نصوص أدبية

نصوص أدبية

مَثَله مَثَلُ رحم الأرض

دافئ في ظلامه

أليف في صخره

لا وحي فيه

إلاّ… همس الأرض !

*

في حوشنا القديم

مائدة الشّاي كانت تجلس القُرفصاء

في الظل .. بيننا

مرة في الصّباح

مرة في البكاء

حينما

خرجت جدتي في بياض البياض

اِنتظرت

اِنتظرت

ولم تعُد

*

في حُوشنا القديم

أبي .. متربّع على حصيره

حبّةٌ إثر حبّة … في سُبحته

صحراء في صمته

أسمر في جبّته

البيضاء

أمّي

عروس دائما

ما أحلى بسمتها في سِواكها

بين الجمر والفنجان يدُها

لمّاعةٌ فضّتُها في سوارها

أمّي

*

في حُوشنا القديم

الشّمس

ترتقي… تتدحرج أمامي

ثمّ تغرق في الرّمل

النجوم

أقرب إليّ من السّوق

كم مرّة اِشترت عيناي

تصاوير بالألوان

من الأقمار

كم مرّة ركبت الهلال أرجوحة

وغسلت له يديه

في إناء الفخار

*

في حوشنا القديم

الشّوك والحصى

أقدامي كانت الأرض

على مدى البصرْ

بلا حذاء .. بلا حدود

وبلا جواز سفرْ

***

سُوف عبيد – تونس

الوقت مسافة

بين الصحوة والنسيان

والحنجرة الكرستالية

علامة دالة على النباهة

حين الغناء وحين

الضحك والابتسام

2 -

قربك من النهر

نورس وبعدك عن

الينابيع هدهد حزين

وسنونو يبحث عن

قطرة ماء

3 -

وحدك  تستطيعين

رسم على جدار الحزن زهرة

وعلى جدار القلب

بنفسجة ذكرى

ونرجسة نسيان

***

سالم الياس مدالو

إضـاءاتُ الـنـزاهةِ ليس تَخفى

مـتى بـزَغَـتْ يُـبـاركـها الأَنـامُ

*

نَـقـاءُ الـقـولِ تَـعْـزِفُـهُ السَــجايا

اذا سُــرُرُ الــوفـاءِ ، لــه تُــقـامُ

*

مـنازلُ إنْ ثَـوى الإيمانُ فــيـهـا

يُـلاقـي حــتْـفَـهُ المَـكْـرُ الـزؤامُ

*

وإن نالتْ سِـماتُ الوصْلِ صِدْقا

فــلا زَيْـفٌ يـــدومُ ولا خِـصـامُ

*

فـكَـم مِــن نَــزْوةٍ أوْدَتْ بــحُـبٍ

فَـضاع الـحُــبُ واشــتـد الـملامُ

*

حديـثٌ إنْ حَـوَى كَـذِبَا تَـهـاوى

وأفْـصَحَ عـن حَـقِـيـقَـتِهِ الـرُكامُ

*

لَـعَـمْـرُكَ مـا عَلا نَـجْـمٌ جُـزافَـا

شُـــعـاعُ الـنـور للأدنـى زِمــامُ

*

إذا كـان الجَّـمالُ جـمالَ حُــسْنٍ

بـلا خُـلـقٍ ، فـبـئـس المُسْـتـدامُ

*

وإغـراءٌ بـحَـرْفٍ ، فـــيه زيْـفٌ

مَـكائـدُ يــسْـتَـقـي مـنها الـلِـئـامُ

*

إذا ما الـحُـرُّ أسْـفَـرَ عـن نــقاءٍ

تهاوى الزيفُ وانكـشف الظلامُ

*

وإن لاذ الـحـوارُ بــثـوب شــكٍ

ولم يُـفـصِح سـيـتـبعه انـفـصـامُ

*

ومَـن أخـفى عـيـوبـاً فـي لـسـانٍ

فــفي نـظـراتـِه ، يـبـدو الــكـلامُ

*

ربـيـعُ الخُـلْـدِ ، فـي خُـلقٍ وعـلمٍ

ومَـأثَـرَةٍ ، لـهــا نُـصْـبٌ يُــقــامُ

***

(من الوافر)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

 

أبِلْعـــِدْوان ِجِئْتُم والعتـــاد ِ

لتحرير العِبَاد َمن البلاد ِ؟!

*

لشَرْعِيَة ِالسراب ِوكل وهْمٍ

وفرضاً للحصار الإقتصادي

*

ونشر معاول الإرهاب حزماً

وإحلال السلاح بثوب ِ(هادي)!

*

وزرعاً للشقـــــــاقِ بكل شبر ٍ

وقصفا ً للحيــــــاة وللجماد ِ

*

خسِئْتُمْ يا صهـــــاينة ِ العقال ِ

وسُحقا ً يا زبـــــانية النوادي

*

وهيهات ٍ لمرتًــــــزق ٍ عميل ٍ

صفيق الوجه مزدوج الفساد ِ

*

يداس ُ كــ(بَعْرَة ٍ) بنعال دون ٍ

ويذعن ُللسِّفاد ِ ..وللسِّفاد ِ !

*

فلا (أمم الضلالة) سوف تُجدي

ولا كعب الكعوبِ لكم بفادي!

*

ولن يبقى لِوَكْرِ الجُورِ (أفعى)

و(هيمنة) السقوطِ إلى رمادِ!

*

أما تدرون أن الشعب لبَّــــــى

نداءالحُر: (حي على الجهاد ِ)!

*

له في كل حادثة ٍ حديث ٌ

شديد البأس ..متَّحد الأيادي

*

فذوقوا وَبَـال ماجئتُم إلينا

نكالا ً بالحذاءِ .. وبالزنـــاد ِ

*

فقد خَابَ العِدا جواً..وبَرَّاً

وأفلحنا بصبر ٍ ..واتحاد ِ

*

فمن أبدى لنا سِلماً..سَلاماً

فأهلاً بالسماحة ِ..والوداد ِ

*

ومن رام البلاد بســـوء فعل ٍ

فمقبرة (الغزاةِ) له تُنــــادي !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

٢٠١٩م

العصفور الاول:

سقط من عشه

لا يعرف ماذا يفعل

والى اين يطير

رفض ان يتسكع

خلف اسوار الظل

لم يفهم ما معنى

كل الدروب تفضي  الى الاحراش

**

العصفور الثاني:

طائر مهاجر

خرج عن السرب

لا هوية ولا وطن له

لعل الريح تحمله

الى غابات استوائية

صارت تحت حصار حطاب غاصب

**

العصفور الثالث:

عصفور جريح

لاحقه صياد

يصرخ ملء حنجرته

امام نسر طاعن في السن

يحلق ثم يحط على  جحر افعى

**

العصفور الرابع:

عصفور أسير

كان ينتظر فوق غصن شجرة

متعددة الابعاد

في عشه بيضة واحدة

يتردد في فقسها

**

العصفور الخامس:

خرج من شجار عنيف

فوق اغصان عالية

ريشه غير مكتمل النمو

وجد ثعبانا

يرقد في عشه

**

العصفور السادس:

عصيان عصفور نادر

يرفض قوانين الطيران

ومراسيم اللعبة

مد اظافره

ونشر ريشه خارج القفص

**

العصفور السابع:

