أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

هناك كتاب مشهور للكاتبة الأمريكية "دوروثي برااندي" بعنوان "لياقات الكاتب".  تقدم فيه  “دوروثي براندي” خريطة طريق للكتاب الناشئين كيف يتغلبون على صعوبة الكتابة و ما هي المهارات التي يحتاجونها حتى يواصلوا السير على درب الإبداع الشائك..

قسّمت دوروثي الصعوبات التي يواجهها الكتّاب الناشئين إلى أربع صعُوبات رئيسية:

الأولى؛ صعوبة الكتابة بشكل عام، معلّقةً بأنّ مقولة ”(مَن لا يمكنه الكتابة ليس كاتبًا وعليه تغيير مهنته) هو استنتاج مستفزّ ومحض هراء! قد يكُون جذر المشكلة هو السنّ الصغيرة وتقليل الشأن من الذات … وقد يكون مصدر المشكلة ببساطة هو الخجَل.“

الثانية؛ المؤلف لكتاب واحد وعرّفته بأنّه المؤلف الذي ”حرّر نفسه من الشعور بالنقمة تجاه والديه ومجتمعه وثقافته كلها، وبعد أن بق البحصة واستراح، أصبح عاجزًا عن إكمال جولة الانتصارات .. وبهذه الطريقة قد يخسره عالم الأدب!“

الثالثة؛ الكاتب الموسمِي وهو الذِي يكتبّ بتدفّق رائع ومؤثر ثمّ يمر بفترة جفاف مؤلمة

الرابعة؛ الكاتب النيئ، وهو العاجز عن كتابة ما يريد بطريقة واضحة يستطيع فهمها القارئ، وذلك لافتقاره إلى الثقة بالنفس.

و إن كانت هذه اللياقة المهارية من حيث امتلاك أدوات الإبداع يحتاج إليها الكاتب في بداية الطريق ولكن هناك لياقة أخرى لا تقل اهمية عن اكتساب المهارات والفنيات و الوسائل وهي اللياقة الروحية المعنوية والنفسية فما أكثر الكتاب الذين يفتقدون لهذه اللياقة فتؤثر في كتاباتهم بحيث تفتقد للجانب القيمي الجمالي المنفتح على الإنسانية فالكاتب الذي يفتقد للجانب الروحي لا يملك ضوابط في كتابته لا بهمه إغراق عمله الروائي أو القصصي بالمشاهد الجنسية الفاضحة بدعوى ضرورات الإبداع حتى بطل رواياته هو بطل مهزوم سلبي غارق في الخمر و الضياع فهل هذا البطل يصلح أن يكون قدوة؟

فاللياقة الروحية إذن مهمة للمبدع حتى يرتقي عمله إلى مصاف الأعمال الإنسانية الخالدة...

فليست الكتابة اكتساب مهارات فنية والتدريب عليها فقط  وإن كان هذا ضروري فينبغي على المبدع أن يغوص في أعماق نفسه ليطهرها من كل الأدران و يدخل محراب الروح ليرتع من ينابيع الحب والخير والجمال بل ليفتح قلبه لأشعة الدين الساطعة تضيء دهاليز روحه التي تسكنها العتمة..

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

 شدري معمر علي

...........................

المرجع:

1- دروثي براندي، لياقات الكاتب، موقع تذكرة.

تأسست جامعة قازان (وقازان عاصمة تتارستان  ضمن روسيا الاتحادية) عام 1804 حسب أمر اداري أصدره قيصر الامبراطورية الروسية آنذاك الكساندر الاول (الذي يرتبط اسمه بالانتصار على نابليون في حربه ضد روسيا عام 1812)، وعندما كنت قبل اكثر من عشر سنوات في زيارة رسمية لجامعة قازان لاحظت لوحة كبيرة جدا لهذا القيصر تتصدّر القاعة الكبرى في تلك الجامعة، ولدى سؤالي عن ذلك، اوضحوا لي، ان هذه اللوحة كانت منسية ايام الاتحاد السوفيتي، ولكنهم اعادوها بعد ترميمها، وتبدو وكأنها مرسومة الان، وذلك احتراما لمؤسس جامعة قازان في الامبراطورية الروسية آنذاك، علما، ان هذه الجامعة تحمل اسم لينين ايضا، والذي اطلقوه عليها بالاتحاد السوفيتي في عام 1924، عندما توفي قائد ثورة اكتوبر الاشتراكية، وذلك لان لينين كان طالبا بكليّة القانون في تلك الجامعة، وهكذا، فان جامعة قازان ترفع صورة الكساندر الاول قيصر الامبراطورية الروسية، وتحمل اسم لينين مؤسس الدولة السوفيتية في نفس الوقت التزاما بمسيرتها التاريخية واحتراما لتلك المسيرة عبر اكثر من قرنين من الزمان وبغض النظر عن النظام السياسي السائد في روسيا (وكم يبدو ذلك الامر غريبا ومدهشا ورائعا بالنسبة لنا، نحن العراقيين، مقارنة مع واقعنا الاليم!!!)، علما ان هذه الجامعة تعدّ الان واحدة من الجامعات العشر الاولى بين الجامعات الروسية كافة، وهو موقع علمي متميّز فعلا في مسيرة التعليم العالي بدولة كبرى مثل روسيا الاتحادية، الدولة المتعددة القوميات والاعراق والثقافات والتي يوجد فيها المئات من الجامعات العامة والمتخصصة، اضافة الى مؤسسات التعليم العالي المتشعبة  الاخرى من معاهد ومدارس عليا...الخ.

من جملة ما تفخر به جامعة قازان، هو ان الكاتب الروسي تولستوي كان طالبا لديها في القرن التاسع عشر (التحق بالجامعة عام 1844)، ورغم انه قضى سنتين دراسيتين فقط في صفوفها ليس الا، حيث  كان في البداية طالبا يدرس اللغات الشرقية (درس اللغتين التركية والعربية)، ثم انتقل للدراسة في كليّة القانون، وترك تولستوي الدراسة الجامعة بعدئذ نهائيا، الا ان جامعة قازان لا زالت تحتفظ بوثائقه وتعتزّ طبعا  ان تولستوي كان طالبا لديها في فترة ما، ولهذا، فان الجامعة تقيم بين حين وآخر ندوات علمية ومحاضرات وسمنارات حول هذا الاديب الروسي الشهير، باعتباره  كان احد طلبتها، اضافة الى انها اطلقت اسمه على عدة مؤسسات داخل الجامعة، ونود ان نعرض للقارئ العربي في مقالتنا هذه بعض جوانب تلك الفعّاليات الثقافية في جامعة قازان حول تولستوي، اذ اننا نرى في جوهر هذه النشاطات جانبا مشرقا ورائعا للتعبير عن وفاء الجامعة تجاه طالب سابق لديها درس سنتين دراسيتين فقط، وكم يذكّرنا هذا الوفاء بواقعنا المرير عن (عدم الوفاء، ولا اريد استخدام كلمة اخرى !!!) لمؤسساتنا الجامعية العراقية تجاه اعلام عراقيين كبار درسوا في صفوفها  (لم نشاهد مثلا في مئوية الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة اي مشاركة حقيقية لجامعة بغداد في تلك المناسبة المهمّة، وكأن نازك الملائكة ليست خريجة تلك الجامعة، ولم نسمع بأي مبادرة حول خريج جامعة بغداد  بدر شاكر السياب ايضا، وهناك الكثير الكثير من اسماء المبدعين العراقيين طبعا في هذه القائمة !!!) . ان المؤسسات الجامعية لدينا لا تتذكر خريجيها او الذين درسوا فيها من هؤلاء المبدعين العراقيين بتاتا مع الاسف، بل ولا تشير الى ذلك نهائيا حتى في اصداراتها وادبياتها، ولهذا لا تعرف الاجيال العراقية الجديدة الجذور والاسس الفكرية والحضارية لهؤلاء المبدعين . لقد اطلعت على محاضرة تم تقديمها لطلبة الكورس الاول في جامعة قازان عن دراسة تولستوي في تلك الجامعة، وتحدّث المحاضر بالتفصيل عن مسيرة (الطالب تولستوي)، وكيف انه لم يتقبّل نظام التعليم الجامعي بشكل عام، ويشير المحاضر الى تفصيلات طريفة، منها، ان تولستوي لم يكن يستسيغ المحاضرات (الجافة!)، التي كان بعض الاساتذة يلقوها على الطلبة بالطريقة الاملائية، وكان الطالب تولستوي في هذه الاثناء يجلس في الصفوف الخلفية (..ليقرأ الجرائد ..)، وذكر المحاضر ايضا، كيف ان تولستوي كتب في مذكراته عن تلك الفترة، حيث جاء في تلك المذكرات السبب الذي قرر على اساسه ترك الدراسة الجامعية، وقال تولستوي في تلك المذكرات، ان  أحد الاساتذة طلب منه مرّة كتابة تقرير علمي، واستهوى تولستوي الموضوع فذهب الى القرية، وهناك اندمج مع قراءة مونتيسيكيو، وفتحت هذه القراءة المعمقة لتولستوي آفاقا واسعة، فانتقل لقراءة جان جاك روسو، واستمرّ في القراءة والبحث العلمي، وقرر بعد ذلك ترك الجامعة (...كي يتعلّم ..)، ويوضّح المحاضر للطلبة، ان هذا القرار كان يتناغم مع نفسية تولستوي (الانسان الحر، والانسان المتمرد) منذ ان كان في ذلك العمر اليافع، وانه استمر هكذا طوال حياته، ويشير المحاضر، الى ان روايته (الحرب والسلم) هي في الواقع (.. نقاش مع علم التاريخ، الذي كان سائدا في عصره ...)، وان موقفه المعروف من الكنيسة الروسية هو تعبير آخر من مظاهر ايمانه المطلق بالحرية، وصولا الى حادثة هروبه الغريب من البيت قبيل وفاته،  ويصل المحاضر الى استنتاجه المنطقي الاخير عن سبب تركه  الجامعة، وهو ان تولستوي كان يجب ان يترك الجامعة، لأنه لا يمكن ان يخضع دون نقاش لقوانينها الصارمة .

تولستوي وجامعة قازان موضوع واسع جدا في الدراسات الروسية عن تولستوي، اذ توجد العديد من الكتب والبحوث حول ذلك، حيث يجد الباحثون في ثنايا التفاصيل الدقيقة لتلك المرحلة المبكرة ملامح وخصائص تولستوي الكاتب والمفكّر، والتي سوف تتبلور في مسيرته اللاحقة .

متى نرى بحوثا علمية عندنا بعناوين مثل – نازك الملائكة ودار المعلمين العالية، بدر شاكر السياب ودار المعلمين العالية، غائب طعمه فرمان وكلية الآداب ......  

***

أ.د. ضياء نافع

يتحدث عن مشاركته في تونس وعن دور الفن في السلام بين الشعوب والبلدان:

من عوالم الفن الرحبة اكتسب حميمية النظر والتلوين فراح مسافرا يحمل حلمه وبعض طفولة يانعة حيث الرسم والفن التشكيلي عموما من عناوين الترحال لديه وفق ما يعتمل في دواخله وما وسعته شواسع قلبه ... بثقافة جمالية وفنية انسانية وكونية وبرسالة الفن العارمة كان تطور الابداع لديه وهو القادم من سيبيريا الروسية ليستقر في سلوفاكيا مكان ابداعه وشغله الفني كطفل حالم في سماء البراءة يقتفي أثر الفراشة...تلك الفراشة المزركشة بأبهى الألوان.

ألكسندر جازيكوف حامل فكرة الرسم والألوان هذا المتجول  في الخرائط حيث تعددت مشاركاته في عديد البلدان من الصين....والى تونس بالمحرس وما بين ذلك من بلاد متعددة ومدن فيها الفن والفنانون ضمن بيانال وسمبوريوم ومعرض و...ورشات وتفاصيل أخرى معنية بما في رغبات الطفل الفنان الكسندر .

قبل أسبوعين كانت زيارته المميزة والحافلة بالتعارف والرسم والمشاريع بالمهرجان الدولي للفنون التشكيلية بالمحرس الدورة (35) بتنسيق مع الفنانة التشكيلية سهيلة عروس وذلك الى جانب مشاريع قادمة ضمن التعاون الفني الابداعي والثقافي بين فنانين من سلوفاكيا وتونس ...

و عن مشاركاته العالمية ومنها بتونس يقول "... بالنسبة الى مشاركاتي في العالم متنوعة حيث أنه في عام 2019، أقيم البينالي العالمي الثامن للفن المعاصر في بكين في المتحف الوطني للفنون في الصين. (8 BIAB. بينالي بكين الدولي الثامن للفنون، الصين 2019.) وقد تم ترشيح  فنانين من 117 دولة من جميع أنحاء العالم في هذا المنتدى الفني الفريد. أنا سعيد جدًا باختيار لوحتي لهذا المعرض الكبير ولأنني أستطيع تمثيل سلوفاكيا. انطباعات لا تُنسى من المعرض، لقاء فنانين رائعين وأعمالهم، وكذلك فرصة رؤية الصين !!!! ذكريات رائعة!!!!!...و البوم في مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية ضمن الدورة (35) لمست حيزا مهما من شواعل الفن وجماليات عناصره لأتعرف على فنانين من تونس ومن بلدان عربية أخرى على غرار المغرب والجزائر وليبيا وهذا مهم الى جانب اللقاء بالناس الطيبين وسعدت بالاطلاع على تجارب مهمة في الفن وجمال وسحر المحرس وتونس بصفة عامة...".

الكسندر تم تكريمه بالمحرس وفي هذا الاطار كان هذا الحوار معه:

ماذا عن البدايات مع الفن؟

- في البداية لم أكن أنوي أن أصبح فنانا ولكن فيما بعد أحببت علم الحفريات والفن والرسم وبدأت أشعر بالرغبة والهيام تجاه الفن ..دخلت أكاديمبة الفنون لأتخرج بمرتبة الشرف ثم صرت أعمل كفنان مستقل فالفن صار يملأ حياتي وتعددت مشاركاتي الفنية في بلدان العالم .

و مشاركتك هذه بمهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية

لقد كانت جيدة وثرية وسبقها تعرفي غلى فنانة تونسية هي سهيلة عروس التي ساهمت في ربط جسور التواصل مع الساحة الفنية التونسية وبالخصوص مهرجان المحرس وفي سنة 2019 كانت لي مناسبة عرض اعمالي عن طريقها وتعرفت على تونس البلد الجميل بأهله وفنانيه ومدارس الفن واتجاهات الفنانين الجمالية وأعمالهم وأسعدني كل ذلك كفنان باحث ومتعاون وحالم.

الوالدان ينحدران من سيبيريا ومنذ 30 عاما أعيش في سلوفاكيا وأنا عضو باتحاد ابداع سلوفاكيا وعضو في اليونسكو ومع كل هذا وبعده صار لي اعتقاد أن الفن يساهم في مد العلاقات بين المبدعين والشعوب بروسيا وسلوفاكيا وافريقيا وآسيا وغيرها من جغرافيا العالم ..الفن هو السلام والحب والانسجام والعالم اليوم في حاجة الى كل هذا بعيدا عن الحروب والصراعات والتفرقة...الفن يوحد ويجمع.

وماذا عن عملك الفني وتقنياته؟.

أعمل بتقنية الزيتي والأكريليك وهذا يبدو في أعمالي حيث أحرص على التوغل في التجربة وابتكار أسلوب جديد ..الرسم عندي بمثابة مشروع يتوافق مع ما أفكر فيه ففي أعمالي جوانب كبيرة من الروحانيات والمشاهد والورتريهات.

و كان ضمن هذا عملي المشارك في بيانال الصين بمناسبة دورة الالعاب الشتوية بمشاركة واسعة لفنانين من العالم وبعنوان " الصين في عيون فنانين من العالم " سنة 2022 وهي مناسبة للرياضيين للاطلاع على أعمال فنية لفنانين من العالم وما تضمه من جماليات وابداعات عالمية. كما تم اختياري كفنان وحيد من سلوفاكيا للمشاركة في بنغلاديش ضمن المهرجان الفني  .

وأخيرا ما ذا تقول أيها الفنان:

أود أن أشكر تونس وشعبها على الضيافة والمشاركة ..لمست عمقا ثقافيا لتونس وحبا للفنون ووعيا بما للابداع من دور في تقريب الثقافات والأفكار والشعوب ..المحرس بها مهرجان مهم وأشكر بالمناسبة القائمين عليه وقد استمتعنا بمختلف الفقرات من المعارض والشعر والفكر والنقد والورشات والهامش المهم الذي به أصوات الناس وحياتهم وأحلامهم.. شكرا لتونس الفن والابداع والمحبة.

***

شمس الدين العوني

عبد المجيد يوسف أديب تونسيّ من مواليد 26 جويلية سنة 1954. حفظ نصيبا وافرا من القرآنَ وهو في الثّامنة. نشط في الحياة الثّقافيّة التّونسيّة منذ ان كان تلميذا وشارك في العديد من الأندية الأدبية والتّظاهرات الثّقافيّة. متخرّج من كلية الآداب بتونس بالأستاذيّة في الآداب العربيّة وتحصّل على الدّبلوم العالي للّغة والدّراسات الإيطاليّة ثمّ على دبلوم الدّراسات المعمّقة من كلية الآداب بسوسة. يكتب الشّعرو القصّة والرّواية ويهتمّ بنقد السّرد. ونشر عدّة قصص وقصائد ودراسات مترجمة من وإلى اللّغات العربية والفرنسية والإيطالية وأصدر أكثر من ثلاثين كتابا

توفّي الفقيد يوم السبت 26 أوت 2023 ودفن في مدينة سوسة

من إصداراته

= “مقاربات نقديّة“. الناشر: دار سعيدان بسوسة، تونس 1994.

= “أهداب النّخل” (دراسات عن القاص التونسي بشير خريف). الناشر: دار سيبويه بالمنستير، تونس 2008.

= “زوايا معتمة” (قصص). الناشر: المجلس الثقافي الليبي، ودار قباء، مصر 2008.

= “سحب آسنة” (مجموعة شعرية). الناشر: دار البراق، سورية، 2010

= “وبعد“. مجموعة شعرية للشاعر الإيطالي جوزبي نابوليتانو. ترجمها عن الإيطالية. الناشر: دار البراق، سورية 2010.

= “تراتيل الترحال” مجموعة شعرية للشاعرة راضية الشهايب نقلها إلى الفرنسية وترجمت للإيطالية وصدرت بنابولي 2010 عن دار لا ستنازا دل بويتا [بيت الشاعر].

= = ترجمة من العربيّة إلى الفرنسيّة لديوان للشاعر السعودي رائد أنيس الجشي[7]، صدر في فرنسا عن دار هارماتن في بداية 2014.

كتاب المواجيز ـ شعر

رواية اللواجست ـ رواية المعصرة ـ ورواية Les nichons de ma mère

المعراج والخيول ـ ديوان مشترك مع  سُوف عبيد

Oxyde de l’ame  قصائد مترجمة للفرنسية لسُوف عبيد

شارك في كتاب جماعي بعنوان “المسعدي  مبدعا ومفكرا”  الصادر عن بيت الحكمة بتونس بمقالة ـ من التخوم إلى الأعماق ـ حدث أبو هريرة ـ المسافر ـ .

قراءة في قصيدة ـ المقهى الأزرق ـ لعبد المجيد يوسف

وهذا نص القصيدة:

أخطأت النادلة

فأحضرت لنا كأسيْــن

كأنّ بها حــــــــوَلا

نحن واحـــد متّحـــد، فكيف رأتنا اثنيْــن؟

الطرف يأخذ بالطرف

والنبض مشوب بالنّبض

والعين تسيـــــــح في العين

والجزء يذوب في الجزء… والصّوت صدى

روحان في جسد… جسدٌ في روحيْــــن

واليوم أعود إلى ذات المقهى

وأنا غير أنا

مختلف… منشطر وكسير

أجلس في ذات الرّكن

قمرا متهرئا وقديم

تقف النادلة

ثمّ تولّي مدبرة حيرى

تبحث في السلّة عن شيء يشبهني

كوب مشطور نصفــــــين

بأسلوب جديد مبتكر نقرأ – المقهى الأزرق – لعبد المجيد يوسف الّذي نهج فيه أسلوب السّرد لكأنّه ينقل لنا خبرا أو يصف واقعة بعيدا كلّ البعد عن معجم الشّوق وما قاربه من سِجلاّت الحبّ والشّجون حيث نقل لنا حالتين أو واقعتين.

تتمثّل الأولى في جلوسه مع الحبيبة في ركن مقهى وهما في حالة اِنسجام تامّ ثمّ صوّر لنا جلوسه في نفس المكان وحيدا مشتاقا إلى ذكرى الجلسة الأولى وقد بدأ القصيدة قائلا:

أخطأت النادلة

فأحضرت لنا كأسيْــن

كأنّ بها حــــــــوَلا

غير أنّ القصيدة تنزاح انزياحا غريبا عندما نعلم أنّ الشّاعر كان من الاِنسجام والتآلف والتّوحّد مع حبيبته حتّى صار – وهما الإثنان – واحدا:

نحن واحـــد متّحـــد، فكيف رأتنا اثنيْــن؟

الطّرف يأخذ بالطّرف

والنّبض مشوب بالنّبض

والعين تسيـــــــح في العين

والجزء يذوب في الجزء… والصّوت صدى

روحان في جسد… جسدٌ في روحيْــــن

لذلك تعجّب الشّاعر من النّادلة عندما أحضرت لهما كأسين إثنتين! وهنا يكمن الوقع الشّديد في التّعبير بالصّورة والرّمز عن قوّة الاِنصهار بين الحبيبن كقول بِشَارة الخُوري:

لو مرّ سيف بيننا لم نكن نعلمُ هل أجرى دمى أم دمَكْ

ثمّ تعجّب الشّاعر ثانيةً عندما عاد مرّة أخرى وحده في حالة نفسيّة متدهوة عبّر عنها بصورة القمر المهترئ القديم وبتعجّب النّادلة الّتي عوض أن تُقدّم إليه كأسا فإنّها سارعت حيرى تبحث عن كوب مشطور إلى نصفين رمزا للفراق أو كناية عن البُعد بينه وبين حبيبته:

تقف النّادلة

ثمّ تُولّي مدبرة حيرى

تبحث في السلّة عن شيء يشبهني

كوب مشطور نصفــــــيْن.

فالقصيدة اِتّخذت من السّرد والرّمز والمفاجأة عناصر أساسيّة للتّعبير عن الحالة النّفسيّة للشّاعر في حالتيْ الاِئتلاف والِاختلاف مع حبيبته وقد ركّز على حضور النّادلة وتصرفها العجيب في المناسبة الأولى والثّانية وفي كلّ مرّة يكون ردّ فعلها عاكسا لوجدان الشّاعر.

يمكن أن نعتبر القصيدة إنجازا شعريّا جديد بما فيها من إضافة وبحث

***

سوف عبيد ـ تونس

فكرة لفلم سينمائي

يبدأ المشهد بلقطة تظهر فيها شوارع كربلاء بآلاف حاملي الكاميرات والمراسلين من جنسيات مختلفة.. عراقية وعربية واجنبية، تركز على جواد بوشاح اخضر عليه رجل وقور في الخمسينات من عمره وخلفه جماهير يغص بها الشارع ترفع اعلاما عراقيا ورايات خضراء.. ويهزجون (لبيك يا حسين).. وامرأة تسحب (شيلتها) وتهزج (اليوم يومك يبو سكينة).

ترافق الكاميرات المسيرة من كربلاء الى بغداد مشيا على الأقدام وتصور ما يحصل من احداث فيها مفارقات ومفاجئات وصولا الى اسوار المنطقة الخضراء، لتكون المشاهد من هنا تراجيديا في كوميديا سوداء.. كالآتي:

يقف السياسيون السنّة والكرد من سكنة الخضراء موقف المتفرج.. يراقبون، وحين يدعونهم شركاؤهم السياسيون الشيعة الى ان يتخذوا موقفا، يردّون عليهم: ( الحسين امامكم وانتم وأياه تنجازون!)

تمشي الجماهير وراء الحسين.. لها أول وليس لها آخر وتصل قريبا من اسوار الخضراء.

 يتشاور حكّام الشيعة بوجوه مرعوبة من خطورة الموقف، ويتفقون على تشكيل وفد يتفاوض مع الحسين.

 يلتقي الوفد بالحسين فيرد عليهم بالأصرار على الأصلاح.

يذهب الوفد ثم يعود الى الحسين حاملين له رسالة تخيره بين ان يعود من حيث أتى أو القتال.

يلتفت الحسين الى العراقيين ويقول قولا مماثلا لقوله: (ان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين.. السلة او الذلة وهيهات منا الذلة) فماذا تقولون؟.

 يجيبونه بحماس (فوت بيها وعا الزلم خليها!)..

 و(يفوت بيها).. فيواجه عشرات آلاف المسلحين من الفصائل والميلشيات المسلحة، وألافا اخرى من حمايات فلان وفلان، ودبابات وراجمات وصواريخ ما رآها في حياته، تحذره ان تقدم خطوة فسيطلقون النار..

و.. .يخطو الخطوة فتشتعل جهنم!

يلتفت وراءه فلا يرى من تلك الملايين غير مئات من شباب رافعين لافتات (نريد وطن)..

يتوقف الحسين فيتذكر يوم خذله العراقيون عند بيعتهم له وقتل رسوله وسفيره اليهم، مسلم بن عقيل.. فيستعيد خطبته عليهم:

(تبا لكم ايها الجماعة وترحا، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفا.. وحششتم علينا نارا اوقدناها على عدونا وعدوكم..)

يدير ظهره نحو الشباب الذين ما يزالون رافعين راية (نريد وطن) فيخاطبهم:

 (تعالوا يا أنصاري.. لا اريد لكم ان تقتلوا كما قتل من ناصرني.. تعالوا يا احبتي).

يحتضن صاحب الراية ويعطي ظهره للخضراء عائدا بهم الى كربلاء!.. وتصدح هلاهل زوجات (الحسينيين) المنتصرين، فيما السنّة والكرد ينظرون الى بعضهم فرحين غير مصدقين!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

أليست الوحدة أجمل بكثير من ضجيج البشر؟.. العزلةُ لا تعني المعاناة في كل الأحوالِ، فقد يستهويني ذلك الهدوء، الصمت، السكون ..

*

يثلج صدري وتسترخي أعصابي في اعتزال العالم الوقح الذي يجتاح التأملات. إنه يجتاح النوايا الطيبة في أكثر الأحيان، وإن لم تكن في كل الأحيان.

*

لقد ذقت مرارة الضجيج والصخب، ولم أعد أطيقه أبداً فهو مزعج ومرهق. اخبرت نفسي أني سأجلب لها الراحة، السكينة، الطمأنينة.. وأخبرتها أن الوحدة ستحقق كل أمنياتنا وكل طموحاتنا!

*

لكن!!

ومع إني فشلت في أكثر من مرة في جلب احتياجات نفسي لنفسي، إلا أني سأناضل وأُجاهد في سبيل تحقيق ما أرنو له، لعل صبري سيكون صديقي ورفيقي الوحيد وأنا أخوض ذلك، الصراع بين العزلة والوحدة وبين الضجيج والصخب ..

