الخط والأحبار لتصير رمزاً للحياة ومزارا لتلك الحشود المتماهية مع طقوسها ضمن حفلات رقص ودبكات

 أمام تلك الشجرة وقف مقوص متأملا تفاصيلها حد الإشباع الذي مده بتلك الروح المثابرة لتتحول فوق صفحات لوحته لوسيط ما بينه وبين المتلقي يترجم نفحات الروح ويعكس نفساً طويلاً في المعالجة التي ستسطر لاحقاً  لفلسفة العمل الأكثر خصوصية والذي سيقدمه الفنان  عبر تكنيكه الخاص المنبثق عن رؤية غرافيكية الإيحاء ضبابية المشهد للطبيعة الساحلية بكل ما تتسم به من جروف وسفوح وصخور وأعشاب ... وحضور متماهي للشكل الإنساني عبر كافة طقوسه ليصير جزءاً لا يتجزأ من تلك الطبيعة المشغولة بتقنيات تراكمية تبدأ بالرسم والتكثيف عبر الأحبار والأسود وتنتهي بالتوشيح الشفاف للون وما بين وبين تشهد معركته مع اللوحة حالات الهدم والبناء والحف والحك الذي يعطي لعمله ذلك الإيحاء الغرافيكي بالجروف الصخرية وغيرها1600 saqour

ويبقى أن أشير لبورصة اللوحة والفنان علي مقوص في قضايا تسويقها خبير الخطورة تكمن هنا حين تأسرنا رغبة السوق حينها ستتحول تلك الرغبة لقيد يربط الفنان بالعمل المباع ليجتر ذاته مراراً وتكراراً في الإعادة التي لا يمكنها أن تجاري الأصل .. وهذا الفخ يقع فيه الكثير من الفنانين بالفعل

وأقول أخيراً أمام هذا الكم من اللوحات المعادة استطيع أن أبرر للفنان عمله هذا طالما كان لا يزال يأمل بالكشف عن أسرار جديدة سواء في قلب الطبيعة أو في ذاته المتماهية معها

***

حسن صقور

 

أولًا: تعريفات وتمهيد نظري

1. الأدب النسوي: هو ذلك الأدب الذي تكتبه المرأة، ويعبر عن قضاياها وتصوراتها للعالم، ويرتبط عادةً بتجربتها الذاتية كامرأة في مجتمع قد يكون ذكوريًا أو مقيدًا.

2. الخطاب الوجداني: هو الخطاب الذي يعكس العاطفة والانفعال الذاتي، ويعتمد على التعبير عن الأحاسيس الداخلية مثل الحب، الألم، الحنين، الغربة، الانكسار، الحلم، الأمل...

 ثانيًا: جماليات الخطاب الوجداني في الأدب النسوي

1. الذاتية الصادقة: الكاتبة النسوية كثيرًا ما تستند إلى تجاربها الخاصة، وتُعبّر عنها بشفافية وصدق، مما يمنح نصها عمقًا وجدانيًا وجمالية إنسانية. لا تتصنع الألم أو الفرح، بل تنقله من الداخل إلى النص.

2. لغة عاطفية شفافة: الخطاب الوجداني النسوي يتميز بلغة ناعمة، رقيقة، أحيانًا شاعرية، لكنها قوية ومشحونة بالمعاني. يتم توظيف المجاز، والاستعارة، والصورة الفنية لنقل الإحساس.

3. التوتر بين الداخل والخارج: الكاتبة تعبّر عن صراعها الداخلي في مواجهة واقع اجتماعي أو ثقافي ضاغط، ما يُنتج خطابًا وجدانيًا يعكس التمزق، والحنين إلى الحرية، أو إلى ذاتها الحقيقية.

4. جماليات الألم والتحول: في الأدب النسوي، كثيرًا ما يتحوّل الألم إلى عنصر جمالي، من خلال تصويره بلغة فنية، وتحوّله إلى قوة دافعة نحو التغيير أو التمرد.

5. صوت الأنوثة الخاص: الخطاب الوجداني النسوي لا يقلّد الذكوري، بل يُبرز خصوصية الأنثى في التعبير عن الحب، الفقد، العلاقة بالجسد، الأمومة، الخيبة، مما يمنح النص فرادة أسلوبية.

6. كسر السرديات التقليدية: الكاتبة النسوية قد تتخذ أسلوبًا غير تقليدي في السرد، من حيث التقطيع، وتعدد الأصوات، والاعتماد على البوح الداخلي، مما يخلق جماليات سردية تعكس الوجدان المُشوَّش أو الثائر.

ثالثًا: نماذج تطبيقية (أمثلة)

يمكن دراسة هذه الجماليات من خلال نصوص لروائيات وشاعرات مثل:

غادة السمان: حيث الخطاب العاطفي ينبثق من تجربة ذاتية ممزوجة بالتمرد والحرية.

مي زيادة: التي عبّرت عن وجدان المرأة المثقفة والباحثة عن الحب والمعنى.

هدى بركات أو أحلام مستغانمي: حيث يتجسد الحب والخذلان والحنين في لغة شعرية.

رابعًا: الإطار النقدي

يمكن تحليل الخطاب الوجداني النسوي من خلال:

نظرية التلقي: كيف يستقبل القارئ هذا الخطاب ويتفاعل معه وجدانيًا؟

التحليل النفسي: كيف تعكس الكاتبة صراعاتها اللاواعية؟

النقد النسوي: كيف يوظف الوجدان لكسر السلطة الذكورية؟

خامسًا: خاتمة

الخطاب الوجداني في الأدب النسوي ليس مجرد بوح ذاتي، بل هو ممارسة فنية وثقافية تعيد تشكيل رؤية المرأة لذاتها والعالم. تكمن جماليته في الصدق والتوتر والعاطفة الشفافة، وفي قدرته على التحول من الألم إلى مقاومة، ومن التجربة الخاصة إلى رسالة إنسانية.

***

ربا رباعي - الاردن

 

تشمل هذه السياحة كبار السن الذين ينضمون إلى مجاميع سياحية خاصة تضم أشخاصا ينتمون إلى هذه الفئة العمرية الذين يحتاجون إلى عناية خاصة واهتمام زائد وتعامل دقيق بحكم وضعهم الصحي المعروف، واحتراما لسنهم وتماشيا مع حاجاتهم ورغباتهم وميولهم. وهي فئة تتوسع يوما بعد يوم على مستوى العالم ولعدة أسباب وبالذات في اليابان وكوريا الجنوبية وإيطاليا، ووفقا للأمم المتحدة من المتوقع أن يزداد عدد الذين يبلغ عمرهم (60) سنة من (810) ملايين شخص في عام 2012 إلى (2) مليار شخص في عام 2050 على مستوى العالم. ويمكن تصنيف (سياحة كبار السن) على أنها من أنواع (سياحة ذوي الاحتياجات الخاصة)، ويمارسا عادة الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين (55 – 60 سنة). وتتولى تنظيم وإدارة معظم هذه المجاميع السياحية شركات سياحية متخصصة، توجد على نحو ملحوظ في البلدان الأوروبية (إسبانيا، اليونان، بلجيكا، البرتغال، إيطاليا) والولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأساس، ولها مواقع الكترونية تروج لمثل هذه السياحة التي تنمو يوما بعد يوم، وتتوسع على نحو ملحوظ في ظل تزايد اهتمام المجتمع والكثير من المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية والصحية والإنسانية بهذه الفئة من المجتمع، وبتنامي حاجات ورغبات كبار السن في الخروج برحلات آمنة ومريحة ومسلية، تساعدهم على تجديد نشاطاتهم البدنية وتريحهم نفسيا، وتتيح لهم الكثير من الفرص للدخول في تجارب وعلاقات وتعاملات اجتماعية جديدة  ومتنوعة مع أشخاص من سنهم وغيرهم من الفئات العمرية المختلفة، ومن مجتمعات مختلفة تبعا للدول التي يقومون بالسفر إليها. وكثيرا ما تختار هذه الشركات تلك المقاصد والوجهات السياحية التي تتمتع بطبيعة جميلة آسرة وغنية بالموارد والعناصر المؤثرة، طبيعية كانت أو ثقافية... الخ. وذلك بهدف تنفيذ برامجها المعلنة سلفا. ومن هذه المقاصد والوجهات السياحية قبرص التي تتمتع بأجواء ربيعية متميزة وخلابة في شهر آذار على وجه الخصوص، وتتيح لهؤلاء فرص ممارسة هذه السياحة بنجاح وأمان، وبالذات في منتجع (بروتاراس) الواقع على الساحل الجنوبي الشرقي لهذه الجزيرة الساحرة من كل النواحي، وبالقرب من قرية (باراليمني) على شاطئ يقع بمحاذاة البحر الأبيض المتوسط وبطول (10) أميال تقريبا. وهو مزدان ب (العلم الأزرق) الممنوح من قبل (مؤسسة التعليم البيئي) لجودة ونظافة مياهه، وحسن إدارة المشاريع والمرافق السياحية والفندقية عليه، ومستوى الخدمات المقدمة فيها. فيتوافد علية السياح من كبار السن، كي ينعموا بالهدوء من أجل ممارسة هوايات محببة إلى نفوسهم بغياب السياح من الفئات العمرية الأخرى تقريبا، والذين يصلون عادة في موسم الصيف، ومن هذه الهوايات السير في الطبيعة ومشاهدة البحر ومراقبة الطيور والتشمس والارتخاء والتأمل في أجواء تلفها السكينة، وأيضا القراءة والكتابة ولعب الورق والمشاركة في لعبة البنغو داخل منشآت الايواء التي يقيمون فيها أو يقومون بزيارة الأصدقاء فيها، والرقص الخفيف ومجالسة الأصدقاء والمعارف من أهل البلد، وتناول الأكلات الصحية والمرطبات وشرب العصائر الطبيعية والخروج برحلات قصيرة في الشوارع شبه الخالية، وفي أحضان الطبيعة الجميلة، ومن ألمانيا وبريطانيا وروسيا على وجه الخصوص وغيرها من البلدان التي لم يغادرها الشتاء بعد وما زالت باردة بالنسبة لهؤلاء. وتكون مشاركة كبار السن هؤلاء في هذه البرامج السياحية إما بمبادرة شخصية ومن ادخاراتهم ورواتبهم التقاعدية، أو كهدايا من أولادهم وأحفادهم بمناسبة ما مثل عيد الميلاد أو عيد الزواج، أو بتعضيد ودعم من مؤسسات وتنظيمات اجتماعية وصحية ودينية وإنسانية وطنية في بلدانهم، تشجع العمل بهذا الاتجاه لما له من آثار إيجابية، تنعكس بوضوح على حياة كبار السن.

