أقلام حرة

مزهر جبر الساعدي: لماذا لم تتظاهر الشعوب العربية دعما لغزة؟

اللافت للانتباه والاستغراب معا؛ أن الشعوب العربية (باستثناء الشعب العربي في الأردن) لم تخرج بتظاهرات واسعة للتعبير عن رفضها وشجبها لصمت أنظمتها؛ حول ما يجري في غزة من جريمة إبادة بحق الشعب الفلسطيني؛ لتشكل ضغطا قويا على أنظمة حكمها وإجبارها على اتخاذ خطوات عملية، ومشاركة فعلية في دعم النضال الفلسطيني، والوقوف معه في خندق واحد وفي معركة واحدة ضد الكيان الصهيوني المجرم، سواء باستخدام ما لدى تلك الأنظمة من عوامل الضغط على الكيان وعلى داعميه من أمريكا والغرب، أو التهديد الفعلي بالمشاركة في المعركة ضد الكيان الصهيوني، لكنّ أياً من هذا لم يحدث. هذا الموقف الجماهيري، غريب على الشعوب العربية التي لم تصمت يوما خلال تاريخها اتجاه ما كان يحدث من معارك بين أي دولة عربية وقوى الشر الغربية، إلا أن هذه اللامبالاة الشعبية الآن بدأت مع اتفاقية السلام بين دولة الاحتلال الإسرائيلي ومصر، مرورا باتفاقات أوسلو ووادي عربة، وليس انتهاءً بالتطبيع المجاني الأخير بين بعض الدول العربية ودولة الاحتلال الإسرائيلي. للحقيقة هناك ردود شعبية في كل الأوطان العربية تقريبا، لكنها ردود باهتة جدا، لا ترقى إلى مستوى التهديد الفعلي. ومن المعلوم أن أي وضع لا يمكن أن يحدث من دون أن يكون له واقع على الأرض، ومن دون أن تكون له مسوغاته ومسبباته ودوافعه؛ يظهر كل هذا التراكم بسبب الخيبات والإخفاقات التي ضيعت على الشعوب العربية بوصلة الطريق للنضال والكفاح والجهاد، من أجل السيادة الحقة والاستقلال الحقيقي والتنمية والديمقراطية، وحقيقة نضال الفلسطينيين من أجل دولة ذات سيادة كاملة، وليس حكما ذاتيا تحت مسمى دولة، الذي شَابه الكثير من العثرات والانحرافات عن جادة النضال والكفاح والجهاد؛ بحجة مخادعة وكاذبة؛ إن الدبلوماسية والسياسة سوف تقود في النهاية إلى تحقيق طموحات الشعب الفلسطيني، إلا أن هذه السياسة قادت إلى تمييع الحق الفلسطيني في دولة ذات سيادة، إضافة إلى أنها منحت دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ الزمن الكافي للتوسع الاستيطاني على أراضي الضفة الغربية التي يواصل الكيان الصهيوني؛ احتلالها خلال ثلاثة عقود، من دون أن يدفع كُلف هذا الاحتلال، بل هناك عون له في إسكات أصوات بنادق النضال والكفاح والجهاد ضد وجوده الاحتلالي.. قضية فلسطين هي في الجوهر صراع عربي صهيوني، إذ أن هناك ارتباطا عضويا بين استقلال وسيادة الأوطان العربية، وتحقيق الديمقراطية والتنمية الحقيقية، وتحقيق دولة كاملة السيادة في فلسطين. فالتغييرات التي يسعى لها الكيان الصهيوني على أرض غزة، وبالتالي على كل الأرض الفلسطينية؛ ترتبط تماما بالمخططات الإسرائيلية والأمريكية والعربية؛ من قبيل مشاريع طرق التنمية، وما إليها من مشاريع أخرى على كل الأوطان العربية، ودولة الاحتلال الإسرائيلي جزء مهم واستراتيجي في هذه المشاريع. عليه فإن ما يحدث على أرض فلسطين له تداعيات وارتباطات كاملة، بما حدث ولم يزل يحدث في كل الأوطان العربية، بعلاقات تبادلية التأثير والمؤثر، وبتبادلية منشأ التخطيط والأفعال ومفاعيلهما.. إن الإعلام الأمريكي والغربي وبطريقة ممنهجة، خلال العقدين المنصرمين زرع في النفوس والعقول ما يعاكس الواقع على الأرض تماما؛ وهو تسويق فرية أو حرف للحقائق؛ من أن الصراع العربي مع الكيان الصهيوني؛ هو صراع فلسطيني مع هذا الكيان المسخ والمجرم، بينما الحقيقة كبدايات لوجوده على أرض فلسطين وسلبها من الشعب الفلسطيني ومن ثم تشريده؛ ارتبط تزامنيا وخططا وأهدافا لجهة تقسيم الوطن العربي إلى دول وكيانات شكّلها المستعمر البريطاني والفرنسي؛ ووضع على سدة أنظمة حكوماتها مجموعة من المتعاونين معه والمحاربين معه في الحرب العالمية الثانية؛ ليكونوا تابعين له.. لماذا؟ لتكوين دول عربية عدة، لا دولة عربية واحدة تحيط بالبؤرة الاستيطانية الصهيونية؛ ما يجعلها مهددة وغير قابلة للحياة، إضافة إلى أن البريطانيين والفرنسيين وضعا بؤرا للتمرد مستقبلا في جغرافية هذه الدول العربية؛ تشكل لها قلقا أمنيا بما يهدد وحدتها، عندما يتم بطريقة أو بأخرى تغيير هؤلاء الحكام بآخرين غيرهم؛ عندها يتم تفعيل بؤر القلق والاضطراب واستثمارها ضد هذه الدول. في الربيع العربي الذي تفجر فيه الغضب الشعبي على النظام العربي، وعلى كل الطغاة والمستبدين من أجل إزاحتهم؛ لتتولى الشعوب العربية زمام أمورها وأوضاعها وحياتها، سارع الحكام العرب وأمريكا والغرب وإسرائيل لحفر خنادق عميقة الغور على طريق هذا الغضب العربي في وجه ظالميه من الطغاة؛ ليتحول إلى وبال على الشعوب العربية الثائرة. فقد تمزقت سوريا وليبيا بعد تغيير مجرى واتجاه ثورة شعوبها، بينما تم تدوير نظام الحكم في الدول العربية الأخرى التي تفجرت فيها براكين الثورة؛ بأنظمة حكم بديلة لا تختلف في الجوهر عن تلك التي تم إسقاطها، بل إن البديلة كانت أكثر خدمة للمشروع الأمريكي الغربي الإسرائيلي العربي من سابقاتها.