***

سراب سعدي

ظلت الأغنية المصرية منذ نشأتها محكومة بالتيار العاطفي الذاتي، والوطني العام، لكن ذلك لم يمنع الظهور القوي لتيار آخر يغازل بكل الطرق غرائز المستمع الجنسية بحثا عن الرواج السريع، وفي ذلك السياق لم تخل حتى أغنيات أم كلثوم في بداية حياتها من طقطوقة عام 1926 تقول فيها: " الخلاعة والدلاعة مذهبي.. من زمان أهوى صفاها والنبي"، وسبقت ذلك الست نعيمة المصرية في أغنيتها: " هات القزازة واقعد لاعبني.. دي المزة طازة والحال عاجبني"، وأغنيات نعيمة المصرية من نوع:" ما تخافش عليا أنا واحده سيجوريا.. في العشق واخده البكالوريا". كما غنت منيرة المهدية سلطانة الطرب: " بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة". ولم يخل تاريخ الأغنية قط من ذلك اللون الذي يغازل لدي المستمع الغريزة والمخدرات والخمور إما صراحة أو تلميحا ، هذا كله مفهوم بحكم أن الأغنية أكثر الأشكال الموسيقية انتشارا وربحية، في الظروف التي لم تنتشر فيها الأشكال الموسيقية الأخرى مثل الباليه والسيمفونية وقطع الموسيقا البحت. مفهوم إذن اتساع نطاق ما يسمى " تيار الأغاني الهابطة" وركائزه، لكن ليس مفهوما ولا بأي حال ما نسمعه الآن من التغني بالكراهية والشماتة والمذلة، فلم يسبق قط أن تغنى أحد بكلمات مغناة تقول: " اللي يزعلني حوت يبلعه داهية تولعه.. تتلم عليه الناس والدنيا وفين يوجعه.. وفي كل طريق تطلع له الحاجة اللي توقعه"! ويسبح حتى مطرب معروف مثل راغب علامة في تيار الكراهية والشماته حين يغني: " اللي سابنا قفلنا بابنا.. واللي ما بيعرفش قيمتنا خد معاه الشر وراح"! فهل يمكن لمثل هذه المشاعر السوداء أن تغدو مادة للفن وللتغني بها؟. ذلك يشبه الكتابة عن شخص بالغ البخل، ضن على ابنه بأموال العلاج، وعلى زوجته بنفقات الطعام، ثم فقد ذلك الشخص أمواله فجأة في حريق، وأصبح مطلوبا من الأديب أن يستدر العطف عليه، وهذا مستحيل، مهما بلغت عبقرية الأديب، لسبب بسيط أن الفن هنا يدافع عن قضية خاسرة، أي البخل، والدفاع عن الكراهية في الفن قضية خاسرة تسقط كل إبداع. الوجه الآخر للشماتة هو أغنيات المذلة من نوع: " اتعودت انك تهدمني.. وبتدمرني.. وتكسرني". وهما وجهان لعملة واحدة: الروح والعقل المشوه المريض. وما من حل إزاء تلك الأورام الغنائية إلا أن تبرز وتظهر وتعم النماذج التي تتغنى بالحب، وبالحياة، والأمل، وأن نعمل على نشر مراكز الموسيقا في المناطق الشعبية، والرجوع إلى حصص الموسيقا في المدارس، وأكشاك الموسيقا في الحدائق التي تبث روائع الموسيقا العربية، وتوسيع نطاق حضور الفنون في الجامعات، وفتح الأبواب أمام الشبان من الفنانين، وما من سبيل آخر لكسر شوكة ذلك التيار الذي يغترف ما يظنه تجديدا من بئر سوداء.

***

د. أحمد الخميسي - قاص وكاتب صحفي مصري

ترجمة وإعداد: إسماعيل مكارم

في  أيام الخريف الجميلة، في موسم ذهب الغابات،  بهذا العام  سيحتفل المجتمع الروسي على المستويين الأكاديمي والشعبي بالذكرى ال 128 لولادة الشاعر الروسي الكبير سيرغي يسينين.

سوف تقام في روسيا الندوات العلمية، والمؤتمرات ذات الطابع الأكاديمي، وسوف تعقد جلسات بحث لدارسي، ومتابعي، ومحبي أرث هذا الشاعر الروسي الكبير. تجدر الإشارة أن معهد غوركي للآداب العالمية، وجامعة ريازان الحكومية بالتعاون مع متحف يسينين في كونسطانطينوفو - ضيعة يسينين - هذه الجهات كلها تقيم كل عام في اواسط أيلول مؤتمرا علميا لدراسة إرث يسينين. من حسن حظي أني منذ عام 2017 أشارك كل عام في أعمال هذا المؤتمر، الذي ينجز أعماله على مراحل: الاولى في موسكو، والثانية في ريازان، والثالثة في كونسطانطينوفو. نحن ليس للمرة الأولى نتكلم عن عبقرية هذا الشاعر الفذ، وعن أشعاره وحياته، بل سبق لنا أن قمنا بنشر قصائد له مترجمة إلى لغتنا العربية على صفحات صحيفة  " الأسبوع الأدبي" الدمشقية و" صحيفة المثقف" الغراء، كما في الدوريات الروسية.

لاشك أن من اطلع على نتاج مشاهير الأد ب الروسي في القرنين التاسع عشر، والعشرين، ومن درس بعمق هذا الأدب وخاصة ما قدمه الشعراء الروس في العصرين:   الذهبي،  و الفضي سيصل إلى نتيجة مفادها:

أنّ قمة الشعر الروسي في العصر الذهبي - هي أشعار الكساندر بوشكين بأشكالها المختلفة، وقمة الشعر الروسي في العصر الفضي - هي أشعار سيرغي يسينين. إنّ ما يميّز الشعر لدى يسينين هو قرب هذا النتاج من روح الشعب، وتجذره وارتباطه المتين بالأرض الروسية، وانصهاره، لا بل تآخيه مع الطبيعة، إلى جانب دفاع الشاعر عن الإنسان ووجوده أمام خطر هجوم الثورة الصناعية، وزحف العمران المدائني، والخوف من ولادة انسان من نمط  جديد، قد اقتلِعَ من جذوره، وأرضه، وبيئته، ونسيَ ماضيه وعاداته، كما نسي أعياده والتقويمَ الذي عاش عليه أجدادُهُ ومجتمعه.

رأينا اليوم من واجبنا أن نقدم للقراء الكرام مجموعة من قصائد يسينين التي كتبها في مرحلة العشرينيات من القرن الماضي.. وهي مرحلة نضوجه ككاتب وكإنسان. نعتقد أن القارئ الكريم يعرف أن عمر  شاعرنا كان  قصيرا جدا، إذ ولِدَ في  الحادي والعشرين من أيلول عام 1895م (حسب التقويم القديم) أي(3 أكتوبر، في التقويم الحالي)،  وتوفاه الله في 28 كانون أول من عام 1925م في مدينة لينينغراد، ودفن في موسكو، غير أنه ترك لمجتمعه الروسي وللمكتبة العالمية إرثا غنيا وكبيرا، وهذا الإرث العظيم جدير بالدراسة والترجمة.

***

ليسَ غريباً عليّ هذا الشّارع

«Эта улица мне знакома…»

ليسَ غريباً عليّ هذا الشّارعْ

ليس غريباً عليّ هذا البَيتُ المُتواضِعْ.

ولا هذا السّقفُ من عيدان القشّ

الذي تدَلتْ قصَلاتهُ على النافِذة.

**

لقد عِشنا سَنواتٍ قاسِية ً

رأينا فيها قوى قوية جَبّارة.

لا زلتُ أذكرُ أيامَ الطفولةِ في القرية

لا يزال في خلدي ذلك البَهاءُ الأزرَقُ.

**

لم أبحثْ يوماً عن الشّهرةِ والعيش ِ الرغيدْ

إذ أني أعرفُ ما هي الشهرة، صاحِبة السَعادة.

حين أغمضُ عينيّ  في هذهِ الأيامْ

لا أرى سوى بيت الأهل ِ.

**

أرى ذلكَ البُستانَ في أيام المَطرْ

وكيفَ شهْرُ آب يَحنو على السّياج

كيف تحْتضِنُ أشجارُ الزيزفون

تلك الطيورَ وتغريدَها ووَشوَشاتِها .

**

كم أحْبَبتُ هذا البَيتَ الخشبيّ

ففي جذوع الشّجر تلك قوة ٌعظيمة

أما فرنُ البيتِ فقد كان يُصدِرُ أصواتا غريبَة

في ليالي الشتاءِ القاسية.

**

كانَ صوته جَهوريا، كأنه نشيجٌ

على أحدٍ ما قد فقدَهُ أحِباؤه.

ماذا تراءى لجمل ِ الآجُرّ هذا

في زخةِ المَطر وهو يُوَلول؟

**

ربما قد رأى بُلدانا بَعيدة

أو رأى في المَنام مَوْسِماً آخرَ جَميلا

أو رمالَ بلادِ الأفغان ِ الذهبية

أو سَماءَ بُخارى الزجاجية الغبراء.

**

آه، أنا أيضا أعرفُ  تلكَ البُلدان

فقد اجتزتُ دروبا ليستْ قصيرَة ً هناك

ولكني كنتُ مشدودا دوما نحو ديارنا

لذا أرَدْ تُ اليومَ أن أعودْ.

**

غير أنّ تلكَ الغفوة الجَميلة قد انتهتْ

كلُّ شيء قد انتهى وذهَبَ مَعَ الدّخان ِ الأزرق ِ.

سَلامٌ إلى عيدان ِ القش البرّي

سَلامٌ  لكَ أيها البيتُ الخشبيُّ.

1923

***

بقِيَ لي شَكلٌ واحِدٌ للمَرح

«Мне осталась одна забава…»

بقي لي شكلٌ واحدٌ للمَرَح:

وهو أن أقومَ بالصّفير كالفِتيان.

تدِحرَجَتِ الأحاديثُ عن سُلوكي السيِّئ

قالوا أني رجُلُ قصْفٍ وشتائِمَ.

**

آه إنها لخَسارة مُضحِكة !

كم في الحياة من خَسائِرَ  تدعو إلى الضّحِكْ.

إني خَجلٌ لأني كنتُ مُؤمِناً بالله.

وأتمَرمَرُ  اليَومَ لأني لا أؤمِنُ بالله.

**

إنها الأبعادُ الذهبية !

هذه الحَياة ُالتعيسة ُ تحرقُ كلَّ شيء.

لقد قصَفتُ وشتمْت ُ..

كلُّ ذلك كي أحْترقَ أكثرْ.

**

مَوهِبة ُ الشاعر في أن يُداعِبَ ويُخَربشَ

إنها سِمَتهُ، وصارتْ قدرًا له.

حاولت أن أجمع بين وَرْدَةٍ بيضاءَ وضفدع أسودَ

أردت أنْ أزاوج بينهما.

**

لنقل أن ذلك لم يَحصلْ، لم يَحد ثْ

غير أنه كان وليدَ أفكار تلك الأيام ِ الوَرديّة.

إذا الشياطين قد عشّشتْ في الروحْ..

ذلك يعني أن للمَلائِكةِ مَكانا فيها.

**

بسببِ مداعبتي تلك الحُثالة

تراني اليومَ مُتوَجّهاً برفقتِها إلى عالم آخر.

ولي طلبٌ: عندما تحل ساعتي

أرجو مِمّن سيكونون بقربي −

**

لأجل التكفير عن ذنوبي الثقيلة

وبما أني قد كفرْتُ  بالنِعْمَةِ ...

أن يَكفنوني بقميص ٍ روسيّ

ويَجعلوني أموت تحْتَ الأيقوناتْ.

1923

***

اجْلِسي بقربي يا غالية

«Дорогая, сядем рядом…»

اجْلِسي بقربي ياغالية

ليَنظرْ كلّ مننا إلى عيون الآخر.

أريد من خِلال نظرتِكِ الحانِية

أن أشعُرَ بعاصِفةِ الوَجْد.

**

ذهَبُ الخريفِ الأصْفر ُ هذا

وضَفيرة ُ الشعر بلون ِ السّنبلة

كلّ هذا بُعِثَ كيَدٍ مُدّ تْ

لانقاذِ شابٍ  طائش نزق ٍ.

**

لقد غادَرتُ ديارَنا مُنذ ُ سِنين

حيث تزهِرُ الأجَماتُ هناكَ والمُروجُ.

شدّني التوقُ إلى أضواءِ المَدينةِ، ونحوالشهرةِ

فعشتُ كإنسان ٍ ضائِعْ.

**

أرَدْتُ من هذا القلب أن يَتذكرَ قليلا

بُستاننا .. و أيامَ الصّيفِ

حَيثُ على أنغام نقيق ِ الضفادِعْ

حَضَّرتُ نفسي كي أصْبحَ شاعِرًا.

**

الدّنيا الآنَ هُناكَ خريفٌ أيضاً

أشجارُ القيقبِ، والزيزفون تشْخَصُ أمامَ نوافذ ِ البيتْ

ترسِل أغصانها كما الأيادي

تبْحَثُ عمّن تعرفهم هُناكْ.

**

لقد رِحَلوا عن هذهِ الدّنيا مُنذ ُ سِنين.

ها هو القمَرُ في سَماءِ المَقبرَةِ

يَرسُمُ بأشعتِهِ على الصُّلبان ِ

أننا قريبا سَنكونُ عِندَهم

**

وأننا بَعْدَ أن نعيشَ زمَنَ الخوف ِ

سَننتقِلُ إلى ذاكَ المَكانْ.

كلُّ الدّروبِ الصّعبَةِ

تهدي الفرَحَ للأحْياء.

**

اجْلِسي بقربي يا غالية

لينظرْ كلّ مننا إلى عيون الآخر.

أودّ من خلال  نظرتِك ِ الحانِية

أن أشعُرَ بعاصِفةِ الوَجدْ.

أكتوبر عام 1923

***

ها هو الغابُ قد ختمَ كلامَه

«Отговорила роща золотая…»

ها هو الغابُ قد ختمَ كلامَه

حَدثتنا باسمِهِ شجَرَة البَتولا بلغةٍ باسِمَة

ها هي طيورُ الغرنوق ترحَلُ حَزينة

غير آسفةٍ على أحَدْ.

**

لا سَبَبَ للتأسّفِ على الناس، فكلّ واحِدٍ ضيفٌ

يَعبُرُ... يَدخلُ البَيتَ، ثم يُغادرُه.

شجَيرَة ُ القنب ترى في المنام من رَحَلوا

هناكَ قربَ البُحيرَةِ الزرقاء، حَيث يُساهِرُها القمَرْ.

**

أقفُ وحيدا في هذا السّهبِ العاري

والريحُ تدفعُ أسرابَ الغرنوق بَعيدا

وفي البالِ ذكرياتُ الشبابِ الجَميلة

غير أني لسْتُ مُتأسّفا على أيّ أمر مَضى.

**

لستُ نادِما على العُمر الذي ضاعَ عَبَثا

ولا متأسفٌ على زهر الليلكِ

شجَرة ُ "ريابينا" تشعِلُ مَوقِدَها الأحْمَرَ في البُستان (1)ِ

لكنهُ لا يَمنحُ الدّفءَ لأحَدْ.

**

لن تحْترقَ عظامُ "ريابينا"

وهذا الاصفِرارُ لن يُبيدَ العُشبَ

ها هي الأشجار تودّع أوراقها برقةٍ

مثلما أنا أبَعثِرُ كلِماتي الحَزينة.

**

إذا الوَقتُ أدّى إلى جمعها، بقوةِ الريح

في كومةٍ واحدةٍ, فقولوا:

ها هو الغابُ الذهبيُّ

قد ختمَ كلامَهُ بلسان ٍعَذبٍ وَجَميلْ.

1924

***

كم يَخطِرُ على بالي

«Я помню, милая, помню…»

كم يَخطِرُ على بالي يا غالية...

جَمالُ شعركِ الحَرير

كم كانَ صَعباً عليّ ومرّا

أمْرُ وداعِكِ آخر مَرّة.

**

تعودُ إلى الذاكرة ليالي الخريفِ تلك

وحَفيفُ أغصان ِ البَتولا، كأنها أشباح،

الأيامُ حينها كانتْ قصيرة

أما القمَرُ فكانَ كريماً بأشعتِهِ الفِضّية.

**

أذكرُ كلامَكِ حين وشوشتِني:

" سوف تمرّ هذه الأعوامُ الزرقاءُ

وسوفَ تنساني يا حبيبي

وتعشقُ امرأة ً أخرى".

**

أزهارُ شجرةِ الزيزفون تحْيي اليَومَ

في الذاكرة تلكِ المَشاعِرَ

حين كنتُ أنثرُ الزهورَ

على ضفيرةِ الشعر الأجْعَدْ.

**

هذا الفؤادُ لا يُريدُ أن يَهدَأ

أراهُ يُلاطِفُ امرأة ً أخرى حَزيناً

كأني به بهذِهِ القِصّة...

إنما يَعودُ بالذاكِرَةِ إليكِ من جَديدْ.

1925

***

النجوم تغفو

«Заря окликает другую….»

النجومُ تغفو في لحَظاتِ الفجْرالأولى

وحُقولُ الشوفان يُغطيها الندى...

خَطرْتِ على بالي أيّتها الغالية

خطرتِ على بالي يا أمي العَجوز.

**

حين تمشين كعادتِك ِ نحوَ الرّابية

ويَدُك ِ تمسِكُ العكازَ بشدّة

ترينَ كيفَ القمَرُ يَستحِمُّ

في مياه النهر الغافي.

**

أعْرفُ ...تظنين بمرارةٍ وقلق

وحزن ٍ كبير أنّ ..

ابنك لا يبالي أبدا بموطِنِه

وروحُه ُ لا تقلقُ على دياره.

**

ثم تقودُ كِ قدماكِ نحو المَقبرةِ

تقفين قرْبَ السّياج والحَجَر

فتتنهدين بعَطفٍ وحَنان ٍ

إذ يَخطرُ على بالِكِ إخوتي وأخواتي.

**

لنقل أننا كنا مُشاغبين

أما أخواتي فكانَ صباهُما أيّارْ

وَد دْ تُ لو أنّ هذا الشَّجن

يُغادرُ يوماً عَينيكِ الحَزينتينْ.

**

كفاكِ حُزنا !  كفاكِ !

لقد حانَ وقتُ أخذِ العِبَرْ

فشجَرَة ُ التفاح تتألم أيضاً

لفقدان أوراقِها النحاسِية.

**

ما أحوجنا إلى الفرح

فهو جَميلٌ كأجراس ِ الصّباح،

أفضّل ُ أن أحْترقَ في مَهبّ الرّيح ِ

على أن أبقى على الغصْن ِ وأتعَفنْ.

1925

***

.........................

هوامش ومصادر:

1) ريابينا: هي شجَرة ُ "غبَيْراء" (بضم الغين)، تعطي في الخريف حبات حمراء اللون، فضّلنا الحفاظ على الاسم الروسي في متن النص حفاظا على الطبيعة الروسية.(المُترجم).

2) هذه  النصوص ترجمت من النص الروسي الأصلي راجع المصدر:

1. Есенин С.А. Собрание сочинений: В 2 т. Т.2.− М.: Сов. Россия: Современник, 1990.

2. Есенин С.А. Собрание сочинений: В 2 т. Т.1.− М.: Сов. Россия: Современник, 1991

عندما تلتقي الأرض والقمر في لحظة سحرية على مسافة قريبة جدًا، يُظهران لنا جمال الكون وروعته بطريقة لا تُضاهى. إنهاظاهرة "الاقتراب الكبير للقمر"، تلك الفترة التي يُقترب فيها القمر منا بقرب يجعله يبدو أكبر حجمًا وأكثر إشراقًا في سماءالليل.

في هذه الأوقات الفريدة. يمكننا التمتع بمشهد يأسر القلوب حيث يظهر القمر كأنه عملاق فضائي يطل من السماء. وعلىالرغم من أن الفرق في حجمه ليس بالضرورة واضحًا للعيان، إلا أن هذه الظاهرة تُلهمنا بأن نقف للحظات ونتأمل في عظمةالكون.

ليس هذا فحسب، فالاقتراب الكبير للقمر يلقي بظلاله على الأرض أيضًا. بسبب الجاذبية المتزايدة في هذه الفترة، يمكن أن يتسبب القمر في ارتفاع طفيف في مستوى المد والجزر في المناطق الساحلية. يضفي هذا التأثير الخفي لمسة إضافية من الجمال على هذه الظاهرة.

ولمحبي مشاهدة السماء، تُعتبر هذه اللحظات فرصة لا تُضاهى لاكتشاف روعة القمر بكل تفاصيله. يمكن استخدام التلسكوبات للتمتع بتفاصيل سطحه الغامض أو حتى مراقبته بالعين المجردة والانغماس في جماله.

في النهاية، تجسد ظاهرة الاقتراب الكبير للقمر تلاقيًا مثاليًا بين الكون والأرض. إنها تذكير بأننا جزء من نسيج أكبر منالزمان والمكان، وأن هناك دائمًا جمال ينتظرنا في أعماق السماء اللامتناهية.

***

بقلم فاطمة العيسى

تعد الصداقة من الجوانب البشرية الأساسية التي تتخذ أبعادًا جديدة ومغايرة عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين في بلدان المهجر. تحمل الصداقة في هذا السياق دورًا استثنائيًا في تعزيز عمليات التكيّف والاندماج الاجتماعي والثقافي للأفراد الذين يعيشون بين ثقافات جديدة ومحيطات مختلفة.

عندما يتخلى المهاجرون عن بيئتهم الأصلية ويبحثون عن حياة أفضل في بلاد المهجر، يندرج تكوين الصداقات في مقدمة التحديات التي يواجهونها. لكنه في نفس الوقت يُظهر فرصًا لتوسيع دائرة المعارف وتكوين علاقات تساهم في بناء جسور تواصل مع المجتمع المحلي.

من المهم أن نشير إلى دور الصداقات في تسهيل عملية التكيف النفسي للمهاجرين. إذ يمكن للصداقات أن تكون مصدرًا للدعم العاطفي والانفتاح على فهم الثقافة واللغة المحلية. إن المشاركة في الأنشطة الاجتماعية مع أصدقاء جدد يمكن أن تساهم في تخفيف الضغوط النفسية وتقليل الشعور بالعزلة.

وفيما يتعلق بالاندماج الاجتماعي، تلعب الصداقات دورًا حاسمًا. فهي تعزز من فرص المهاجرين للانخراط في الحياة المحلية، سواء من خلال مشاركتهم في الفعاليات المحلية أو التواصل مع الجيران وزملاء العمل. بالتالي، تعمل الصداقة كجسر بين الثقافات والتقاليد المختلفة، مما يؤدي إلى فهم أفضل وتعايش أكثر سلاسة بين المجتمعات المختلفة.

في الختام، يبدو أن الصداقة تمثل مفتاحًا أساسيًا في رحلة المهاجرين نحو الاندماج وبناء حياة جديدة في بلاد المهجر. إن تبني أفراد المجتمعات المحلية والمهاجرون للصداقة والتعايش يعزز من التفاهم الثقافي ويسهم في خلق مجتمعات متنوعة ومزدهرة.

***

بقلم: فاطمة العيسى

مغتربة في بلاد المهجر

تاريخ النشر: 31 أغسطس 2023

أيها القمر.. أنا أعرفك منذ  فجر نعومتي، لقد عرفتك في طفولتي عندما كنت في حضن أمي، وهي تشير إليك ببنانها وكانت تقول لي بأنني اشبهك في الجمال. أيها القمر.. هل تعرف بأنني أشبهك تمامًا.. أنت تحيا وحيدًا في كبد السَّماء، برغم كثرة النجوم حولك مثلي تمامًا تعتريني الوحدة في الأرض برغم كثرة من الناس والزحام. عندما كنت صغيرة كنت أقول لنفسي كم سلمًا سأحتاج لأصل إليك. كم تمنيت أن أكون مكانك لأرى ما ترى لأرى انعكاس ضوئك على البحر والنهر كالمرآة لأرى الطرقات التي طالما مشى فيها البائسين الذين يحملون هموم الحياة.

أيها القمر.. لم أكن يوما غريبا عليك.. أنت قريب وجئت إليك مشتاقا.. كاد الحنين إليك يقتلني.. انني انحني امام عظمتك.. وكم من الأقوام اندثروا وكم من الحضارات زالت وأنت لا تزال تتلأ كما أنت في طفولتي.. انحني إليك اجلالا واحتراما أيها القمر المنير..

أيها القمر.. إنني حينما أراك صامتاً محلقاً فوق السهول المقفرة والجبال العالية، وكلما أراك تتبعني أينما سرت خطوة خطوة، وكلما نظرت الكواكب تتلألأ في السماء، أقول وأنا سابح في بحار من التفكير لم هذا الضوء الساطع والنور الكثير؟ وما معنى هذه الوحدة العظيمة! أيها القمر.. سبحان من خلقك وأبدع في جمالك، أرى نفسي والسماء في اعماقك وأرى وجهك يتلألأ كوجه جميلة تنتظر حبيبها، أرى أوراق الشجر على وجهك الجميل تسير تائهة كقلوب العاشقين حيارى لا تدري أين تروح.

أيها القمر.. لقد طال بي سهري، وهل سألت النجوم عن خبري، ما زلت في وحدتي أسامرها، حتى سرت فيك نسمة السحر، وأنا أسبح في دنيا تراءت لعيوني، قصة أقرأ فيها صفحات من شجوني، بين ماضِ لم يدع لي غير ذكرى عن خيالي. إن روحي لا تزال في مذهب الحس كـأنها تجهش للبكاء مادامت هذه الدمعة فيه تجيش وتتبدر، كأنها معنى غزلي يحمله النظر الفاتر، فلا تلقها على الأرض، فإن الأرض لا تقدس البكاء، وكل دموع الناس لا تبل ظمأ النسيان.

يولد الإنسان بالتعب والعناء، فيكون عرضة للعرض، ثم طعمة للموت. يحس أول حياته الألم والشقاء، فيبدأ أبواه يعزبانه عن ميلاده من يوم أن يوجد في المهد، فإذا نما وترعرع شرعا في مساعدته حتى يكبر، فيبذلان جهدهما في إعداده لما ينتظره من هموم الحياة، بالأقوال والأفعال، فإذا أصبح رجلاً تركاه ليحمل نصيبه من أعباء الحياة.

وليس لي أيها القمر إلا البكاء.. لأنه يخيل إلي أن حقائق كثيرة تغتسل بدموعي، فما افديت من كل ذلك ما افديته من دمعة تفور في صبيبها كأنها روح عاشق يطاردها الموت، فإن في هذه الدمعة ثواب كل آلامي، ويقظة كل الحقائق من أحلامي.. ولعمري أيها القمر، أليك اشكوا بثي وحزني، وأناجيك بأحلام الإنسانية.

***

الدكتور معراج أحمد معراج الندوي

الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها

جامعة عالية، كولكاتا - الهند

يشير العمل عن بعد، إلى ممارسة العمل خارج فضاءات المكاتب التقليدية، غالبًا من البيت أو من أي مكان آخر بعيدًا عن الجدران الأربعة للإدارات والشركات.

يتيح العمل عن بعد للموظفين القيام بمسؤولياتهم الوظيفية باستخدام التقنيات الرقمية، مثل أجهزة الكمبيوتر والإنترنت وأدوات الاتصال، دون الحاجة إلى التواجد الفعلي في المكتب بشكل يومي.