***

بنيامين يوخنا دانيال

بروتاراس – قبرص في 25 آذار 2012

في العمل الإبداعي الجميل بين غربتين – الجزء الأول، تنقلنا الكاتبة المبدعة سعاد الراعي إلى فصول من سنوات صعبة تعجّ بالمعاناة والغربة، في رحلة مضنية تتنقل خلالها بين الأماكن والأزمنة، لكنها تبقى مشحونة بالحواس والمشاعر الإنسانية.

ومن رحم هذه الصعاب والجوانب الحياتية القاسية التي واجهتها الكاتبة في سيرة حياتها، يتضح أنها اتبعت نهجًا وجدانيًا غير ملتزم بالترتيب الزمني الصارم، ما منح النص طابعًا عاطفيًا مؤثرًا، وضَمِن للرواية مشاهد ومواقف غنية بالمعلومات عن تجربتها السياسية والعمل العام، والصراع مع السلطة القمعية. وقد كشفت الكاتبة عن شخصية تفاعلية عاطفية، تحفظ الود وتُقدّر الدور الوطني وأهمية النضال الحزبي.

فنّيًا، نجحت الكاتبة في تصوير أحداث الرواية بدقة، خاصة حياة رفاق الحزب في الغربة، بما تحمله من أحلام وآمال وآلام وجوع وغربة. ويمكن القول إن اختيارها للموضوعات والعناوين جاء بناءً على تجاربها الشخصية، أو من منطلق أهمية كل حالة على حدة، لا وفق نظام سردي تقليدي. فهي تقفز من قصة إلى أخرى، ومن موقف حزبي إلى حالة إنسانية وجدانية، ثم إلى وصف مكاني أو شخصية لافتة، متخلّية عن التسلسل الزمني الصارم، ومعتمدة أسلوب التجربة الحرة، متنقلة من الطفولة إلى الجامعة، ثم عائدة إلى مراحل أخرى من حياتها بانفتاح سردي يحرر النص من النمطية.

وهذا بدوره يضع القارئ أمام تجربة شخصية غنية، متشعبة، صارمة أحيانًا، وإنسانية عميقة في كثير من مفاصلها، حيث تُقدَّم الذاكرة كحالة لإنسان جمع بين الاستقلالية الفردية والانخراط في صلب العمل الحزبي الجماعي.

الذائقة الأدبية لدى سعاد ناضجة ومركبة، تعبّر عن ثقافة سياسية وإنسانية، وتمتاز بتجربة غنية تمتزج فيها بلاغة اللغة بمرارة التجربة. ويتبيّن لنا أنها كاتبة مثقفة متعددة المراجع، وذائقتها تدمج بين السياسي والوجداني في قالب تعبيري متناغم، يجعل من حكايتها سيرة تمزج بين التاريخ الشخصي وساحات النضال الحزبي. إنها تجربة امرأة مناضلة لم تكن مجرد شاهدة على زمنها، بل فاعلة فيه، تميزها الصراحة، ولا تتوارى عن مشاعر الحب والانكسار والاعتراف، ما منح الرواية حيوية وأصالة فنية.

أما القيمة التاريخية للرواية فتنطلق من تسجيلها لتطورات الحياة الحزبية في الاغتراب من الداخل، إذ مزجت بين السياسي والحزبي والاجتماعي والثقافي، ما وفر نظرة نقدية معمقة لآليات القرار الحزبي في المنافي.

وقد نجحت الكاتبة في الكشف عن قدراتها في توثيق لحظات الشد والجذب في ظروف الغربة والنضال، وسجّلت بدقة مراحل الصراع مع النظام الديكتاتوري، وقدّمت بأبعاد إنسانية حالات متعدّدة من صعوبات العمل الحزبي، معتمدة على تجربة شخصية مباشرة، ما عكس بوضوح الحالة الحزبية والإنسانية لرفاقها في المهجر خلال تلك الحقبة.

ومن خلال قراءة متأنية للرواية، ندرك أن الأديبة سعاد الراعي لم تكتب سيرتها لمجرد حب الظهور أو طلب الشهرة، بل لتمارس فعل الحضور في ذاكرة العراق، والكشف عن تجربة نضالية حزبية قاسية.

فجاءت حكاياتها مزيجًا من التأمل في مسار الأحداث عبر سرد وجداني، بأسلوب جميل نابض بالمشاعر، تتقاطع فيه الأحداث لتنتج نصًا غنيًا بالمعلومات، يلامس وجدان القارئ ويثير تأملاته. واستطاعت الكاتبة، بذكاء وبشفافية حسها الإنساني، أن تمهّد للحدث القصصي الكامن في بنية الرواية، مما يدفع القارئ إلى متابعة الأحداث بشغف.

***

سالم قبيلات

 

لم يكن «كاظمُ الجادرِ» أستاذًا في اللغةِ فحسب، بل كان تجسيدًا لهيبةِ البيانِ حينَ يَجري على قدمَينِ. في عامِ 1981، حينَ كانت أيّامُ المتوسطةِ تسيرُ ببطءِ الأيامِ التي لم تَكتشفْ بعدُ طعمَ الحياةِ ولا مراراتَها، دخلَ علينا ذلكَ الرجلُ بوجهٍ كأنَّه استيقظَ للتوِّ من دواوينِ العصرِ العبّاسيِّ، يمشي بخُطى موزونةٍ كأنَّ تحتَ قدمَيهِ بيتًا من بحرِ الطويلِ، ويكسو قامتَهُ قميصٌ ناصعٌ لا تعرفُ التجاعيدُ إليهِ سبيلًا.

في تلكَ السنواتِ، كنتُ صبيًّا يلمّ شتاتَ الحروفِ من أطرافِ دفاترَ مهترئةٍ، وأعجزُ عن التفريقِ بينَ "لن" و"لا"، وبينَ الجارِّ والمجرورِ، ولا أفرّقُ بينَ التعجّبِ والسؤالِ، لكنِّي كنتُ أملكُ شيئًا خفيًّا لم أكنْ أعرفُ اسمَهُ حينَها: التوقَ إلى اللغةِ، التوقَ الذي لم يُوقَظْ إلا حينَ نطقَ كاظمُ الجادرُ أولَ كلمةٍ في الصفِّ.

لم يكن يُعلِّمُ، بل يُجري اللغةَ في عروقِنا كما يُجري الرُّقاةُ الماءَ على الجرحِ. كان صوتُهُ إذا قالَ: "إعرِبْ يا ولدي"، يُحوِّلُ الدرسَ من خشبِ الطباشيرِ إلى رخامِ الفصاحةِ. ذاتَ مرّةٍ، استدارَ ليشرحَ بيتًا من المعلّقاتِ، وما زلتُ أذكرُ كيفَ التفتَ إليَّ وقالَ: "إنهم كانوا إذا قالوا بيتًا أحيا ميتًا، وأنتَ؟ ما زلتَ تنظرُ إلى اللغةِ كأنَّها صخرةٌ، بينما هي حديقةٌ سريةٌ."

منذُ تلكَ اللحظةِ، بدأتُ أقرأُ، لا لأفهمَ الكتبَ، بل لأصلَ إليهِ. صرتُ أترصّدُ خطواتِه، أنتبهُ إلى طريقةِ نطقِه، إلى مشيتِه، إلى لمعانِ حذائِه الذي دفعني مرّةً لأن أقولَ لصديقي ونحنُ نضحكُ ببراءةٍ: "هل يُعقَلُ أنّه يَصْبغُ حذاءَهُ بالنيڤيا؟!" كنايةً عن تلكَ اللمعةِ التي لا تبهتُ، وكأنّ حذاءَهُ يلمعُ كما تلمعُ حروفُه.

سنواتٌ مرّتْ، وأخذني الزمنُ في دواليبِه. تخرّجتُ، وعملتُ، وتزوّجتُ، ومضيتُ في الحياةِ كما يمضي سهمٌ في عتمةٍ. لكنّ شيئًا ما في داخلي ظلّ معقودًا في حنجرةِ ذلكَ الأستاذِ. وكلّما قرأتُ بيتًا من الشعرِ، أو كتبتُ مقالةً تزيّنتْ بلغةٍ عتيقةٍ، تذكّرتُهُ، وتذكّرتُ ذلكَ الصفَّ الصغيرَ، وتلكَ اليدَ التي رفعتني من جهلِ اللغةِ إلى محرابِها.

بحثتُ عنهُ طويلًا. سألتُ في المدارسِ، ونقّبتُ في المجلاتِ القديمةِ، وقلّبتُ أرشيفَ نقابةِ المعلّمينَ، دونَ جدوى. كأنّه تلاشى كما تتلاشى الكلمةُ من طرفِ اللسانِ حينَ تودُّ أن تتذكّرَها، فلا تأتي.

وفي عصرِ أحدِ الأيامِ، كان مجلسي الثقافيُّ يعجُّ بالشعراءِ والقرّاءِ وأربابِ الكلمةِ. تحدّثَ أحدُهم عن رجلٍ يدرّسُ العربيةَ في أطرافِ المدينةِ، لا يزالُ يُصرُّ على تدريسِ النحوِ كأنّه يؤدّي صلاةً، ويقولُ عن اللغةِ: "إنّها الحبلُ الوحيدُ الذي لم ينقطعْ بينَنا وبينَ السماءِ."

استوقفتُهُ، وسألتُهُ: ما اسمُهُ؟ فقالَ: "كاظمُ الجادرُ".

... كدتُ أبكي.

لم أُصدّقْ. كأنّ أحدَهم أعادَ لي قطعةً من طفولتِي كنتُ أَحسبُها ضاعتْ. رتّبتُ اللقاءَ في مجلسي، وجهّزتُ المكانَ لا كما يُجهَّزُ لضيفٍ، بل كما تُهيَّأُ المسارحُ للأنبياءِ.

دخلَ كما عهدتُهُ، بذاتِ الأناقةِ، بذاتِ الحذاءِ الذي لا يزالُ يلمعُ، وكأنّ أربعينَ عامًا لم تمرَّ عليهِ. وقفنا جميعًا، لا احترامًا لشيخوختِه، بل تقديسًا لهيبةٍ كانت يومًا ما سببًا في نهضتِنا.

حينَ جلستُ إلى جوارِه، لم أعرفْ من أينَ أبدأْ. لكنّي بدأتُ من قلبي. قلتُ لهُ: "كلُّ ما أنا عليهِ الآنَ، هو ظلُّكَ يا أستاذي. وكلُّ حروفي ليستْ إلا محاولةً لأن أكتبَكَ، لا أن أكتبَ عنكَ."