عصفور يصعب العثور عليه

فهو في منفاه

لا يفكر بالرجوع

الى شجرة يحرسها الذئاب

**

العصفور الثامن:

عصفو يحمل لافتة تقول:

هنا كان يرقد النسر الطاغي

في عشنا المصنوع

من نشارة الخشب

في وطن مغتصب

**

العصفور التاسع:

حمل الحجارة بمنقاره

ليشيد جسرا معلقا

يصعب التعشيش فيه

**

العصفور العاشر:

عصفور لا احد يريده

لا القفص

ولا فرع شجرة يستضيفه

فقد عشه وحريته

فصار يتحدى غرف الاعتراف

ومخافر الشرطة

وحرس الحدود

*

اما الحجارة

التي اسقطت العصافير العشرة

فقد التقطها بعض السيارة

وقدمها هدية لمتحف الاحجار الكريمة

تبركا واحتفاء بالزعيم البطل

***

بن يونس ماجن

 

امتلأت قاعة الشركة عن آخرها. احتفال بهيج، نهاية سنة وولادة أخرى. موسيقى تستوطن المكان وتسافر به الى عالم آخر. كله سحر وهدوء وجمال. كان الاحتفال. وكانت، هي هناك، ترمقه من بعيد. من وراء باب مكتبها. تتبعه بنظراتها الخجولة. تراقب كل حركة من جسده وكل تعابير وجهه. تبتسم لما يبتسم، تخاطب نفسها "هل لاحظ اهتمامي به؟" تسافر من جديد مع كل حركة من حركاته النشيطة. تخاطب نفسها من جديد وهي تكاد تحضنه بعينيها "أكيد لاحظ اهتمامي به وبكل حركاته وسكناته." ابتسمت وفي غفلة منها، اقتربت منها زميلة لها، وقالت لها في هدوء وسرية" أما زلت متيمة به؟" انتفضت كطائر جريح، وقالت لها "أنا؟ لا أبدا. لقد نسيته منذ مدة." وعادت تتكلم معها في أي كلام. لكن نظراتها ظلت بعيدة عنها، تراقبه وتغازله.

توارت عن الأنظار، لما لاحظت أنه تائه مع الآخرين في حديث وضحك. عادت الى مكتبها وعينيها تشعان حزنا وألما. مسحت دمعة هاربة وأعادت الى خزانتها هدية صغيرة كانت قد اشترتها له. فهي دائما تحب المفاجآت، وتحب أيضا أن تفاجئ من تحب. سمعت صوتا تعرفه جيدا يلقي تحية مؤدبة، التفتت. كان هناك، متكئا على حائط مكتبها ويرسم على شفتيه ابتسامة هادئة. كأن نظراتها سافرت اليه وحكت له عن حبها. خجل شديد على محياها، ارتباك غير مفهوم. ضحك بصوت مسموع. وقال لها "الكل يحتفل وأنت هنا. هل أنت مشغولة؟" فركت يديها دون وعي منها، وابتسمت وقالت له بصوت مبتهج" لدي عمل متأخر وقلت أنجزه اليوم."

اقترب منها وقال لها "لدي هدية، أرجو أن تقبليها مني." تردد كبير. "كيف علم بأنني أنا أيضا اشتريت له هدية؟" همست في غفلة منه. أخذت الهدية وكل جسدها يرقص فرحا. انها اللحظة التي كانت تنتظرها منذ سنة. احساسها لا يخونها. "انه يبادلني نفس الشعور" هكذا عبرت في صمت وهي تستعد أن تكتشف هديته. قال لها وهو يراقب حركات يديها وملامح وجهها الذي تحول الى ساحة صراع لإحساسيها: "هل أعجبتك؟" كانت ساعة يد رقيقة جدا وبسيطة جدا. قال لها "انها تشبك." ابتسمت كطفل حصل على هدية يوم العيد. وقفت وابتعدت عن مكتبها وقالت له بعينين دامعتين" جميلة جدا. شكرا لك." احتار في أمر الدموع، مسح دمعة فارة من مقلتيها وقال لها: "لماذا الدموع؟" لم تتمالك أحاسيسها التي استولت عليها وفضحت ارتباكها وفرحها، قالت له" انها دموع الفرح. أنا سعيدة جدا بهذه اللحظة." ثم تابعت دون أن تنظر اليه" أنا بدوري، اشتريت لك هدية." ابتسامة عريضة استوطنت شفتيه، وهمس اليها بصوت حنون" أين هديتي؟ " فتحت درج مكتبها وأعطتها له وهي ترتجف كأنها ارتكبت جرما. دقات قلبها ارتفعت، تردد سيطر على خطواتها كأنها تنتظر نتيجة الامتحان. فتحها وقال لها" لماذا أنت دائما متميزة؟ انه كتاب جد مهم ونادر. أين وجدته؟ " لم تكن تنتظر هذا السؤال. كانت ابتسامتها كالبدر أنارت المكتب، جلست الى مكتبها ونظرت اتجاه الباب حتى تتحاشى نظراته التي لا تقوى على مقاومة اغرائهما وقالت له" هل تذكر يوم زرنا تلك المكتبة المتواجدة في آخر الشارع؟ وقلت ساعتها ان هذا الكتاب جد مهم." أثارته هذه التفاصيل الصغيرة التي تنتبه اليها. مع أنه نسي تماما أين ومتى دخلا الى تلك المكتبة.

كلام وحديث ثم ضحك. وانطلقت كالريح تتسابق مع أنغام الموسيقى وتتحدث الى كل زملائها وزميلاتها، كانت الفرحة تكاد تنط من عينيها الخجولتين. في لحظة هاربة من أجواء سعادتها، سمعت صوتا يطلب من الجميع أن ينتبه. التفتت، كان هناك أحد مسئولي الشركة يزف خبر خطوبة حبيبها الذي أحبته في صمت، مع احدى زميلات العمل. كانت مفاجأة لها وحدها. كما قالت لها زميلتها" الكل هنا انتبه الى العلاقة التي بينهما منذ مدة. الا أنت. لقد نبهتك وقلت لك أنه يتلاعب بمشاعرك." ظلت حائرة، تنظر اليه وتحاول أن تفهم. فاختفت عن الجميع وانسحبت في هدوء. مشت تحت المطر وصوت الرياح القوية. وهي تحمل كم كبير من الحزن. لم تفكر ولم تتكلم. ما ان وصلت الى بيتها، حتى انفجرت بالبكاء.

فكرت في السفر حتى تنساه، قررت في لحظة دون تفكير مسبق، أن توافق على عمل كان مدير شركتها قد طلب منها أن تقوم به وكانت جد مترددة نظرا لتعلقها بحبيبها. كانت تحبه جدا وتفرح لما تراه، وتبتسم لما يلقي عليها تحية الصباح. قبلت العرض وسافرت على الفور.