تعود جذور مفهوم العمل عن بعد إلى أواخر القرن العشرين، لكنه اكتسب زخمًا كبيرًا في السنوات الأخيرة بسبب التقدم التكنولوجي والتغيرات في ثقافة العمل.

لقد بدأت فكرة العمل عن بعد في التبلور منذ السبعينات من القرن الماضي حيث أتاحت التكنولوجيا الاتصالات إنجاز إجراءات العمل بشكل أكثر مرونة. كما ساهمت أزمة النفط والحاجة إلى تقليل التنقل في النقاشات المبكرة حول إمكانيات العمل عن بعد.

ومع ظهور أجهزة الكمبيوتر الشخصية والإنترنت في التسعينات ، أصبح العمل عن بعد أكثر جدوى. فقد بدأت بعض الشركات في تجربة ترتيبات العمل عن بعد، على الرغم من أنها كانت غير شائعة نسبيًا.

وقد أدى انتشار الإنترنت عالي السرعة وأدوات الاتصال العالية الدقة وبرامج التعاون في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى جعل العمل عن بعد أكثر جدوى ويمكن الوصول إليه بيسر. وبدأت الشركات في إدراك الفوائد المحتملة، بما في ذلك توفير التكاليف وتحسين التوازن بين العمل والحياة.

وشهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ارتفاعا كبيرا في العمل عن بعد، مدفوعًا بعدة عوامل بما في ذلك التقدم في الحوسبة السحابية، وتكنولوجيا الهاتف المحمول، وتغيير المواقف تجاه العمل. غالبًا ما قادت الشركات الناشئة وشركات التكنولوجيا الطريق في اعتماد سياسات العمل عن بعد. اكتسب هذا المفهوم المزيد من الاهتمام مع ظهور "اقتصاد العمل الحر" وتوافر العمل المستقل والعمل التعاقدي الذي يمكن القيام به عن بعد.

كان لجائحة كوفيد-19، التي ظهرت أواخر عام 2019 واستمرت حتى أوائل عام 2020، تأثيرا هاما للغاية على وظيفة العمل عن بعد. فقد أجبرت عمليات الإغلاق وإجراءات التباعد الاجتماعي العديد من الشركات على الانتقال بسرعة إلى إعدادات العمل عن بعد لضمان سلامة موظفيها. كما أظهرت هذه الفترة أن العمل عن بعد لم يكن ممكنًا فحسب، بل يمكن أن يكون مثمرًا أيضًا للقيام بالعديد من الأدوار.

لقد أدى هذا الوباء إلى تسريع قبول العمل عن بعد ودفع العديد من الشركات إلى التفكير في ترتيبات عمل أكثر مرونة حتى بعد الأزمة. من المحتمل أن يظل العمل عن بعد جزءًا مهمًا من المشهد العام، مع زيادة انتشار النماذج الهجينة (مزيج من العمل عن بعد والعمل داخل المكتب).

ومن المرجح أن يستمر مستقبل العمل عن بعد في التطور مع تغير التكنولوجيا وثقافة العمل والظروف العالمية حيث يتوقع العديد من الخبراء أن تصبح نماذج العمل الهجينة هي القاعدة السائدة . وهذا يعني أن الموظفين سيتمتعون بالمرونة للعمل عن بعد وفي مكاتبهم ، مما يحقق التوازن بين فوائد العمل عن بعد (المرونة، وتقليل التنقل، وتحسين التوازن بين العمل والحياة) والتعاون الشخصي.

من جانب آخر يمكن أن يؤدي التقدم المستمر في أدوات الاتصال والواقع الافتراضي والواقع المعزز إلى جعل التشارك عن بعد أكثر سلاسة. قد تصبح الاجتماعات الافتراضية أكثر نشاطا وحيوية، وتحاكي إلى حد بعيد الشعور بالتواجد في نفس الغرفة مع الزملاء.

أيضا من المرجح أن تحول الشركات تركيزها من مراقبة ساعات العمل إلى قياس المخرجات والنتائج. حيث يتيح هذا المنهج القائم على النتائج للموظفين العمل بالسرعة التي تناسبهم وفي البيئات المفضلة لديهم مع ضمان الوفاء بجودة العمل والمواعيد النهائية.

ومن المتوقع من أصحاب العمل أن يولوا المزيد من الاهتمام لرفاهية الموظفين. كما يمكن أن يؤدي العمل عن بعد إلى محو الخطوط الفاصلة بين العمل والحياة الشخصية، لذلك من المرجح أن تزداد الجهود المبذولة لمساعدة الموظفين على وضع الحدود والحفاظ على توازن صحي بين العمل والحياة.

ومع تزايد قبول العمل عن بعد، يمكن للشركات الاستفادة من مجموعة المواهب العالمية، وتوظيف أفضل المرشحين بغض النظر عن موقعهم الجغرافي. وهذا يمكن أن يؤدي إلى فرق أكثر تنوعا وتخصصا.

كما قد تتحول المساحات المكتبية الفعلية إلى مراكز تعاون بدلاً من مساحات عمل يومية. وقد تصبح أماكن لممارسة الأنشطة التي تتطلب التفاعل الشخصي.

سيظل الأمن السيبراني وخصوصية البيانات أمرًا بالغ الأهمية حيث ستحتاج الشركات إلى الاستثمار في تدابير أمنية قوية لحماية المعلومات الحساسة وضمان الوصول الآمن عن بعد إلى شبكات الشركة.

وسيكون التعلم المستمر وتحسين المهارات ضروريًا للعاملين عن بعد للبقاء على صلة بسوق العمل سريع التغيير. وستلعب منصات وموارد التعلم عبر الإنترنت دورًا مهمًا في مساعدة العمال على اكتساب مهارات جديدة.

على مستوى التكيف الإداري والقيادي سيحتاج المديرون إلى تكييف أساليب قيادتهم لإدارة الفرق البعيدة بشكل فعال. ستصبح الثقة والتواصل الواضح والتفاهم أكثر أهمية.

ومن المرجح أن يستمر المشهد القانوني والتنظيمي المحيط بالعمل عن بعد في التطور. قد تكون هناك حاجة إلى معالجة القضايا المتعلقة بالضرائب وعقود العمل وحقوق العمال.

أما من جانب الأثر البيئي يمكن أن يساهم تقليل التنقل واستهلاك الطاقة المكتبية بسبب العمل عن بعد بشكل إيجابي في جهود الاستدامة البيئية.

مما لاشك فيه أن مستقبل العمل عن بعد سيتأثر بعوامل مختلفة، بما في ذلك التقدم التكنولوجي، والظروف الاقتصادية، وثقافات الشركة، والتغيرات المجتمعية. فقد أدت جائحة كوفيد-19 أيضًا إلى تسريع اعتماد العمل عن بعد وأثرت على كيفية رؤية الشركات والموظفين لجدوى هذا العمل وفوائده. ونتيجة لذلك، من المرجح أن يتشكل المسار الدقيق للعمل عن بعد من خلال مجموعة من هذه العوامل في السنوات المقبلة.

***

عبده حقي

إننا كثيرا ما ننشغل بالاهتمامات المادية وبناء المنشآت الضخمة وتزيين المحيط وتخصيص أماكن طبيعية للنزهة والاستجمام ثم نكتشف بعد مدة الخراب الذي يلحق بهذه الأماكن، تحطيم الكراسي ورمي القاذورات والكتابة على جدران البنايات ثم نتساءل ما السبب؟ والسبب في الحقيقة واضح كوضوح الشمس هو إهمال فقه بناء الإنسان، كيفية امتلاك خطة تربوية استراتيجية لتربية هذا الإنسان وإعداده وتكوينه وتزويده بكل المهارات الحياتية التي تجعله يساهم في بناء صرح مجتمعه وأمته، إنسان قاعدته الصلبة  " اقرأ " و" ثيابك فطهر والرجز فاهجر "، إنسان يعتني بعقله ومظهره وجوهره، يجتنب كل الآثام والسيئات التي تعيقه على الانطلاق في دروب الإنجاز..

يقول الكاتب محمد العبدة: " إن توجيهات القرآن الكريم تدعو إلى بناء الإنسان من الداخل، قلبه ومشاعره وإرادته، حتى إذا استقام حاله على توازن واعتدال واستقر على هدى من الله، استطاع أن يواجه المصاعب والأزمات وما يتعرض له من امور الدنيا من غنىً او فقر أوصحة ومرض وغير ذلك".

عندما نهمل بناء الإنسان يحل الخراب بالأمة والمجتمع فيستعد هذا الإنسان الفارغ من الداخل، الذي لا يملك فكرا ولا تربية أن يبيع وطنه وولاءه للأجنبي بحفنة دولارات أو اوروات فحصانة الاوطان لا تكون إلا ببناء الإنسان وتحضرني هنا قصة بناء سور الصين العظيم لحماية البلد وتحصينها ولكنهم نسوا بناء الإنسان الذي يحمي البلاد وإليكم القصة:

"ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺭﺍﺩ ﺍﻟﺼﻴﻨﻴﻮﻥ ﺍﻟﻘﺪﺍﻣﻰ ﺃﻥ ﻳﻌﻴﺸﻮﺍ ﻓﻲ ﺃﻣﺎﻥ، ﺑﻨﻮﺍ ﺳﻮﺭ ﺍﻟﺼﻴﻦ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻭﺍﻋﺘﻘﺪﻭﺍ ﺑﺄﻧﻪ ﻻ‌ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﺴﻠﻘﻪ ﻟﺸﺪﺓ ﻋﻠﻮﻩ، ﻭﻟﻜﻦ ..! ﺧﻼ‌ﻝ 100 ﺳﻨﺔ ﺍﻷ‌ﻭﻟﻰ ﺑﻌﺪ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﺗﻌﺮﺿﺖ ﺍﻟﺼﻴﻦ ﻟﻠﻐﺰﻭ ﺛﻼ‌ﺙ ﻣﺮﺍﺕ ! ﻭﻓﻰ ﻛﻞ ﻣﺮﺓ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺟﺤﺎﻓﻞ ﺍﻟﻌﺪﻭ ﺍﻟﺒﺮﻳﺔ ﻓﻰ ﺣﺎﺟﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﺧﺘﺮﺍﻕ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﺃﻭ ﺗﺴﻠﻘﻪ ..! ﺑﻞ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮﺓ ﻳﺪﻓﻌﻮﻥ ﻟﻠﺤﺎﺭﺱ ﺍﻟﺮﺷﻮﺓ ﺛﻢ ﻳﺪﺧﻠﻮﻥ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﺒﺎﺏ.

ﻟﻘﺪ ﺍﻧﺸﻐﻞ ﺍﻟﺼﻴﻨﻴﻮﻥ ﺑﺒﻨﺎﺀ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﻭﻧﺴﻮﺍ ﺑﻨﺎﺀ من يحرسه"

فلنحرص على بناء من يحرس الوطن قبل أي بناء.

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

 شدري معمر علي

......................

المرجع:

1- محمد العبدة، بناء الشخصية الإنسانية في القرآن، موقع إسلام أونلاين.

فى قاعة صغيرة بمسجد آل رشدان بمدينة نصر أقيم عزاء الشاعر محمود قرنى. ووقف ابنه أحمد فى أول طابور طويل يستقبل المعزين ويصافحهم.

فى القاعة ساد الصمت، رغم أن معظم المثقفين الحاضرين يعرفون بعضهم البعض، صمت وحزن غمره فى قرارة الروح شعور عميق بالذنب، فقد ظل قرنى ثلاث سنوات مريضًا يسعى لعلاج كبده من دون أن ترتجف بأقل بادرة استجابة الهيئات الثقافية الرسمية: اتحاد الكتاب، والمجلس الأعلى، ووزارة الثقافة وغير ذلك. وتكررت أمام أعين وضمائر الجميع حادثة الشاعر فتحى عامر، الذى فارق عالمنا فى يناير ٢٠٠٥ قبل أن يتم الخمسين عامًا، ولم يكن لديه هو الآخر ما يكفى من العلاقات والأموال لعلاج الكبد أو زراعة آخر.  وعندما اجتمع بعض أصدقاء فتحى عامر قبل شهرين من وفاته وقرروا أن يصدروا نداءً للتبرع من أجل علاجه، رفض فتحى بشدة قائلًا بغضب: لا تشحذوا باسمى.

محمود قرنى أيضًا رفض بشدة كل عروض الأصدقاء التى تقدموا بها لمعاونته ماليًا، وقال لى فى حديث تليفونى: شكرًا جزيلًا. لكن صدقنى ليست هناك حاجة. المسائل ماشية.

بهذا التعفف وبهذه الكبرياء وقف قرنى على حافة الموت، يحدق ليس بصحته، لكن بكرامته. يرحل محمود قرنى، وفتحى عامر، وغيرهما ممن يحسبهم الناس «من التعفف» أغنياءً، يرحلون إلى الحقيقة التى تضم من لا يتواثبون إلى أى لقاء وكل ندوة وشاشة وميكروفون وأخبار الصحف، ويبقون فى الحقيقة شطرة من القصيدة العظيمة التى تكبر تحت افتتاحية المتنبى: " فلا عبرت بى ساعة لا تعزنى، ولا صحبتنى مهجة تقبل الظلما " !

رحل محمود قرنى فجر الأحد ٢ يوليو، قبل ذلك بساعات كتب الأستاذ نبيل عبدالفتاح على صفحته فى «فيسبوك» أن قرنى راقد بخير يستعد للعملية فى الصباح. كتبت له فى المحادثة أقول إنه إذا كانت الأجهزة الثقافية الرسمية قد قصرت معه، فإننا أيضًا مقصرون، لماذا لا نتحرك لتوفير نفقات علاجه؟. واستحسن نبيل عبدالفتاح الفكرة، بل وتخيرنا فيما بيننا عماد أبوغازى لبدء حملة جمع الأموال.  ولم تمر سوى ساعات حتى رحل عنّا محمود قرنى، تاركًا ذلك الشعور العميق بالذنب، والعجز، وبأن رحيله كان قصيدته الأخيرة، المشبعة بالتعفف، والكبرياء، واجتناب الضوضاء الزائفة، والبعد عن الصغائر، أو التقرب لأصحاب القرار، رحل شاعرًا، كما عاش. وقد صدمنى الخبر طويلًا، كما تهبط الحقيقة بكل ثقلها على رأس الإنسان، فلا يسعه الحركة أو النطق. ولم أجد ما أكتبه على صفحته بعد رحيله سوى «حقك علينا». أما القصيدة فسوف نظل نقرأها طويلًا، ونرى فى كل بيت منها أحوال الذين وهبوا أعمارهم للفن، والفكر، والوطن، وماتوا غرباء، على الطريق الطويل للثقافة المصرية. "حقك علينا يا محمود. حقك علينا ".

***

د. أحمد الخميسي قاص وكاتب صحفي مصري

كتب الباحثون العرب كثيرا حول التأثير العربي الاسلامي على بعض الادباء الروس، وانعكاس هذا التأثير في نتاجاتهم الادبية المتنوعة، مثل بوشكين وليرمنتوف وتولستوي وبونين ...الخ، وتوسّع الباحثون العرب في كتاباتهم هذه جدا وأضافوا لها اجتهادات ذاتية اكثر مما يجب (وبعض تلك الاضافات لا يعرفها حتى هؤلاء الادباء الروس انفسهم، كما علّق احدهم مرّة ضاحكا!)، ولا مجال هنا للحديث تفصيلا عن هذه الاضافات طبعا، ولكننا نود ان نشير، الى ان غوغول – ويا للغرابة - لم يكن بين هؤلاء الادباء الروس، الذين كتب عنهم الباحثون العرب في هذا المجال، رغم ان غوغول هو الاديب الروسي الوحيد عبر تاريخ الادب الروسي كله، الذي ترتبط باسمه محاضرة ألقاها شخصيا عن الخليفة العباسي المأمون، ولم يخطر ببال هؤلاء الباحثين طرح سؤال مهم في هذا الخصوص، وهو - لماذا اختار غوغول هذه الشخصية من التاريخ العربي بالذات، ولم يتحدث عن شخصية اخرى من الشخصيات الكبيرة، التي يزخر بها تاريخ العالم الواسع ؟، ولماذا ألقى غوغول محاضرة عن المأمون في جامعة بطرسبورغ، والتي استمع اليها كبار المثقفين الروس آنذاك مثل بوشكين وجوكوفسكي؟. ولازال هذا الموضوع غير واضح المعالم في اذهان القراء العرب عموما لحد الان، وحتى بالنسبة لهؤلاء القراء العرب الذين يتابعون اخبار الادب الروسي، رغم بعض الكتابات العربية (القليلة نسبيا) عن ذلك الموضوع، التي ظهرت هنا وهناك في بعض بلدان عالمنا العربي .

 نود في مقالتنا هذه الكلام عن محاضرة غوغول حول الخليفة العباسي الشهير المأمون وانعكاساتها في الاوساط الروسية آنذاك قبل كل شئ، اذ لم تكن روسيا آنذاك تمتلك علاقات واسعة مع العالم العربي (الذي كان اصلا تحت السيطرة العثمانية، كما هو معروف)، وذلك كي نرى، كيف تقبّل المثقفون الروس انفسهم محاضرة غوغول عن خليفة عباسي، هذه المحاضرة الفريدة في تاريخ الادب الروسي، و التي بدأت الاوساط العربية تتحدث عنها في القرن العشرين ليس الا، اي بعد مرور اكثر من قرن ونصف على القاء غوغول لمحاضرته تلك في جامعة بطرسبورغ .

ألقى غوغول محاضرته تلك عام 1834، عندما كان يريد ان يصبح استاذا جامعيا لمادة التاريخ، ولكن غوغول لم يستطع - في نهاية المطاف - تحقيق خططه في هذا المجال، ونشر تلك المحاضرة في كتاب له صدر عام 1835 . لقد حاولنا البحث في بعض المصادر الروسية حول تلك المحاضرة، واندهشنا، اذ تبيّن ان هذا الموضوع لازال ينتظر الباحثين الروس انفسهم، ولم نجد – مثلا – جوابا محددا في تلك البحوث الروسية عن سؤال – لماذا اختار غوغول بالذات الخليفة المأمون موضوعا لمحاضرته آنذاك؟ بل وجدنا اشارات صريحة تؤكد، ان موضوع (غوغول المؤرّخ)، والذي يدخل ضمن موضوع اكثر شمولية، وهو (غوغول المفكّر) تتطلب الدراسة الواسعة و العميقة لها في روسيا لحد الان، وان هذا الجانب في مسيرة غوغول لم يدرس (بضم الياء) كما يجب سابقا في المصادر الروسية، ولم نعثر على (بقايا !) الرأي السوفيتي، الذي كنّا نسمعه اثناء دراستنا للادب الروسي في الجامعات السوفيتية بستينيات القرن العشرين، والذي كان يقول . ان سبب اختيار غوغول لشخصية الخليفة العباسي يكمن في رغبة غوغول بانتقاد القياصرة الروس، لانهم لم يقوموا بتحقيق تلك الجوانب الثقافية الرائعة، التي قام بها المأمون، وان غوغول اراد ان يقول للقياصرة الروس (عبر محاضرته تلك) كيف يجب على القياصرة ان يتصرّفوا، اي انه اراد انتقاد القياصرة الروس ولكن بشكل غير مباشر، وهو اجتهاد سياسي قبل كل شئ، اذ كانت وجهة النظر السوفيتية عموما ترى، ان كل الادباء الروس الكبار قبل ثورة اكتوبر 1917، من بوشكين الى بقية الاسماء اللامعة الاخرى بعده، هم (معارضون !) للنظام القيصري بشكل او بآخر، ونظن ان هذا الرأي (رغم منطقية صياغته، ولهذا كنّا نتقّبله عندما كنّا طلبة في جامعاتهم) لا يتناسق ولا ينسجم واقعيا مع مسيرة الادب الروسي وأعلامه عموما في تلك الفترة، وكذلك لا يتناغم هذا الرأي ايضا مع واقع غوغول بالذات ومواقفه الفكرية، اذ انه (اي غوغول) كان ارثذوكسيا متشددا جدا، وبالتالي فانه كان ينظر الى القياصرة (مثل بقية هؤلاء المتشددين) باعتبارهم حماة تلك المفاهيم الدينية اصلا . هذا وقد اوضح احد الاساتذة الروس لنا مرّة، ان سبب اختيار غوغول لشخصية المأمون يمكن تفسيره، بان غوغول كان مثقفا كبيرا، وانه اطلع على دور المأمون في تعزيز الثقافة، وكان معجبا جدا به، ولهذا اراد في محاضرته التعبير عن اعجابه الكبير بهذه الشخصية، ولم يرغب ان ينتقد القياصرة الروس بذلك، ولم يرد هذا التفسير السوفيتي عن سبب اختيار غوغول للمأمون الا في بدايات العصر السوفيتي فقط، اذ ان كل انسان يرى الشئ الذي يريد ان يراه، ويمكن القول، ان هذا الرأي قد اختفى بالتدريج وبمرور الزمن مثل الشعارات المتطرفة الاخرى في مجالات الحياة كافة، ونظن، ان كلام الاستاذ الروسي هذا هو ألاقرب الى المنطق السليم .

ختاما لهذه السطور نرى، انه من الضرورة الاشارة الى ان هذه المحاضرة قد ترجمها عن الروسية المترجم الكبير كامران قره داغي في سبعينيات القرن العشرين ونشرها في مجلة (آفاق عربية) ببغداد، وبهذا، فان محاضرة غوغول عن المأمون كانت ولازالت ترتبط في العراق باسم كامران قره داغي، هذا المترجم الموهوب الذي كان يمكن ان يعطي لنا مكتبة عربية متكاملة حول الادب الروسي لو استمر بعمله الترجمي هذا، الا ان (السياسة !!!) جذبته، وانغمر في مدّها وجزرها، وكم اتمنى ان يجمع كامران تلك المقالات حول الادب الروسي، التي ترجمها آنذاك، في كتاب، اذ ان تلك المقالات (بما فيها محاضرة غوغول عن المأمون) لازالت تمتلك اهميتها للقارئ العربي لحد الان.

***

ا. د. ضياء نافع

القمر هو المنظر الجميل الذي يأخذ الأذهان إلى ما هو يسحر العقول، وما أجمله عندما يكتمل بدراً، في الليل زينة السماء، وفي الليل يزدان القمر بأشكاله المختلفة، يعكس ضوء الشمس بخجل واضح، ويتلاشى تدريجياً تاركاً للنجوم مكانه. الليل يلبس ثوب الظلمة ليبقي الناس يحلمون بأمانيهم وآمالهم، والليل يعرف أن الأحلام تحترق في الشمس وتتلاشي في الضوء، وأكثر ما ترى النور في الظلمة.

القمر الذي يظهر مساءً ويمزّق دياجي الليل ما هو إلّا وجه حبيبة قد أطلّت على عاشقها لترسم على وجهه الابتسامة وتمدّه بألوان الحنين والدفء والراحة. عندما يسدلُ الليلُ ستائرهِ بألوانها السوداءِ المخملية، ويُقبل القمرُ مختالاً مرتدياً عباءتهُ الفضيةَ، والقمر الساكن في أفق الليل هو خير صديقٍ تُوْدِعهُ النفس آلامها وأحزانها.

عندما يظلم الليل، يطلع القمر مع النجوم الساحرة برشاش من النور تتحدر قطرات دقيقة منتشرة كأنها أنفاس تتثاءب الأمواج المستيقظة في بحر النسيان، تحمل إلى الغيب تعبا وترحا، ونحن لا نعرف من كلام النجوم وهي تخلق قوة التصور حتى تستحوذ عليها أحلام اليقظة، يطلع القمر ليملأ الدنيا أحلاما.

 وفي كل قلب إنسان هناك أحلام لم تر النور، ولم يشرق الشمس عليها بالظهور،ولكنه على الرغم من كل شيء، يعيش الإنسان الأحلام ليلا ونهارا، صباحا ومساء، حتى يجن عليه الليل ويصيب بخيبة في الظلمة، ثم يطلع القمر المنير ويتجدد معه الأمل في الحياة والعمل، حينئذ يعرف الإنسان معنى الكون والحياة، يعرف الإنسان أن معنى الحياة هو أن يموت ضاحكا.

 عندما يطلع القمر المنير، ينظر الإنسان إلى الحياة ومعناها، وإلى الموت ومعناه، أما الحلم فهو ابن الحاضر الأبدي، يبحث الإنسان عن حبه في أرض الأحلام الضائعة، والقمر أول من تخلع حجاب الظلمة في مواكب الفجر، فما أنت أيها القمر إلا بيت الأحلام، ولكن هذا البيت لا تقام فيه الحفلات إلا أثناء الليل، هل ترى الرجل الذي يحلم وهو مستيقظ، هل ترى رجل وهو لا يخطو عن الحياة إلا فوق القبر.

***

الدكتور معراج أحمد معراج الندوي

الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها

جامعة عالية ،كولكاتا - الهند

لَجَّت مواضِعُ التَّفاصلِ، وثجَّتْ مَواقعُ التَّواصلِ، بتأويلٍ للدّاعيةِ "محمد الغَزالي"، ذَكَرَ فيهِ معاني {عربيٌّ، عُرْبٌ، أعرابٌ)} في الإستعمال، فأوردَ أن لفظةَ {العربيِّ} هي {الخلوُّ من النَّقصِ والعيب بالتَّمامِ والكمالِ}، وليسَ هي العرق والنَّسب بإشتمال، كأعراقٍ من هندٍ وسندٍ وإفرنجةَ وإسبانٍ ومن برتغال، ولذلكَ -والكلامُ للغزالي- فقد وصفَ الحقُّ ذو الكبرياء والجلال قرآنَهُ (قُرْآناً عَرَبِيًّا): أي قُرْآناً بتمامٍ وكمال، مثلما وصفَ الحورَ العين (عُرُبًا أَتۡرَابࣰا) أي حوراً تامَّاتٍ كاملاتٍ غوالي، وهنَّ من العيوبِ خوالي ، فلا فكوكَ في فيهنَّ بارزاتٍ عوالي، ولا فيهنَّ عيونٌ جاحظاتٌ ولا فيهنَّ عرجٌ ولا دوالي.

ولا أرى تفسيراً لهكذا تفسيرٍ مُتعسفٍ من مفكّرِنا الغالي "الغزالي" إلّا أنَّهُ جاءَ ليمدحَ القرآنَ وليبعدَ عنهُ شُبهةَ ذَمِّ الْأَعْرَابِ {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} فقدحَ بإستماتةٍ وبإنفعال، فتراهُ يقولُ :"حاشا لله أن يَذمَّ النَّاسَ مِن مُنطلقٍ عرقيٍّ وبمَنطقٍ عنصريٍّ"، وفاتَهُ أنَّهُ دَرَأَ شُبهةً صُغرى بشُبهةٍ كُبرى وضِيزى بإختلال ورُبَّما عن إستغفال، وأنّ عيونَ {العربيَّةِ) قد عَمِيَتْ بعدَما إرادَت أناملُ الغزاليّ لرموشِها الإكتحال.  وما كان لعَربيٍّ أبداً أن يأتيَنا وَارِداً مشتملاً بسؤال، فيسألَ عن معنى (عَربَ يعربُ) أو (نامَ ينامُ) أو (شَرِبَ يَشْرَبُ) بإنفعالٍ أو بتَعَسّفٍ وإيغالِ؟ لأنَّهُ أبداً لن ينالَ جوابَاً عن ذا سؤالِ. ذاكَ أنَّ لفظةَ (عربَ، نامَ، شَرِبَ) وكذا مَثيلاتِها في سائرِ ألسنةِ الأمَمِ والأَنْجال، هنَّ لبناتٌ وآياتٌ من آياتِ اللهِ في اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِنَا وَأَلْوَانِنا، وعلاماتٌ لقدرةٍ قائمةٍ مدى الدَّهرِ لهدايةِ الأجيالِ، ولقد عَلَّمَ اللهُ آدمَ اللبناتِ كلَّها وقَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ بتبيانٍ وبإجمال.