ثمَّ أنشدتُهُ قصيدةً كنتُ قد نظمتُها على مدى أشهر، قصيدةً في مدحِه لا تكفيها دواوينُ، حملتْ عنوانَ: "أنيقُ الكلامِ"، عددُ أبياتِها اثنانِ وأربعونَ، بعددِ السنينَ التي مرّتْ منذُ وقفتُ أمامَهُ تلميذًا ضائعًا لا يعرفُ أنَّ الحرفَ حياةٌ.

أنشدتُها بيتًا بيتًا،

تَأَنَّقْ فِي حَيَاتِكَ مَا تَشَاءُ

 لِيُغْضـي مِنْ أَنَاقَتِكَ الفَضَاءُ

  *

تَأَنَّقْ فِي كَلَامِكَ ذَاكَ فَخرٌ

لِأَنَّ الْقَوْلَ يَمْحَقُهُ الخَفاءُ

  *

وَمَا هَذَا المَديحُ فُضُولَ قَوْلٍ

 وَلَيْسَ بِمِدحَتي شَكٌّ، مِرَاءُ

  *

يدورُ العُمرُ دورَتَهُ فَيَمضـي

 بَصِيصُ الفَجرِ يَتبَعُهُ الَمسَاءُ

  *

ذَكَرْتُكَ بَعْدَ أربَعَةٍ عُقُودٍ

 وَهَذَا الذِّكرُ جمَّلَهُ اللِّقَاءُ

  *

كَأَنِّي عَادَ بِي طَيْفٌ وَحُلْمٌ

 فَعَادَ بِخَاطِرِي ذَاكَ الصَّفاءُ

 وحينَ بلغتُ نهايتَها، دمعتْ عيناهُ، وقالَ: "لم أكنْ أعلمُ أنّ الكلمةَ حينَ تُزرَعُ في قلبِ صبيٍّ، قد تُزهِرُ بعدَ أربعينَ عامًا بهذا الشكلِ..."

قلتُ: "وأنا لم أكنْ أعلمُ أنَّ الحذاءَ الذي يلمعُ في عيونِ الصغارِ، قد يُصبغُ بمجدٍ أبديٍّ من نيفيا المعنى."

وضحكَ. ثمَّ سادَ الصمتُ.

صمتٌ يشبهُ خشوعَ الحرفِ حينَ يخافُ أن يُنطَقَ.

ذلكَ هو كاظمُ الجادرُ.

ذلكَ هو أستاذي الذي كتبني قبلَ أن أكتبَ شيئًا.

***

د. علي الطائي

 

هذه الخواطر والتأملات "اعتقد" أنها صدرت من عزيز رافقته، وزاملته، وشاركته، في مدرسة عريقة اتخذت نفسها محوراً لتاريخ تلك المدينة التي ينحدر منها كلانا، مؤسسة تعليمية ما زلنا نهيم بها هياماً شديداً، ونعجب بها اعجاباً لا ينقضي، لأنها جعلت الأدب العربي ميسراً، سائغاً، ملائماً لعقولنا ونحن في تلك السن، و تأملات حسن عثمان طه الأدغم، التي يتاح فهمها، ويتاح تذوقها، ويتاح أيضاً تصورها، والاحاطة بمضامينها على اختلافها وتباعد مراميها، لا تكلفنا جهداً، ولا كداً في سبر أغوارها، هي لا تحتاج منا أن ننفق أكثر ساعات الليل، ومعظم ساعات النهار، حتى نجني ثمارها، ونستأثر بأنعامها، لأنها واضحة جلية، لا لبس فيها ولا غموض، ولأنها سهلة يسيرة لا صنعة فيها ولا تكلف، فصاحبها الذي لم يقلد فيها قديماً ولا جديدا، كما لم يذعن في قالبها لبريق اللغة، ويتكلف الاغراب فيها، كما يفعل كاتب هذه السطور، حسن عثمان الشهيرب"شلو" بين لداته وأقرانه، من يقرأ له، سيجد في أدبه هذه الخصلة، خصلة الصدق التي تبرهن أن من سطر هذه الأحرف، لم يكن ينشد من وراء رصد مشاعره تلك، أن ينصرف بها عن واقع حياته المزري، أو يتخذها أداة للتسلية والترويح، كلا، كان حسن الأدغم، ينذرها ويخيرها، بين أن تحسن العناية بوصف ما تجيش به نفسه من غير اغراق أو تهويل، وبين أن تنقطع صلته بها، لأجل ذلك ظل يستحثها لأن تلم به، وتعود إليه، حتى تفهم دقائق نفسه، وتدرك تفاصيل حياته التي لا يعجب بها، ولا يرضى عنها، لا في سفره، ولا في مقامه،

إذن الأدغم، أخرج لنا أدباً دفعه إلى كتابته الحس، والعاطفة، والشوق الجارف لديار يريد أن يهرع إليها، ويستقر في حضنها، واللوعة التي باتت ثابتة في ذوق صاحبها ومؤثلة في عقله، وفي مشاعره، لعل أعظم تبعة، وأثقل مسئولية، أن نطالب من أنفق عمره كله، أو معظمه متغرباً، بعيداً عن عائلته وأولاده، أن يتجرد عن حزنه وشوقه الذي لا يستطيع أن يحجم عنه، أو يرفع نفسه عن   سطوته،فطبيعي إذن أن يشعل الشجى قلبه، وأن تلهب الغصة احساسه.

دعونا أيها السادة نقف وقفة قليلة أو طويلة، عند "بوح الليل"، الليل وسحر الليل، وما أدراك ما ضنك الليل، فالليل الذي تثور فيه الرغائب، وتفور الشهوات، هو نفسه، تلك المساحة الحالكة الشاسعة، التي لا سبيل إلى قطعها، والهوة السحيقة التي سبيل إلى اجتيازها، الليل عابد يتهجد، وشيطان يغري و يوسوس، الليل شهوة تضطرم، وذكرى تتجدد، لتجعل نفسك تتقطع منها حسرات،  وفي الحق نحن معشر البؤساء، نزعم أن الليل لم يوف بنذر قد نذره لنا من قبل، وهو ألا يدركنا حزمه وعزمه، فيضطرنا إلى هذا البكاء الذي يمتد ويطول، البكاء الذي لا تأنف مهجنا من الاذعان لأمره، هو بلا شك أو ريب ثاوياً في تلك الرقعة الشاحبة الحزينة، التي سطرتها حنايا الأديب المرهف حسن عثمان طه، يقول حسن الأدغم فيها، في رقعته تلك التي نصب فيها الأسى راية خفاقة:

"بوح- الليل"

حين يهبط الليل، تسكن المدينة وتخفت الأصوات، لكن هناك صوتًا آخر يتردد في أعماق القلب، همسات لا يسمعها أحد، وأحلام تهمس للنجوم بما عجز النهار عن احتوائه.

الليل ظلام يمتد في الأفق، لكنه رفيقٌ لمن أثقلتهم الحياة، ملاذٌ لمَن تاهت خطاهم بين تقاطع الأمل واليأس.

إنه المساحة الوحيدة التي لا تخون المشاعر، حيث تنكشف الأوجاع في الصمت، وتبوح الأرواح بما لم تستطع قوله بين ضجيج النهار.

- أيتها الحياة، أما آن لك أن تهدأي قليلًا؟

لقد مضت السنوات، وأخذت معها أكثر مِما منحت، تأرجحنا بين الخيبات والإنتظار، بين الحُلم الذي يتلاشى والواقع الذي لا يكترث لأوجاعنا.

لم نعد كما كُنا، فقد سرقتِ مِنا بعضًا من بريقنا، وأرهقتِ أرواحنا حتى باتت مُتعبة لا تقوى على الركض خلف الأمل.

- إبتساماتنا خفتت، والفرح صار بعيدًا، كأنه سرابٌ نحاول الإمساك به فلا نجده‍.

صار الحُزن يسكن أعماقنا بلا استئذان، ونظراتنا تحكي قصصًا لا تُقال، وأصواتنا تحمل رجفةً لا يفهمها إلا مَن إقترب بما يكفي ليقرأ ما وراء الكلمات.

- نتظاهر بالقوة، نردد كلماتٍ تحفظ كبرياءنا أمام الآخرين : "أنا بخير"، بينما الحقيقة عكس ذلك تمامًا.

- نخفي وجعًا تحت ستار الصمت، ونغلفه بعزة نفس تأبى الإنكسار، لكن مَن يفهم؟

- تبًا لِعزة النفس حين تصبح حاجزًا يمنعنا عن البوح، وسحقًا لواقعٍ يخلو من الاحتواء، يجعلنا نكتم الألم حتى حين يكون البوح هو المخرج الوحيد.

- بعض الأوجاع لا تُكتب، لكنها تظهر في لمعة العين المنطفئة، في تلك الرجفة التي تعبر الصوت حين يحاول صاحبه أن يبدو قويًا، لكنها تبقى، عالقة بين القلب والذاكرة، تثقل الأيام وتجعلها أكثر قسوة.

- ورغم كل شيء، يبقى الأمل حاضرًا، هشًا لكنه موجود، ضعيفًا لكنه لا ينطفئ تمامًا.

- وربما يأتي يومٌ يحتضن فيه الواقع أحلامنا بدل أن يسحقها، وربما نجد ذلك الدفء الذي يجعل الحياة أقل قسوة، وأكثر رحمة مِمَا عهدناها.

#ختام- البوح..

وفي نهاية بوح الليل، يبقى القلب رغم كل شيء متمسكًا بشيء من الأمل، حتى لو كان هشًا، حتى لو كان بعيدًا.

فالأيام قد تأخذ مِنا الكثير، لكنها لا تستطيع أن تطفئ ذلك الضوء الصغير الذي يسكن أعماقنا، ذلك الإيمان بأن الغد قد يحمل لنا شيئًا مختلفًا، أكثر دفئًا، أقل قسوة.

لعلّ الليل كان شاهدًا على أوجاعنا، لكنه أيضًا يهمس لنا بأن الفجر قريب، وبأن ما يبدو الآن ظلامًا دامسًا، قد يكون مجرد صفحة أخيرة في فصل سينتهي قريبًا.

فليكن الليل مرفأً للبوح، لا مستقرًا للألم، ولتبقَ قلوبنا رغم كل شيء، متمسكة بذلك الخيط الرفيع الذي

يقودها نحو ضوء جديد".انتهى

حسن عثمان الأدغم الذي تزدحم على نفسه الهموم، عن وتتعبه هذه العاطفة التي يصغي لها، ولا يعرض عنها، ويمجه الصدى الذي يتردد في ردهات نفسه، يتحدث عن الحزن الذي أمعن في تحقيقه وفي تصويره، وعن الاخفاق الذي يحدثنا عنه في ألفاظ ضخام، حتى تصل صلصلة هذه الأصوات إلى سمعك فتتعاطف معه،  وتشعر حياله بالعطف والشفقة، الاخفاق الذي يغري بالاحباط، ويدفع إلى القنوط، ظل ملازماً لحسن ملازمة الفصيل لأمه، ولعل هذا الفشل الذي روض حسن جموحه بالصبر، وسعى أن يلطف حميا شبابة الدائم بالاذعان، كان بالفعل طويل، باق، شاق، وقد تحمله حسن في كثير من المشقة، وكثيراً من العنت، فلم يكن بدعاً أن يلجأ من باب التخفيف من حدته، إلى الكتابة التي تصيب صاحبها بالرعدة والاضطراب، إذا خلى يومه من ثبت حافل من الرسائل والمتون التي تعبر عن دخيلة نفسه.