احتمت بعالم تلك البلدة، وبناسها وهواءها وسكونها. بيت صغير ودافئ، حاولت أن تعمل كثيرا حتى لا تهاجمها صوره وكل اللحظات التي قضاياها مع بعض. انتابها شعور بالإحباط والملل، خرجت تكتشف المدينة، وتنساه. فقد كان حب من طرف واحد. وكل العلامات كانت تدل على ذلك، لكن عشقها له، منعها من الرؤية الصحيحة. مشت كثيرا دون هدف، تلقي التحية وتبتسم. شعرت بسلام داخلي وتأكدت من أنها اتخذت القرار المناسب لأنها بدأت تشعر بحالة سلام داخلي ينام بين أحاسيسها. لكن ما ان تخطت عتبة باب البيت، حتى تذكرت كيف أنه اشترى لها هدية وفي نفس الآن أعلن خطبته على أخرى. صرخت "كم كنت غبية." ساعتها، رن جرس الباب، "من سيكون وأنا لا أعرف أحدا هنا " همست لروحها ومسحت دموعها التي تهاجمها كلما تذكرته. كان بالباب رجل مسن، أنيق جدا. يحمل ابتسامة جميلة على شفتيه. ابتسمت أيضا وقالت له بكل هدوء:

- أهلا سيدي،

- أعرف أنك لا تعرفينني، أنا صاحب هذا البيت.

ابتسمت أكثر ورحبت به أكثر. وقالت له:

- لقد دفعت ثمن الكراء لشهر كامل. هل هناك من مشكل؟

جلس وهو يفتح معطفه وقال لها:

- كل شيء على ما يرام. فقط أنا تعودت أن أعرف بشكل شخصي كل من يسكن بيتي.

طلب كأس ماء ثم أضاف:

- أنا أرمل، توفيت زوجتي منذ سنة. أولادي يشتغلون خارج البلد. ففكرت أن أكتري هذا البيت وأعيش في شقة صغيرة.

ازدادت طمأنينة وهدوء بال. وارتاحت له كأنها تعرفه من زمان. جلست بدورها وهي تبتسم وتنتظر ان يكمل حكايته. تابع:

- قررت أن أكلف شركة مختصة في كراء الشقق. لما أخبروني بقدومك، فضلت أن أحضر بنفسي اليوم لأتعرف عليك.

لاحظت كم هو طيب وأنيق ويتحدث بشكل جيد. فهمت أنه متعلم. سألته:

- هل يمكن لي أن أعرف ماذا كنت تشتغل؟

ابتسم من جديد واتجه بنظراته صوب غرفة بالبيت مغلقة ثم قام وقال لها:

- اتبعيني، أخرج مفتاحا من جيبه، وفتح باب الغرفة.

انبهار كبير على محياها. كانت تنظر وتتأمل في ذلك الكم الهائل من الكتب المتراصة بشكل أنيق ومرتب.

قال لها:

- كنت أعمل صحفي بإحدى الجرائد. وأنا مولع بالشعر وعملت العديد من الحوارات الأدبية والسياسية ...

ظلت صامتة كأنها حصلت على كنز، ضحكت ورقصت من الفرحة. فقالت له:

- لماذا تترك هذا الكنز هنا؟ ألا تخاف ان يسرق؟

جلس وراء مكتبه ونظر اليها وقال:

- لهذا أريد دائما أن أتعرف على من يسكن بيتي. سألها بشكل مفاجئ:

- هل تحبين القراءة؟

- نعم، ربما هي الشيء الوحيد الذي ظل وفيا لي.

قام من وراء مكتبه واقترب منها وقال لها:

- أنا ارتحت اليك كثيرا يا ابنتي، فيك شيء من ابنتي البعيدة عني. سأترك لك هده الغرفة مفتوحة لكن بشرط أن تحافظي عليها كأنني موجود.

طارت فرحا وقبلته، لم تكن تعلم أن الحظ سيبتسم لها بهذه السرعة.

عاشت تلك الأيام في هدوء داخلي، انكبت على مهمتها التي جاءت من أجلها. وفي نفس الآن، كانت تقوم بحبس نفسها لساعات داخل المكتبة حتى يحل الليل. سعدت بحياتها الجديدة البعيدة عن تلك الأيام الحزينة. في يوم، وجدت بين الكتب التي كانت تتفحصها، ورقة، ملامحها قديمة. تجرأت وفتحتها. كانت عبارة عن اعتراف حب من طرف واحد. كانت مفاجأة بالنسبة اليها. "هل كل ما يقع لي عبارة عن صدفة؟" قرأت الاعتراف المختوم بحرفين م- م.

نامت وهي تحمل بداخلها قصة الاعتراف الذي يشبه قصتها مع الاختلاف في الزمن. تعودت خلال تلك الفترة أن تتكلم مع السيد الأنيق صاحب البيت بالهاتف كلما لزم الأمر. يومها قررت أن تدعوه للعشاء لتتعرف عليه أكثر وخصوصا أن مهمتها قربت على الانتهاء. كانت سعيدة كطفلة، نسيت الأمس الجارح. أعدت عشاء متنوعا، كانت تنتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر لأنه بداخلها سؤال كبير عن ذلك الاعتراف. ولا تدري كيف ستكون ردة فعله.

أمضيا ليلة جميلة، حكى لها عن حياته وكيف عشق مهنة الصحافة وكيف أن هذه المكتبة أنجته من الاكتئاب بعد وفاة زوجته. تجرا أكثر وسألها:

- إذا سمحت لي، هل أنت مرتبطة؟

لم تكن تنتظر هذا السؤال، لكنها وجدته فرصة لفتح الباب لكل تلك المعاناة التي ما تزال ترفض الرحيل من داخلها. ابتسمت كعادتها وقالت له:

- أحببت زميلا لي بالشركة، كنت أعتقد أنه يبادلني نفس الحب. رغم تحذير زميلة لي منه. كنت عمياء، أفرح لفرحه، وأبكي لبكائه. اساعده في عمله. كنت لا أرى سواه.

تركت الحرية لدموعها تسبح فوق ملامحها الحزينة، كأنها لم تتكلم منذ زمن وأكملت:

- يوم علمت بخطبته من أخرى، حاولت أن أغرق نفسي في العمل. وأحتفل، وأتسوق، وألعب رياضة. لما ألج بيتي، ألفني لوحدي، أغرق في البكاء وأنهار.

انتبه السيد الأنيق، لحالتها النفسية التي تغيرت. حاول تغيير النقاش، قال لها بكل هدوء:

- اسمعي يا ابنتي، لست وحدك من مر من هذه التجربة. تجربة الحب من طرف واحد.

وبدأ يحكي قصته التي قرأتها في ورقة الاعتراف. كم كانت محرجة أن تفاتحه في الموضوع، فجاء الجواب من عنده.

وقال لها:

- الكتب أنقذتني من حبي الأول، وأنقذتني من الموت بعد وفاة زوجتي التي كانت هي حياتي.

فجأة وقفت، ضحكت وقبلت رأسه وقالت له:

شكرا لك، لقد حررتني من سجن كبير كنت أعيش فيه رغم محاولاتي المتكررة للهروب منه. وأطلقت العنان لآهات متكررة وصرخت بكل سعادة:

- الآن أنا ارتحت وصرت حرة وطليقة.

قبل أن يودعها، قالت له:

- أطلب منك أن تغفر لي جرأتي.

ظل صامتا ينتظر. ولم يشأ أن يحرمها من تلك الفرحة التي كانت تنط من عينيها كأشعة شمس يوم صيفي. وتابعت:

- بالأمس، وأنا في المكتبة وقعت بين يدي ورقة اعتراف حب، ومختومة بحرفين: م- م

قبل أن تكمل، نظر اليها واتجه صوب الباب، توقف قليلا ثم قال لها:

- انها حكايتي التي حكايتها لك قبل قليل. والحرفان هما اسمي، محمد واسمها مريم.