ولو أنَّ ذا صَنعةٍ بلسانِ الضَّادِ جدَّ السَّيرَ بجوابٍ عن هكذا سؤالِ، فسوف يأتي جوابُهُ كمَن فسَّرَ الماءَ الزّلالَ بعدَ جهْدٍ جهيدٍ بالماءِ الزّلالِ، ولكنَّ لا حرجَ على ذي الصَّنعةِ لو أنَّهُ جالَ وصالَ في مشتقّاتِ (شَرِبَ)، فقالَ: المِشْرَبةُ إناءٌ يُشْرَبُ فيهِ على إستمهالِ، وكذا الشَّوارِبُ شُعيراتٌ (سالَتْ) على الفَمِ بأَسدال، ولكن إياهُ أن يقربَ اللبناتِ فيُحَلِّقَ بنا في عنانِ عجاجةٍ على أجنحَةِ فيلٍ من الأفيالِ، فيَتَقَوَّلَ بمَجاجةِ من أقوال، بإنَّ الشّرْبَةَ: قِرْبَةٌ، والشَواربَ تاتي بمعنى الرجال، وبلا تبصرةٍ منهُ وعلى إستعجال، وكذا يقول بسذاجةِ مَن قال: السّلطانُ تأتي بمعنى الحجَّة والبرهان بأعلال.

كلّا فألفاظُ: السّلطانُ، والحجَّةُ، والبرهانُ، وكلٌّ لفظٍ من ألفاظِ الضَّادِ يتمخترُ في مضارب الضَّادِ عن أخيهِ بأنَفةٍ وبإستقلال، ولا يُجيدُ إستحضارَهُ إلّا أهلُ المعاني والكَلم العَوالي، و(إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـٰذَا) أي: من حجّةٍ وبرهانٍ مُتسلّطٍ مُبينٍ ومهيمن على ما أنزلَ الكبيرُ المتعال، أم قلوبُكمُ غُلْفٌ أقفِلَت بأقفال.

وبعيداً عمّا رَوَتْ نواميسُ اللسانِ العربيِّ مِن نَثرٍ وشِعرٍ ومن أمثال، وبعيداً عمّا ما طَوَتْ قراطيسُ مُعْجَمِ بيانهِ من تحصيلٍ لمَعانٍ بتَأصيلٍ وإبدَال، وذلكَ بيانٌ أسرٌ نفيسٌ ساحرٌ ونيسٌ وَحدهُ ذلكَ اللسانُ مَلَكَهُ في حلٍّ وفي تِرحال، وكانَ اللسانُ العربيِّ (كَأَنَّ كَلاَمَ النَّاسِ جُمِّعَ حَوْلَهُ فَأُطْلِقَ فِيْ إِحْسَانِهِ يَتَخَيَّرُ) بإمتثال. أقولُ فيما ههُنا بعيداً عن ناموسٍ وقاموسٍ وبتؤدَةٍ وبلا إستعجال، وبوجيزِ حرفٍ وبلا أزيزٍ في الإسترسال، وبلا تطريزِ مافي المَعاجِمَ من شَرْحٍ لسردٍ نفيسٍ وبسطورٍ طوال، لكيلا أثقِلَ على ضيوفِ ذَرْفيَ بِغَرْفيَ ممَّا حوى نفيسُ التُّراثِ بمِكيالي:

" رغمَ أنَّهُ لا ثّمةَ لشُبهةِ ذمٍّ عرقيٍّ في آيةِ (الْأَعْرَاب) البتّة بل منَ المُحال، فإنَّ محاولةَ الغزاليّ لكنسِ الشُّبهةِ بإستبسال، قد أحالَتهُ لشُّبهةٍ كُبرى إستناداً لفهمِهِ للفظة (العربيِّ) بإفتعال. شُبهةٌ صيَّرَتنا نحنُ العَرَب دونَ سَائرِ الأُممِ الجِنْسَ (التَّمامَ والكمَالَ والخَاليَ مِن النَّقصِ والعَيْبِ) على مدى الأجيال، وعنواناً للخَلْقِ الكامِلِ قبلَ الإسلامِ وبعدَهُ، ومعصومينَ مِن كلِّ عيبٍ وإختلال، وغيرَ ملزمينَ بآيةِ (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) في سائرِ الأحوالِ، ذاكَ أنَّ التَّمامَ والكمالَ فينا هو جِبِلَّةٌ فلا حاجةً لنا لتَضَرّعٍ وإبتهال، وإذاً فنحنُ العربُ وبفهمِ الغزاليّ (شَعْبُ اللهِ المُختارِ) بلا تعجرفٍ ولا إستفحال، وذلكَ لَعمري فهمٌ سمجٌ ماتَداوَلَتهُ فَصاحَةُ الأعرابِ قطّ في بَدوٍ حذوَ كثبانِ التِّلال، وعِلمٌ مجٌّ ماتَنَاولَتهُ بلاغَةُ العَرَبِ قَطُّ في شَدوٍ بينَ أحضانِ الظِلال، وإنّما أهلونا العَرَبُ والأعرابُ هُمُ أهلُ بيانٍ هوَ أصفَى وأوفَى مِن أن تَتَخَطَّفَهُ طُيورُ التَّكَلّفِ بإغتيال، وأحلى وإعلى مِن أن تَتَقَطَّفَهُ بثورُ التَّعسُّفِ بشَذَرٍ مَذَرٍ في إدبارٍ وإقبال. ذاكَ شَذَرٌ مَذَرٌ ما سَلِمَ منهُ مُفَكِّرٌ من مفكّري أمَّتنا المُعاصرينَ بإخختزالٍ أو إعتزال.

و[إنَّما جُمْعُ الأعراب أعاريب، والنسب إلى الأعراب: أعرابي، وقال سيبويه إنما قيل في النسب إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له على هذا المعنى، وليسَ الأعرابُ جَمعاً لعَرب، وإنَّما العربُ اسم جنس] فتأمَّلْ يا ذا عزٍّ في ذا طويلاً فهيَ المفتاحُ وحسب لإستيضاحِ كبوةِ الغزالي.

فإن قيلَ لكَ إنَّ {العربيَّ} هو لسانٌ وليسَ عرقاً وهكذا قصدَ فقالَ الشيخُ الغزالي، فعلامَ التّجني ودفعُ الكلامِ الى تهي ترهاتٍ بجهالةٍ أو بتَعال، فلهُ قلْ؛

"وهلِ اللسانُ إلّا إنسانٌ محمولٌ على قدمينِ بتجوال، فإن كانَ اللسانُ ذا كمالٍ كانَ الإنسانُ منعوتاً بالكمال، وإن كانَ اللسانُ ذا جهالةِ كانَ الإنسانُ موصوفاً بالجهال". ثمَّ قلْ لهُ إنَ الله جلَّ في علاهُ قال {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}وهل تذكرنيَ الأمم إلّا بنعتِ (العَربِيِّ)على مدى الأجيال والأحوال.

وأمّا قيل الغزالي أنَّ (ألفَ التَّعدي في كلمةِ الأعراب قد نَقلت المَعنى الى النَّقيضِ (ألفَ السَّلب) كما في قَسَطَ: ظَلَمَ وأقسَطَ: عَدَلَ، وعربَ: تمَّ وخَلا مِنَ العَيبِ، وأَعرَبَ: نَقَصَ وشَملهُ العَيبُ، والأعرابُ جماعةٌ تَتَّصِفُ بصفةِ النَّقصِ في الدَّينِ)، فذاك قيلٌ لا يُرَدُّ عليهِ ولا يستحقُ إشتغالي، وأولى تركهُ بإهمال، إذ لن تجدَ صبيّاً عربيّاً ينطقُ مثلما فهمَ الغزالي:" لُعبتيَ كانت {عَربيةً} وأنيقةً، لكنَّها قد {أعربَتْ} وباتَتْ عتيقةً بإبتذال" . ذاكَ هو لدى الصبيانِ خبالٌ وضربٌ منَ ضروبِ المُحال.

ثمَّ مالي من خاتمةٍ بعدما خُضتُ فيما ههُنا في قيلٍ وقال، إلّا أن أستَعيرَ نًصحَ الشَّيخِ (أبن باز) في قضيةٍ ما للداعيةِ الغزالي:

(أنْ هذا لو عدَّلتهُ، وهذا لو قلتَ فيهِ، وهذا لو ما قلتَ، وفي هذا بعض المؤاخذة)، حتى خرجَ الشَّيخُ الغزاليُّ وهو يقولُ: جئتُكم مِن عندِ رجلٍ من بقيةِ علماء السَّلف بأتصالٍ بلا إنفصال.

***

علي الجنابي

يبحث الإنسان منذ القدم عن السعادة وهو مطلب إنسانيّ وضرورة روحيّة، ينتظرها الكبير والصغير، المسلم والكافر، أبوابها كثيرة ولكن أحيانا يقف البشر عند الباب المغلق ولا ينتبهون الى الأبواب الأخرى المفتوحة رغم ان أبواب السعادة عديدة ولا تحصى. ومسالك الحياة تتجدد. ولا يختلف اثنان على ضرورة وجوده السعادة وعن ألوان المتع المادية فيها، وصنوف الشهوات الحسية فما وجدوها وحدها تحقق السعادة أبدًا او مع كل جديد. ويتحرّى طُرقها وكيفيّة تحقيقها، .. لعل في اعطاء البنون حلم جميل وشهوة محببة إلى النفس، لذا نرى جميع الناس يسعون إليها، وتتعلق قلوبهم بها، ويظهر ذلك جليًّا في من حرم من هذه النعمة، وعقم عن الإنجاب، فإنه يدفع أغلى الأثمان والآلاف المؤلفة من الاموال باحث عن تحقيق هذا الهدف، من أجل الحصول على المولود، حتى أن الأنبياء الذين اختبرهم الله بعدم الإنجاب، رفعوا أيديهم بالدعاء لله رب العالمين، قال الله تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰرَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ الكهف 80.

في علم النفس تعرف السعادة ' هو الشعور بالغبطة والرضا في الحياة، والشعور بالمشاعر الممتعة والامتنان والعرفان بالجميل والرضا والعواطف التي يتم إنتاجها بشكل متكرر ' . عن الامام علي عليه السلام يقول عن السعادة لها سبعة ابواب: 1- لا تكره أحد مهما أخطا في حقك. 2- لا تقلق مهما بلغت الهموم. 3- عش في بساطة مهما علا شأنك. 4- توقع خيرا مهما بلغ البلاء. 5- أعط كثيرا ولو حرمت. 6-ابتسم، ولو القلب يقطر دما، 7- لا تقطع الدعاء لأخيك المسلم بظهر الغيب؟ ويبذُل الانسان ساعياً من اجل ذلك كلّ ما في وسعه اذا كان مخلصاً لتحقيق هذه الامنية، بكلّ ما لديه من عقلٍ وفكرٍ ومادّة لإيجادها، لكنّها تَبقى سرّاً لم يدرك ماهيّتها إلّا القليل؛ فهي شُعورٌ داخليّ يَشعرُ به الإنسان ليمنحه راحة النفس، والضمير، وانشراح الصدر، وطمأنينة القلب.

تكمُنُ مشكلة الإنسانُ الأساسيّة مع السعادة التي يُعانيها منذ الأزل بكونه لا يعلمُ أدوات تحقيقها، فيُحاول أن يُجرّب الماديات والأمور الملموسة ليَصل للسعادة فتجده لا يصل اليها في كثير من الأحيان .

لقد عرفُ أرسطوالسّعادة بأنها (اللذة، -أو على الأقل أنها تكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باللذة-واللذة بدورها يتمّ تفسيرها باعتبارها غياباً واعياً للألم والإزعاج)، والله المتعالي يجمع السياق القرآني في أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان، والتي يعتقد أنها سر سعادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا ؛لأنها خلاصة الرغائب الأرضية، يقول النبي صلى الله عليه واله وسلم – أنّ الإنسان السعيد الذي بعد عن الفتن ووفّق لزوم بيته، وكرّر الجملة ثلاثًا للمبالغة والتأكيد، ويمكن أن يكون التكرار باعتبار أوّل الفتن وآخرها، ومن ابتلي وامتحن بالفتن فصبر على ظلم الناس له، وتحمّل أذاهم ولم يدفع عن نفسه ولم يحاربهم، فهو السعيد الذي حاز السعادة الحقة.

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)ال عمران 14 وتعرف السعادة على أنها هي الشعور بالاستمتاع العميق بلذات الحياة والرضا عن التصالح مع الذات وراحة الضمير الناتجة من حسن السلوك الظاهر والباطن الذي ينبع من استقراره، نظراً لوجود أسباب وعوامل تقف وراء شعوره بذلك الإحساس،  وذلك من منطلق أنّ السعادة تنتقل بالعدوى حسب علم النفس، وإن وجود الشخص في محيط مستقرنفسيّاً يساعده على الاستقرار ويزيد من راحته النفسية، ويجعل انفعالاته منطقية ومناسبة للمواقف والظروف التي يمرّ فيها، فقد قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، وقال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا).

السعادة الحقيقية للإنسان هي التسامح مع الاخرين، والدليل قول الحكيم الهندي أوشو 'أن السعادة الحقيقية هي تلك التي يعيشها ويستمتع بها الأطفال الصغار قبل أن تتلوث عقولهم بأفكار الكبار'.

من عوامل السعادة ينبع عن استقرار داخلي وخارجي لدى الشخص السعيد، نظراً لوجود أسباب وعوامل تقف وراء شعوره بذلك الإحساس،، قال تعالى ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّامَتَاعُ الْغُرُورِ﴾20 الحديد .

السعادة لها ابواب، ولذلك عليك العمل لكي تكون سعيدا لأن أبواب السعادة شتى، ومنافذ الحظ لا تحصى، ومسالك الحياة تتجدد مع الدقائق، كن سعيدا دوما واستبشر على كل حال ولكن رغم ذلك فالسعادة بيد الله، فهو جلّ وعلا ميسر الأمور وشارح الصدور والمعين والهادي والموفق، بيده ـ جلّ وعلا ـ كلّ الأمور يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعزّويذلّ، ويقبض ويبسط، ويهدي ويضل ويغني ويفقر، ويضحك ويبكي سبحانه وتعالى

***

عبد الخالق الفلاح- باحث واعلامي

(لا تتكلم لمجرد الكلام وكن مسؤولاً عن كل كلمة وعن كل حرف يطلقه لسانك وتتفوه به.. لاشيء يأتي من عدم ولاشيء يذهب إلى عدم).

قلما تبدأ المقالات والكتابات سواء كانت الأدبية أو النقدية بحرف جر لكني مضطر للبدء هنا بحرف جر لأثير فضول المهتمين ولأزيل الغمام عن بعض القضايا العالقة تاركا التخمينات للقارىء الجميل والمتلقي.

في مكان ما وفي زمان ما قيل لا يجوز للفنان أن يتخذ دور ناقد معللين السبب بعدم قدرة الفنان على اتخاذ موقف حيادي من التجارب وذلك لتأثره بتجربته الشخصية.. في مكان ما وفي زمان ما كررت تلك العبارة مرارا الفنان أهم من الناقد و الإبداع أهم من النقد وأنا هنا أقول بعيداً عن خلفيات ما قيل الإنسان سواء كان عتال أو عامل بسيط أو فلاح هو أهم من كليهما وأقصد الناقد والفنان أهمية أي كائن معقودة على ما يتسم به من صفات إنسانية أما الإبداع فهو كالجواهر النفيسة التي لا حصر لأنواعها ياقوت زمرد الدر واللؤلؤ وغيرها مما أدركناه ولم ندركه وهي موزعة ضمن محطات واستراحات على قارعة الطرق الكثيرة المؤدية إلى قمة الهرم

(النقد.. الفن.. الأدب.. الشعر.. الموسيقا.. الرقص.. التمثيل الإخراج وكافة المهن الحياتية) وطالما الحياة مستمرة وفضولنا لكشف ماهيتها وسر وجودنا مستمر سنظل نمضي في طريقنا الذي اخترناه بأنفسنا وستبقى تلك القمة على بعد أميال منا تبتعد كلما اقتربناز

وأجيب هنا عما قيل من أحدهم (لا يجوز للفنان أن يتخذ دور ناقد) ودون النبش في أسباب ومسببات ادعاءاته مستدعيا كل حروف الجر في مكان ما وزمان ما علها تستطيع أن توسع دائرة المهتمين داعيا للقراءة وللإنصات بقلوبكم النقية وأرواحكم الطاهرة الذكية  أنصتوا لكل ما كتبته وأكتبه ثم احكموا كونوا حذرين من إعمال العقل لأن العقل المخرب أناني يقودنا لأطماع دنيوية لا يمكن للعقل أن يبدع هو فقط قادر على الحفظ وعلى استدعاء ما قدمه المبدعون عبر التاريخ لتسخيره وفق أهواءه انصتوا ثم احكموا.. أولا ماهي مهمة الناقد... الناقد هو صلة وصل بين الفنان ولوحته من جهة وبين الفنان والمتلقي من جهة أخرى

الفنان أمام عمله هو الناقد الأول ولا يمكن له أن يتطور بغير ذاك النقد الذاتي وأمام أعمال الآخرين يستطيع أن يقدم بعض الملاحظات الشفوية غير المسؤولة لأنه قد يطرحها من وجهة نظر ذاتية متأثرا بتجربته الشخصية

فقط حين يمتلك الفنان القدرة على تقمص تجارب الفنانين الآخرين ومشاعرهم اللحظية حين العمل حين يستطيع سبر أغوارهم وأغوار العمل حين يستشف من خلال أعمالهم وتكنيكهم الخاص وأدواتهم المستخدم حين يستشف من خلال ما ذكرته الطريقة التي يفكرون بها وحين يكون له أسلوبيته الخاصة والمميزة ويمتلك  ناصية اللغة والكلمات ثم يستدعي المناسب من المفردات  حينها وحينها فقط يمكنه أن يكون الوسيط بين الفنان والمتلقي ويسهم بدور أساسي وجوهري في الارتقاء بالذائقة التشكيلية للمتلقي لتستطيع مواكبة الحداثة ومواكبة كل جديد هنا تكمن أهمية دور الناقد القادر على تقديم الفنان للمتلقي وتبرير عمله له كما أنه يستطيع من جهة أخرى أن يسبق الفنان بخطوة ويقوم عمل الفنان استنادا لرؤيته الشمولية وقدرته على المرور على كافة التجارب والأساليب

وتبقى نصائحه مجرد اقتراحات قد تخطيء إن لم يأخذ بها الفنان أو تصيب حين يأخذ بها وهي بكافة الأحوال وجهات نظر صحيحة

رغم أهمية دور الناقد الحضاري ورغم ما يبذله من جهد ووقت في ذاك الزمن الصعب فهو لايأخذ حقه كما يجب ولايوجد عندنا تلك المؤسسات التي تنظم عمله وتدعمه تحميه وكنت قد دعوت سابقا ً لاجتماع لجمعية النقاد السوريين لأطرح معهم خطة عمل تعود بمردود للناقد والفنان ولكن مع الأسف ذهب صوتي أدراج الرياح.

مما تقدم أقول إن لم يمتلك الناقد تلك الشخصية الجامعة بين فنان مبدع ومتمكن يمتلك عين حساسة وسعة اطلاع على التجارب الفنية ويتحلى بموهبة التحليل وسبر أغوار الذات من خلال اللوحات إن لم يكن كذلك.

ستبقى كتاباته سطحية ومجرد استعراض للسير الذاتية وتفخيم أو تضخيم لا يستند لمبررات ولا أساس له سوى وقوع من يدعي النقد في شبكة المصالح والعلاقات لذلك سيبدو نتاجه هزلي بلا معنى

وبالمقابل أيضاً أقول الغيرة على الفن في عالمنا تفرض علينا الاهتمام بالناقد الحقيقي وتقديم العون له ومساعدته لأهمية دوره الحضاري في الارتقاء بالفن والذائقة الفنية وخصوصا كوني أرى معظم إدارات الصحف الورقية العربية القادرة على إنصاف الناقد وإعطاءه حقه لا يبذلون جهداً في استقطاب الكلمات الجادة بقدر ما تسيطر عليهم في خضم عملهم المصالح والعلاقات ليصير المكثرون المقلون هم الأقرب إليهم بحكم ركيزتهم المادية التي تمكنهم من طباعة الكتب على نفقتهم الشخصية وبحكهم قدرتهم على التحرك والسفر وبناء العلاقات.

***

حسين صقور

بهدوء ودفق وحرارة يتساقط رذاذ أنطوان القزي الصيفي، فيزهر ويثمر قلمه قصائد تتنفس بين ثنايات جديده الذي أعطاه أسم "رذاذ صيفي"، فنراه أحياناً شاكرا،ً قانعاً، مفتخراً،آسفاً وغاضباً أحيانأً أخرى لمَ آلت أليه حال ألأمة، والتي تنعكس على أبنائِها رحيلاً وهروبًا لا مستقر له، لأن الخروج والسفر لا يبعد ألم الحنين والمعاناة النفسية التي تنعكس في حياتنا رمهما كانت الازمنة متباعدة ورغم ما توفره المغتربات من الآمان أقتصادياً ومادياً.

الكتاب الصادر عن مؤسسة الجذور الثقافية يقع  في 106 صفحات من القطع الصغير، تصميم الغلاف والأخراج الفني الدكتور علي أبو سالم.

الإهداء يختصر رحلة العذاب والمعاناة التي لم تفقد الشاعر الأمل والحلم والتصميم فكانت أكسير الحياة للشاعر.

 يزرع أنطوان قبلاته قبل الرحيل، ودمعته الحمراء ترصد العيد، وترسم الحلم رغم جفاف الصيف وحره اللاهب، لكن الغيمة البيضاء جسدت الحلم قطرات ثلاث أنعشت جفافَ أيامه برذاذٍ عبأ منها الشاعر خوابي القلب على مسافات الهروب والرحيل وأطفأ ضمأ البعاد والغياب.

رغم أستقراره في أستراليا لأكثر من ثلاثة عقود لا يزال أنطوان القزي هارباً ومرتحلاً فهذه الشامة على خده ما زالت تذكره بما لا يذكر يقول: وعلى خدي شامةٌ لا تُنسى/ ذكرتني بما لا يذكر(ص45).

 الرحيل والهروب هاجس يرافق الكاتب فعلى صفحات الكتاب يردد تعبير الرحيل والهروب بشكل مباشر وصريح أكثر من عشرين مرة رغم أنه حاول أن يروض هذا الهروب الذي يصفه بالبركان حيث يقول: من يُمسكُ هذا البركان/ يروّضُ الهروبَ…(ص74)

يقول: تزرع قبلتين وترحل (ص7) قبل أن يأتي القطارُ… ويرحل (ص13) ترسم الرحيل وتندم. كم يسرقُ الجفن دموعاً هاربة (ص30) ترصد غلائلَ الضباب الهارب… تعصر ألآس دمعاً للغيوم/ وأغصاناً للرحيل/ وتولم للمرايا التائهة…(ص 35) أطوي المساءَ شراعاً وأرحل (ص39) أن روحي هاربة/ فوق أرضٍ سائبة (ص41) ما للأرغنِ الموجوع يرصدُ غمام الرحيل (ص61) تعانق أحلامي الهاربة (ص73).

لكن رغم هذا الرحيل والهروب فإن الشاعر لم ييأس ونراها يتصدى لمشاكل الأمة ولا يتوارى خلف التعتيم والتورية ويوجز المأساة التي نعيشها في بحثنا عن مكان بين الأمم فيقول:ليس في تاريخ العَرَبِ/ سوى "نحنُ كنّا" وليس في حاضرهم / سوى خيولٍ أصيلة (ص34).

وفي ص 72 يقول: ليس للسماءِ أن تقول/ والناس في "داحس والغبراء"…وليس لها ان تلهبَ الشموس/ فالجهالة شمسُ الحاقدين/ وليس لها ان تنثرَ الحروف/ فلغة الموت سلطانةُ القواميس.

لحواضر الشرق حضورها فيخصص قصيدة لكل من بغداد (ص53) الشام (ص76) وبيروت (ص81).

الحب له حضوره ففي قصيدة للصمتِ كل القصور، ينذر قصائده لاجلِ عينيها وينثر أبياته ويقول: لأجل عينيكِ/ نثرت أبياتي/ شقائق سفوح/ وشققتُ صدري/ عروقً الغدائر/ وبنيتُ للكلامِ كوخاً وللصمت كلُّ القصور( ص48).

وفي قصيدة الى أمّي يصارح أمه بأنه لم يبلغ سن الفطام مقدراً دور سلطانة الحنان في حياته  ويقول: لن يكبر الطفل يا أمي ويرسم لها الشروق قبلتين ويسألها ان تدعه العودة والركوع والصلاة في هيكل أسرارها ويختم القصيدة بالطلب منها: دعيني أغمرك..كي أعيش‼(ص52).

يحتفي أنطوان القزي بنصر تموز عام2006  بقصيدة بعنوان" شموس تموز" (ص97) ويقول: رصدوا ظلالهم مواقيتّ الصلاة/ دروب عاملية تغربلُ الأبطال/ ترفل رذاذّ الأحداق/ تلملمُ متون الليل/ على سطوح عيترون… وردي المناديل/ عن وجوه تهزم الشموس/ وعيون تؤرق الأقباس/ قومي ننازل الذئاب/ نربك الأزمنة السوداء/ نسطر الامجادَ… وينشرُ تموزُ شموس الجنوب/ فوق سطوحٍ سافرة/ ليذوب.. صقيعُ هذا العالم.

أخيراً، نترك للقارئ أن يسبر صفحات الكتاب حتى يلمس بنفسه كم هو غني بما قد يتشارك كل منا مع الكاتب بأحداثه والمحطات التي توقف فيها لانه من الصعب تلخيص الديوان "رذاذ صيفي" ولا يمكن أن يأخذ حقه الا بالقراءة.