والأديب حسن الأدغم يحدثنا عن تاريخ نفسه الملتاعة، التي تبددت أيامها، وهي حبيسة في دهاليز الألم والخوف والرجاء، فالشقاء في تفصيله وجملته

يتمثل عنده في كظم الغيظ، وحبس الدموع، والتشبث بالأمل.

وبوح الليل عند الأدغم، طابعه الشذوذ والتناقض، لأنه مترعاً بتيارات النفس الخفية، التي لا يؤثر القلب التوغل بين طياتها ولججها الكثيفة، لأنها تستغرق جهده وتؤذيه، وتجعل الكمد يتحرك ويتساير بين جنباته، فلا عجب إذا هاجت هذه التيارات في كل حركة، وأزرت بكل خفقة، وأودت بالحس والشعور، إن النزعة التي تصاحب حسن الأدغم، وتصاحب غيره من الناس، في هدأة كل ليل، هي الجوى الذي يشيع في حنايا الضلوع، الجوى الذي يرغم الوجدان أن يجتر أحزانه، ويتوه في هذه النواحي التي كان من المفترض أن يهجرها عن عمد، ويتركها عن اعتقاد، فالأحرى والأجدر، أن يسعى لكتمها وقهرها بككل ما أوتي من سبل، حتى يعيش هانئاً آمناً من ضراوتها وويلاتها.

يخبرنا الأدغم، الذي أخذ يجود بالبقية الباقية من أنفاسه، في الهزيع الأخير من الليل، بأن الأمل ما زال معقوداً بأن تنقشغ ظلمة حياته التي لا شكل لها ولا قوام، وتلوح أخياف الفجر الصادق الذي يسيره نحوه بقدم ثابته، وصدر مفتوح، ورأس مرفوع، لينشله من وهدة اليأس، ويتحفه بالشعور الذي لا يشتري بمال، الشعور الذي يجعل ذاته التي تراخى فيها وأهملها، من أهل الكفاية والترف، شعور يبهره بجماله البارع، وحسنه الوضاء، ويدفعه لأن يجمع شتات أمره، ويستفيض في هذه الحياة التي كان أمله فيها يمضي دون غاية.

***

د. الطيب النقر

الأحد 15/6/2025

يا يوسف، أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا في ثلاث بقراتٍ سمانٍ أكلنَ سبعَ سنبلاتٍ خضرٍ وأربعٍ يابساتٍ فما أبقَينَ شيئا من أخضر أو يابس؟!.

يا يوسف: إن كانت مصيبتك بامرأة واحدة فمصيبتنا بنساء كيدهنّ أقبح من وجوههنَ، وان كان عزيزك راوده الشك، فعزيزنا كان أظلم، وقذفنا بما ليس فينا، واستخدم ضدنا الحيلة والمكيدة والخِسة، ولسان حالنا يقول: أليس منكم رجل رشيد، أو امرأة صالحة؟ فسولت لكم انفسكم وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ.

وصحيح أننا لا نمتلك صفات يوسف النبيلة وَلسنا بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ لكنكم انتم ايضا لستم بأحسن حالٍ من أخوة يوسف وأصحاب الافك ونساءكم لم يكنّ بجمال وصفات امرأة العزيز بل هُنّ بسلوكهن المشين أقرب لأم جميل، زوجة أبي لهب، فهنّ الحقودات المتسلطات الجاحدات المسترجلات، لا يعجبهنّ الرجل إلا إذا كان قوي الجسم ضعيف العقل، لتتلاعب بعقله، وتتحكم بفعله، وهكذا إذا ضعف القوَّامُ، فسدَ الأقوام وكنا نأمل ان تسعفنا فطنة الحاكم فلا ينخدع بحيل المتظلمين بالباطل ولا يتبع هواه فيكون أمره فرطا.

يا يوسف لم يأتِنا عام نُغاث فيه كما أتاكم، فأعوامنا كلها جدب وقحط وحصاد، ولم نحظَ بمَلكٍ كريم كما حظيت انت به، فأغلب من تصدروا للحكم فينا كانوا ظالمين مستبدين.

 يا يوسف .. لما استدعانا العزيز وسألنا عن أخوتك ونسائهم، لم نُبدها له، وأعرضنا عن الأمر وانتظرنا الشاهدُ الذي رأى كلَ شئ ولكنه لم يكن من أهلها وتأملنا أن يكون العزيز ذو عقل فيفهما ولكنه لم يفهم، ولم يحاول الفهم ولم يستدرك ولم يتفكر أو يتأمل، بل أغمض عينيه ووضع اصابعه في أذنيه حتى لا يرَ الحقيقة ولا يسمعها، وأصرّ أن يتصرف كالأعراب الذين هو منهم، والأَعْرَابُ بطبيعتهم أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا!!.

 لقد رمونا بالجُب يا يوسف دونما جريرة بالرغم من أننا لم نرَ في الرؤيا احد عشر كوكبا والشمس والقمر، لم نرهم لنا ساجدين، ولم نكن أحب الى أبينا من غيرنا ولم نطلب أن نكون على خزائن الارض، ولم نزاحم احدا على كرسيه ولكن ذنبنا أننا نختلف عنهم ولا نخوض معهم فيما هم فيه من ظلال.

 لم يأكلنا الذئب يا يوسف ولكنه كيد البقراتُ السِمان!!، فقد نفشنَ الزرع وأكلنَهُ ولم يُبقين شيئا، وسيأكلن كل شئ حتى العزيز نفسه، لكننا مازلنا نُسِرُها في انفُسِنا ونكظم غيظنا، ولن نقابل الاساءة بالإساءة وما زلنا ننتظر قميصك لِنُلقهِ على وجه المَلِك، لعلهُ يرى ما لم يرهُ العزيز!!.

فمتى سيفهمها سليمان يا يوسف بعد أن عجز عن فهمها داوود؟؟؟

***

دكتور محمد علي شاحوذ

 

يُعد أدب الصعاليك في الجاهلية من أبرز مظاهر التمرّد على القيم الاجتماعية والاقتصادية السائدة، ويحتل البُعد المكاني في هذا الأدب موقعًا محوريًا، كونه ليس مجرد خلفية للأحداث بل يحمل دلالات نفسية واجتماعية وفكرية. وفي هذا السياق، يُعد الشنفرى من أبرز شعراء الصعلكة الذين عبّروا عن علاقتهم المتميزة بالمكان.

أولًا: مفهوم المكان في أدب الصعاليك

المكان في شعر الصعاليك ليس حياديًا أو ساكنًا، بل هو فضاء للحرية، والتمرد، والتحدي، والانفلات من قبضة السلطة الاجتماعية والقبلية. يتخذ المكان عندهم أبعادًا رمزية، ترتبط بالهوية والانتماء والصراع.

ثانيًا: ملامح البعد المكاني في شعر الشنفرى

1. الصحراء كمكان للحرية والتمرد

الشنفرى – كغيره من الصعاليك – اتخذ من الصحراء ملاذًا وفضاءً حرًا يعبر فيه عن رفضه للقيود الاجتماعية. في لامية العرب الشهيرة، تتجلّى الصحراء كعالم بديل عن عالم القبيلة، حيث يعيش الشنفرى مع الوحوش بدلًا من البشر، ويجد فيها ذاته:

وَلَـي دُونَكُمْ أَهْلُـونَ سِيـدٌ عَمَلَّـسٌ

وَرَهْطٌ لَـهُ كَـأْسٌ تُفَيَّـضُ وتُرشَـفُ

هنا، يصف الشنفرى الوحوش البرية بأنهم "أهله"، في إشارة رمزية إلى رفضه للمجتمع البشري وقيمه، واعتناقه لقيم البقاء والقوة في الفضاء الصحراوي.

2. المدينة (القبيلة) كمكان للرفض والنفي

المدينة في شعر الشنفرى ليست مركزًا للاستقرار أو الانتماء، بل مكانًا للغدر والخيانة، ولذلك تمثّل "المكان الطارد"، أو "المكان النفي". فقد لفظته قبيلته، ونبذته الأعراف، مما دفعه إلى الارتحال الدائم، وتحوّل الشاعر إلى "كائن حدودي" يعيش على أطراف المجتمع.

3. المكان المتحوّل / الهامشي

في شعر الشنفرى، لا يوجد مكان ثابت، بل أماكن متنقلة تتغير حسب تنقله وغزواته، كأنما يعيش في حالة من "التيه الوجودي"، تنعكس في حركته المستمرة بين الفيافي والجبال والوديان. وهو لا يرتبط بالمكان بوصفه وطنًا جغرافيًا، بل بوصفه ساحة اختبار لقدراته.

ثالثًا: البعد الرمزي للمكان

المكان عند الشنفرى رمزٌ للهوية الفردية المتمردة، فالابتعاد عن القبيلة والانغماس في فضاء الصحراء والوحشة يعكس نزعة وجودية قائمة على تحدي المصير. المكان لا يُسكن بل يُجتاح، لا يُحب بل يُستغل، وهذا يتماشى مع فلسفة الصعلكة كحالة تمرّد لا فقط اجتماعية، بل أيضًا أنطولوجية.

رابعًا: المكان والهوية

يتماهى الشنفرى مع المكان الصحراوي إلى حد الذوبان فيه. إنّ هويته تتشكّل من خلال علاقته بالمكان القاسي، المتوحش، الخارج عن السيطرة، وهذا ما يمنحه قوة واستقلالية ويجعله ندًّا للمجتمع لا تابعًا

خلاصة

البعد المكاني في شعر الشنفرى يتجاوز الوصف الجغرافي إلى بناء دلالي معقّد، يعبّر عن فلسفة في الحياة قائمة على الحرية، والرفض، والتحدي. الصحراء ليست مجرّد فضاء خارجي، بل تعبير داخلي عن نفس متوثبة، ترفض القيود وتبحث عن ذاتها في أقسى الظروف. بهذا المعنى، يصبح المكان عند الشنفرى عنصرًا بنائيًا حاسمًا في أدبه، لا يقل أهمية عن الموضوع أو اللغه

***

ربى رباعي - الاردن

 

هذا شاعر من نوع خاص، لا يبحث عن الأضواء، بل تبحث الأضواء عنه. إنه الشاعر المصري الشاب محمود نبيل القاضي، ابن قنا، تلك المدينة التي أنجبت عمالقة الشعر مثل: أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي وعبد الرحيم منصور، يأتي إلينا بشعره كالماء العذب، ينساب في وجدان القارئ دون ضجيج، ويترك أثره العميق دون ادعاء. إنه شاعر الحب والوطن، شاعر البساطة والعمق، شاعر القصيدة التي تتسلل إلى القلب كما يتسلل الفجر إلى الليل.