خرج وتركها تعيش حالة من الفرح والتردد والتأمل. انطلقت كالسهم الى غرفة نومها وعانقت وسادتها ونامت كما لم تنم من قبل.

اتصلت به في اليوم الموالي، دعته الى لقاء في مقهى بالمدينة. وهي فرصة لتشكره على ثقته وعلى الساعات الجميلة التي قضتها بصحبته وجعلتها تستعيد ثقتها بنفسها وتتحرر من صمتها. خلال استعدادها للخروج، جرس الباب من جديد، فتحت. كان هناك، لم تتوقع أنه سيكون هو. حبيبها الأول، حل سكون ليل البراري. ظلت واقفة أمام الباب. نظرات متوجسة، ارتفعت نبضات قلبها. قال لها بابتسامة واثقة:

- كيف حالك؟ لقد اشتقت اليك.

- .....

- هل سأظل واقفا؟

 ...

- لم أستحمل غيابك المفاجئ. وقررت أن أحضر بنفسي لأشرح لك كل شيء.

- لدي موعد مهم، وأرفض أن ألتفت الى الوراء. وأنت ورائي الآن.

انطلقت سعيدة، تكاد تطير من الفرح لأنها استطاعت أخيرا أن تقول له إنك لم تعد تهمني. واحتفلت مع السيد محمد بلقائهما. وطلبت منه أن يزورها في بيتها لما تعود الى عملها.

***

أمينة شرادي - المغرب

لا تمر فرصة الاِّ ويتبادر لذهني هذا الكائن الجميل بيلوان.. ويرغمني على توطيد العلاقة بيني وبينه..

عيبي أنِّي كسرتُ الجرَّة

عدد زفراتي..

لا كنز بها كما تدعي الجدة

ولا تركتها للماء حافظة..

مُفرِطَ العِنادِ برأسٍ فرقعهُ الپَّرادوكسْ

تهيُّجنِي المتشابهات

وتنذرني باليأسِ الطويلِ

خلطة الغربان ولقالق الجَابِيرُو ..

عكازتي من كرمة نبيذية لا تقودني لصوابٍ عيناي جَبَّنَها شُرودي الهستيري

وأقدامِي تتَرنَّحُ بلا ثباتٍ .. .

مشَّاءٌ بين اليمينِ واليمين

أقَرِّظُ الوجْه الذَّميمِ بما ليس فيه.. .

وشّحتُ صدرَ المنتظر بحَبلٍ منْظُومٍ بكُوكِيَاجَات فرَّ عنها البحر..

ولازلتُ أنشُّ فراغَ يدَاي من رَائِحةِ الأكْفَانِ وأتحاشَى لمس لِحيَتِي الهَلْهَالةْ..

مخافة إيَّابِ موسمِ الديدانِ ..

راهنتُ على وجهي مسافة أصبعين منَ المرْآةِ.. حينها علمتُ أنِّي شبَحٌ بشع..

بنيتُ شَرَكاً لذكرياتِي كيْ تنامَ الأبد

وأعيشُ لوحدتِي مائة عام..

لكنِّي، انتهيتُ بوسطى أصابعي تحتَ ذقني.. ! خرجت أنقبُ عنْ بديلاً لكَ يا بيلوان..

المرأة الخشبية التِّي تغارُ منْ عينكَ

قلَّصَتْ شَغَبها

وراحتْ تَبْحثُ عنْ غيرِي في ماخُورِ الدعَارةِ..

لم تعدْ تعتني بالصحون..

ولا تنكسُ حيِّزَ حُلمِنا..

كلمّا مرَّتْ بمكنستها ترميني بغُبارِ الدارِ.. وأهديها تقاسيم وجهي وأقول لها:

ولوِلِي وَلْوِلِي .. .

وتردُّ: تْفُو تْفُو..

لا نهاية للكلابْ ..

ليتنا متنَا قبْلَ حِينٍ..

وليت قابض الروحِ مرَّ منْ هنَا..

بيلوان.

. أفتقد فيكَ حتَّى الآن سِمةَ الدعابةِ.

. أفتقِدُ فيكَ شروطَ الأمانةْ..

أفتقِدُ فيكَ منْطِقَ السلمِ والسلامَةْ

أفتقِدُ فيك أنانيتِي .. عزَّتي.. خُلْوتِي.. نخوَتي.. نشوتي.. حياتي وما حيِّيتْ..

عفواً يا بيلوان لقد مرَّ الطُوفان وخَطفَ منِّي بعض من ذكرياتي معكَ ..

وها أنا أنسجُ مِنْ رذاذ المطرِ

قماشاً لإخفاء ما تعرَّى منْ هيكلكَ..

وها أنا أقِفُ في وجه الرِّيحِ

حتّى يظل قبركَ أهمَّ إنجازاتي..

بالله قل لي:

من أين لك بهذا البهاء..؟ "

وتاكْ الموتْ"..

ننتظرُ "رشَّة مِمنْ بَالَ عليكْ"..

عُدنِي فجراً أو قبل الظهيرة بقليل أمسدُ ظهرك ونلهو معاً "لعبة هاكْ وأرَا".. .

لن أزعل هذه المرَّة حين تلطخُ حذائي بالوحلِ.. لنْ ألعن يوم ميلادك كما كنتُ ..

سأقرأ لك كل قصائدي الممنوعة من النشر..

ونتقاسم نخب الإنتصارات..

لمْ يعُدْ منذُ رحِيلكَ أحدٌ يصرخُ في وجهي

وأنا ألعَنُ حاكماً

ويتوعدُنِي آخر بخِصَائِي أمام العمومِ.. .

انتهى زمن العصيانِ

وصرنا خرافاً كالخرفان .. ..

آه يا بيلوان هل أتاك حديث الطّغاة في الوطن..؟

يتأهبون للرَّحيل..

عدْ لقبرك يا بيلوان

مُتْ ألف عام لا شيء تبدّلْ

فوق صخرة الذهب أنت المتَوَّجُ كأحسن خلق للذِّكرى..

بيدي سعفة الحاضر أهشُّ بها على دبابة المستنقع..

بيدي شمعة تغازل ريح ميناء رفح..

وتملِّي غزَّة بالشهيدِ..

. ها أنا منشغلٌ بآخر بقايا سفينة نوح

هل تعلم يا بيلوان لم ينخرها دود ولا تسوّستْ الماء لا يأكل الخشب

بل

الخشب يشرب ماء

سأعيدها إلى أعلى الجبل تحَسُّباً لطوفانٍ قادمٍ.. عبد

***

عبد اللطيف رعري - مونتبولي

07/01/2024

وَدَخلنا العامَ محْروسينَ بِالجّنِّ وَرُؤيا العارفاتِ

قد دخلناهُ وَمِنْ بابِ فَقاقِيعِ الأغاني

وبزمّارِ التَّعاويذِ وأوزارِ الأماني

بنعاسِ الكلماتِ في بِطاقاتِ التَّهاني

مُشْرئِبًّا كان هذا العامُ مِن ثُقْبِ التَصاويرِ

يُفَلّي الذِّكْريات

غَضَبٌ يَخذِلنا

وظلامٌ راعَهُ ظُلمَتِنا

فدخلناهُ رَحيبًا وحَريصينَ بزهو وجنون

*

قد دَخَلنا..