***

عباس علي مراد - أستراليا

لقد سارت حركة الأدب في العراق ببطئ قبل الحرب الأخيرة فقد كانت الناس مشغولة بهموم المأكل والملبس أيام الحصار، ولم يمنع ذلك من وجود نتاجات ادبية في تلك الحقبة وأن كانت قليلة، وتركز الأدب في الوقت الماضي على الشعر ولعل السبب في ذلك هو السيطرة السياسية في ذلك الحين و تقييد حركة الرواية واختيار موضوعاتها فقد تركزت موضوعاتها على الحروب ونقل ما يجري في المعارك هو محور موضوعات الروايات آنذاك وبالتأكيد لم تخلو من روايات اجتماعية ورومنسية لكن بشكل أقل من تلك التي لا تخلو من الحروب. ومن ابرز الكُتاب في تلك الفترة هم فؤاد التكرلي وعبد الخالق الركابي وعالية ممدوح و بختيار علي وميسلون هادي وغيرهم، وبعد عام 2003 ظهرت الرواية بشكل آخر مختلف بعض الاختلاف لكن فيه تحيز للحروب والثورات أيضاً وهذا امر لابد منه بسبب الوضع الراهن في تلك الفترة وبعد الاستقرار النسبي الذي شهده العراق بدأت الرواية تنفتح على العالم أكثر وبرزت اسماء كثيرة في كتابة الرواية وبمواضيع مختلفة منها الاجتماعي والرومنسي والرعب والفنتازيا ... الخ، واصبحت الساحة تزخر بالأعمال الادبية وهناك مساحات كثيرة لاختيار موضوعاتها وكذلك ظهر ما يعرف بأدب المغترب فقد نزح الكثير من المثقفين والكُتاب والادباء إلى خارج البلاد في فترة حرب 2003 وظهور الطائفية والحروب الاهلية في تلك الفترة، وسمحت هذه الفترة بظهور اقلام تكتب بجرأة وبدون خوف للوقوف على المشاكل وحلها فكانت الرواية العراقية تتصدر المشهد العربي والعالمي حيث بدأ الكثير من الروائيين بترجمة اعمالهم إلى لغات مختلفة، اما ما احدثه التطور التكنولوجي على الرواية فقد كان كبيرا جداً من خلال نشر النتاجات الادبية بطريقة أكثر سهولة وفي أي بلد من بقاع العالم، فوجود المواقع الالكترونية ساهم في النشر والاعلان عن وجود ادباء بمختلف المجالات وليس فقط الرواية للتعرف على اعمالهم وتذوق كلماتهم وتعابيرهم الشيقة، الرواية هي مرآة المجتمع في كل عصر فهي تنقل التراث والفكر وتسجل تاريخ الاحداث وتستقرأ المستقبل من خلال سطر الكاتب لأفكاره على ورق أبيض ناصع فيقرأها المتشوق للفن العريق..

***

سراب سعدي

البعض من "كتبة" هذا الزمن يمعن في تحبير بعض الصفحات اليتيمة الفاقدة للشروط الضرورية تقنيا وجماليا لتصير هذه "النصوص" قريبة من بهاء الكيان الأدبي -شعرا وسردا- هؤلاء يتملكهم عشق أسطوري للهذيان وتبعاً لهذا المسار تصير عملية مسك القلم وتحبير بعض الكلمات في غياب تام لخلفية فكرية وجمالية للكتابة كالذي يزرع الورد في المياه الآسنة.... الكاتبة بهذا المعنى، ليست في متناول الجميع، ونقصد هنا العقول التي تنتج افكارا ومقاربات لافته نتيجة الجدل مع الواقع وإرهاصات المرحلة وما تتطلبه من تفكير عقلاني عميق ومنهج جدلي يدور رحاه في لفت الإنتباه للقضايا المصيرية والدالة للمواجع والإنكسارات والخيبات وما ينتظره المرء هنا وهناك، للخروج  من النفق المسدود وصولا إلى بر الأمان. في هذا السباق، لا ولن تستطيع أي انامل تتدعي انها تكتب " نصوصا إبداعية" التحليق في سماء الخلق الفني،طالما انها لم تستوعب الشروط الموضوعية لبناء الكيان اللغوي والأبعاد الجمالية والآفلق المعرفية لنص ادبي ،شعري أو سردي، لافت ومبهر ومتجاوز للمالوف....

ما لم تفهمه العقول البسيطة الغير المكتوية بجمرات الواقع ولم تدخل إلى حد اللحظة المناطق الموجعة في مسارات الفكر والمعرفة والفلسفة والإجتماع الإنساني، انها خارج  السيرورة التاريخية وما تتطلبه حركتها الدؤوبة من سفر وترحال بين ضفاف الوعي والجدل الخلاق بين الواقع المادي بكل تخومه وتعبيراته وعقلانية التفكير المناهض للوثوقية واليقينية والباحث من الجهة الأخرى عن بوصلة لعشاق التنوير وإعطاء الفكر العاشق للمعنى وبهاء الأقاليم الحالمة بالتحرر والإنعتاق والوقوف على أرض صلبة بعيدا عن اوهام اصنام الفكر الوثوقي  الشمولي الرافض للحوار والجدل مع مخالفيه ومعارضيه على مستويات العقيدة والايديولوجيا وعلاقة النقل بالعقل والتراث بالحداثة والأصالة بالمعاصرة وتكسبر الأنساق من أجل الوصول إلى خطاب فكري عقلاني لا يتصادم تماما مع الهوية في ابعادها المفصلية ويتماهى في الصفة الأخرى مع التنوير  والحداثة في سياقاتها الفكرية والمعرفية المتصلة بالقيم الكونية الكبرى..الحرية والعدالة والمواطنة. كل هذه الأبعاد والمرتكزات التي الأسس الطبيعية لعملية الخلق والإبداع الأدبي، هل تستوعبها العقول التي تتدعي ان لها دورا محوريا في الكتابة وإنتاج نصوص  لافتة، والحال ان انساق التفكير لدى هؤلاء لم تخرج من دائرة تفكير القطيع.

إن الكتابة الإبداعية على مدار عصور التاريخ، لم تصل الى هذه المرتبة المبهرة بالادعاء والتطاوس والغرق في مياه الأوهام، بل كانت نتيجة طبيعية لعمل دؤوب قامت به عقول مستنيرة مناهضة للظلام بكل تعبيراته وتجلياته المتصلة بالفكر الوثوقي واليقيني الرافض للحوار والجدل.

ما ينتظره الآن، المشهد الثقافي العربي في علاقة بثقافات امم أخرى من العالم الفسبح، هو العمل بشكل جدي ونوعي لانتاج إبداع ادبي يوازي ما انتجته العقول المبدعة لهذه الأمم،شرقا وغربا،جنوبا وشمالا... إن الأفكار المتسمة بالعمق المعرفي والفلسفي "ليست في متناول انصاف المواهب ومثقفي العشق الخرافي للمال وللغنيمة والجنس، بل هي نتاج طبيعي لعقول مؤمنة بقضايا الإنسان في كل مكان على إختلاف الأديان والحضارات والأعراق.

***

البشير عبيد / تونس

كاتب مهتم بقضايا التنمية والمواطنة والفكر التنويري وإشكاليات النزاعات والصراعات الإقليمية والدولية...

من البديهي ان دور المنتديات الثقافية لايتوقف على الجانب الثقافي فقط انما  تمثل حاجة اجتماعية مهمة وليست ثقافية فقط، بمعنى اخر أن المجتمع حينما تتبدل أحواله حتى إلى الأحسن لا يعني انتهاء مشاكله وقضاياه التي تحتاج إلى معالجة ثقافية وحوارات محدد، بل إن مع أي تغيرات اجتماعية تنشأ هناك مستجدات تتطلب الحوار والنقاش والنقد والتصحيح والتي تساعد على  توفير التعارف المباشر بين المتحاورين، فى المنتديات الحوارية المباشرة يمكن أن تشكل نقطة التقاء بين التوجهات المختلفة فكرياً أو مدرسياً يتعارفون أين يلتقون وأين يختلفون، وهذا ما نراه على مختلف الصعد الاقتصادية والسياسية والعلمية إذا أريد للحوار أن يخرج بنتائج يبنى عليها فلابد من تلاقي الأطراف والحوار المباشر بينها.

تعدُّ المنتديات الأدبية والثقافية والاجتماعية مادّة مشخصة ومجالًا خصبًا لدراسة قضايا المجتمع جماليًا وإبراز تناقضاته وصراعاته التي تضطرم داخله، كما أنها تستجلي بواطن الأفراد، وتكشف عن البواعث الدفينة للسلوك الإنساني؛ وصارت الفنون الأدبية لها  قدرة على التقاط الأنغام المتباعدة، المتنافرة، المركبة، المتغايرة الخواص لإيقاع عصرنا،  ويمكن رسم الدور المستقبلي للمنتديات  بنقطتين هما:

اولا :الوقوف على التحديات الحقيقية التي يمكن أن تسحب من المنتديات دورها وتفقدها استمراريتها.

ثانياً: معرفة العوامل التي تجعل من المنتديات الثقافية حاجة مستقبلية.

 يمكن رصد كلَّ المتغيرات والأحداث المتسارعة في واقع الحياة الإنّسانية العامة والخاصة من خلال المنتديات لتعبرُ عن قيمٍ اجتماعية معينة سواءٌ أكانَ هذا التعبير إيجابيًا أم سلبيًا، ويمكن ان تكون خاضعة لها اومتمردة عليها.

لاشك ان هناك تحديات تواجه المنتديات من أهمها، 1- هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف مسمياتها، والانجذاب المتزايد نحو التلاقي الافتراضي، على اعتبارها انها تتيح المشاركة بشكل أوسع وبحرية أكثر لأي شخص وهو في مكانه خلف لوحة المفاتيح، إلا ان المنتديات الحوارية المباشرة تشكل نقطة التقاء بين التوجهات المختلفة فكرياً أو مدرسياً يتعارفون في نقطة ويختلفون في جهة اخرى على مختلف الصعد الاقتصادية والسياسية والعلمية إذا أريد لحوار أن يخرج بنتائج يبنى عليها الأطراف في الحوار المباشر .

2-هو تغير نمط الاهتمامات الثقافية التي تتجه أكثر نحو الترفيه والفن والرياضة، يضاف إلى ذلك الانشغال الأكبر بهموم الحياة المعيشية الخاصة.

 يمكن القول عن  المنتديات الثقافية أنها تعد ضرورة في غاية الأهمية من حيث مجموعة القيم الثقافية التي تسعى من أجل تعزيز الثقافة العامة، من خلال معرفة قيم الحوار، واحترام الرأي الآخر، و التفاعل مع هموم الواقع الاجتماعي، وقيمة التواصل مع الاتجاهات الفكرية المختلفة بغية تجلي الأفكار والفهم المشترك لتوفير بيئة اجتماعية مناسبة  حفظاً من التآكل الداخلي المتمثل في ضعف التخطيط، ومعالجة العقبات المادية والمعنوية و باتت الأندية الثقافية والاجتماعية اليوم من أبرز الوسائل التي تساهم في تنمية المجتمع وتعريف أطيافه بما يدور حوله ولعل أبرز ما تقوم به هذه الأندية من دور فعال في تنمية المجتمع وكذلك توعية المواطن بمسؤولياته الاجتماعية والثقافية والسياسية والإعلامية داخل المجتمع،بالإضافة إلى دعم الوحدة الوطنية وتحقيق الترابط الاجتماعي بين أبناء الوطن الواحد، لقد بتنا نلمس تغيير ملحوظ في العراق بعد عام 2003 في الأنشطة الثقافية والاجتماعية، والانفتاح الذي صار نحو الاتساع والوعي أكثر، فيما يتعلق بنشر الثقافة، وتقويم المجتمعات، ومشاركة الأفكار وتنوعها، ومخاطبة المجتمع بأطروحات تواكب النهضة الفكرية والثقافية الحالية رغم وجود الضغوط الطائفية والمذهبية عليها. وكذلك فيما يختص بتولية المراكز والمختصين والاستشاريين في المنتديات الثقافية، والدورات التدريبية، وما يتخللها من طرح مواد مغذية للعقل تُساهم في بناء الفكر المجتمعي المتقدّم لتواصل المجموع وتطوير الافكار، هذا الاتحاد التنموي هو ما تُقام له الجهود، وتُذلل له الصِعاب.

الحاجة دائمة ومستمرة للنهضة الفكرية ومواكبة التطور الفكري والانساني، الذي لابد آتٍ، والتماشي معه هو السبيل إلى الابتكار والتجديد والاتساع، وأخيرًا إلى الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أكثر تطورًا ونضجًا ومعرفة ووجود المنتديات تعطي حيوية وقوة، لأنها تبث الطاقة والاستمرارية نحو التقدّم والدافعية للبذل والتجدد والمقدرة على حل المشكلات وتوسيع الآفاق ومد جسور التواصل المعرفي والثقافي.

***

عبد الخالق الفلاح - باحث واعلامي

كلّما صادفته في الطريق، يمشي الهوينى، وقد أثقل الدهر خطواته، مستعينا بعكازه، الذي نسمّيه في بلدتي (خيزرانة)، هرعت نحوه كي أسلّم عليه وأقبّل ناصيته، لحظتها يخرج من جيبه حبّة حلوى ويسلّمها لي كأنّني مازلت – في نظره - ذلك التلميذ الصغير في صفّه الابتدائي.

هو ذاك معلّمي وشيخي وسيّدي في سنوات المرحلة الابتدائيّة في سنوات الستينات. كان حظّي أن أدخلني والدي المدرسة، بعد أربع سنوات من نيل بلدي، الجزائر، استقلالها وحريّتها. وخروج الاحتلال الفرنسي الغاشم مهزوما، مدحورا، يجرّ وراءه الخيبة والذل والمهانة.

منذ عرفته لم يتغيّر معلّمي. مازالت صورة حركاته وسكناته ونظراته داخل الصفّ ماثلة أمام عينيْ، بلغ سنّ التقاعد فتقاعد، وكانت منحة نهاية الخدمة لا تتعدّى مصاريف شهر واحد أو ملاليم كما يقول إخواننا في أم الذنيا. كانت أجرته فيما أعلم زهيدة، لا تكاد تسدّ مصاريف الشهر، لم تسعفه تلك الآلاف من الدينارات في شراء سيارة أو منزل أو في قضاء عطلة صيفيّة أو ربيعيّة في مركّب سياحيّ في بلده، أو القيام برحلة سياحيّة في بلد مجاور أو غير مجاور، عربيّ أو أعجميّ. وفي حفل تكريمه بمناسبة تقاعده أهدوه منبّها صينيّا ولوحة كُتبت عليها سورة الناس. ووعدته الخدمات الاجتماعيّة بدفع نصف مبلغ العمرة، إن حالفه الحظ في القرعة، لكنّ الحظ خانه وأدار له ظهره ولم يعتمر.

و من مكارم معلّمي – التي مازالت عالقة بالذاكرة – أنّه كان رجلا قنوعا بأجرته الزهيدة، ولم يفكّر يوما في استغلال ما يسمّيه معلّمو اليوم (الدروس الخصوصيّة) التي أرهقت مصاريفها جيوب الأولياء في مراحل التعليم كلّها. بل كان يخصص حصص دعم مجانيّة لتحسين مستوى بعض تلاميذه المتأخرين عن زملائهم. كان معلّمي – حفظه الله وجزاه عن كلّ حرف علّمه لمئات التلاميذ عبر مسيرته التعليميّة – حريصا على نجاحنا، يعاملنا كما يعامل الحكيم الحاذق الجسد الواحد، يحنو علينا حنان الأب الرؤوف بأبنائه، ويشجعنا بجوائزه البسيطة في نظره، القيّمة في نظرنا، كأنّ يمنحنا قلما أو بطاقة بريديّة جميلة أو كتيبا لقصة مصوّرة، أو قطعة شيكولاطة. وكان إذا وعد أنجز، ولا أتذكّر أنّه اخلف أو سوّف وعده، كما فعل عرقوب، الذي صارت قصته مثلا يُضرب في خلف الوعد (أخلف من عرقوب).

في إحدى الصباحات الخريفيّة أبت ابنتي الصغيرة المتمدرسة في مدرسة ابتدائيّة محاورة للحي الذي أقطنه، أبت وهي تبكي بحرقة الذهاب إلى المدرسة. فسألتها عن السبب. فقالت لي: إنّ معلّمتنا تحضر معها شوكة (محقنة) طبيّة، وتهدّد تلاميذها وتتوعدهم بوخزهم بها إن هم أخطأوا الجواب في مسألة حسابيّة أو تمرين لغويّ، وهي خائفة بل مرعوبة من ذلك. أخذت ابنتي الصغيرة، بعدما هدّأت من روعها وأمنتها وطمأنتها. وطلبت لقاء معلّمتها، فلقيتها، واستفسرت منها الأمر، أهو صحيح ما قالته لي ابنتي عن قصة الوخز بالشوكة (المحقنة). فقال لي: إي، نعم. ذلك أسلوب أتّبعه لتشجيع تلاميذي على الجدّ والاجتهاد. قلت: إنّ العمل البيداغوجي، التربوي يقوم على الترغيب لا الترهيب، وعلى الوعد لا الوعيد، وعلى الجائزة لا العقوبة. المعلّم، يا سيّدتي، رسول العلم والرحمة ونبع الحبّ والإنسانيّة. وذكّرتها بما قاله أمي الشعراء أحمد شوقي:

قم للمعلّم وفّـــــــــه التبجيــــــلا

كاد المعلّم أن يكون رسولا

*

وإذا المعلّم ساء لحظ بصيرة

جاءت على يده البصائر حولا

كم كان معلّمي رجلا حكيما، طيّبا، كريما، ومازال كلّما التقيته، أعطاني قطعة حلوى، وقد غزا رأسي الشيبُ، فأستلمه منه، وكلّي خجل وتواضع وفرح وسرور، وكأنّه أعطاني كنزا من كنوز الدنيا. ومازلت في نظره تلميذه الصغير على مقعد القسم، ومازال في نظري معلّمي وسيّدي، كلّما التقيته ازداد حبّي وتعلّقي به. وصدق من قال: من علّمك حرفا صرت عبدا له. هل مازال معلّم اليوم كمعلّمي ؟ وهل مازال تلميذ اليوم يمجّد معلّمه ويبجّله وإذا لقيّه بادره بالتحيّة وقبّل يده أو رأسه ؟ يستحي أن يدخّن أمامه – مثلا – أو يبدر منه سلوك مشين كالتجاهل أو التكبّر.

المعلّم – يا سادتي - هو أبو الجميع ؛ الرئيس والوزير واللواء والعالم ورائد الفضاء والحكيم والصيدلي والمهندس والمدير والقاضي والمحامي والأستاذ والعبقري والفيلسوف والصحفي والملك والأمير والخليفة والسلطان والصانع والمخترع والطيّار ورباّن السفينة. وباختصار هو قلب المجتمع وعقله ولبيبه.

المعلّم في أوروبا الليبيراليّة واليابان وأمريكا الشماليّة – يا سادتي - هو حجر الزاويّة في حركيّة المجتمع وتطوّره العلمي والتكنولوجي والاقتصادي. ولمّا سئل أحد الفاعلين السياسيين في اليابان عن سرّ النهضة العلميّة والتكنولوجيّة والاقتصاديّة التي شهدها اليابان بعد خروجه من الحرب العالميّة الثانيّة منهكا ومحطّما، أجاب قائلا: لأنّنا وضعنا المعلّم قبل الوزير. أما المستشارة الألمانيّة الحكيمة أنجيلا ميركل - التي قادت ألمانيا الموحّدة بعقل أرجح من عقول حكام العالم الثالث كلّهم - فقد ردّت على مطلب المضربين، الذين طالبوا برفع أجورهم لتتساوى وأجور المعلّمين قائلة: أتريدون أن أسوّكم بمن علّموكم.

لو كان معلّمي المنهك والمتعب من وطأة واقعه المعيش، معلّمي وسيّدي، الذي تقوّس ظهره كالمنجل في منتميا للمنظومة اليابانيّة أو الألمانيّة، ما رأيته يمشي الهوينى ويتهادى على عكّازه، وقد بدت على محيّاه آيات الخصاصة في مجتمع طفت على سطحه الجيّف والمتردّية.

فتحيّة إلى معلّمي وسيّدي، وإلى كلّ من علّمني حرفا وأنار لي دروب الحياة الكريمة، وأنقذني من الجهل والجهالة وله أهدي هذه الأبيات لأمير الشعراء أحمد شوقي:

قم للمعلّم وفـّـــــــــــــه التبجيلا

كاد المعلّم أن يكون رسولا

*

أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي

يبني وينشىء أنفسا وعقولا

*

سبحانك اللهمّ خير معلّم

علّمت بالقلم القرون الأولى

*

أخرجت هذا العقل من ظلماته

وهديته النور المبين سبيلا

*

و طبعته بيـــد المعلّم تارة

 صَــــدِىءَ الحــديدُ وتارة مصقــولا

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

وأنا أستمع دون إرادة إلى هذا النوع من النكبات، تنتصف أمام بصيرتي مشاهد السرقات، وسيناريوهاتها المتعاقبة، وآخرها مصفى بيجي.

تتزاحم الصور ببنودها المتوجعة، ترتسم الموضوعات بشكل مضطرب، حيث لكل حكاية خبر، ولكل خبر حديث، ولكل حديث علاقة بجملة حاضرة، وأخرى غائبة.

وبهذا الشكل وذاك، تأخذ القضايا دورها في التأثير، تلتقط خطها البياني، تتفاعل في النفس- تهبط تارة، ثم تعلو.

وعلى أساسه تتغير المعادلات، تتحول الأشياء إلى كوابيس، يُسرَق الزمن والحياة، يتوقف معنى الإنسان، يساق إلى المحرقة، يصبح حطاما أمام دوامة هذا الكم من الفوضى.

وبعدها يتظاهر الأبرياء، يتساقطون تباعا بأسلحة الحكام على المقصلة، يصرخ الفقر، تتحول مقاعد السياسة إلى لهب من النيران تلتهم كل ما يتاح لها من ثروات، تُستهلَك القوانين، تكتظ الأحكام، تجتمع، ثم تنفر بعيدا، تبحث عن ملجأ يقيها بعد أن تصبح عاجزة أمام دوامة هذا النوع من الخراب.

ينتابنا البكاء، نصرخ، نبحث عن حكيم يرشدنا.

لقد وقعنا جميعا في دائرة الخسران، وها هو عصر الخديعة والخذلان يطل علينا، يكشر أنيابه، يفرض نفسه، يطوقنا بمخالبه بعد أن فقدنا كل شئ؛

قتلنا إرث سومر، وبابل وعشتار، صرنا ننظر إلى دم الوركاء وأطلال أور وهي تعلن ثورتها، قتلنا الضمير، والحس والمشاعر، أجهضنا حقيقة الدين، بعد أن سادت لغة العنف، والجهل والتجهيل.

تحولت أرض الخصب والعطاء إلى محرقة تسوقها آليات العسكر، وثكناتها، هجر أهل العلم، والعلماء، والمخلصون، ولم يبق لهم من هذا الوطن إلا بقايا ذكريات مات بعض أشلائها، بعد أن مزقتها الحراب.

***

عقيل العبود

كثيرة هي المصطلحات التي تظهر هنا وهناك وأحياناً تكون غريبة نوعا ما، فقد تظهر بعض المصطلحات بشكل ملفت في مدة زمنية معينة وتبدو للوهلة الاولى طبيعية ولكن بمرور الزمن وظهور اجيال جديدة قد تبدو هذه المصطلحات غريبة أو غير مفهومة ويُجهل معناها تماماً!، ومن الأمثلة على ذلك (كوفيد) فلعل الاجيال القادم لن تعرف انه فايروس اكتسح العالم وجعله بلا حراك!.. وغيرها من المصطلحات، الأنثروبولوجيا الثقافية تعني علم الانسان فهو يدرس الانسان وعلاقته بالمجتمع الذي ينمو ويعيش فيه وخاصة ثقافته مع هذا المجتمع المنتمي إليه، إذن فهذا المفهوم يخص الإنسان وثقافته في العلوم التي تحيط به. ومن الجدير بالذكر أن هذا العلم يحتوي على فروع، ولكونه مفهوم شامل فإن فروعه تمثلت في الأنثروبولوجيا والتي تتحدث عن المجتمعات الموجودة في وقتنا أو المجتمعات التي انقرضت لكن لابد من وجود أدلة على وجودها، وكذلك يخوض هذا الفرع في السياسة والاقتصاد وكذلك يهتم بالأديان والاعراف والتقاليد... الخ. ومن فروعه أيضا علم الآثار الذي يتناول كل أثر باقي لشعوب ماضية عاشت في مدة زمنية معينة، واخر فروعه هو علم اللغويات وكل ما يخص اصول اللغة وحسب الحقبة التاريخية .. وهنا يتبادر السؤال الأكثر أهمية لنا وهو ما الفائدة من التعرف على هذا المفهوم او المصطلح ؟، لكل علم أهمية في حياتنا وتكمن أهمية هذا العلم في فهم الخبرات والمميزات وممارسات التي تخص المجتمع وله أهمية في التواصل مع كل المجتمعات التي نتعامل معها والاستفادة من خبراتها وتطلعاتها من خلال الاختلاط الثقافي مع ثقافات أخرى فيمكن الاندماج بسهولة بعد دراسة الطبيعة الأنثروبولوجية لتلك المجتمعات.. ويبقى أن اذكر الفرق بين الأنثروبولوجيا الثقافية والأنثروبولوجيا الاجتماعية فالأولى كما عرفناها سابقا بانها تختص بدراسة المجتمعات والثقافات الانسانية واصولها وتاريخها في حين الأنثروبولوجيا الاجتماعية هي التي تختص بالبناء الاجتماعي للمجتمعات ويمكن القول أن الثقافة والاجتماع هما جزء لا يتجزأ من حياة الانسان بصورة عامة.

***

سراب سعدي

رواية صخور الشاطئ (سأقتطف منها بضعة أزهار)

* قبل القراءة، أود أن أشير الى عبارة أثيرة جاءت في رواية الثورات لكاتبها الفرنسي، الحائز على جائزة نوبل للآداب، جان ماري كوستاف لوكليزيو، يقول فيها: ما يقتلني في الكتابة أنها قصيرة جدا، تنتهي الجملة ولكن كم من الأشياء تبقى خارجها. (إنتهى الإقتباس).

أمّا أنت عزيزي القارئ فلك كل الحق في تفسير ما كان يقصده الكاتب.

* سلوى جراح: روائية وإعلامية فلسطينية، وُلِدَت في حيفا. ستحدثنا في سرديتها التي بين يدينا عن مدينة عكا، كمن تكون مدينتها إن لم تكن كذلك، فهي سليلتها من جهة الأم وربما من جهة الأب أيضا. وسنمضي معها كما اختارت ولعلها حسنا فعلت، إذ هي أرادت أن تقول أنا إبنة فلسطين، إبنة كل مدنها وكل شبر فيها.

***

من هناك من عكا ستبدأ الحكاية، حيث ساحلها الذهبي ومساءاتها الناعسة. ومن ملاعب الصغار، وهم يعبثون بطينه وغرينه، وكيف يتبارون على تطويعه حتى يمسي رهن براءة أيديهم، ليرسموا من بعد ما يشاؤون من حلم ومن حياة هانئة وديعة، آملين أن تكون بإنتظارهم ذات يوم حين يكبرون. من عكا المدينة المنيعة والعصية على أعداءها، يوم أراد نابليون أن يجعل منها ركيزة ومنطلقا لإحتلال سوريا، وإذا بالخبر اليقين ينبأه بهزيمة جيشه وليجر ذيوله ذليلا. ومن هناك أيضا، سنكون برفقة الروائية لتفتح لنا قلبها وتحدثنا عن رحلة عشقها للبئر الأولى، حيث النبع والأصل، وليعود بها الرجع بعيدا الى ذاك الشاطئ الصخري، لِمَ لا ومخيلتها لا زالت تحن الى وقت أصيله وغروبه و ساعة سحره، ولا زالت أيضا تطرب لسماع تغريدة الطيور الأليفة، حين تحطٌ رحالها بغنج على سدرة، كان الله قد حباها برحمته، بعد جولة، ربما إستغرقت من الوقت طويلا.