وفي التحليل الأخير والقراءة والفحص؛ وتوخي الدقة العلمية في تفكيك مولدات، وبالتالي منتجات هذه الأوضاع السائدة في المشهد السياسي العربي، سواء ما يجري في غزة، أو في فلسطين بصوة عامة، وفي الأوطان العربية؛ كل هذه الأوضاع، في رأيي، تقود إلى أن هناك تحولا في السياسة الاستعمارية لإعادة رسم صورة المنطقة عربيا وفلسطينيا وإقليميا. وهذا هو ما يفسر الدعم الأمريكي والغربي وحتى العربي الأخير، بأغطية مهلهلة كما الغربال ليس في إمكانها حجب أشعة شمس الحقائق الساطعة.. صاحبه إعلام أمريكي وغربي وعربي وإسرائيلي، وهو إعلام يقوم على منصات مقنعة ظاهريا، ما غيب عن الوعي الجمعي العربي حقيقة ما يجري ليس في غزة فقط، بل في كل الأوطان العربية، إضافة إلى أن النخبة تفتقر إلى القاعدة الشعبية؛ بفعل جبروت واستبداد النظام العربي، وهذا موضوع اخر. هذا التغييب هو سبب الأسباب في عدم خروج تظاهرات ضاغطة على النظام العربي، لدفعه لاتخاذ موقف حاسم وجدي ومنتج في دعم وإسناد جهاد المجاهدين في غزة وفلسطين. لكن من المهم أن اؤكد أنه على الرغم من هذه اللامبالاة إلا أن الشعوب العربية في جلها الأعظم؛ رافضة رفضا تاما؛ لكل عمليات التطبيع العربي المجاني مع هذا الكيان الصهيوني المجرم..

***

مزهر جبر الساعدي

 

في المثقف اليوم