بأهازيجِ مَلاكِ النازِلاتِ

خُلعةً يُسْرجُها الوَهمُ لثيرانِ المآثرْ

قبلَ انْ تَعْبرَ في الحَلقِ ذُبابه

نحوَ إغْضاءِ العِواصفْ

*

قد دَخَلنا..

بِجرادِ الحوْلِ والْقوَّةِ

أَنَّى يَنزَغُ السُّلطانُ في مَغنَمهِ حَمدًا وشُكْرا

وَزنَهُ الرَّيْبُ إِلى خُبْثِ الكبائِرْ

قد مَلأنا كُلّ صَحْراءِ العروبْ

بسيوف الخانعين

*

قد دَخَلنا..

مشجَبًا تَرقدُ فيهِ جُثّةُ العامَ الجديد

وفيوضٌ مِنْ صِياغاتِ التواريخِ اللّئيمةْ

وذيول من خيول الغابرين

قد نَسيْنا قَبْضَةَ الدّرْعِ وصَدّقنا الرَّخاءْ

وحَلَلنا رَبْطَةَ الصّدقِ وأبدَلنا القِناعْ

كالأميراتِ السّبايا

نَسْتَرِّقُ السّمعَ من جُحْرِ العدوِ

علّهُم يَرضونَ عَنّا.. عاهِراتْ

*

قد دَخَلنا..

بشهودِ الشّكِ ما جاءَ بهِ حَيضُ المَخابِرْ

غُصِبَتْ خاصِرَةَ الأرضِ وأزْنوا بِالأجِنّةْ

غَيّروا أمْلاحَ قَلبي بِأَساطيرِ السّباتِ

ونَسوني عارِيًا اكظمُ موتي

لُحْمَة موّهَها الباطلُ في فَيضِ سُداهُ

*

قد دَخَلنا..

بدموعِ الأمهات

انهنّ جَنّةُ اللهِ على الأرضِ ومَوالِ السنابِل

ومَرايا الحاضِرِ السّائِرِ فينا

نحوَ مَحوِ الإنكِسار

قُبَلًا من حصّةِ الباقين منا بالبَصيرَةْ

*

قد دخلنا..

ومعَ المَجدِ بِبارودِ الحروبْ

قَوسهُ الطافَحُ بالدّمِ وأحْشاءِ الصّغارْ

لِينادي لِيعاسيب الملوكِ القتلةْ

أنتم الباقون حتى انْ خَسِرتُمْ

سوفَ نَعْتادُ على لونِ الجريدة

واقتصادِ الضّحكَةِ المُنضَبِطَةْ

...

...

ودخلنا العامَ مَهزومينَ بالصّمتِ كَزيزانِ الحُقولْ

صَوتُنا عالٍ ومنْ دونَ حِوارْ

سَقَطَتْ منّا الشِفاهْ

سَقَطَتْ أذْرُعُنا

وتَوارَيْنا سَرابًا في دُجى تيْهِ الخَراب

دونَ دارٍ او جدارْ

كلّنا الآن حِصارٌ في حِصارْ

فانْثُرينا

انْثُري أيْتُها الدُّنيا الدَّنيئةْ

جَمرَةَ الحَربِ وفَيْروسَ الفَناءْ

*

أيّها الواقِفُ عِندَ العَتَبةْ

قبلَ ان تَدخُلَ من بَوّابةِ العامِ الجَديد

لتُضِيءَ من دُروبِ الحَقِّ دَربًا

او تُصلّي في المَنامْ

**

طارق الحلفي

 ............

* المَخابِر: جَمعُ مَخْبَر ومُختَبَرـ مكان الفحص وإجراء التجارب

 

حين أَحلُمُ

أَمسكُ بقبضتي

بتلابيبِ الرِّيحِ

أسرُجُ حِصاني

وأحرِّكُ الكَونَ بصولَجاني

حين أحلمُ

لا تعرفُ الورودُ

لونَ الذُّبولِ

ولا يفترقُ الأَحبَّةَّ

ولا يصمتُ حَسُّونٌ

ولا يغادرُ شَحرورٌ

ولا يموتُ في البِحارِ

مُهاجِرْ

حين أحلُمُ

لا يخشى اليمامُ

طلقاتِ الصَّيادِ

ولا تختبئُ السَّناجِبُ

بينَ الأغصانِ

ولا تَحكمُ جاداتِ الحيِّ

عصاباتُ الأوغادِ

حين أحلمُ

لا تسقطُ ورقةٌ خضراءُ

ولا تموتُ أُغنيةٌ

ولا تعرفُ الفُرقَةَ

أرواحٌ وأفئدةٌ

ولا يعتري نُورُ الشَّمسِ

أُفولٌ

حين أحلمُ

يعزِفُ مَوجُ البحرِ نغماتِهُ

فيرقصُ النَّرجِسُ

وتتمايلُ سَنابلُ القَمحِ

وتموجُ طرباً

زُهورُ الأقحوانِ

كُرمى للعُشَّاقِ

وحبَّاًّ لعيونِ

عبلةَ وليلى

وابنةِ الجيرانِ

حين أحلمُ أحاربُ

الكونَ بقصيدةٍ

أرسمُ ألوانَ الطّيفِ

بعد ليلةٍ ماطرةٍ

أغازلُ لَوحتيَ الأثيرةَ

وأشربُ نَخبَ الحُبِّ

في كلِّ المؤتمراتِ العالمية

وأهتِفُ بصَوتٍ مَبحوحٍ

مُطالِباً بِحُقوقِ الرَّعيةِ

من غير أن أخشى

ضَربةَ سَوطٍ

أو قبضةً حديديةً

حين أحلمُ

يموتُ الصَّقيعُ

ويصيرُ لطيفاً وهجُ الشَّمسِ

ولا ينامُ أبداً

وجهُ القمرِ

ولا تكفَهِرُّ وجوهٌ

ولا يعتري الحُزنُ

أصواتَ العصافيرِ

وقسمات وجوهِ الشَّجرِ

في عهودِ حُلمي

لا تفنى فراشاتٌ

ولا تُغتالُ أفيالٌ

ولا تُصلبُ في السَّاحات

عاشقاتٌ

ولا تَتعَفَّنُ في الزَّنازين

أُمنياتٌ وأجسادٌ

حين أحلُمُ

جِراحاتُ الهَوى تلتئِمُ

ودموعُ الأمَّهاتِ تَعتكفُ

وتصيرُ البَسمةُ عَادةً

وتُغرِّدُ في كلِّ حينٍ

ضَحكاتٌ وتَرنُّ قهقهاتٌ

ويصبحُ كلُّ العبيدِ سَادةً

أحلمُ وأحلم ثم أحلمُ

من غير توقفٍ ولا نِهاية

***

جورج مسعود عازار

ستوكهولم السويد

 