فالكاتبة رغم إغترابها المبكر الا أن ذاكرتها لا زالت تحتفظ بما فاتها من سنين بعيدة، فأيام طفولتها ها هي شاخصة أمامها، فهنا يقع بيتهم العتيق ومنه تشم طيبة الأهل وتسمع صدى أصواتهم. وبعد أن تستريح قليلا ستقص علينا وكما أوعدتنا أجمل القصص، مبتدأة بما كان قد إستقر في ذاكرتها من قصة حب عنيفة، طرفاها عاشقان هائمان، لم تنتهِ وللأسف الى ما يشفي غليلهما ويُسعدا. وحكايا أخرى كثيرة عن بيت فلان وبيت فلانة. ومن ثم ستتوقف على نحو مفاجئ لتسائل نفسها: هل لا زالوا هناك أم إغتربوا كما إغتربنا من قبلهم في بلاد التيه، وهزهم الشوق والحنين الى حيّهم ورائحة الزعتر البري!!.

ومن هناك أيضا ستطوف بنا أرضها، من أقصى شمالها حتى صحراء النقب، حيث مضارب الخلان والصداقات ودلال القهوة الأربعة وما يصاحبها من طقوس لا زالت الكاتبة تحن اليها وتشم نكهتها. فهذه حيفا وتلك يافا وهذا الطريق المؤدي الى مدينة خليل الرحمن التي باركها الرب. وفي القلب من أرضها تقع القدس الشريف، مدينة المدائن، ففي هذا الحي وُلِدَ الكاتب أدوارد سعيد، ومن هذا الشارع مرَّ عبدالقادرالحسيني بشموخه وكبرياءه وبرفقته كوكبة لامعة من قادة الثورة. وهذه مدينة صفد وشقيقتها جنين وعن أي جنين أحدثكم، إذ هي لا زالت على عهدها وعلى بسالتها وثباتها، فرغم كل سنين الإحتلال بعقوده السبعة وما ينيف، فها هي أخبارها تترى لتتصدر وكالات الأنباء العالمية، مرغمة حتى أعداءها على سماع صوتها وهي تشدو للرصاص المقاوم وتغني بمواويلها للثورة ولأبطالها ولتخلد شهداءها.

ــ 2 ــ

يونس، هو الشخصية الرئيسية والمحورية الذي ستدور من حوله أحداث الرواية. كذلك سيكون صلة الوصل بين أجيال ثلاثة، مشاركا في تحريكها وتثويرها فيما بعد وعلى حثها لإستعادة الأرض المغتصبة، دون هوادة أو تخاذل. ويونس هذا، كان صغير أخوته من البنين، وبين شقيقاته كان مدللهم، حاملا العهد محافظا عليه حتى الرمق الأخير، وهو الوفي الثابت على مبادئه. وما من طارئ يحصل أو يستجد أمراً، الاّ ويكون يونس حاضرا بل ومشاركا على قدر ما يستطيع بل وأكثر. وأيضا هو نقطة الجذب والإستقطاب وستتجه الأنظار اليه. لذا شَغْلهِ لموقع الحضوة والإهتمام من قبل أهل بيته، لم يأتِ بعفو خاطر أو محض صدفة، فقد مُنِحَ الصبي عدا عن نباهته ثوريته ووطنيته التي لم تعرف الحدود ولا المهادنة، مواهب عديدة ومتنوعة، من بينها إجادته للخط العربي والعزف والغناء رغم براءة صوته ويفاعة عمره. وإذا ما ضاقت نفوس أصحابه، فسيدعونه الى فاصل من الغناء وبما يجيد به وَيطرب سامعيه.

وعن هذا الموضوع، فهناك واقعة سلكت طريقها بسهولة وعفوية، وظل أبناء البيت الواحد يتداولونها ويعيدون إستذكارها بإستمرار. ففي إحدى ليالي الشتاء الطويلة، وبينما كان الأهل مجتمعين، حثَّه أخاه الأكبر على أن يتحفهم بما يجود به صوته ويديه، بعد أن تسَرَّب الى مسامعه بأنه على تمكنٍ عالٍ من الغناء والعزف وبشهادة أصدقائه. تردد الصبي في بادئ الأمر، فمهمة العزف والغناء في مثل هكذا ظرف ليست بالأمر السهل، فهو في حاضرة أخوته وسَيدَي البيت. إذن الصبي لا زال متردداً، وفي وضع لا يُحْسَدُ عليه، وواقع تحت تأثير ضغطين، لا يقل أحدهما عن الآخر حرجا، فهو أسير خجله أولا، وثانيا وبسبب صغر بنيته، فسيصعب عليه مسك العود وعل النحو الذي سيمكنه من أجادة العزف، خاصة وإن عيون آذان الأقربين متجهة اليه.

وبعد تشجيع الأهل وتحفيزهم له ومنحه جرعة عالية من الثقة بالنفس، وبعد تهيئة مناخ مريح ومعزز بالدعابات وشيء من المغريات المحببة، وجد نفسه يونس وهو مقدم على بعض الحركات الضرورية التي ستساعده على إسماع جلاّسه أعذب الألحان والمقامات، عاقدا العزم على أن يخرج من هذا الإختبار والتحدي بنجاح، وعلى إبهار الحضور وشدهم اليه.

ولتحقيق ذلك تجده مثلاً وبلغة الواثق وقد (إقترب أكثر ورفع العود من مكانه. نظر الى أوتاره، جلس على الأريكة ووضعه في حجره. إحتضنه بصعوبة.....) ثم راح يدندن بينه وبين نفسه في بادئ الأمر وبنغمة صوت أقرب للهمس أو الهسيس. تبعها بعد ذلك بخطوة أكثر تقدما وجرأة. وبعد أن شعر بحالة من الإستقرار والسيطرة، لحظتذاك سيبلغ من العطاء أجمله، ليتحفهم بأحلى وأرقى ما غنّاه طيب الثرى، صناجة الغناء العربي سيد درويش، برائعته (البحر بيضحك ليه، وأنا نازله أتدلع أملا القلل). ص25. تفاجأ الجميع بقدراته. وما كاد ينتهي من أدائه، راحت الأسئلة تنهال عليه من أفراد أسرته وأولهم والده الذي إندهش لكفاءته وَوُسع ذائقته الفنية رغم صغر سنّه، ليثني عليه بحرارة، وليخرج من تلك الأمسية مزهوا منبهرا بولده الصغير، وسيفخر ويباهي به بكل تأكيد أمام معارفه وأقربائه.

عندما أطلقت الروائية، سلوى جراح، على الشخصية الرئيسية لعملها السردي وأعطته إسم يونس، لم تكن بغافلة على ما أعتقد عما يحمله من دلالة ورمز ومن إرث وبعد تأريخي كذلك. إذ هو يُعد بين أبناء الشعب الفلسطيني الشقيق إسما شائعا ومنتشرا بكثرة. وربما يقف خلف ذلك العديد من الأسباب، لذا بات علينا أن لا نمر عليها سريعا. فالإسم يُذكِّر مثلا بخان يونس، التي تُعد واحدة من كبريات مدن فلسطين وهي الأقرب الى قطاع غزة، وقد تأتي التسمية تيمنا بها وتخليدا لها. والأهم من ذلك فالأسم يُذكٌرُ أيضا بنبي الله يونس وتلك السردية الدينية التي تتحدث عن مكوثه في بطن الحوت لأربعين يوما. وإذا أردنا أن نستخلص منها دروسا وعِبَرْ، فهي تشير الى مدى صبر النبي يونس وتحمّله. وتوظيفا لهذه الواقعة، فيمكن القول بأن الشعب الفلسطيني كما سائر شعوب الأرض المناضلة الأخرى ، هو الآخر صبورأ على بلواه وسيبقى كذلك حتى تحقيق ما يصبو اليه من أهداف مشروعة والمتمثلة بإقامة دولته الوطنية المستقلة، وإن طال الزمن.

ــ 3 ــ

تأريخ أحداث الرواية وما احتوته من تفاصيل، تعود الى عقود خلت، يوم كانت هناك دولة كاملة المعالم، بمؤسساتها وعلمها وعُملتها الوطنية ومدارسها ومستوى تعليمها، بل حتى كانت أكثر تطورا من بعض شقيقاتها العربيات. وفي لفتتة ذكية من الكاتبة وبهدف الإشارة الى تأريخ سرديتها، فها هي تنقل لنا ما دار من حوار بين أبناء البيت الواحد، والذي كان مداره يتمثل بتلك التجاذبات التي حصلت إثر قرار إبنتهم (رقية)، في رغبتها بتكملة دراستها في مدينة القدس وما سيرافق ذلك من لغطٍ وإعتراضات، حتى جائهم الرد وعلى لسان والدتها (فروغ)، لتوجه كلامها الى زوجها أبو خالد وبلهجتها الفلسطينية المحببة: إنت ناسي إنه إحنا صرنه سنة السته وعشرين وإنه البنات صارت عم تتعلم في كل فلسطين. في العبارة الآنفة، ضربت الكاتبة عصفورين بحجر واحد. أولا عكست مستوى الإنفتاح الإجتماعي الذي كان متحققا آنذاك ومن بينها ما يتعلق بأوضاع المرأة وما حصلت عليه من حقوق، وأيضا مستوى التعليم الذي بلغته الدولة الفلسطينية. فضلا عن التذكير بالفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث الرواية.

ــ 4 ــ

أثناء سرديتها ستتوقف الكاتبة عند واحدة من أخطر المؤشرات التي أنبأت بما يحاك للشعب الفلسطيني وأرضه ، وما كان يضمر له. ففي حوار داخلي بين أهل البيت الواحد سنستمع الى هذا الصوت والذي يستنتج من خلاله أن الصهاينة قد أخذوا من الإنتهازية ومنذ بدايات تأسيس حركتهم، أسلوب عمل لهم، لضمان الحصول ما يسعون من أجله: لمّا بديت الحرب كان بن غوريون يلبس الطربوش والملابس التركية الرسمية لأنه كان مفتكر أن الأتراك رح يكسبوا الحرب. مش بس هيك إقترح إنه يعملوا فرقة يهودية تابعة للجيش التركي عشان يضمن لليهود  الجكم الذاتي. ص33.

وفي صفحة لا حقة من الكتاب وتعزيزا لما ذُكر وفي ذات السياق، فقد أقدم القائد العسكري العثماني جمال باشا والملقب بالسفاح حسب كتب التأريخ، وبعد تهيأة الأجواء والظروف المناسبة، عدا عن تظافر فتنهتها وإغواءها وهشاشة شخصيته وضعفه أمام جمالها، وبنوايا لا تخلو من أهداف بعيدة ودنيئة، على الزواج من إحدى اليهوديات وليست أي واحدة، إنها سارة آرونسون، الجاسوسة التي شاع صيتها آنذاك، والتي كانت تعمل لصالح الحركة الصهيونية. وعن هذا الموضوع فقد أعتبرت هذه الزيجة بأنها تمثل أكبر إختراق للمؤسسة العسكرية التركية، بل راح البعض أبعد من ذلك حين عدّو زوجة المستقبل، بأنها مسؤولة وبشكل مباشر بل ولعبت دورا كبيرا في سقوط الدولة العثمانية، فضلا عن عوامل أخرى ربما كانت أكثر خطورة وقذارة، فلمسات وخطط الإنكليز كانت جلية واضحة ولا يختلف عليها إثنان.

اللافت في الأمر أن أكثر الشعوب  التي تنتمي بديانتها الى اليهودية ومن مواطني دول أوربا الشرقية، هي مَنْ شكلت النسبة الأكبر في نسبة المهاجرين الأجانب الذين إتجهوا نحو فلسطين المحتلة، ليشغلوها ويتخذوا منها وطنا جديدا لهم، خاصة بعد أن بدأ عود الحركة الصهيونية وعصاباتها يقوى بفعل أساليبها، كذلك بسبب السياسات الخبيثة التي إنتهجتها بعض الدول والمسماة بالعظمى، الداعمة لها. على الرغم من أن كتب التأريخ كلها أشارت الى أن فلسطين لم تكن (أرض الميعاد) حسب ما كان يروج له وما يزعمون. ففي البدأ وهذا ليس بخاف على أحد، راحوا يروجون لفكرة أن أوغندا هي أرضهم المنتظرة، عدا عن دول أخرى كانت مرشحة هي الأخرى لتكون موطنا جديدا لهم.

وبعد أن إستشعر الفلسطينيون حجم الكارثة والمؤامرات التي تحاك ضدهم، فقد إلتفتوا أخيرا الى ما ينبغي القيام به، خاصة وأن أعداد اليهود المهاجرين بدأت بالتزايد وبشكل ملحوظ، وإن ما يتوفر لهم من مساعدات ودعم وعلى كل المستويات، لهو يفوق الخيال والتصور. وعن هذا فستتوقف الكاتبة عند هذا الرأي الذي جاء على لسان رقية في سياق الكلام مع خالتها ولتصدق القول: بدهم فلسطين يا خالتي لأنهم بيقولوا إنها إرثهم التأريخي...... عشان هيك لازم نتعلم ونتطور ونصير أقوى منهم. إحنا أكثر من نصف شعبنا أمي لا يقرأ ولا يكتب. ص70. وفي تعليقها هذا وعلى ما أجزم فقد أصابت كبد الحقيقة.

ــ 5 ــ

نَمَت أظافر يونس ونَمَت معه مَوهِبَتي الغناء والعزف على العود. فبعد تلك الأمسية التي قضاها مع الأهل وأبدع فيها والتي زادته ألقاً وثقة، عاهد نفسه على اثرها أن يوسع من حافظته ومن مسعاه للحاق بآخر ما بلغه الغناء العربي من تطور وتجديد. وكلما خرج الى البرية حيث شجرة الجوز المباركة، سيطيب له الخطو وستتفتح قريحته لممارسة أجمل ما عنده من طقوس، بلهفة وشوق ودون حدود. وبعد أن قطع مسافة لا بأس بها، وجد نفسه وقد إستقر به المقام على مُرجٍ شديد الخضرة، سخي كريم في عطاءه وفي منحه فسحة من الخيال والإسترخاء، حتى راح مغلقا عينيه، في مؤشر يدل على وجهته في خلق جو من الإنسجام والتناغم مع الطبيعة، ليردد من بعدها آخر ما غناه المطرب الشاب آنذاك محمد عبدالوهاب: اللي إنكتب عا الجبين، لازم تشوفو العين. وعدك ومكتوبك يا قلبي كان مخبى فين. إن كان كده قسمتك، بختك أجيبو منين. ص .72.

سَعدهُ سوف لن يكتمل، قال في سرّه إن لم يسعفه بعشيقة أو حبيبة، تشاركه نشوته في الغناء وترقص على نغمات صوته. لم يَخب ظنه، فقد شعر أن هناك أمرا ما قد حصل دون أن يدرك ماهيته، وأن فسحة من الضوء بدأت تتسلل لتجد لها مكانا قريبا منه إن لم يكن قد إستظلَّ بها دون دراية منه. فإستمرأ يونس الأمر وراح يستشعر أكثر ما يمكن حصوله، حتى وجد نفسه مضطرا على التوقف عن إستكمال موّاله الذي كان غارقا فيه، وليجول (ببصره في المكان، رآها تجلس القرفصاء، تفصلها عنه ساقية الماء وقد أسندت وجهها الى كفيها، إبتسم. ظلت على جلستها) تشجَّع، تذكَّر ما قال له أخاه الأكبر خالد بأن أولى الخطوات نحو مَنْ تُحب، ينبغي أن تحمل بين ثناياها شيئا من الجرأة ومن بعدها الطوفان. لذا ووفقا تلك الوصية وذلك الدرس أقدم عليها مسلما. إسمها ريا (نهضت من جلستها وهمست: ما أحلى صوتك يا أفندي. شو كنت تغني؟ همهم بإستحياء: موال مصري). ص73.

ربما نجح في أول إختبار له فيما سمّاه بلعبة الحب، ولكن هل سَيَسرٌ لأخيه ما مرَّ به وما صادفه من هبة لم يكن يتوقعها!!! لا أحد يعرف وقد يرى أن لا ضرورة لذلك، فها هو يمتلك من الإحساس والقدرة على التصرف وعند المنعطفات الصعبة، ما يجعله أهلا لتحمل المسؤولية وبكل ما يترتب عليها من نتائج. ومما زاده ثقة وأن يندفع بإتجاه قطعه أكثر من خطوة نحو ما أسميناها بلعبة الحب، أن راح الطرف الثاني يتناغم معه ويستجيب له، حتى بديا كإنهما يعزفان على آلة واحدة وعلى إيقاع واحد.

إقتربا من بعضهما ثم راحا يستذكران سوية أجمل الأغاني الفلسطينية وأطوارها كالميجانا والعتابا. فَتَحَ لها باب الراحة أكثر حين دعاها لتغني بصوتها ما يروق لها. إعتذرت (ريا) إذ هي في حضرة مَنْ تُحب، دون أن تُفصحَ عن ذلك، مُتذرعة بعدم قدرتها على مجاراة صوته العذب. وجد يونس نفسه وقد إنغمس أكثر فيما أسميناها بلعبة الحب حتى لم يعد حذرا كما كان عليه في اللحظات الأولى حين إلتقيا. فبعد أن غرس كعب حبيبته غصنا يابسا يشبه المسمار في هيئته، شرع بمداراة الجرح كما الطبيب المداويا، مستلا من جيبه منديلاً (وجعله على شكل مثلث ثم طواه وبدأ يلف به قدم ريا)ص77، في تصرف بدت عليه الطفولة والعفوية واضحتان. بعد عودته الى البيت وحين وقت الغروب، وبينما كان جالس في شرفته وحيدا، راح مستعيدا تلك اللحظات السعيدة التي قضاها مع (ريا)، فما ألطفها وما أعذبها ويا ليتها معه لـ (يريها البحر كي تعرف الفرق بين هذا الجمال الممتد أمامه وذاك السحر. إتسعت إبتسامته. هذه هي فلسطين). ص79.

العلاقة بينهما لم تنقطع بل زادت وهجا وإندفاعا ولتأخذ شكلا أكثر تطورا. فبعد فترة من الوقت ليست بالطويلة إلتقيا مرة أخرى، ومن شدة إشتياقهما لبعضهما البعض وبعد تبادل التحايا وكلمات ليست كالكلمات، والتي كان أثرها بينا على وجنتي (ريا) حيث زادا إحمرارا،  خجلا أو فرحا أو كلاهما، لِمَ لا فهذه هي ضريبة الحب. أما يونس فهو الآخر لا زال عوده طريا وردة فعله لم تكن على درجة أقل منها. وفي لحظة ما، لا يدري كيف حانت وكيف تجرأ وكيف (إقترب بوجهه منها حتى كادت شفتاه تلامسان وجهه.... هبط بقبلته الى ذقنها ثم خدها الثاني). بعد أن شعرت أن هناك جوا من التمادي والإسترخاء من قبلهما، وأنها بدت تستجيب لرغبتها، حتى بلغت مرحلة لم تكن بالقادرة على التحكم بمشاعرها، غير انها وعلى نحو مفاجئ، راحت هامسة(لا، يا أفندي لا الله يخليك).ص87.

ــ 6 ــ

بعد عودته من ترشيحا الى مدينته عكا برفقة شقيقتيه، دخل في مماحكة مع أحد الركاب، كادت أن تتحول الى مشكلة لو لم يتم تداركها بسرعة، فالرجل الختيار أراد أن يحتكر المقعد المجاور ليضع عليه سلة التين التي بحوزته، والذي من المفترض أن يشغله يونس. أخيرا حُلَّ الإشكال وإستقر الأمر. ولأنه على ما يبدو كان متعبا فقد دخل في غفوة عميقة، تذكَّرَ خلالها ما دار بينه وبين أخته صفية. كان مصغيا اليها بإهتمام كبير، فطبيعة الكلام وموضوعه، على درجة كبيرة من الأهمية. في البدأ إعتقد انها ستاخذه الى موضوع حبيبته (ريا)، وكم تمنى ذلك، إذ هي لحظة طال إنتظارها، لكنه لم يصب التقدير، فقد أرادته أن يكون في مستوى الأحداث التي يمر بها البلد وما يُحاك له.

ولكي تُقرِّب الصورة أكثر وتشجعه على التفاعل وإدراك ما تريد إيصاله، رأت أن لا مناص من أن تكون أكثر وضوحا وصراحة في قولها: أنت متابع كل اللي بتسمعه وفاهم الوضع الخطير اللي بنعيشه. حاول يونس أن يرتقي الى مستوى ما تقوله شقيقته، إذ ردَّ عليها وبحماس: طبعاً وأقرأ مجلة (الزمر) اللي بتصدر في عكا ومجلة منيف الحسيني كلما جبتيها أنتِ من القدس، وما يفوتني شي من اللي بيقوله الأستاذ عاطف في المدرسة. ص93.

حديث رقية ومخاوفها مما يجري على الأرض لم يأتِ من الفراغ، فكل المؤشرات تدلل على أن دولة الإنتداب البريطانية وبإشرافها وموافقتها وبتشجيع منها، قد فتحت باب فلسطين مشرعا لمن هبَّ ودب، ففي (الأربع سنين الماضية دخل ستة وسبعين ألف مهاجر يهودي، نصفهم من بولنده).ص98. وعن نفس الموضوع الذي بات يُشغلُ الفلسطينيين ويقلقهم، فسيدور حوار آخر بين خالد شقيق يونس، وبين أحد أصدقائه والذي يوصف بصاحب الصوت الجهوري كما أطلقت عليه الكاتبة وإسمه صادق، ليبدي هو الآخر رأيه وفيما يجب القيام به، مُركزا على ضرورة التصدي ومواجهة التغيير الديمغرافي الذي تقوم به دولة الإنتداب، ولكي ننجح (لازم يكون تحركنا منظم عشان يجيب نتيجه، وبعدين ما تنساش إنه مات أكثر من مائة فلسطيني).ص99. وللتذكير فقط فاننا نتحدث هنا عن سنة 1930، فإستشهاد هكذا عدد لهو مهول جدا في مقاييس تلك الفترة.

صحيح أن يونس باتت تشغله قضية شعبه ووطنه، غير انه في ذات الوقت وبحكم سنه لم يدرك بعد وعلى نحو كافٍ حجم المؤمرات التي تحاك خلف الأبواب الموصدة. ولأن خفقات قلبه أخذت بالتصاعد ومنسوب الهيام والشوق باتا يقلقانه، فلابد وما دام الحال كذلك من ملاذ يلجأ اليه، ليُفرغ ما في جعبته من لوعة، آملا التوصل الى أقصر الطرق التي تقربه من حبيبته. لِمَ أنت ذاهب بعيدا، قالها في سرّه، فهذا أخاك أقربهم وأكثرهم خبرة، وفعلا هذا ما جرى. ففي أحد الأيام إصطحبَه أخاه خالد معه الى أحد الملاهي ولتتوسطهما قارورة من الكونياك التي جاء بها النادل بناءا على طلبه، فصاح يونس: شو هذا؟ مشروب؟ ردَّ عليه خالد: لا مهلبية. طبعا مشروب. وفي ليلتها فتح يونس قلبه لأخيه وليدور بينهما الكلام المباح، وكان لحديث الخمر والعشق القدح المعلى، وليخترقها أحيانا ما يحلو من المزاح وتبادل النكات، تلطيفا للجو، وما أحلاها من ليلة.

في قادم الأيام، سيقع ما لم يكن يتوقعه يونس، فقد مرضت والدته على نحو مفاجئ، ولتظهر عليه علامات القلق والخوف جلية، لذا ستجده مرابطا لها، لصيقا بحبل وريدها. (جلس على الفراش. وضع ذراعه تحت رأس أمه ورفعه برفق. قرَّب قدح الماء من شفتيها. رشفت منه رشفة ثم أغلقت عينيها. أعاد رأسها الى الوسادة. همست: لا شُلَّت يداك ولا شمتت فيك عداك)ص114. إنه الدعاء واللقاء الأخير بوالدته، لتغادر أم يونس (فروغ) عالمنا، حيث مثواها، وحيث السكينة الأبدية.

بعيد رحيل والدته، سيجد الصبي نفسه أمام خيارين، أمّا أن يسلّم أمره للقضاء والقدر ويستكين ويبكي على مَنْ فقده، وأمّا التحدي والمواصلة. لم يطل كثيرا في تفكيره، إذ إستجاب سريعا لنداء قلبه وعقله ووطنه، متذكرا وصايا من فارقته وما كانت تتأمله منه وبماذا نصحته: إنها المعرفة، عليك بها ومنها إنطلق نحو العوالم الأخرى، وإستعن بها أينما ولَّيتَ وجهك أو سار بك المسار. فإستمع الصبي لها، وليمضي بأولى خطواته. صحيح أن المهمة لم تكن بالسهلة لكنها ليست بالمستحيلة. في ذات الوقت فالصبي من لحم ودم وصورة أمه وخبزها والحنين اليها لم تفارقه، بل حتى تجده أحيانا وهو في قاعة الدرس ودون إرادة منه وإذا بدموعه تُذرف بحرقة ومرارة .

ونداء آخر لم يغب عما يدور في خُلد يونس، فالمؤامرة بدأت تكبر، وشهداء فلسطين أخذت أعدادهم بالتزايد. فكما طاف على مدن فلسطين فها هو يطوف على شهدائها وعلى ثلاثة من أقمارها، كان قد تمَّ إعدامهم في سجن عكا، فما كان على الصبي الاّ أن يخط أسمائهم بحروف من ذهب ونور، متصدرة شواهد قبورهم. هنا رقدوا ثلاتهم، رافضين الإفتراق عن بعضهم بعضا حتى بعد رحيلهم. هنا وتحت هذه الأرض المباركة، رحلوا حيث الصديقين، عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، وليغني لهم أهل عكا:

من سجن عكا طلعت جنازي

محمد وعطا وفؤاد حجازي

*

المندوب السامي ربك بجازي

تصبح حريمو عليه ينعونــا

لم تُمهل المصائب والنوائب يونس كي يستريح قليلا، فها هو والده هو الآخر يلتحق بالسماء العليا. وإذا كان له من صداقات تقف الى جانبه في محنته، فلم يكن هناك مَن هو الأقرب اليه من نيقولا، المسيحيي الفلسطيني وإبن مدينة الناصرة. وهنا ستورد الكاتبة نصا ملفتاً وذكيا، في إشارة منها الى وحدة الشعب الفلسطيني وبكل أطيافه، إذ لا فرق بين هذا وذاك، ولا من أفضلية هذا على ذاك الاّ بوطنيته. فقد حضر نيقولا مجلس العزاء  لأداء الواجب في وفاة والد صديقه. إنتبه اليه يونس ليسأله هامسا: هل تعرف قراءة الفاتحة؟ إبتسم نيقولا: ليس تماما ولكني كنت أقرأ شيئا من الإنجيل. ص136.