البنية الشعرية: بين البساطة والعمق

ما يميز شعر محمود القاضي هو تلك المفارقة الجميلة بين بساطة اللغة وعمق الدلالة. في ديوانه "السر...الأخير"، نجد قصائد مثل "أسماؤك العشر" التي تبدأ ببساطة ظاهرية:

"أُعطيكِ عشرَ أسماءٍ أنا ..

هذا اسمُكِ الأولُ: "السوسَنة"

لكن هذه البساطة تخفي وراءها عالماً من الدلالات والرموز. الشاعر هنا لا يقدم مجرد أسماء، بل يقدم رؤية كاملة للحبيبة، من خلال رموز طبيعية (السوسنة، الفراشة، الغصن) وفنية (القيثارة) وإنسانية (المستقر، المنتها). إنها لعبة شعرية ذكية، تذكرنا بأسلوب محمود درويش في تحويل العادي إلى استثنائي.

في قصيدة "الحب بالحواس الخمس"، يقدم القاضي رؤية شاملة للحب، من خلال الحواس الخمس، لكنه يفعل ذلك بطريقة غير تقليدية. فهو لا يكتفي بوصف الإحساس، بل يحوله إلى تجربة وجودية:

"ما أشهَى مائدةَ الوَجْدِ السابِحِ فى تيَار الدَم

ما أرْوَعَ أن يُرْوَى ظَـمَأُ القلبِ بقُبلَةِ فَمْ"

هنا يتحول الحب من مجرد عاطفة إلى طقس وجودي، يشبه ما نجده في شعر أمل دنقل الذي كان يحول القضايا الشخصية إلى قضايا وجودية .

اللغة الشعرية: نسيج من الصور والموسيقى

لغة محمود القاضي لغة خاصة، تجمع بين دقة التصوير وعذوبة الإيقاع. في قصيدة "أسماؤك العشر"، نلاحظ كيف ينسج الشاعر علاقة عضوية بين الصورة والموسيقى:

"واسمُكِ الثالثُ: "قيثارَتى"

عَشِقْتُكِ كالــدَنِّ والدَندنة"

هنا تتآلف الصورة (القيثارة) مع الموسيقى (الدندنة) في نسيج واحد، مما يخلق تجربة جمالية متكاملة. هذا الأسلوب يذكرنا بتقنيات عبد الرحمن الأبنودي في دمج العامية بالفصحى بطريقة شعرية رفيعة .

في قصيدة "الحب بالحواس الخمس"، يبرع الشاعر في تحويل الحواس إلى لغة شعرية:

"لَــمْسٌ ..

إذْ يَتَخافَتُ خَدٌّ لِشفاءِ أنامِلَ مَلَكيَّة

ويُلامِسُ كَفِّى كَفَّيْها ..

نَتنَاجَى لًغَةً دوليّة"

هنا يتحول اللمس إلى لغة، واللغة إلى إحساس، في دائرة جمالية لا تنتهي. هذه التقنية تذكرنا بأسلوب محمود درويش في قصيدة "لماذا تركت الحصان وحيداً"، حيث يتحول الجسد إلى لغة واللغة إلى جسد .

الرؤية الشعرية: بين الذاتي والجماعي

ما يميز شعر محمود القاضي هو قدرته على الجمع بين الذاتي والجماعي، بين الحب كتجربة شخصية والحب كقضية إنسانية. في ديوانه "السر...الأخير"، نجد أن الحب ليس مجرد علاقة بين شخصين، بل هو رؤية للعالم:

"وآخرُ أسمائكِ " الـمُـنتَهَى"

كَــعِشْقٍ سَرْمَدِىٍّ بيننا"

هذه الرؤية تتجاوز العلاقة الشخصية إلى علاقة الإنسان بالوجود، وهي سمة نجدها في شعراء كبار مثل أمل دنقل الذي كان يحول القضايا السياسية إلى قضايا وجودية .

في قصيدة "الحب بالحواس الخمس"، يقدم الشاعر رؤية شاملة للحب:

"لا يوجَدُ فى تلك الدنيا ..

مَن قاومَ سِحرَ الخَفَقان"

هنا يتحول الحب من تجربة شخصية إلى قانون كوني، لا يقاوم كما لا تقاوم قوانين الطبيعة. هذه الرؤية الفلسفية تذكرنا بشعراء مثل أدونيس في تحويل الشعر إلى رؤية فلسفية للعالم.

في ضرورة الشعر

في زمن يحاولون فيه قتل الشعر، يأتي محمود القاضي ليذكرنا بأن الشعر ليس ترفاً بل ضرورة وجودية. شعره ليس مجرد كلمات جميلة، بل هو مقاومة للزيف والسطوح. إنه يقدم لنا نموذجاً للشاعر المثقف الذي لا ينفصل عن عصره، ولكنه لا يستسلم لضغوطه أيضاً.

كما قال العقاد: "الشعر الحق هو الذي يقول ما لا يستطيع السياسي قوله". وهذا بالضبط ما يفعله القاضي، فهو يكتب بشعرية عالية دون أن يفقد صلته بالواقع، يغوص في الذات دون أن يغيب عن الجماعة.

إن قراءة شعر محمود القاضي ليست متعة جمالية فحسب، بل هي إعادة اكتشاف لإمكانات اللغة العربية في التعبير عن تعقيدات الوجود المعاصر. إنه شاعر يستحق أن يقرأه كل من لا يزال يؤمن بأن الشعر يمكن أن يغير العالم، ولو ببطء أنسياب الماء الذي ينحت الصخر.

شاعر يستحق الاكتشاف

محمود نبيل القاضي ليس مجرد شاعر، بل هو ظاهرة شعرية تستحق الدراسة والتأمل. إنه شاعر يجمع بين تقاليد الشعر العربي الأصيل وروح الحداثة، بين البساطة والعمق، بين الذاتي والجماعي. في زمن صارت فيه الأضواء تُباع وتُشترى، يأتي محمود القاضي ليذكرنا بأن الشعر الحقيقي لا يحتاج إلى ضجيج، بل يحتاج إلى عمق ورؤية.

كما قال علي بن أبي طالب: "لا تطلب سرعة العمل وأطلب تجويده"، هكذا هو محمود القاضي، لا يسرع نحو الشهرة، بل يأخذ وقته في صقل قصيدته، حتى تخرج لنا كالماء العذب، يتسلل إلى الوجدان دون ضجيج، ويترك أثره دون ادعاء.

في النهاية، يمكننا القول إن محمود القاضي يمثل مدرسة شعرية جديدة، تجمع بين أفضل ما في التراث العربي وأفضل ما في الحداثة الشعرية. إنه شاعر يستحق أن يُقرأ، ويُدرس، ويُحتفى به، ليس لأنه يطلب ذلك، بل لأن شعره يستحق ذلك.

***

د. عبد السلام فاروق

تعريف بالشاعر: أنسي الحاج (1937–2014) شاعر وصحافي لبناني يُعدّ من أبرز رموز الحداثة الشعرية العربية، ومن أوائل من كتبوا قصيدة النثر بالعربية. أسّس مع يوسف الخال ومجايليه مجلة "شعر"، وأصدر أول مجموعة شعرية نثرية بعنوان "لن" سنة 1960، فكانت إعلانًا شعريًا لعصر جديد يُحرر القصيدة من الأوزان والقوافي التقليدية. عُرف بأنسي الحاج انغماسه في الروحانية والتأمل الفلسفي واللغوي، وابتعاده عن المباشرة أو الخطابية، مما جعله أحد أكثر الشعراء العرب تعقيدًا وعمقًا في التعبير عن الذات والوجود.

قصيدة النثر في تجربة أنسي الحاج:

قصيدة النثر عند أنسي الحاج ليست مجرّد تحرّر من الشكل، بل تحرّر من التصنيف كله: من الوزن، من الموضوع، من التقاليد البلاغية. إنها صوت داخلي مشبع بالتوترات الفكرية والروحية، لغة مفتوحة على الغموض الخلّاق الذي يوقظ القارئ لا ليَفهم، بل ليشعر.

لنأخذ مثالاً من مجموعته "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع":

"أحبك أكثر

من تموّج الحقول

من بكاء العشب تحت المطر

من خوف الطفل إذا أغلق الباب وحده

أحبك أكثر من رغبة الكلمات أن تُقال"

التحليل:

هذه المقاطع ليست سردًا عاطفيًا بسيطًا، بل حالة تأملية تمزج الفكر بالروح، والمحسوس بالمجرد. نلاحظ كيف يربط الحب، وهو شعور روحي، بمظاهر حسية دقيقة جدًا: تموّج الحقول، بكاء العشب، خوف الطفل... هنا، الروح تعبر عن ذاتها في صور مادية، وكأن الشعر عند أنسي هو وسيلة ليُحوِّل الباطني إلى مرئي.

روابط الفكر والروح في شعره:

1. الفكر كأداة تفكيك للواقع: في شعره، لا يقدّم أنسي الحاج إجابات بل أسئلة مفتوحة، تنبع من تأملات عميقة في الحياة، الموت، الحب، والوجود. كأنه يكتب من موقع "المندهش الأبدي"، فيقول:

"أصغي إلى الصمت أكثر مما أصغي إلى الكلام، لأن الصمت يُحرّضني على التفكير"

(من "الوليمة")

2. الروح كطاقة كشف ورجاء: شعره مليء بالإشارات الصوفية، لكنها لا تنتمي إلى طريقة تقليدية في التصوف. هي روحانية فردية تبحث عن خلاص داخلي. في قصيدته "الولد الضائع"، يكتب:

"يا إلهي، لماذا تركتني في منتصف الطريق؟

لم أعُد أنا، ولا أنا الآخر."

هنا يمتزج القلق الوجودي مع نبرة روحية تقف على تخوم الإيمان والشك، التسليم والتمرّد.

انعكاسات الفكر والروح على لغته:

لغة إيحائية مشحونة بالرموز:

فبدلاً من الوضوح، يعتمد أنسي الحاج على الغموض كأداة جمالية، لأنه كما قال في أحد لقاءاته:

"الكلمة إن لم تقل شيئًا جديدًا فهي ليست جديرة بالقول."