لا شِعْرَ فيها فالْكلامُ مُباشِرُ

وَقَصيدَتي فيها الضميرُ مُحاوِرُ

*

أمواجُ (كامِلِها) تَمورُ صَراحَةً

فَلِسانُ حالي في الصَراحَةِ باتِرُ

*

هذا طَريقي في الدُنا وَطَريقَتي

لكِنَّ حَظّيَ في الصداقَةِ عاثِرُ

*

غالى مُثَقّفُنا الشَقيُّ تَغرُّباً

وَعلى غِناءِ الوافِدينَ مُثابِرُ

*

يَهْذي بِفَلْسَفةِ الأنامِ مُكابِراً

وَلَكم تَباهى في الهذاءِ مُكابِرُ

*

يَجْترُّ أوْشالَ الذينَ تلاعبوا

بِتُراثِنا حتى تضيعَ مَصائرُ

*

فَعَلى موائِدِهمْ يَتيمٌ بينَما

هُوَ عن مُعاناةِ الثَكالى نافِرُ

*

ياناكِراً وأْدَ الطفولةِ غَفْلَةً

قد زادَ من وَجَعِ الطفولةِ ناكِرُ

*

مُتَعاطِياً أفْيونَ تطبيعِ النُهى

يَحسو ثُمالَةَ غاصِبٍ وَيُعاقِرُ

*

تَرَفاً يُحاكي زيْفَ فلسفةِ الورى

وَبِلَغْوِها بينَ الديارِ يفاخِرُ

*

هَجَرَ اليَنابيعَ التي في روحِهِ

وراحَ يلهثُ خلفهم ويُغامِرُ

*

لِقُشورِ ما نَثَرَ الكِبارُ مَهابَةً

ألْفيْتُهُ مُتَعبّداً يَتَصاغَرُ

*

يَهْفو رُوائِيٌّ الى شَطَحاتِهمْ

وَيَهيمُ في هَذَيانِهِمْ مُتَشاعِرُ

*

هُوَ سادِرٌ في غَيِّهِ وَغُرورِهِ

وَمِثالُهُ في الفلسفاتِ أكابِرُ

*

مِنَ الذين تَكَلّموا وَكَأنّهمْ

أرواحُ صِدْقٍ للورى وَضمائرُ !

*

مُسْتَشْرِقينَ: أديمُ الشرقِ أسْكَرَهمْ

وَعيونُهُمْ خلفَ الكُنوزِ سَواهِرُ

*

سَرَحوا دهوراً في لُحاءِ جُدودِنا

نطقتْ أزاميلٌ لَهمْ وَدَفاتِرُ

*

رَقَصوا على أشلاءِ ماضينا كما

رَقَصَتْ على صوتِ الفُؤوسِ مَقابِرُ

*

حَمَلوا رُؤى الأسفارِ فوقَ ظهورِهمْ

وَقُلوبُهمْ بالخافياتِ تُجاهِرُ

*

لا يَطلبونَ سِوى الحقيقةِ غايَةً !

وَبالأمانةِ والنقاءِ تظاهروا

*

كانوا الطليعةَ للغُزاةِ الى الحِمى

وَتَجاهلتْ عينَ الدَليلِ مَعابِرُ

*

يمشي على آثارِهمْ مُسْترْشِداً

وَفُؤادُهُ خلفَ القوافِلِ حائِرُ

*

نَسِيَ الفتى القَيّافُ أنَّ طَريقَهُ

نحْوَ السَليقةِ والبَهاءِ مُغايِرُ

*

لم يلْتَفِتْ سَهْواً لِغَزّةَ هاشِمٍ

مُتَغافِلاً عَمّا جَناهُ الغادِرُ

*

هل فِرْيةُ الإرْهابِ أعمتْ قلبَهُ

أم بيتُ صهيونَ الضحيّةِ طاهِرُ؟

*

يا أصدقاءُ الحَرْفِ لَستُ صَديقَكُمْ

قد فرَّقَتْنا في الدُروبِ مَجامِرُ

*

قلبي مَعَ (القَسّامِ) أقْسمَ كُلّما

حاقتْ بخارطةِ الجُدودِ مخاطِرُ

*

مرّوا على المَسْرى العظيم مواكباً

خلفَ الضياءِ لكي تُضاءُ منائرُ

*

نَزَلوا إلى نَفَقِ الوغى لا رَهْبَةً

لكنّ بُرْكانَ البواطِنِ ثائِرُ

*

فاهبِطْ إلى سوحِ النِزالِ مُنازلاً

خيْرَ الفوارِسِ ياعَدوّي الطائرُ

*

ياساكنَ النَفَقِ المُضاءِ بِنورِهِ

بَصَراً حَديداً تقتفيهِ. بصائرُ

*

طلّقْتَ أبهاءَ القصورِ تَزهّداً

وفي جِنانِ الخُلْدِ قصرُكَ عامِرُ

*

إحْدى معاني الحُسْنَيْنِ وكُفْؤها

فطريقُ عِزٍّ بالكرامةِ ظافِرُ

*

أنتمُ كُماةُ (الفَتْحِ) ليسَ سواكُمُ

فظهورُهم للعابِرينَ قناطِرُ

*

يا أدعياءَ (الفَتْحِ) كُفّوا لَغْوَكم

فالرأسُ ثوْرٌ في المعاركِ خائرُ

*

مُستجْدياً مُتَوَسّلاً عَطفَ العِدا

وعلى النشامى ثَمَّ وَغْدٌ فاجِرُ

*

هل صارَ أشباحُ الجزيرةِ قُدْوةً

مأْمورُها يرغو بما يَجودُ الآمِرُ

*

أَوَجَدْتمو دربَ الحضيرةِ طَيِّعاً

فاسْتبْشرتْ عِنْدَ اللقاءِ حضائِرُ

***

د. مصطفى علي

هَلْ تتذكّرُ ما قالَتْهُ لنا شاعرةٌ عمياءْ

حينَ اِلتَقَطَتْ أُذْناها ما قُلنا ذاتَ مساءْ

كنّا نتحدّثُ عن أشعارٍ لَمْ نَكْتُبْها

وحياةٍ لم نَخْبُرْها

كنّا نتمنّى

أنْ نمشي فوقَ الماءْ

ونُحلّقَ في الأجواءْ

كنّا نَزْعُمُ أنّ الشعراءْ

لا تُغْرِقُهُمْ غيرُ مياهِ الشّعرِ

و لا يحتاجون إلى أجنحةٍ للطيرانْ

قالتْ دَعْكُمْ..

من أوهام كاذبةٍ .. دَعْكُمْ

فأنا عمياءَ، ولكنّي

أبصرُ في عقلي أوضحَ منكُمْ

ما تضمرهُ الأمواجُ،

وما تُخفي الأيّامْ

عنّي، أو عنهُمْ، أو عَنْكُمْ

قلتُ لهُ هَلْ تَتَذكّرُ؟

قالَ تذكرتُ الآنَ،

خُلاصَةَ ما سأَلَتْ :

هل أحدٌ منكُمْ

يعرفُ كَمْ مرّ بدنيانا من شُعراءْ؟

ماذا كان اسم الأولِّ منهُمْ

ومتى قالْ

أولّ ما مرّ بخاطرِهِ من أشْعارْ؟

كانَ يحاولُ أنْ يتذكّرَ أكثرْ

لكِنْ لَمْ يتذكرْ

شيئاً أزْيَدَ يُذكَرْ

..............................................

..............................................