بعد تفاقم الأزمة وتصاعد حجم المؤامرات على الشعب الفلسطيني، فلم يعد أمامهم من خيار سوى التصدى. لذا شرع أهل الأرض وبكل مكوناتهم بتشكيل منظماتهم السياسية، وكان خيارهم في البدأ تأسيس ما أسموه بحزب الإستقلال العربي، ردا على ما تقوم به الحركة الصهيونية من أنشطة خبيثة. وبحسب ما جاء في رواية الكاتبة والتي أرادت من خلالها إيصال رسالة لمن يهمه الأمر وأظنها وصلت وعلى جناح السرعة، فإن من بين مَنْ نادى بتشكيل هذا الحزب هي شقيقة نيقولا، لتؤكد مرة أخرى على وحدة نضال الشعب الفلسطيني.

وإستجابة لهذا النداء فقد بدأ الشعب بالإنخراط في صفوف المنظمات الفلسطينية، وكان من بينهم خالد، متوجها الى أخيه يونس وبما يشبه الوصية (خيا أنا حطيت دمي على كفي. خلص. نويت. أنت إهتم بإخواتك وأنا رايح (حيث أرست) مش قادر أتحمل أكثر من هيك). ص219. ستأتي الأخبار فيما بعد لتؤكد إستشهاد البطل نيقولا صديق يونس، نتيجة إنفجار لغم أرضي زرعته عصابات الهاجانا الصهيونية. وليُصنع له (صليبا من من خشب الزيتون وغرزه على القبر بعد أن حفر عليه اسمه وتأريخ ميلاده ووفاته (نيقولا فريد بركه 26/10/1913 ــ 17/2/1938).ص259.

لم ينسَ يونس صديقه نيقولا. ففي بغداد حيث تَغَرَّبَ وإستقر به المقام ووسط مجموعة من الأصدقاء، راح ليستذكره بإحدى الأغاني المحببة والأقرب الى قلبه والتي كان يطلبها منه بإستمرار: أراك عصي الدمع. وعن هذه اللحظة، سيقول يونس، لقد إختنق صوتي بالعبرة عدة مرات، لكني تجلدت وتمالكت نفسي وأكملت الأغنية. أحسست أن لها طعما مختلفا. صفق الحضور وهللوا وصاح الزميل الذي أحضر لي الأوتار (عشت الله يحفظ هذا الصوت. لازم تتعلم المقام البغدادي). ص267. بهذه العبارة، أكملت الكاتبة سرديتها، لتوصل رسالة أخرى وعلى درجة شديدة الأهمية، مفادها: ان مصيرنا سيبقى واحدا، وأوتار قلوبنا ينبغي أن تعزف على نغمة واحدة، فلنكن أهلا لذلك.

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

أحلامي:

أنا بحق، وبكامل قدراتي العقلية، أبيع أحلامي بمغرب ما بعد (56). أبيع أحلامي ليس بالثمن البخس، ولا بسوق (الدلالة) المتواجد بسوق جوطية باب الجديد مكناس، ولكن أبيعها بالمزاد العلني الفكري. فمن يحفل منكم بشراء أحلامي؟ لن أبيعكم بيع السَّلَم، ولكن أحلامي تزن الجبال رزانة، وتخالها الجن إذا ما أفرجت عنها طليقة من قمقم مصباح علي بابا السحري. أحلامي بسيطة من أحلام الشعب، وليست مُشَكَّلة من خطوط الفن التجريدي. أحلامي آتية من فكر ابن الفلاح وابن الشعب، ومن ذاكرة أوسط جوهرة عقد عدد إخوة يوسف (عليه السلام).

أحلامي الواهنة:

أبيع أحلامي، بالترتيب العمري والزمني والمكاني. أبيع أحلامي بمغرب المستقبليات وتحقيق الرفاه للجميع. أبيع أحلام الطاقات الشبابية الكبيسة، أبيع أحلام قتل الثقة في الإصلاح المستديم، والمراهنة على السلم الاجتماعي (التفاعلي). أبيع أحلام مدينة الأساطير والسلاطين والخرافة والأضرحة النائمة. أحلامي بسيطة يا سادة، لا توازي أفكار (غارسيا ماركيز) في جوهرة (بائعة الأحلام)، بل أحلامي هي من نسج الواقع المُرقع والمُرقط، ولا هي من خيال الكاتب الروائي الإبداعي.

أبيع أحلامي جملة وتفضيلا، فمَّا على الدولة إلا أن تشتريها جملة وتفصيلا، وتُشفرها بالترميز والتنقيط ضمن السجل الاجتماعي (الجديد)، أو تُخزن معطياتها داخل محتويات ملف (سري جدا) !! سأبيع كل أحلام ستة عشرة (16) من الحقوق الذي نص عليه  دستور2011. قد أبيعها شياعا وفي أغلى متاحف الدولة، وبالمزاد العلني الذي لا يحضره الانتهازيون والوصوليون.

أحلام (باور بوينت  Power point):

أبيع أحلامي، لمن يُقَدرها في النوعية التفردية، ولا يزنها عدا كميا. أبيع أحلامي، والتي هي ملكي حصري، ومن جيل أفكار (المحرر) و(أوطيم). أبيع أحلام جيل ما بعد الاستقلال ( من 56 ما شفنا والوا !!)، أبيع كل الأمل في الكرامة، والتغيير السلمي وذاك الرفاه للجميع بتوزيع الثروة!! أبيع كل أحلام الثقة في المستقبل مع تنامي الفوارق الاجتماعية، وأرباح التضخم.

أحلامي يا سادتي الكرام،  بسيطة حد التهجئة للأطفال الصغار. بسيطة مثل مطالب ساكنة مدينة مكناس الطيبين الطيعين. أحلامي لم أعمل يوما على تصنيفها وترتيبها بالأولويات، بل تركتها مهملة، وهي تصنع الفوضى الخلاقة بالكتابة. أحلامي اليوم يا سادتي الكرام، تفوق حلم تنزيل النموذج التنموي. تفوق كل تلك المصطلحات الكبرى والتي لم أع يوما دلالتها الكمية ولا النوعية، غير أنهم يلتهون بعقولنا وبذكائنا الفطري الاجتماعي بالتشتيت مثل ما يفعل (باور بوينت  Power point). أحلامي آتية من جيل (أحمد والعفريت) و(الرمح المسحور) و(الله يرانا) و(الغني والاسكافي). أحلامي من قصص الخرافة والأساطير و(لالة عيشة) التي سكنت المدينة بالإهمال و(التَّحَمْدِيشْ) و(لهبالْ).

أحلام العدل والإنصاف:

أبيع أحلامي، مرة واحدة ورزمة مكتملة. وهي تحمل بعضا من توابل (الكرامة / العدالة الاجتماعية/ العدل/ الإنصاف والمناصفة...) والكَلمَةُ للشعب. تحمل ما سد الخبر من البياضات والفراغات القانونية الموجودة في الدستور (في غياب النصوص المتممة). قد تقولون كل هذا وذاك هو من أحلامنا في مملكة الفوارق الاجتماعية، لكني أقول: أحلامي تحمل هندسة عجيبة من متتالية (ادفع) بالإصلاح والأمن السلمي الاجتماعي الوطني، وقد سبق لي أن قلت أنا ابن فلاح من أبناء الشعب و(المطرقة والمنزل)... أبيع اليوم أحلامي، وقد أقف غدا أمامكم مثل المصاب بمرض (الزهايمر) وبلا ذاكرة، لا أعرف موضع وطني في الخريطة العالمية، ولا مدينتي مكة وناس، ولا عترتي القوية، ولا عشيرتي القبلية الممتدة من الهوية المنفردة إلى الهوية المشتركة. 

إعلان بيع أحلامي سيصلكم سادتي الكرام تباعا، لكن لن أبيع ذاكرتي ومُخزناتها العمرية الذاتية. لن أبيعكم ذكرياتي في الملهاة الكوميدية، ولا في المأساة التراجيدية، فأنا أعرض أحلامي المشتركة بيننا، وأتخلص منها طوعا في المزاد العلني وبحضور موثق (شهادة اللَّفيف). أبيعها طوعا بعقد الحبس للوطن ولكل الأجيال القادمة، ففي فركها وتفككيها نربح فرصا جديدة من مشاكل عالقة، ونتجنب تهديدات (منْ (56) ما شَفْنَا وَالُو...) .

***

محسن الأكرمين

روي عن ماجد بن وسام أنّه قال:

عدت وأنا حانقٌ ومجبور، إلى أرض قاع الهامور. فقد أعادني صاحب هذه المقامات، لأخفّف عنه الملمّات. وقد اهتدى مع هيئة الحكّام، أن يعيدوني إلى واجهة الكلام. وها أنا أروي ما جرى من أتراح، عندما قابلت خولة بنت وشاح. فالأخبار في قصّتي متكاثرة، والأقاويل التي رَصَفتها متناثرة، والأذهان في وصفها حائرة. فقد أُترحت بالبعد والهجران، وانتشرت سيرتي مصحوبة بالأكاذيب والبطلان.

وإنّما أروي حديثي بداعي التخفيف، لأنقّيه من كلّ حَيف. قابلتها في وادٍ ملعون، فيه تتبرقل العيون، ولا تغمض الجفون، الأشباح في سماواته عائمة، ووجوه الخلائق فيه غائمة، لا فرح فيه ولا سرور، وتحسب فيه أنّك في طقوس البعث والنشور، يتبرّأ فيه المرء من أخيه، وأمّه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وعشيرته التي تؤويه، وجوهٌ عليها غبرة، تزهقها قترة، تنظر فيها فتحسب أنّك نكرة. لا فنّ يعصمك من قباحته ولا مواهب، ولا عملًا تؤديه ولا واجب. فواجبك فيه مضغ السِيَر، ونهش البشر، والوقوف على العِبر، وفيه خولة صورة الصور، وعبرة العبر، وناقوس الخطر، وأدهى من نكّى وأڤوَر، وابلى من تنَعوصَ وتبختر، لها وجهٌ من تشابكات ألوانه تغلي الأبدان، ويصحو السكران، ويعتزل الغزل عند رؤيته كل شاعر ولهان. وأنا رعاكم الله قد بليت بهذه السحنة، وأُحييت بهذه المحنة . وإلّا فما حاجة أمين بي بعد كلّ هذه السنوات بالتفريغ والكلام؟ وما غايته في إحياء سيرتي أنا ماجد بن وسام. فقد خصّص عافاه الله اسمه للوعظ والغزل، وخصّصني للهجاء والجدل. وقد قُفلت حكايتي بالضبّة والمفتاح، حتّى قرّر أن يكتب عن خولة بنت وشاح. وهذا والله حديثٌ طويل لا يرى النقّاد والقرّاء ولا حتّى كاتبه فائدة منه. أذكرها وقد صالت وجالت، ومالت وجادت، ليتكم رأيتموها عندما لوثّت الآذان بمخارج حروفها، صوتها كصافرات الإنذار، ولا تكفي وصف بشاعته المقامات والأخبار. قالت ماجد أبلى من التفّ واختلف، قد قصف الوجوه وألوانها، والأنوف وأحجامها، لا يفقه بالعمل وغاية وجوده إثارة الجدل. فقلت خولة صوت الوتر إذا نعّر، وشكل القوس إذا انكسر هي صورة من صور، وهي المصائب والتباريح. هي لوحة بلا تفاصيل، وقصّة ليس لها تأويل، شكل الجرح إذا تقرّح، وريح الإبط لمن لم يسبح، في مناقبها يتلعثم اللسان، وفي سيرتها تحتار الأذهان. قالوا يا ماجد ما الذي أنطقك، وعلى الخلائق سلّطك، فسيرتك وإن جادلوا فيها مغمورة، وأحاديثك وإن انكشفت مستورة، فقلت يا أهل هذا القاع، ويا سكّان البقاع، بليت بألوانٍ عمتني وبأصواتٍ لوثّتني وبآفاتٍ عدتني. وقد تعدّت سيرتي التاروت والخيرة، وأصبح الناس عن أمري في حيرة، فقد تعديت شيخي ورفيقي علي بن أبي ناصر الرسّام أطال الله عمره، وصرت أعبث بمصائر الخلائق وأحرّكها يمنة ويسرة، وأمّا عن وصفها بالبطّة فقد حار القرّاء فيه واختلفوا وأطالوا والذي أذهب إليه أنّه يشير إلى سماتها المميزّة، وسلوكيّاتها المقزّزة، ومرونتها الزائدة، وسيرتها البائدة، وإلى مساحيقها المبتذلة، وإلى من شوهّت سيرتهم بالتفريق والتذريع، وإلى من عابتهم بقولها الشنيع. وما من عادتي الروي بهذا السياق رغم أن سيرتي مصحوبة بالرياء والنفاق. فلا عيب أخشى من ذكره، ولا حبيب أخشى من هجره . وقد دوّنته في منتصف آب اللهاب عسى أن يدلّني الله على الصواب.

٢

روي أنّ شيخنا علي بن أبي ناصر الرسّام قد عقّب على هذا الحديث فقد اهتزّ عند ذكره بدنه ، وتغيّرت عندما سمعه لكنته فكتب لرفيقه وهو يقول:

غفر الله ذنبك يا ماجد، وبرّد قلبك المهموم الفاقد. أمّا بعد فما عهدتك تتنابز بالألقاب، ولا سمعت منك يومًا رغم حيلك سوء الخطاب، وإنّما أنت من الناس من ساعدهم وجاد لهم، حتّى وإن آذوه وجادلهم. وانت الذي تحثنا على أن نداري أوصابهنّ، وتذكّرنا أنّ الرسول صلوات الله عليه قد أوصى بهنّ. وأعرفُ أنّ مصاحبة الحمقى والأغبياء حملٌ ثقيل، لا تقوى على حمله، وأعلم أنّ الوحدة قاسية وإذا أجتمعت مع الهزيمة على قلب رجلٍ حطّمته. وهذه محنتك يا أخي فاتعظ منها وتوكّل على الله إنّه بعباده رؤوفٌ رحيم.

خاتمة

قال ماجد بن وسام :لمّا قرأت كلام رفيقي وشيخي هممت بالبكاء، وحمدت ربي على هذا البلاء. واعتزلت الهجاء. ورحت أسير مبتسمًا في الممرّات، متناسيًا هموم ما فات . فإذا بي ألمح خولة تدخل غرفته على عجل ثم التفّت مع صويحباتها حوله وطافوا، وارتجف الأنام عند رؤيتهم وخافوا. قالت: يبلغك الشيخ السلام، ويقول كفّ عن الجدل، وارجع إلى الغزل. فإنّك وإن غفلت صاحب مقامات. ولك إن كتبت وطبّلت مكافئات وإجازات. فشتمتهم جميعًا وخرجت.

***

أمين صباح كُبّة

الأدباء بصورة عامة هم أساس الثقافة وعمود النهضة في كل عصر وعلى مدار الازمان لدورهم الفاعل في تناول قضايا المجتمع وتحليل الواقع بشكلٍ مختلف، فتقع على عاتقهم مسؤولية التنبيه والارشاد حول كل ما يحصل على الساحة الوطنية والاجتماعية وحتى العلمية، فمن خلال الشعر تشحذ الطاقات وتحشد وتعلو الهمم عن طريق المدح أو الذم لواقع معاش، ومن خلال القصص والروايات ممكن معالجة قضايا مهمة بطريقة قصصية أو سردية تجعل من يقرأها يغير رؤاه نحو الافضل لتتسع الآفاق وتتطور البلدان، فقد نستطيع من خلال الأدب تناول مواضيع شتى كتغيير عادات وسلوكيات منها (قضايا اخلاقية،الثورة ضد الظلم، الاضطهاد، الكذب، النصب والاحتيال، الانتحار.. وغيرها)، لكن تتعرض هذه النخبة إلى بعض المشاكل في هذا الوسط الأدبي الكبير ولعل أهمها هو تعرض الاديبات والكاتبات للتهميش والاضطهاد وأحيانا تجد صعوبة في سطر افكارها على ورقة بحرية تامة خاصة أن المرأة بصورة عامة معرضة للظلم والاقصاء فكيف الحال بالأديبات اللواتي ينقلن لنا واقع اجتماعي قد لا يعرفه غيرهن، فالمرأة والادبية على وجه الخصوص تكتب بإحساس صادق وتنقل قضايا المرأة بشكل افضل من غيرها لأنها هي صاحبة القضية فما بالك أن تكون حريتها وفكرها محكوم ببيئة عنصرية لا تعترف بإبداعها وتعتبره أمر مخجل أو معاب !. لهذا نحن النساء والاديبات والكاتبات بصورة خاصة نتمنى بأن تكون كلمتنا مسموعة وغير مهمشة ومتساوية في ذلك مع زملائها من الأدباء والكتاب. ولعل أهم ما يمكن تقديمه هو تقبل عملها من قبل المجتمع وعدم التقليل من شأنها وقدرتها وكذلك توفير مساحات أدبية مهمة لتكتُب فيها المرأة عن كل ما يجول في خاطرها وفي كل القضايا التي تحدث في المجتمع..

***

سراب سعدي

شاعرة نصراوية عاشت غريبة ورحلت غريبة، لم يسمع بها الكثيرون، كتبت خلال سنوات مديدة ونشرت في صحف ومجلّات كانت تصدر إبان حياتها. ابتدأت النشر في فترة مبكّرة من عمرها القصير، في الثمانينيات، ورحلت عام 2013، صدرت لها مجموعة شعرية نثرية واحدة فقط حملت عنوان " لن اقول وداعا".

رحلت الشاعرة سناء السعيد عن عالمنا قبل عشرة اعوام، عن عمر قارب الخمسين عامًا. رحلت بصمت بعد سنوات من معاناتها المرض العضال مدّة نافت على العقد من الزمان، تاركة وراءها مجموعتها الشعرية الوحيدة وحفنة من الذكريات في اماكن كانت فيها، ولدى قلة من ابناء بلدتها.

عرفت سناء في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، خلال فترة عملي محررًا أدبيًا في هذه الصحيفة أو تلك، وكنت أفاجأ بها تأتي بين الحين والآخر لتقترح عليّ قراءة واحدة مما كتبته من قصائد واشعار، تقترح للقراءة لا أقول للنشر، فما كان مني إلا أن ابادر لنشر ما تتقدّم به إلي، على اعتبار أنه وليد موهبة واضحة وتستحق أن يقرأها الناس.

علاقتي بالشاعرة سناء السعيد تواصلت إلى أوائل الثمانينيات، وتواصل النشر لها في العديد من الصحف التي عملت فيها، وأذكر أنني نشرت لها في صحيفتي" الراية" و" الميدان"، اللتين أصدرتهما حركة أبناء البلد، إبان تلك الفترة وعملت فيهما محررًا أدبيًا، بعدها نشرت لها في صحيفة "الجماهير" ومجلة "الآداب" اللتين أصدرهما الصديق الكاتب الصحفي عفيف سالم، رحمه الله، وأشير هنا بالمزيد من المحبّة إلى ماض ما زال ساريًا أمام ناظري ويشدّني خيط دقيق إليه من الذكريات، أن عفيفًا آمن منذ قراءته الأولى لبعض مما نشرناه لسناء بموهبتها اللافتة فبادر إلى تشجيعها، وقام في تلك الفترة بنشر عدد وفير مما كتبته، بل تجاوز هذا للمبادرة إلى اصدار ديوانها الشعري الأول والوحيد " لن أقول وداعا"، وقد كان لي شرف المساهمة في اختيار هذا العنوان، أما سبب اقتراح عنوان مثل هذا، فقد قام على رؤية متعمّقة لما كتبته سناء، فقد كان بإمكان من تتاح له قراءة ما كتبته شاعرتنا، لمس ذاك الاسى الشفاف الكامن وراء كلّ كلمة كتبتها، وكان الوداع أحد مركّبات كتابتها الشعرية الملموسة، الجلية والواضحة.

بعد إغلاق الصديق المرحوم عفيف سالم لمكتبه الصحفي، وتوقّفه عن الإصدار لأسباب لا مجال لعرضها الآن، انتقلت للعمل محررًا أدبيًا في صحيفة "الصنارة"، وقد كنت افاجأ بالصديقة سناء تطرق باب مكتبي لتدخل بخفر ميّزها، وأذكر أنني نشرت لها في تلك الفترة بعضًا من كتاباتها. بعدها اختفت سناء لتظهر في هذا الشارع أو ذاك من شوارع مدينتي، فتحيي وتمضي، إلى أن انقطعت أخبارها في العقدين الأخيرين، وقد عرفت مما توفّر لديّ من معلومات قمت بجمعها لغرض كتابة هذه المادة، خاصة من شقيقتها الشاعرة إيمان مصاروة، أنها عملت في عدد من المؤسسات، أما المرض العُضال فقد علمت أنه داهمها قبل حوالي العقد من الزمان، واستوطن في دمها، إلى أن قضى عليها في يوم صيفي حارّ من عام 2013.

لا أخفي أن نبأ الرحيل المبكّر لهذه الشاعرة الإنسانة هزّ كياني وأدخلني في حالة حزن وأسى غامرة، فقد كانت سناء كما عرفتها، إنسانة خفرة حيية، بعيدة كلّ البُعد عن الادعاء والاستعراض وما شابه من صفات باتت اليوم في عصر الانفجار المعلوماتي والامكانيات غير المحدودة للنشر، لا سيما في الفيس بوك، واحدة من الملامح التعيسة التي تميّز الكثيرين، وكنت وما زلت أرى فيها مثالًا لتواضع المبدع الخلاق البعيد عن التنفّج والادعاء .

لقد عاشت هذه الشاعرة المولودة لعائلة محافظة صفورية الأصل، بصمت، ورحلت بصمت، وأعرف عن قرب أنه كان بإمكانها لو أرادت أن تملأ الدنيا شعرًا وضجيجًا.. لكن ماذا بإمكان شاعرة حيية خجولة أن تفعل سوى كتابة ما يمور بوجدانها ويدور في خلدها؟

أنني الآن وأنا اكتبُ هذه الكلمات التذكارية عن شاعرة كانت بيننا ورحلت عنّا بكلّ ذلك الصمت المهيب، أشعر بنسمة شجيّة تهب من الماضي لتغرقه أسى وتوجعًا، وتساؤلًا.. فلماذا يرحل المبدعون بصمت؟ ولماذا تُغيّبهم يدُ المنون فيغيب معهم ماكتبوه وانتجوه خلال سنوات وسنوات من أعمارهم؟ رحم الله سناء السعيد فقد كانت صوتًا شجيًا هامسًا في حياتنا.. وشعلة شعرية متوهّجة انطفأت ومضت بصمت.

***

ناجي ظاهر

أبو أماني أحمد الباقري إنموذجا*

كانت تجمعنا حروف الكلمات المكتوبة على صفحات الورق الأسمر، والدفاتر المدرسية، نستمع إلى قراءاتهم، أما الترجمات، فهي أشبه بإيقاعات يضاف إليها نكهة الالقاء الخاصة بالمجتمعين مغموسة بمزاح لا يمل.

لم يكن صاحب الحقيبة، تلك الملامح المعفرة بخصوبة الأرض، ومرارة التجربة مجرد مثقف وأديب، بل هو معلم كبير ينتظره التلاميذ لتقييم جهودهم المتعلقة بواجباتهم المدرسية.

يجلس زيدان حمود، ومسلم عباس على الجهة اليمين من الطاولة، يسبقهم محسن الخفاجي، وغسان، وآخرون أحرزوا شهرة وتقدما كبيرا في كتابة القصة والرواية، بعد أن غابوا، بما فيهم القاص الأستاذ نعيم عبد مهلهل، حيث أبعدتنا واستنزفتنا جميعا محطات الغربة والوجع.

كانت جلساتنا تتغنى برائحة الهيل المخلوط مع بخار الشاي الساخن، حيث تزاول المقهى نكهة محبتها، وكأنها تعبر عن فرحتها بتلك اللقاءات.

يتلو مسلم على مسامعنا آخر ما كتب، ثم يقرأ زيدان نصا مسرحيا، يلقي الباقري نظراته بعد أن يلف سيجارته التي اعتاد أن يبالغ في ابتلاع دخانها بأصابعه المرتجفة لنطلق ضحكاتنا المعهوده إثر ذلك هو (صدر لو صفارة حارس)

يقرأ معلمنا نصا مترجما له من الأدب الأوربي، ثم تتلى إبداعات الأصدقاء، وتعليقاتهم تباعا.

كان يوم الجمعة يوما مقدسا للجميع حيث يجتمع فيه من لم يتسن رؤيته باقي الأيام.

تبتدئ المناقشات بخصوص ما كتبه محسن ،وترجمه أبو اماني، أما عقيل فكان ينتظر عموده الأسبوعي على صفحة الملتقى في اليوم المذكور في صحيفة القادسية بعد وصولها إلى مكتبة جبر غفوري، حيث تصل أكياس الصحف التي تحمل معها حرارة المطبعة، وهي تشبه أطباق الصفيح الساخن.

كان للصحف المقروءة معان كثيرة، وكبيرة، فهي ليست فقط للقراءة، وإنما يحتفى بجهود كاتبها الذي يتقاضى ثمن ما يكتب.

أعتاد محسن صاحب مجموعة ثياب حداد بلون الورد السفر إلى بغداد للقاءات أدبية مهمة، حيث يتاح له استلام أجور النصوص المنشورة في بعض الأحيان نيابة عن الأصدقاء الذين يكلفونه بذلك، حيث مقر جريدة القادسية والتي يعمل فيها ابن المدينة المرحوم الشاعر كمال سبتي مع عمود ثابت يصدر له تحت عنوان حروف المصحح.

ذات يوم استحسن الجميع ما يكتبه صاحبهم في ملتقى القادسية، ولذلك قال محسن له وبدعابة مشاكسة لقد أصبحت كاتبا معروفا يا (…)، كانت الأعمدة الاسبوعية التي يكتبها الشاب خاصة بأدب أمريكا اللاتينية، أو الأدب الأوربي المعاصر. وكان العمود يعد ثمرة جهد اسبوعي خاصة وهو يتضمن قراءات شاملة لروايات مهمة مثل الصخب والعنف -فوكنر، وحديث في الكاتدرائية ماريا فارغاس يوسا، مع كل ما تتاح قراءته عن الأدب العالمي.

ولذلك وبغية الابتعاد عن أبواق الضجيج الإعلامي لسلطة الحرب، والاعلام الماكر آنذاك، كان الشاب أسوة بمن يقلد، حريصا على أداء ما تقتضيه شروط الكتابة الخاصة بالنخبة، وهو التركيز على ذلك النمط من الموضوعات.

***

عقيل العبود

........................

* لمناسبة سنوية المرحوم الأديب والمترجم والكاتب أبو أماني أحمد الباقري- رحم الله زيدان، ومحسن، والباقري، وجميع من فارقنا من الغائبين والحاضرين، حيث لا يتسع النص لذكر باقي الأسماء.