تفكيك اللغة التقليدية:

اللغة عنده تُغادر المعجم المألوف وتُعيد تشكيل العلاقات بين الكلمات لتوليد دلالات جديدة.

الاقتصاد في العبارة والانفتاح على البياض:

كثير من قصائده تتنفس في الفراغ، تُترك بيضاء من دون علامات ترقيم أو نهايات واضحة، كما في "الرسولة..."، وكأن الشكل نفسه يحمل توتر الروح.

الشواهد والمقارنات:

بالمقارنة مع الشاعر السوري أدونيس، نلاحظ أن كليهما ينتمي إلى الحداثة، لكن أدونيس أكثر فلسفية وتجريدًا، في حين أنسي الحاج أكثر حسيّة وانغماسًا في اللغة كتجربة روحية.

أما مع الشاعر الفرنسي سان جون بيرس، فقد تأثر أنسي الحاج بقدرته على خلق شعر كوني، حيث يقول:

"سان جون بيرس جعلني أفهم أن الشعر قد يكون رياحًا، غبارًا، وانبهارًا لا يُفسَّر."

خاتمة:

أنسي الحاج شاعر تتكثّف في نصوصه تجارب الفكر والروح، في لغة شديدة الذاتية، متجاوزة للوظيفة التقريرية أو الجمالية التقليدية للشعر. إنه شاعر القلق الجميل، والمعنى الذي لا يُقال إلا حين يُلامس الروح مباشرة.

***

ربى رباعي - الاردن

...........................

مراجع ومصادر:

أنسي الحاج، "لن"، دار الجديد، 1960

أنسي الحاج، "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع", دار النهار، 1975

حوارات مع أنسي الحاج في مجلة "الكرمل" ومجلة "النهار"

د. خالدة سعيد، "قراءة في تجربة أنسي الحاج الشعرية", مجلة شعر، العدد 12

بول شاوول، "أنسي الحاج والثورة الصامتة", دار النهار

Jean Starobinski, Poetry and the Inner Voice, Gallimard, 1982

 

تُجسّد رواية "بيت طوفان" فكرة الوطن كذاكرة أكثر من مجرد جغرافيا، حيث يحمل البيت، رمزًا مركزيًا في العمل، تاريخًا متراكمًا من التحولات السياسية والاجتماعية. من خلال شخصيات مثل الراوي خالد وطوفان، ينسج الكاتب سردًا غارقًا في الرمزية، يعكس صراع الهوية والانتماء في مواجهة التغيرات القسرية التي عصفت بالمكان.

"المواصفات الفنية للكتاب:"

- "المقاس:" 14 × 21 سم

- "عدد الصفحات:" 188 صفحة

الرواية تتبع نهجًا سرديًا يعتمد على تداخل الأزمنة والوقائع، حيث يسرد طوفان قصته ليس كمجرد مسيرة فردية، بل كشريط طويل من تاريخ الوطن؛ بكل انعطافاته، وأحلامه المنطفئة، وحلقاته التي تعيد نفسها كدوامة لا تهدأ. **محلة الوردية**، التي نشأ فيها خالد، تمثل رمزًا للوطن المثالي، حيث يسود التآلف والتعاون. ومن هنا تأتي إحدى الإشارات العميقة عندما يشتري طوفان بيتًا في ذات المحلة، البيت الذي كانت تقطنه عائلة يهودية قبل أن تغادره إلى إسرائيل بسبب المضايقات، في انعكاس لتبدّل الأوطان وتداخل المصائر.

إحدى أقوى اللحظات الرمزية تتجلى عندما يبدأ خالد بالتقرب إلى طوفان بعد سنوات من العزلة، في مرحلة تجاوز فيها الأخير المئة عام. عندما وجد خالد طوفان على وشك الموت في منزله، أنقذه واعتنى به في المستشفى، ثم استمر برعايته حتى وفاته. لكن المفاجأة الكبرى كانت عندما اكتشف خالد قبرًا داخل غرفة طوفان، يضم رفات زوجته التي فارقت الحياة حسرةً إثر حرب الخليج عام 1991. وعندما استفسر خالد عن سبب دفنها هنا بدلًا من مقابر العامة، أجابه طوفان بأن هذا البيت هو مكانها الصحيح، وأنه يود أن يُدفن بجوارها، إذ كان "بيت طوفان" تجسيدًا لوطنه، وأراد أن يموت فيه لا خارجه. وفي النهاية، دُفن طوفان بجوار زوجته، ولم يبع خالد المنزل رغم حاجته إلى المال، محافظًا بذلك على الدلالة الرمزية التي حملها البيت كجزء من الهوية الوطنية.

الرواية تُبرز بذكاء الفوارق بين المجتمعات المتقدمة ونظرتها للحياة، حيث يتجدد الإدراك ويُساءَل التاريخ، على عكس واقعنا، الذي يعيد السرد كما تفعل الببغاء، دون أن يخترق الجوهر أو يتساءل عن معنى ما يردّده. وحين يستيقظ الإنسان من هذه الدوامة، تصدمه الحقيقة، ليكتشف أنه كان عالقًا في فراغ ممتد، لا يرى إلا ظلاله المتكسرة، وأن اللحظة التي ظنها يقينًا ليست سوى كذبة مريحة.

عندما يصل طوفان إلى هذا الإدراك، لا يجد ملجأ سوى الغوص في ذاته، حيث يعيش اضطرابًا فكريًا يجعل حدوده الشخصية أكثر تداخلًا وغموضًا. ولكن بينما تتعمق عزلته، تنفجر الحرب على الوطن، وتبدأ القذائف في هدم المدن، ويحتضر طوفان تحت وطأة الدمار، كما لو أن سقوطه يجسّد انهيار بغداد نفسها. في هذه اللحظة، يُطوى فصلٌ من التاريخ، ويبدأ آخر يُكتب على رماد المرحلة السابقة، ممهِّدًا لزمن جديد تتشكل فيه الهوية من بين الركام.

الاسترسال في السرد رائع، والأسلوب ينبض بالحياة، مما يمنح الرواية ديناميكية تمسّ القارئ فكريًا وعاطفيًا. الرمزية متقنة، والصور السردية تنسجم مع عمق الفكرة، مما يجعل الترجمة الأدبية للأحداث وسيلة فعّالة لإيصال رؤية الكاتب بمهارة وحرفية عالية. وهكذا، تصبح الرواية ليست فقط توثيقًا لتجربة فردية، بل شهادة على مرحلة تُعيد تشكيل التاريخ.

***

كفاح الزهاوي

مع أوّل خيط ذهبيّ نسجه صباح هذا اليوم في سماء القدس، شعرت بالمدينة تستيقظ على همسات قديمة، كأنّها صلوات سرمديّة تلامس الرّوح، إذ ينهض الصّباح فيها متوشّحا بعبق التّاريخ وأريج البلسم، فيمتزج نداء المآذن بأصوات أجراس الكنائس مع زقزقة العصافير الّتي تتراقص على غصون أشجار الزّيتون المعمّرة أمام البيوت.

تتنفّس القدس صباحها بعمق، فيفوح من أزقّتها رائحة الخبز السّاخن، وزيت الزيتون البكر، وحبّات التّوابل الّتي تطحن ببطء، لتبعث في النّفس انتعاشا يشبه نسيما عليلا يحمل معه عبق الزّعتر البريّ، وتتسلّل إلى الوجود رائحة القهوة الّتي تنسج خيوطها في أرجاء المكان كلّه، كأنّها عطر أزليّ يوقظ الحواسّ ويبعثر الهموم، كقصيدة عطريّة ترتّلها حبّات البنّ المحمّصة، لتعانق نسمات النّهار، وتعلن بداية يوم بعبق جديد، يمتزج فيه الدّفء بالحياة والأمل، فتغدو كلّ زاوية وكلّ ركن، مسرحا لهذا العطر الّذي يأسر القلوب وينعش الأرواح، فكلّ حجر في المدينة يروي حكاية، وكلّ زاوية تخبئ سرّا.

أمّا نكهة الكعك المقدسيّ فهي حكاية بحدّ ذاتها، تختزل عبق المكان وروحه، فهو يُعجَن بحبّ الأرض ويخبز بلون القمح.

هو رفيق الجلسات الصباحيّة، حيث يختلط عبيره الزّكيّ بضحكات الأهل ودفء الأحاديث، هو جزء لا يتجزّأ من طقوس الحياة المقدسيّة، ورسالة محبّة تقدّم من قلب المدينة إلى كلّ من يتوق إلى طعم الأصالة.

في الصّباح الباكر، تتجلّى هذه الأسرار كلوحات فنّيّة، رسمتها أيادٍ خفيّة على مرّ العصور.

ترى الباعة يتأهّبون، وتسمع ضحكات الأطفال وهي تتناثر في الهواء كأنّها حبّات لؤلؤ.

وما إن اكتمل ضوء الصّباح حتّى وجدت نفسي أسير في أزقّة القدس، لا تائهة بل مفتونة بكلّ تفصيلة تحت نور شمسها المشعّة.

هي ليست أشعّة شمس تلوح في الأفق، بل هي قناديل نور توقد في دروب القلب، تضيء الأزقّة الحجريّة العتيقة، وتقبّل جدرانها الّتي شهدت قصصا لا تحصى من الصّمود والعشق.

توقّفت عند زاوية مهملة، حيث تتدلّى أغصان شجرة تين عتيقة، نضجت قبل أوانها، فحمَلَت ثمارا بنفسجيّة ناضجة، لم يمدّ إليها أحد يده، قطفت ثلاث حبّات تين بحذر، وحملتها بين كفّيّ كأنّها جواهر نادرة، وأكملت طريقي نحو السّوق القديم، وهناك.. جلست بجوار رجل عجوز يبيع الأزهار ، وجهه محفور بتجاعيد الزّمن، قدّمت له حبّة تين مبتسمة، فأشرَقت أساريره بابتسامة تشبه نور المكان، وأهداني غصنا من ياسمين فوّاح.

ثمّ واصلت طريقي، لأجد طفلين يلعبان بجوار الطّريق، أحدهما فقد كُرَته الصّغيرة، فأعطيت كلّ واحد منهما حبّة تين، وأخبرتهما أنّهما سحر يجلب الفرح.

تفتّحت عيناهما بالبهجة، وتعالت ضحكاتهما البريئة الّتي غمرت المكان بالجمال.

بعد ذلك، توجّهت إلى مقهى أنيق؛ لأحتسي فنجانا من القهوة السّاخنة المعتّقة بالهيل، وأنا أتأمّل جمال الشّوارع وأصوات المارّة.

هذه الأشياء البسيطة الّتي شاركتكم بها، أشعلت في نفسي جذوة الفرح، وجعلت هذا الصّباح بداية ليوم جديد بهيج، فهذه المدينة تحتضن في قلبها أرواحا تعلّقت بها، وتشتاق إلى ترابها.