قالتْ واثقةً

تلكَ الشّاعرةُ العمياءْ

إنّ الشّعرَ يحلُّ اللّغزَ،

ويبتكرُ الأضواءْ

قالتْ هذا ومضتْ

تاركةً لكلينا أسئلةً

ظلَّتْ دونَ جوابٍ حائرةً

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

في البدأ كانت الوان قوس قزح

ترسم على سقف السماء

وكانت "الموناليزا"

تخفي ابتسامتها

خلف فرشاة دافنشي

فجاء الغمام  ذات صيف عاصف

وعلى متنه توابيت مستعملة

تتأرجح بين الارض والسماء

غيرعابئة بسراب تائه

يطارده مطر المنفى البعيد

*

النمر المرقط

هذه المرة غير جلدته

والحرباء المخاتلة

تتردد في انسلاخها الجسدي

اما الليل حتما

فلن يغير لونه

والشمس لن تتخلى عن ضوئها البرتقالي

والقمر مل من اصفراره

فلا الصقيع مبتهج بجليده

ولا النار ابتلعت

رماد الهشيم

*

ارض خراب تعبت من الزلازل

ورائحة الموت

تشيع الشهداء تحت الانقاض

ويبقى الامل يراود الاموات

من جديد

*

في وطني ارواح فاقدة الوعي

مكبوتة الاماني والاحلام

مسكونة بهواجس نرجسية

تنظر في المرأة كثيرا

فترى ما لا يراه الزعماء

*

لا شيئ يدعو

الى تسونامي آخر

فقد نامت العاصفة المتمردة

على كتفي قوس قزح

والخائفون من الضباب الكثيف

يرسمون على الرمل

سرابا وغيمة حبلى بطغاة جدد

***

بن يونس ماجن

 

في زمن مضى كان الإنسان يفتقد إلى الوعي، ولم يبق له سوى الأمل كحلمه الوحيد. ففي أحد الأيام أشرقت شمس الصباح، واحتفل الإنسان بيوم  جلاء  الغبش الطويل، فاستيقظ الإنسان فرحًا على عالم متجدد ورحيب، يحمل رسائل المستقبل، ويعطي الأمل حقه الطبيعي. عالم يفتح الأبواب للحرية والازدهار.

وفي إحدى الليالي الهادئة، وبينما كان الإنسان نائمًا ويحلم بنشوة الحرية، وفجأة استيقظ مصدومًا ليرى وجوهًا غامضة تعصب عينيه، ودون سابق إنذار أخرجوه من السرير. ثم ألقوا به في زنزانة ضيقة ومظلمة جدًا لا يصل إليها أي ضوء، وكان سقفها مرتفعًا إلى ما لا نهاية، وجدرانها سميكة للغاية بحيث لا يخترقها الصوت.

وفي هذا الحبس الجديد، لم يمنح الانسان نفسه فرصة التأمل لافتقاره إلى شريان الفكر، فلجأ إلى حل ساذج للخروج من مأزقه: ففي جوٍ يسوده ظلام دامس، لا يحتاج الإنسان إلى الرؤية، لذلك عمد إلى اقتلاع العيون من محاجرها. وبما أن الصوت مكتوم فلا يحتاج الإنسان إلى الكلام، فوضع اللسان بين الأسنان وقطعه على الفور. ولم يكن هناك شيء يستحق السماع عن الأمل، لذلك صفق الإنسان على الأذن بقوة فمزق أغشية السمع. وعاش في سجنه أصم أبكم لا يسمع.

***

كفاح الزهاوي

ليس لي ذَنْب ٌ

سوى أنَّي مواطنُ

في (بلائي)!

يَقْطُنُ البَرْدُ ردائي

وحياتي دون ماء ِ

دون أدنى كهرباء ِ!

ودوائي..