ما لي أجدك في حسرة يا أمي الغيرة؟ ماذا يقطن في جنونك بداخل الآهات؟ كيف نسيتي وجودك الحر الذي لا يهدئه إقليم واحد بل يتنفس بين كل الأجناس؟ أنا لم أعرف ملامحك اليوم، كينونتك اعتادت على توارث انزيمها لأجيال لم تصل سوى حابسة الأنفاس بين رجل وامرأة.. أو.. امرأة وامرأة.. أو أصوات عابرة بين هؤلاء الذي يدعون الانتماء الى أرض سيعودون لها يوما ما لتبتلع أوجاعهم وشقاءهم.. لحظتها انخفض شموخ الغيرة وأومأت بنظراتها المترددة مرددة على ابنتها: هل حالتي تفضح أحوالها الصامتة يا قطعة الروح؟؟ هل تلمحين ذلك لأنك مني وفي وأنتي وريثتي اللاشرعية؟ أمك الغيرة مصابة بثمن الوهم الذي زارها قبل أن تزوره.. ويراودها طيلة خمس سنوات، واليوم أتت اللحظة التي لم تخلق ولم تتحرر الا باصطدامها بإبنة مثلكي، لا تسع الا لتضيق ليس مقاسا بل سهاما بأقواس اللاثبات.. آه يا أمي الغيرة متى انتصرت سهام مقوسة في اللاثبات الذي هبت خاتمته بغصة النظرات التي صارت تحاكم العبور والقدر، لماذا أنا مصابة بغيرة يا أماه؟ لماذا لم تشاورني اللاحدود حينما تكومت أنها لن تمنحني وسم الإبنة الأولى بل حفرت لي عتوه الغيرة؟ وأي غيرة تتسرب في عيد اللاتزامن وتتفق مع أغسطس على مقاضاة أوهامي؟ يا أماه لماذا لم تخبريني أن ارثك ووصاياك ستنهمر بداخل سماء لا قبلها ولا بعدها بالنسبة لوريثة تعقدت بفعل البصر؟ ولكن سمائي تمزق لونها الأوحد الى قبلة اللأبدية؟ لماذا جعلتني وريثة الجرائد والأحرف وجنون الصور التي تتألق لتكشف أوهامي كلما أخاطبها أن تكف عن تعذيبي أجدها تخفي لي أكثر مما تظهره لإبنة اللاتزامن؟؟ تعتلي حضارة اشبيليا لتتمرد على رقصة غجرية، يظنها الجمهور رقصة السنونو الأبدية ولكنها تصادف أصابع قدر ابنة وهمية.. استسلم غرورها الى حوريات الجنة ولكنها أثبتت باستحقاق الأعين السوداء أنها جنية اللاوجود في قضايا ابنة الغيرة العربية؟ أماه هناك صوت يسمعني ولكني خائفة ان يكشف أني ابنتك الوحيدة ووريثة المتوحدة في قصة الغيرة فيه.. آه يا وريثتي لا تخشي جنون الصوت فهو لن يؤذي غرورك الذي صدق نفسه يوما.. لماذا يا أماه تزيدين عتوهي انسكابا؟ أجابت دامعة لا مصدقة: أنتي غير موجودة في مرئيته بل بعنفوانه الشرقي.. هو لا يراود غيرة ابنة مثلك.. لا تهجوا الا غروره الدامي.. جعلك تنتحرين بثبات القبلة الجبينية وتسألينها كيف تحررتي في جبين طفلة غيري؟ وتمكن تاريخك القريب نحوه ان يكتب إيمان البراءة التي أجرمت بي ولي؟ ما لي أسائل مدني على ماذا تكومتي لتحرري مدن الوهم الذي امتلكني بآهاته اللايقينية؟؟؟ ونسيتي أن تمتلكي طفلة الوعد بالقبلة الأولى؟ لماذا جرمك يشتد بأوهامي الإبنة اللامرئية؟ متى تكفين عن جعل إصداراتي العربية متورطة في غيرتي كإبنة اللابراءة؟ نعم اللابراءة أنت من منحتي مدني شكوك بلا غفران اليقين؟ وأسميتيها في جريدة قومية بتاريخ: 14/08/2023 الإعلان عن انتحار طفلة الغيرة العربية.. بتحرير قبلة الخلد الصورية..

هنيئا لنا يا أماه.. لم تعد بطولات الوهم تغزوا جنون ابنة الغيرة.. أوهامي بالأبوة انتحرت بغرور التوق الاشبيلي..

قبلات الغيرة الساخرة..

***

سعاد أدري

عندما زرت معهد بوشكين للغة الروسية بموسكو قبل عدة سنوات، فوجئت بمقطع من كتابات غوغول حول بوشكين منقوشة بحروف بارزة على الجدار اليمين في مدخل المعهد، وقد وقفت طبعا وقرأت ذلك النص الغوغولي المتميّز والعميق عن بوشكين، ثم استفسرت عن تلك الظاهرة الجديدة بالنسبة لي (اذ اني من روّاد هذا المعهد منذ تأسيسه !)، فقال لي رئيس المعهد مبتسما، انه لم يجد أفضل من تلك الكلمات لغوغول عن بوشكين واهميته للغة الروسية وآدابها، وقد اتفقت معه في الرأي، واليوم، ونحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، لازال غوغول فارس الساحة الثقافية الروسية بلا منازع، فهو (الاوكراني!) العتيد والكاتب (الروسي!) الكبير في آن واحد، ومن يمكن له في اجواء الحرب الروسية – الاوكرانية (التي بدأت في شباط (فبراير) عام 2022، ولازالت مستعرة لحد الان، ونحن في آب (اغسطس) من عام 2023)،من يمكن ان ينافس غوغول في موقعه المتميّز والخاص جدا بالساحة الثقافية الروسية المعاصرة ؟ اذ ان غوغول يجسّد اوكرانيا وروسيا معا وسويّة، ويرمز الى وحدتهما الطبيعية جغرافيا وتاريخيا وثقافيا و انسانيا ايضا  منذ انطلاق بداياتهما في القرن العاشر عند تأسيس دولتهما المشتركة - (كيفسكايا رووس! والتي يمكن ترجمتها بلغة عصرية – روسيا الاوكرانية)، ودون امكانية الانفصام بينهما لاحقا و ابدا، فلا يمكن (تقسيم!) غوغول الواحد (الكاتب والمفكّر والفيلسوف) على كاتبين ومفكرين وفيلسوفين، واحد روسي والثاني اوكراني !!! .

مؤلفات غوغول المختارة والكاملة طبعوها عشرات المرات في الامبراطورية الروسية (منذ ان كان غوغول على قيد الحياة) والاتحاد السوفيتي وروسيا الاتحادية (طبعت مؤلفاته الكاملة ب 23 مجلدا، وانجزت عام 2013)، اضافة الى طبع نتاجاته الادبية من قصص ومسرحيات وروايات بكتب منفصلة بحد ذاتها كانت تلاقي الرواج آنذاك دائما، ولازالت كل هذه الكتب والمؤلفات مطلوبة من القراء لحد الان . غوغول كاتب قصص قصيرة وطويلة وكاتب مسرحي وروائي، ولكنه ابتدأ بالنشر شاعرا، واصدر كتابه الاول عام 1829 (وكان عمره 20 سنة)، والكتاب هو مجموعة شعرية باسم مستعار، ولكن غوغول شعر رأسا بالفشل الذريع لذلك الكتاب، فقرر رأسا شراء كل النسخ التي جرى طبعها وتوزيعها آنذاك من هذا الديوان، وحرقها باجمعها، وهذا يعني، ان عملية (حرق!) مؤلفاته ليست ظاهرة جديدة في مسيرته الادبية ابدا، اذ انه كررها مرّة اخرى في نهاية حياته – كما هو معروف -  وأحرق كليّا الجزء الثاني من روايته (الارواح الميتة)، والتي كتبها لفترة طويلة جدا، ولكن، والتزاما بعنوان مقالتنا هذه، لنبتدأ بالحديث عن  الكتاب الاول الذي أصدره غوغول، وهو الكتاب الذي يرتبط لحد الان بظهور نجم ساطع في دنيا الادب الروسي، والادب العالمي ايضا .

الكتاب الحقيقي الاول لغوغول صدر في بطرسبورغ، وعنوانه حسب الترجمة الحرفية هو – (امسيات في بيت ريفي منعزل قرب ديكانكا) . اصدر غوغول الجزء الاول من كتابه هذا عام 1831، وكان عمره آنذاك (22) سنة فقط، وصدر الجزء الثاني عام 1832 . نجح الكتاب بشكل ساطع و باهر جدا، اذ انه عكس خصائص غوغول الادبية التي سيتميّز بها لاحقا – العنوان الطريف (والذي خلّد به قرية ديكانكا المجهولة، وهكذا اصبحت هذه القرية معروفة وليس فقط في اطار روسيا، وانما عالميا ايضا بفضل كتاب غوغول هذا، وقد تذكّرت رأسا قصيدة عبود الكرخي – قيّم الركاع من ديرة عفج، التي خلّد فيها الشاعر (ديرة عفج) بالنسبة لنا، نحن العراقيين !) وانعكست في الكتاب ايضا الروح الشعبية الاوكرانية والواقعية الممزوجة بالخيال الغرائبي والمرح والضحك و السخرية، وكل ذلك باسلوب جميل أخّآذ و بلغة روسية ذات مستوى رفيع جدا، وتكاد ان تكون لغته الخاصة به، فهي لغة روسية شاعرية مطعّمة بالاسماء والاماكن الاوكرانية،  وقبل كل شئ بالفلكلور الاوكراني  طبعا بخرافاته واساطيره وحكاياته المثيرة . لايزال كتاب غوغول هذا مطروحا وبشكل واسع بين القراء الروس صغارا وكبارا، لدرجة، ذكر فيها رئيس اتحاد الادباء الروس في مدينة بطرسبورغ (ما معناه) انه عاد لقراءة ذلك الكتاب في بداية الحرب الروسية – الاوكرانية، لأنه لم يجد افضل من غوغول رمزا لانهاء هذه الحرب . ومن الطريف ان نشير هنا، الى ان ناشر الكتاب في بطرسبورغ آنذاك (اشتكى !!!) قائلا، ان عمّال المطبعة كانوا يقرأون كتاب غوغول هذا ويقهقهون، وان تلك القهقة قد عرقلت عملهم اثناء طبع الكتاب، ويا لها من شهادة رائعة وحقيقية وعفوية عن عبقرية الكاتب غوغول، شهادة أعمق كثيرا من (مقالات !!!) يكتبها بعض نقّاد الادب .

تم ترجمة هذا الكتاب الى الكثير من لغات العالم، ومن بينها طبعا لغتنا العربية،  وبعناوين متعددة، منها – امسيات قرب قرية ديكانكا، الامسيات في قرية قرب ديكانكا، امسيات في قرية قرب ديكانكا ....

مؤلفات غوغول العديدة والواسعة المعالم تنتظر الباحثين العرب، فما اكثر العناصر الانسانية  المشتركة بيننا.  

***

أ. د. ضياء نافع

كل النفوس تنتهي إلى نفس واحدة، هي المرجع والأصل تحمل ذات الفطرة السليمة المدفونة في أعماقها الإيمان بالله عزوجل ووجوه الخير.

وبشكل تلقائي فإن النفوس الوافدة على الحياة في أعماقها السحيقة هذه الأصالة الإيمانية، ثم يترك لها حرية الاختيار والسعي، وسعي البعض يكون لأجل المطالبة بأشياء عدة منها الأمن والأمان الروحي الذي يتحقق بالوصول للإيمان بالله بعد عمليه تفتيش وبحث.

كما أن شطر من النفوس البشرية تترعرع في بيئات تمتلك معتقدات مغايرة للحقيقة الإيمانية وتتلوث عبر السنين بأفكار شديدة البعد عن معرفة الخالق وتنغمس في أوحال الحياة لتصبح بعيدة عن الأصل الذي خُلقت من أجله.

أما النفوس التي وصلت إليها الحقيقة الإيمانية سهلة لكنها لم تتشرب أسس الإيمان ولم تتدرب عليه ولم تمارسه يومياً من قبل مربين ومرشدين حتى يكون عميقا تظهر آثاره في السلوك العملي، فهي بذلك تغدو بأشرعة ضعيفة ومن ثم تعيش مخاض عسير عبر مسار طويل يقع بين ابتلاءات وشهوات ونزعات ورغبات.

عندئذا يُطلب منها الاجتهاد والمجاهدة حتى يتحقق الوصول للنبع الصافي وفوق ذلك كله فإن أمر الله عزوجل غالب وتوفيقه يمنحه لمن اصطفى.

وفي نهاية هذا الجزء البسيط فإن الأدلة الربانية تؤكد على القدر العظيم للنفس وترابطها مع بقية النفوس حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم عن حرمة النفوس: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا. سورة المائدة آية 32.

***

كتبها: هيثم البوسعيدي

نشرت بتاريخ الاثنين 14 أغسطس 2023

الشعر ربما ما عاد إبداعا متميزا ولا مؤثرا، ومهما توهم أصحابه وأدعياؤه وغيرهم، لأن ما يمكن كتابته بالعربية على أنه شعر لا يصل إلى مقام ما كتبه شعراء الأمة عبر العصور، فمهما توهمنا بأننا نكتب شعرا، فلن نجيد ما أجادوه، والسبب أن الأغراض بقيت على حالها، وواقعنا لا يتفاعل مع العصر الذي نحن فيه.

وفي المسيرة العربية هناك تجديد، وتحديث لأساليب وتقنيات الكتابة الشعرية، وما جاء به الحداثيون ربما دون ما قدمه السابقون من روائع نصية باذخة الجمال والأشكال، وغنية بمفرداتها وبلاغتها وقيمتها الفكرية والتعبيرية.

في الأزمان السابقات كانت المعارف محدودة، والقدرة على البروز والتألق متاحة، وعندهم الوقت وأغراض الكتابة معروفة، والشعر معظمه للتكسب، فساد المديح والرثاء، وما كانت عندهم ثورات صناعية وتقنية، والإهتمام باللغة في ذروته، وبمحاسنها اللفظية، والمصادر نادرة.

ولكل زمان مبدعوه، فلو كان المتنبي بزماننا لما كان مثلما نعرفه، فنحن نعيش زمن التسطح واللا أنا.

ترى ما قيمة الشعر ومجتمعاتنا خاوية من قدرات التعبير عن المعاصرة التقنية والمواكبة العلمية؟

علينا أن نواجه أنفسنا، فالموضوع ليس ضد الشعر، بل يخص الجميع بلا إستثناء، ومَن لا يرى مأزقنا الحضاري، ليبتعد عن سكة التفاعل التبريري،  فوعاء إبداعنا العلمي فارغ، وأوعية الآخرين طافحة وتفيض، ولهذا يكتبون شعرا، ويأتون إبداعا، ونحن نتوهم الإبداع، كالذي بطنه خاوية، ويدّعي الشبع والتخمة.

تلك حقيقة مريرة، لن نتشافى منها، إن لم ينطلق المجتمع في مسيرة تفعيل العقول، لا تعطيلها بخطابات ألف مجنون ومجننون، متمحن بالضلال والبهتان الأسود!!

فالتجديد والحداثة تحتاج بيئة معاصرة متواكبة مع زمانها، وملهمة للطاقات الإبداعية القادرة على تمثلها بنصوص متوافقة معها، فشعراء الأمة الذين نعرفهم من نتاج بيئة ذات طاقات متفوقة على زمانها وسبّاقة لعصرها.

فالحداثة والتجديد حركة تشمل المجتمع بأسره، ولا تقتصر على شعر أو كتابة وغيرها، إنها تتحقق في كافة الميادين المتصلة بالحياة، وتترجم بأنواع الإبداع.

فأين العلم يا أمة يعلمون؟!!

ولماذا الجهل يا أمة إقرأ؟!!

***

د. صادق السامرائي

الشعر فن جميل، وتعبير رائع عن المشاعر والأحاسيس، ويتحول إلى أفيون عندما يعيش وحيداً في بيداءٍ بلا إبداع بميادين الحياة المتنوعة.

وحالما يكون هو الإبداع المنفرد في أي مجتمع، فسيخدّره ويصيبه بالنوام والسبات المبيد.

الشعر بحاجة لرفقة إبداعية، ومواكبة علمية تقنية، وقدرات إختراعية وإبتكارية، لكي يتألق ويستشعر قيمته ودوره في صناعة الحياة الحرة الكريمة.

الشعر المجرد من الواقع الإبداعي المادي يفقد قيمته، ويتحول إلى مجرد كلام، مهما تميز صاحبه بسبك الكلمات والأفكار في عبارات شعرية تامة متفوقة الجمال.

فهل نصنع؟

وهل نزرع؟

وهل نرفع شأن العلم والتعليم؟

الشعر الصيني أو الياباني ربما أكثر قيمة ودورا من الشعر العربي، لأنه ينطلق من بيئة معاصرة قادرة على تصنيع الأفكار وبناء الحياة المتصورة.

أما الشعر عندنا فرثائيات وغزليات وتفاخر بالماضيات، وأكاذيب وتهويلات، ومتاجرة بالكلمات، ولا يساهم في التنوير وشحذ الهمم وإطلاق الطاقات، لأنه يرتكز على رمضاء، ولا يستطيع إستحضار الماء، فيتعلق بالسراب.

الشعر العربي لا يستطيع التعبير عن حاضر سعيد ومستقبل زاهر رغيد، ويغطس في مستنقعات الدموع والدماء، ويمعن بجلد الذات والتقليل من قيمة الإنسان، وإستلطاف الهوان، فتسويغ الملمات من الأغراض المتوارثة فيه، وكذلك تنزيه الكراسي من الآثام.

الرئيس ماو أيقظ الصينيين بأشعاره، وأعاد ترتيب آليات تفكيرهم، وبأشعارنا نحطم الأشياء وننوح عليها، فقصائدنا لطميات في مسارح الويلات والتداعيات!!

فهل غاب الشعر وانتحرت الكلمات؟!!

***

د. صادق السامرائي

.....................

*هذه واحدة من سلسلة مقالات نشرتُ بعضها وسأتواصل باللاحقات، وهي ليست ضد الشعر وإنما عنه وفيه من وجهة نظر قارئ!!

ضمن الأنشطة الدورية لبيت الشعر القيرواني وفي سياق الفعاليات الصيفية حيث الأدب يذهي شيئا من حر الأحوال التونسية ووفق التمشي الثقافي والشعري والاشتغال على الشعر وأسئلته المتصلة بحثا وحوارا ونقاشا نظم بيت الشعر بالقيروان مساء اليوم السبت  5أوت 2023 أمسية أدبية تضمنت  مداخلة أدبية للدكتور محسن التميمي بعنوان " الشعر التعليمي عند العرب" وبتقديم من قبل الأستاذ السيد العلاني ليتخللها حيز من القراءات الشعرية للشاعر مصطفى ضية وذلك بحضور جمهور الشعر ورواد البيت وعدد من النقاد والشعراء والاعلاميين وغطت الفعالية قناة الشارقة التي تنقل كل الأنشطة الشعرية والثقافية والأدبية للبيت .

الشاعرة ديرة البية جميلة الماجري افتتحت اللقتء بالترحيب بالحضور وبرواد البيت مبرزة أهمية الشعر التعليمي كحيز ونوع من الشعر المخصوص ومن الأهمية التطرق اليه من خلال التعرض الى أعلامه وخصائصه وحضوره في الشعر وذكرت بجملة الأنشطة للبيت التي تتصل بالشعر وفنونه والحصص الموجهة لأحباء تعلم الشعر والعروض فضلا عن التذكير بدور جائزة الشارقة لنقد الشعر كرافد مضاف لدعم والنهوض بمسارات الشعر العربي وحضوره.و قدم الفقرات لهده الأمسية الأستاذ والكاتب عبد المجيد فرحات مبرزا قيمة الندوة ومشيرا الى تجارب الضيوف ومسيراتهم الابداعية والثقافية .

 وفي مداخلته تحدث الدكتور محسن التميمي عن الشعر التعليمي من خلال خصائصه وشعرائه وعهوده وأبرز تجلياته باعتباره شعر يشير بنصوصه الى أحداث وأمكنة وقواعد ونظم  ويشرح الأحكام  وييسر الوقائع والأحداث التاريخية والقصد من كل هذا هو التعليم والحفظ مشيرا الى كونها متون ومنها كتاب 'مجموع المتون الكبرى ' وهي تجري على بحر الرجز مشيرا الى الشاطبي والفقيه ابن بكر العاصمي والفاسي وموسوعة ' تحفة الجكام ' وعلم القراءات وشاعر القيروان الحصري وقصيدته في علم التجويد التي سماها ' المنح الفريدة ' حيث اهتم العلماء قديما بهذه القصيدة ومنها تثمين مقدرة الشاعر في علم القراءات وذكر أن أبرز من نظم في علم القراءات أبو محمد خلف المتوفي بمصر مشيرا الى أبيات تشرح الأحكام  وتذكر الوقائع والأحداث التاريخية بيسر

مبرزا الخيارات الجمالية الشعرية لهذا النوع من الشعر التي تجنح الى الشعر والأنساق التي تخدم العلمي والجمالي وخلص المحاضر التميمي الى القول "..يبقى الشعر العربي مستودع آمال العرب وحين سئل ابن خلدون عن هذه المسائل في الشعر كان جوابه بأنها

تخدش وجه القريحة وتعطل الابداع  الشعري  فقيل له لله درك لا يقول الكلام هذا الا أنت...".

الأستاذ الصحبي العلاني تحدث في اشارات مترابطة وعميقة الدلالة عن الخصائص لهذا النوع من الشعر التعليمي ذاكرا أن هذا النوع من النظم يخلو من الخيال والعاطفة ويقتصر على الأفكار العلمية المجردة وقال "...حين نتعامل مع هذا الشعر لا بد من كثير من المعرفة ...قصيدة سعيد عقل "مرخى على الشعر شال " هي ضمن الغزل الحديث لخصوصيتها فالشعر الحديث صعب الكتابة والفهم والقراءة والأمثلة عديدة ...".

اثر ذلك كان هناك نقاش وفق ما طرح في اللقاء عن هذا الشعر التعليمي وفسح المجال للشعر حيث قرأ الشاعر  مصطفى ضية عددا من القصائد التي تفاعل معها الحضور لما بدا في مضامينها من وجع وشجن وحياة ومنها قصيدته " عليك بشيء يدل عليك " .

أمسية رائقة حملت الحضور الى أزمنة شعرية حيث الشعر مجال تعليمي كان فيها النقاش ثريا وتنوعت الأراء وكذلك النظر والتقييم وهذا من عناوين فن الشعر الشاسع بتلويناته وضروبه .

***

شمس الدين العوني

تصنف الرواية بكونها سلسلة سردية طويلة تحتوي على أحداث كثيرة قد تكون واقعية أو من وحي الخيال وفيها شخوص كُثر يبرز فيها الابطال الذين ينقلون قضايا معينة من خلال تسليط الضوء على مشكلة ما وايجاد الحلول لها بشكل اكثر اسهابا من القصة، كما وقد تحتوي على شخصيات تظهر مرة واحدة في الرواية للتنبيه على أمر ما!، ظهرت الرواية في القرن الثامن عشر في أوروبا وكانت لها تأثير كبير في تغيير الأحداث على الواقع  ومعالجة المشاكل والازمات، وتعتبر الرواية أطول الأجناس الادبية.. تحتوي الرواية على مقدمة وفصول متسلسلة في الأحداث الى أن تصل الى ايجاد حلول أو التنويه لحلها أو حتى ترك حلها للقارئ.

تتعرض الرواية في الآونة الأخيرة إلى هجمات عديدة تمثلت في أن لا أهمية لوجودها! أو أنها روتينية وأحداثها مملة وماهي إلا تقليد لروايات عالمية والافكار فيها مستهلكة!. لعل هذه الآراء تصدر من اشخاص غير مطلعين على الادب العربي بصورة عامة وليس الرواية على وجه التحديد، ليس كل رواية مشهورة جيدة وليست الرواية المغمورة والتي لم يسلط الضوء عليها هي رواية سيئة. ان سبب ظهور فن الرواية هو حل قضايا معينة أو انتقاد واقع سيء أو لمتعة القارئ، وكما نعلم هناك انواع من القراء منهم القارئ الشغوف المتفائل والقارئ الذي يقرأ لينتقد فقط وليس ليستمتع ويستفاد وانما هو حاقد على الكتابة بصورة عامة لا يعجبه اي شيء ولا يستسيغ ما يقرأ، وهنا يجب أن لا نلق بالاً لمثل هذا النوع من القراء ونهتم بالإيجابية. النقد يختلف عن الانتقاد، النقد مفيد للكاتب فهو يُقوم النصوص ويشذبها ويبرز معالم القوة فيها ويبين رؤى مختلفة في قرأته للرواية فيتعلم الكاتب الكثير من الناقد ويحسن اسلوبه في الكتابة، واما الانتقاد فهو مجرد إظهار العيوب أو حتى اختلاقها دون الرجوع الى أسس النقد الصحيحة ويأثر سلبا على الكُتاب ويحبط مسيرتهم الادبية، لهذا يحب الانتباه لهذا الامر واخذه بنظر الاعتبار من قبل الكُتاب والادباء والقراء بصورة عامة.

***

سراب سعدي

يقولون أن الشعر من المشاعر، ولابد أن يكون كذلك ليسمى شعرا، فما كل موزون ومقفى بشعر، ولا المنثور بشعر.

وإن إمتطت الفكرة ظهر الشعر إنكسر، وإنفرط عقد الكلمات الجمالي والنغمي، فالشعر إيقاع ولحن روحي أخاذ بأوتار النفس البوّاحة.

الشعر كل شيئ ولا يتحول إلى شيئ، أو أداة للتعبير عن فكرة أو رؤية أو تصور، وما كل مَن كتب الشعر بشاعر.

دواوين كبار الشعراء، يكثر فيها النظم ويقل الشعر، ونسميهم شعراء كبار لأنهم عاشوا قريبين من الكراسي المتسلطة على البشر.

ما عدا شعراء المعلقات، والذين كتبوا قبل الإسلام، والبعض الآخر، فأن معظم الذين صاروا شعراء كبار في ثقافتنا الجمعية، هم من أولياء نعمة الكراسي، ويطغى على شعرهم المديح كوسيلة للتكسب وجمع المال، فالشعر تجارة مربحة عندما تكون على مقربة من مركز القوة.

والبعض يرى أن في الكثير من الأقوال المتداولة كأبيات شعر، لا يوجد فيها شعر، بل أفكار منظومة.

إذن أين الشعر، وهل يوجد شاعر حقيقي أصيل يضع إنعكاساته الذاتية والموضوعية في كلمات ذات تأثير؟

يبدو أن الإنسان الشاعر يمتلك مهارة التكثيف والإقتصاد، أي يعبر عن جبل عظيم بذرة متناهية في الصغر، فكلماته يجب أن تختصر كتبا وموسوعات، وهذه القدرة نادرة بندرة الشعراء الأصلاء، فالذي يكبس رؤيته في بضعة أحرف، يمتلك وعيا كونيا وتماهيا مطلقا مع مفردات الوجود الأكبر المتوثب الإتساع.

فالشاعر مَن إستوعب الكينونة الوجودية بإدراكية عالية ومديات لا تعرف الحدود.

وعندما يصل إلى هذه المرتبة الإشراقية يمكنه أن يقطر شعرا، ويعصر خمر الكلمات ليبث سلاف جمال وروعة وبهاء، وحينها نكتشف أننا نقرأ شعرا، ونغوص في عباب قصيد.

فهل إن الشعر روح؟!!

وقل تسطحت القمم وانقطع رأس الهرم!!

***

د. صادق السامرائي

7\4\2023

في المثقف اليوم