شعرت أنّ هذا النّهار زاخر بالرّوحانيّة، حيث يعانق فيه المكان أبديّة الزّمان، ليعلن للعالم أنّ فيه من السّحر ما لا يمحوه ليل ولا يدركه وصف، ففي كلّ ومضة فجر، تعيد القدس اكتشاف ذاتها ببهجة، وتلقي على محبّيها تحيّة من نور وسكينة، وكأنّها تهمس وتقول: ها أنا ذا، أشرق من جديد، ومعي قصص لم تُروَ بعد، وأمل لا ينتهي.

وتظلّ في توق دائم لسلام يعانق قبابها، وهدوء ينساب بين أزقّتها، لتشفى جراحها وتزهر فيها الحياة بصفاء أبديّ.

***

صباح بشير

 

عرف التاريخ أدباء كثيرين، ولكن قل بينهم من جعل من محنته منجماً لإبداعه، ومن سجنه مدرسة لفكره، ومن منفاه وطناً لروحه. ذلك هو جمعة اللامي، الرجل الذي لم يعرف الأدب طريقاً إليه إلا عبر ظلمة الزنزانة، ولم يكتشف صوته الإبداعي إلا بعد أن صمتت حوله كل الأصوات. إن تجربة هذا الرجل لتذكرنا بحقيقة جلية: أن العبقرية قد تولد في أحضان المعاناة، وأن الحرية الحقيقية هي حرية الروح قبل حرية الجسد.

لقد كان اللامي – كما يروي لنا معاصروه – غريباً عن عالم الكتابة قبل سجنه، وكأن تلك السنوات القاسية التي قضاها خلف القضبان كانت بمثابة بوتقة انصهرت فيها مواهبه الكامنة، ليفاجئ الجميع عند خروجه بأديبٍ مكتمل الأجنحة، وصحفي يمتلك رؤية فريدة. أليس هذا التحول العجيب دليلاً على أن الإبداع الحقيقي لا يورث ولا يكتسب بالدراسة وحدها، بل هو وليد التجربة الحية والمعاناة الصادقة؟

 فهم اللامي أن السجن ليس نهاية المطاف، بل هو بداية لرحلة جديدة، رحلة البحث عن الذات عبر اللغة. وكما يقولون: "إن بعض النفوس تصنع من الحجر سلماً، بينما يصنع منها الآخرون حاجزاً". فاللامي صنع من محنته سلماً يعتلي به قمم الإبداع، جاعلاً من تجربة السجن مادة دسمة لأدبه، ومن ألم الغربة وقوداً لإبداعه.

تأتي روايته الشهيرة "من قتل حكمة الشامي؟" لتكون شاهدة على رؤيته الفريدة للأدب. فهي ليست مجرد رواية بوليسية تقليدية، بل هي مغامرة وجودية تطرح أسئلة جوهرية عن الحياة والموت والهوية. لقد تجاوز اللامي في هذه الرواية حدود الشكل التقليدي، مازجاً بين الواقعي وما وراء الواقعي، بين التاريخي والراهن، بين الذاتي والجماعي.

إن السؤال الذي تطرحه الرواية في عنوانها ليس سؤالاً بوليسياً فحسب، بل هو سؤال وجودي يمس كل عربي وكل إنسان: من يقتل الحكمة فينا؟ من يذبح طموحنا إلى الحرية؟ من يقضي على أحلامنا في التغيير؟ إنها رواية تفضح الزيف وتكشف الأقنعة، وتكاد تكون صرخة مدوية في وجه كل أشكال القمع والاستبداد.

الصحافة مشروع ثقافي

ولم يكتفِ اللامي بالأدب الإبداعي، بل جعل من الصحافة مشروعاً ثقافياً متكاملاً. لقد أراد أن يحرر الصحافة مما أسماه "تقريرية الكتابة"، جاعلاً منها فضاء للتأمل والتفكير، ومزجاً فيها بين العام والشخصي، بين اليقظة والحلم، بين المادية والروحانية. ألا يذكرنا هذا بروح طه حسين نفسه الذي جعل من المقال الصحفي عملاً إبداعياً راقياً؟

لقد فهم اللامي أن الصحافة الحقيقية ليست مجرد نقل للأخبار، بل هي مشاركة في تشكيل الوعي الجمعي، وهي مساءلةٌ دائمةٌ للواقع، وهي أيضاً بحث عن الحقيقة مهما كانت مريرة. وهذا ما جعل "عموده" الصحفي مميزاً ومثيراً، لأنه كان يخترق المألوف ويهز الثوابت، ويطرح الأسئلة المحرجة التي يتهرب منها الآخرون.

وعندما اختار اللامي المنفى، لم يكن هروبا من الواقع، بل كان بحثا عن فضاء أكثر رحابة للإبداع. لقد أدرك أن الكاتب الحقيقي قد يكون مضطراً أحياناً لأن يبتعد جسدياً عن وطنه ليكون أقرب إليه روحاً وفكراً. وفي الإمارات، وجد الرعاية التي مكنته من مواصلة مشروعه الإبداعي، فكانت كتاباته من المنفى أشبه برسائل حب موجهة إلى العراق، وإلى الإنسان العربي في كل مكان.

لقد عاش اللامي المنفى بكل تناقضاته: ألمه وحنينه، وحريته واغترابه. وكما قال أحد النقاد: "ظل العراق حاضراً في كل ما كتب، حتى عندما كان يكتب عن أبعد الأشياء عنه". وهذا هو قدر المبدع الحقيقي: أن يحمل وطنه في قلبه أينما حل وارتحل.

لقد رحل جمعة اللامي جسداً، لكنه بقي حاضراً في أعماله التي تشكل علامة فارقة في الأدب العراقي والعربي الحديث. إنه نموذج للمثقف العضوي الذي لم يفصل بين الأدب والحياة، بين الإبداع والالتزام، بين الفكر والممارسة. لقد كان صوتاً حراً في زمن القيود، وشاهداً على عصره بكل تحولاته وتناقضاته.

واليوم، ونحن نودع هذا الرجل الاستثنائي، علينا أن نستلهم من سيرته الدرس الأهم: أن الإبداع الحقيقي هو ذلك الذي ينبع من التجربة الحية، والذي يتحول فيه الألم إلى طاقة خلاقة، والسجن إلى فضاء للحرية، والمنفى إلى وطن بديل. وهكذا يكون الأدب الحقيقي: شهادة على العصر، وصرخة في وجه الظلم، وأملاً في غد أفضل.

"سيبقى ذكر جمعة اللامي علامة بارزة في أرشيف الذاكرة العراقية والعربية الحية".

***

د. عبد السلام فاروق

 

رغم أن الشقيقتين «الرواية والسيناريو» تعتمدان على السرد وتقديم شخصيات وأحداث، إلا أن بينهما فروقًا جوهرية تتعلق بالشكل والمضمون، وهدف كل منهما وطريقة تلقيه من الجمهور. فالرواية تُقرأ، أما السيناريو فيُشاهد. وهذا الفارق الجوهري يُفضي إلى تباينات كبيرة في البناء والأسلوب. وكنت قد تحدثت في مقال سابق عن ذاتية الكاتب والتأثير النفسي وأشرت إلى أن الكتابة الروائية يمكن أن يظهر بها الذاتية أكثر من كتابة السيناريو لأن السيناريو يعتمد على ورشة كتابة، تسعى إلى إلغاء الذاتية، والطرح الشخصي إلى أن يكون العمل حيادياً ويقدم الشخصية بمختلف أبعادها قدر الإمكان، وهنا سوف أشير إلى أهم الفروق بين الكتابة الروائية وكتابة السيناريو، والسيناريو يُكتب ليتحوّل إلى صورة مرئية ومسموعة تُعرض على الشاشة، مما يعني أن الكاتب لا يخاطب القارئ مباشرة، بل يخاطب صنّاع الفيلم المخرج، الممثلين، المصور.. كما أن الرواية تعجّ بالوصف النفسي والداخلي والمكاني، وتغوص في مشاعر الشخصيات وأفكارها، وقد تمتد صفحات في تأمل مشهد أو انفعال،، السيناريو يتجنّب الحشو، ويكتب فقط ما يمكن تصويره أو سماعه، فالمشاعر تُعبر عنها الصورة أو الأداء، لا الكلمات المكتوبة فيما الحوار في الرواية فهو جزء من النسيج السردي، يمكن أن يتداخل مع الوصف أو يطول دون أن يُشعر بالملل، ويكون الحوار في السيناريو هو إحدى الأدوات الأساسية لتحريك الأحداث والكشف عن الشخصية، ويُكتب بتركيز وإيجاز وواقعية لأنه سيُقال على لسان الممثل

يقول كاتب السيناريو العراقي سعدي صالح المقيم في الشارقة، ان القصة بمثابة السيناريو بوصفهما جنسين أدبيين لكن الاختلاف الأساسي بينهما هو أن القصة هي منتج أدبي مكتمل بوصفها جنسا أدبيا راسخا فيما السيناريو هو مرحلة أولى من ثلاث مراحل تبدأ بكتابة السيناريو ثم التصوير والإخراج فالمونتاج والتقطيع الذي هو تجهيز الفيلم أو المادة الفيلمية للعرض على الشاشة. وأوضح أن السيناريو غير جاهز، بوصفه مرحلة أولى في صناعة السينما، لأفق التلقي مثلما هي حال القصة القصيرة رغم ما فيه من حوارات داخلية وكتابة للصورة بتفاصيلها المادية والنفسية والشخصيات الحاضرة على المستوى التخييلي. وفي السياق ذاته قال -- لا شعرية أبداً في لغة السيناريو بل ينبغي أن يكون هناك وضوح في اللغة التي لا تحتمل أي لبس أو معنى آخر وينبغي أن تكون الحوارات في السيناريو قصيرة ومكثفة وواضحة وأقرب إلى الكلام العادي ضمن أسلوب السهل الممتنع». وأضاف / مع ذلك فالسيناريو جنس أدبي بالمطلق لكنه لا يحتاج من اللغة إلا ما يمكن فهمه من قبل الآخرين في مراحل أخرى لترجمة الصورة المكتوبة بواسطة الكاميرا إلى مشهد سينمائي، وقال أيضا تدور القصة في مكان واحد غالبا بينما يمكن للسيناريو أن يجري الحدث فيه في أكثر من مكان بوجود شخصيات تتسم بالتفاعل مع المحيط والبيئة من حولها، وهي شخصيات مكثفة ومكتوبة بعناية وتركيز». ثم عرض لطريقتين في التقنية الكتابية التي يجري من خلالهما إنتاج السيناريو وهما ما يعرف بالطريقة الأميركية حيث يجري استغلال الصفحة البيضاء كاملة على نحو أفقي وعمودي كما هي الحال في القصة القصيرة عندما يستغل القاص بياض الورقة كله، أما الطريقة الأخيرة فتُعرف أحيانا بالطريقة الشرقية التي يجري فيها تقطيع الصفحة عموديا إلى قسمين يحتوي القسم الأول منهما، أي الذي إلى اليمين، على وصف الشخصيات المادي والنفسي بينما يكون الحوار في الجانب الأيسر. موضحا أن ينبغي تحديد الزمان والمكان بالنسبة للمشهد فهو إما داخلي أو خارجي وإما ليلي أو نهاري فضلا عن تحديد لجهة الفئة العمرية

***

نهاد الحديثي

كثير منَّا يَحضرُ عنده مرات عديدة سؤال: كيف يمكن التحرر من حيثيات أحداث الماضي المبعثرة، والمتراكمة على هامة الذات؟ كيف يمكن القفز عن العقبات المزمنة، وتلك التعلقات النفسية القهرية؟ هنا تكون الأجوبة متناقضة نحو امتلاك مُحفزات التخفيف من ردة الفعل، والتنقيص من التوتر، والزيادة في الوعي البيني، وهذا كله لن يستقيم إلا عبر تقنية حديثة من التسليم والتصديق والثقة في المستقبل، ومعرفة القيود الكابحة، والسماح لها من برحيل التحرر(الثاني) مما علق في المشاعر النفسية السلبية.

ما نوعية المشكلات الضاغطة بالتكرار؟ قد تتنوع مشكلاتنا بالاختلاف والتوزيع والحدة، لكنها في نفس الوقت تبقى مشكلات تتعلق بالذات وبالآخر، أو بفواصل وتعلقات المحيط. من زينة الحياة بالفرحة المفبركة، حين نقدر على تفكيك مشكلة ما بالحلول الإجرائية، حينها نعيش قد فسحة من الأمل، وشعور براحة يقصر بريقها أو قد يطول، لكن تبقى جميع المشاكل تجارب (إكلينيكية) لا تنتهي، بانتهاء المشكلة الأولى،  بل قد تخرج الثانية للوجود وتتطلب حتى هي حلولا أخرى أكثر دقة.

أين نجد الأجوبة الشافية من الألم والمواجع بالإحاطة والتصويب؟ هي ثرثرة العقل لن تجدينا نفعا مهما أينعت. هي ثرثرة من علماء وخبراء نفس واجتماع كثيرة، ولن تكون الحد الفصل من كسب رهانات السعادة وجودة الحياة. حينها قد تكون حلول الخبراء وغيرهم طوباوية ولن ينفعها التعميم المفرط في التنميط (الجغرافي)، وقد تستند وقوفا نحو التعويم، بينما الحل الأمثل يتمكن في إيجاد مسالك قارة وآمنة للسعادة، وبلا متممات هامشية، أي بتواجد مقاربة صريحة تنفض كل المشكلات مهما كانت بالحلول، وتتسم بالعدالة الاجتماعية، والكرامة، والواقعية، والثقة في فن صناعة المستقبل.

لماذا لا نقدر على حُسن امتلاك آليات السعادة، وتجويد أنماط الحياة الفردية والجماعية؟ إن ساعات الانكسارات هي التي تتكلم علانية، بينما تبقى دقائق السعادة المعدودة في الزمن والمكان تستر وراء الشكوى المبحوحة وراء اللثام (المرابطي)، وتتموج بين الشد على لحظات ثوان من البهجة، والارتماء في أحضان المشاكل غير المنتهية بالتمام. فالتحرر الجزئي، لن يتم بحمل سلاح الغضب علانية،  والثورة على الذات والآخر، وبهذا الفعل التهوري  قد تحدث الفوضى ويتم الانتقام المزدوج بالانعكاس.

كيف يمكن التحرر الجزئي من الألم والوجع؟ لن يتم الأمر بالفتنة، ولا برؤية الحلول التنظيرية المعيارية بنهاية (أحبك وجعي). ولكن، نقول أن الأمر: لا يستقيم البتة مع واقع الحال (المستفز)، وتلك الوضعيات المشكلة الممتدة برحم توالد المصفوفة (Matrix)، وكذا المخصية بالنهايات الحتمية (اللاعقلانية). فالألم، يعيش فينا بمتلازمة (ادفع)، ولن ينتهي بالتلقيح الاصطناعي، ولا بالمسكنات المبنجة وأخذ المنشطات، بل قد ينتهي حتميا بالموت، والذي حتى هو (الموت) ينتقم منه، ويجعل له نهاية.

إن البحث عن حلول للمعاناة الفردية والجماعية، يجعل من الجميع يتحدث عن حلول آتية من الأمل، والعيش في إنتاج الأحلام، وبالعمل على إنهاء تكسير مرايا الماضي الضاغطة بآهاتها المتدنية، بل تبقى الحلول من بديهيات نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)، حيث لا يتواجد هنالك مستطيل متحرك الأشكال يحتوي على إجابات معرفية مطلقة وتامة ونهائية.

فمن المستحيل أن نُسقط ذكريات الحياة الماضية من سلة الأعمار المتراكمة بالكم، ومن الصعب إنشاء وضعية الانقلاب (قلب الطاولة على المشاكل الكلية)، وفسخ عقود مناورات الذاكرة المتفحمة، والتي توثق لكل أحداث الماضي. لكن من وسائل التحرر الأنيقة، الفصل بين وضعيات أرشيف نفس الماضي، وكسب حلول منطقية عند كل من كان سببا في تدميل الألم والمواجع، كل من كانت له علاقة بالمآسي التي يمكن عيشها في الحاضر، ولما لا حتى المستقبل.

هنا قد يصبح إنتاج حلم المستقبل الغائر من أولويات التحقيق، ونحن جميعا نبحث عن الواقع الجيد لتحقيق سعادة حلم حياة، وبلا منغصات أفسدت الماضي، وقد تفسد الحاضر والمستقبل. إنه وجه أنيق من التحرر، وخيارات من تعلم حسن الاختيارات ومعاودة كرة النهوض وقوفا، والتي تتأصل على أفكار (ما بعد الحداثة)، بالموازاة السليمة مع ثوابت الماضي، وتفجير ألغام منافذ الآلام.

***

محسن الأكرمين

عندما سأل امبرتو إيكو عن تجربته في كتابة روايته " اسم الوردة " أجاب كنت أحاول أن أمزج بطريقة هوجاء بين الأفكار الأكثر غرابة. كنت أقول مازحاً، ما فعله نيتشه في هكذا تكلم زرادشت، أو ما فعله جيمس جويس في يوليسيس، أحاول أن أفعله في رواية فلسفية مشوقة. ولكني اكتشفت بعد ذلك إن علينا أن نترك العظماء فوق عروشهم دون أزعاجهم "

يعلمنا فردريك نيتشه المولود عام 1844، أن علينا ان لا نقرأ الأدب والفلسفة على إنهما نوع من أنواع الكتابة، وإنما أن نقرأ كلا الأمرين على إنهما شكل من أشكال الحياة.. يوصف كتاب " هكذا تكلم زرادشت " الذي نشر ما بين عام 1883 و 1885، بأنه رحلة روحية في العالم الحديث، ونيتشه نفسه قد دعاه " دعوة صادرة من أعماق نفسي ". فالكتاب يقدم آراء نيتشه الفلسفية في قالب فني، ويمثل الإتجاه الصوفي الذي اتخذه في أواخر حياته.يكتب نيتشه في " هذا هو الإنسان " إن: " الفكرة الرئيسة في كتاب هكذا تكلم زرادشت هي فكرة العود الأبدي، لقد دونت تلك الفكرة في مذكرة سريعة على ورقة مع حاشية تقول: ستة الآف قدم وراء الإنسان والزمن، في يوم من عام 1881، كنت أتمشى عبر الغابات وتوقفت بجانب صخرة ضخمة مرتفعة على شكل هرم، وهناك طرأت لي الفكرة. حيث اكتشفت علامة تحذير على شكل تغير فجائي وعميق طرأ على ذوقي – وخاصة في مجال الموسيقى. وربما يمكن توصيف كتابي ( هكذا تكلم زرادشت ) بالكامل على انه موسيقى – فأنا متأكد من أن ولادة جديدة، نوع من عصر النهضة في داخلي عن فن الانصات كان شرطاً لازماً لهذا الكتاب."

منذ صدوره اعتبر كتاب (هكذا تكلم زرادشت) من اكثر الكتب  إثارة للجدل، حاول نيتشه أن يقدمه الى المطبعة باكثر من جزء ، وقد تأخر صدور الجزء الأول بسبب انشغال المطبعة بطبع نسخ من التراتيل الدينية، وعندما أرسل الجزء الثاني الى الطبع رفض صاحب المطبعة، طباعته بدعوى انه كتاب فاشل، وكان كلام الناشر صحيحاً، فلم يبع من الجزء الاول سوى أربعين نسخة، حيث استقبِل الكتاب ببرود قاتل من قبل المهتمين بالفلسفة، فلم يُرحب به أحد بل حتى زملائه السابقين في الجامعة اعتبروا الكتاب فاشلاً لأنه يريد أن يقتل جميع الأديان والآلهة:"لأنني عشت جميع الأخطار، فسأدفنكم بيدي أنا، لقد ماتت الآلهة القديمة منذ زمن بعيد، ولقد كانت نهايتها حسنة وفرحة". ويذهب نيتشه أبعد من ذلك حين يعلن " إن الضعفاء والعجزة يجب أن يفنوا، هذا أول مبدأ من مبادئ حبنا للإنسانية "، تلك هي القيم التي بشر بها زرادشت نيتشه فليس الوجود إلا "الحياة"، وليست الحياة إلا "الإرادة"، وليست هذه الإرادة إلا "إرادة القوة". بعد ذلك نسمع زرادشت وهو يقول واعظاً:"عيشوا حياة الأخطار وأقيموا مدنكم الى جانب الأقوياء، وابعثوا بسفنكم الى البحار المجهولة، ثم عيشوا حالة حرب ".

يؤكد نيتشه إنه ما من أحد قادر على انتاج عمل فني عظيم من دون تجربة، أو تحقيق مكانة دنيوية متميزة، ولهذا نجده معجباً بالفيلسوف الاغريقي ابيقور الذي اعتبره " مسكن الارواح " و " أحد أعظم البشر، مبتكر اسلوب بطولي – رعوي من التفلسف "، لم يكن كتاب هكذا تكلم زرادشت إلا حلماً من الأحلام التي تسجلها العقول العظيمة وكما اعترف نيتشه:" إنها روح طغت على كل ما يحدها ".

***

علي حسين

في المثقف اليوم