عِلٰةٌ أخرى

لأسْلِحَةِ (العِدا) المُنْحَط

في نَشْرِ الوبــــــــــــــــاء ِ!؟

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

٢٠١٨م

حين توفي أبي كانت الدولةُ كلها في عطلة رسمية لأسبوع بسبب الحداد العام. الحداد ليس بسبب وفاة أبي بالطبع، ولكنه بسبب وفاة "الزعيم" الذي كان يحكم البلد في وقتها. وكان سبب وفاة أبي كما نظنُّ، أنه لم يجرع مرارة فقدان الزعيم الذي كان يحبه كثيراً، فحدثت له أزمة قلبية توفي بسببها. في الحقيقة أنني لم أحزن على وفاة أبي كثيراً. نعم تأثرتُ بعض الشيء لكنني كنتُ مرتاحاً بيني وبين نفسي. لأنني قد نجوت بأعجوبة من إهانات وضربات أولاد المحلّة التي كنّا نسكن فيها آنذاك. أولئك الأولاد الذين كان أبي يعذّب آباءهم في معتقلات الزعيم. حين كان يعمل جلّاداً في معتقل أمني، وكان كلما اعتقلتْ مباحث الزعيم رجلاً من رجال المحلّة بسبب شبهة أو تهمة ملّفقة، عذّبه أبي لنزع اعتراف منه بشتى أنواع الجلد والضرب والاضطهاد. وهذا الأمر دفع بأولاد المحلّة الذين تعتقل السلطات آباءهم، إلى أخذ ثارات آباءهم المعذبين منّي. فبعض الآباء حين يُفرج عنهم ويعودون إلى منازلهم بعد نجاتهم من الاعتقال، يحكون لعوائلهم عن الشخص الذي كان يشرف على تعذيبهم. وهكذا لم تتوقف هذه الدوامة إلا بوفاة أبي، ونجاتي ونجاة أهل المحّلة من هذه المحنة. كان أبي يقول أن الزعيم خالد، وأنه لن يموت، وحين كانت أمي تصلّي يسخر منها، ويقول لها صلّي باتجاه صورة زعيمنا، إشارة منه إلى أن الزعيم هو الرب الذي يؤمن به ويعبده. والذي كان يعلّق له صورة في كلّ ركن من أركان المنزل. ولشدّة هذا الحب للزعيم الراحل لم يحتمل أبي مرارة فقده، فتوفي بعد أن سمع بموت الزعيم ببرهة قصيرة. وعادة حين يموت الإنسان لا يموت ماضيه معه. ذلك الماضي الذي عاش فيه أبي ولم أرث منه سوى لقبي - ابن الجلّاد- الذي ظل لصيقاً بي. وفشلت كلّ المحاولات التي مارستها لكي أمحو الماضي، أو أزيل اللقب عن كاهل سمعتي في المحلّة. فقد ظل كما أسلفت ملتصقاً بي كما تلتصق العِلْكة بشعر الفتاة. على الرغم من تكلّف الملاطفة مع الآخرين، والسعي في عمل الخير هنا أو هناك. ظل الناس ينظرون لي على أنني واحد من أبناء الجلّادين. ولم يشفع لي اللطف ولا أعمال الخير في إزالة تلك الصورة عنّي. ولستُ أدري ما هو الشيء الذي يرضي الناس؟!. فليس هناك من صنيع خير إلا وصنعته!!. ولم يتبق إلا الرحيل من المحلّة وتركها للأبد، تاركاً السمعة واللقب اللذين ورثتهما عن أبي. وهذا لم يحدث بسبب الدافع الذي كان يدفعني لتغيير صورة العائلة. متخيلاً أن رحيلي من المحلّة سيكون انهزاماً وهروباً لن أعيش بعدهما في رخاء أبداً. وهنا تفجّرت في ذهني الفكرة الخطيرة. إن كنتُ أريد محو اللقب والسمعة فيجب عليّ أن أقوم بعمل بطولي. عمل يغطي بفداحته على كلّ الآثام التي ورثتها وأرهقت كاهلي. حين توفي الزعيم استلم من بعده ابنه مقاليد الحكم. لم يتغير النظام كثيراً. لقد بقي كل شيء على حاله. الشيء الوحيد الذي تغير في صور الزعيم. حيث تم دمج صورة الابن مع صورة والده في الشوارع والجداريات العامة. وهنا فكّرتُ أن أفضل وسيلة لصنع تاريخ جديد للعائلة، هو أن أنضم إلى جماعة مناوئة لنظام الزعيم الجديد. وإذا دخلتُ المعتقل وتعرضت للتعذيب فسيكون هذا يوم سعدي. على الأقل سيُقال عنّي أنني بطل ومناضل ضد الحكم الجائر، وغيرها من صفات الشهامة والرجولة. غاسلاً بهذه الصفات كل أدران الماضي. وسينسى الناس لقب "ابن الجلّاد" ويبتكرون لي لقباً جديداً بلا شك. لكن الحظ السيء كما يبدو لا يفارقني. لأنني قبل أن أشرع في هذه الخطوة زارنا ذات يوم أحدُ الجلّادين الذين كانوا يعملون مع أبي. وأخبرني أن دائرة الأمن ترغب في أن أحلّ محلّ أبي في وظيفة شاغرة. نزل عرض الجلّاد كالسوط على بدني. ولم أملك خياراً سوى الرفض. كيف أقبل بعمل في مكان كان يعمل فيه والدي مازلتُ أعاني من سمعته الشائنة؟!. لهذا رفضت الوظيفة الشاغرة ولم يكن رفضي مباشراً، بل تحجّجت بحجج واهية لكي أفلت من القبول بذلك العرض الذي كان مغرياً. وقبل أن يخرج زميلُ والدي الجلّاد من المنزل، خرجتُ قبله لكي أطالع الشارع خوفاً أن يراه أحد. والمصيبة أنه حين خرج من المنزل قد لمحه أحد الجيران. وكما هو مألوف لدى أهل المحلّة. خبر زيارة زميل والدي لنا انتشر كالنار في التبن. وهذا ما أضاف لمهمتي الجديدة عبئاً في إقناع الناس أن لا شأن لنا به. ولم يتبق سوى أن أضع مكبر صوت وأنادي بأعلى صوتي في شوارع المحلّة: أيها الناس صدقوني، لقد تم عرض عمل عليّ في معتقل الأمن ورفضت كرهاً وبغضاً. ومع كل المحاولات لكسب ثقة الناس بي إلا أنني لم أفلح. حتى الجماعة التي كنتُ على وشك الانضمام لها سراً، عن طريق صديق حكيت له عن تمنياتي في مناوئة هذا النظام. رفضتني ولم تقبل الانضمام لها، وابلغوا صديقي أن يتركني وشأني، لأنهم ظنّوا أنني جاسوس أعمل لدى النظام. وزيارة الجلّاد زميل والدي لمنزلنا كانت الضربة القاضية التي قصمت ظهر أحلامي. حتى عشتُ أيامي في نكد ومشقة، حين أمشي في الشارع ويخزرني الناس بأعينهم. تلك الأعين التي كانت تشتمني بنظراتها الحادة. ثمّ مرت الأيام وأنا محبوس في المنزل. أراقب بين حين وحين العالم من النافذة. وأعود إلى غرفتي مطالعاً صورة أبي المعلقة. وكانت تجلدني تلك الصورة بسياط الحزن وأنا أتمتم: لماذا... لماذا؟!. حيث صرتُ أعيش ما بين سياط ماض لم أرث منه سوى لقب مشؤوم وإهانات وضربات أولاد المحلّة. وبين حاضر ومستقبل يجلدني بسياط العار والهوان. ولم أجد لي ملاذاً سوى التصوّف والانعزال عن الناس. في محاولة منّي لغسيل نفسي من كدوراتها وأحزانها. وهذا الشيء ساعدني في أن أتعرف على شخص أرشدني إلى جماعة دينية. كانوا يرحّبون بأي عضو ينضمّ إليهم. بغض النظر عن تاريخه وسمعته!!. وبالفعل كان الأمر جدّ سهل والمهمة في الانضمام لم تكن عسيرة. أيام وأيام من اللقاءات بالإخوة الذين كانوا في الجماعة. إرشادات وخطب سرية مناوئة للنظام. وصلوات وأحاديث تحثّ على تزكية النفس والشريعة والعقائد. حتى أطمأنت نفسي مع هذه الجماعة الإيمانية، وصرتُ لا أقو على مفارقتهم والامتثال بأمرهم. الشيء الوحيد الذي لفت انتباهي أن الجماعة كان أفرادها جلّهم من الغرباء. وعرفتُ لاحقاً أن الأمر مقصود ومقنع في الوقت ذاته. حتى يسهل الفرار والإفلات من أيدي النظام. هنا عادت إليّ ثقتي بنفسي. لأنني وجدتُ في هذه الجماعة المنظمة طريقاً للثأر لكرامتي ومحو ذلك التاريخ المشين الذي تركه لي أبي. وشيئاً فشيئاً صرتُ أتقرّب إلى أن اصبحت أن الذي يؤم المصلين في مقرّنا السري. فقد حصلتُ على المباركة في الصلاة من "شيخ الجماعة" الذي لم نكن نلتقي به. ولم تصلنا أوامره إلا عن طريق وسيط منّا. والسبب أن الجماعة تخشى على حياة شيخنا المستور وراء حجاب الحيطة والحذر. ثم جاءت الأوامر من  شيخ الجماعة بعد أن كثر عددنا واشتد عودنا. وصارت لدينا القوة لكي نخرج إلى الشارع. حيث أُمرنا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في المحلّة التي كنّتُ أعيش فيها. وهنا جاءت الفرصة لكي أردّ الصفعة لتلك المحلّة التي نبذتني سابقاً. حيث سأعود لها وأنا في صفّ جماعة لا تأخذها في الحق لومة لائم. وبالفعل كنتُ والإخوان نلقن أهل المحلة دروساً قاسية في الالتزام بما نأمر به وننهى عنه. حتى وصل الأمر إلى استعمالنا "التواثي"* لكي نؤدب المخالفين والمارقين على تعاليم الجماعة. وكنتُ أنا شخصياً أحمل العصا ضارباً بها من أراه خارجاً عن أوامرنا. ولم أزدد في عين الناس إلا احتراماً وخشية، وفي عين الجماعة إلا مكانة وحظوة. حتى همس في أذني الوسيط الذي كان يربطنا بشيخ الجماعة. وقد أخبرني أن الله اجتباني لنعمة كبرى. إلا وهي اللقاء بشيخ الجماعة المستور. حيث سأفوز ببركات اللقاء به ومباركته لي شخصياً. وبالفعل ذهبنا سوية إلى المكان الذي كان يسكن فيه الشيخ. حيث كان على وشك اللقاء بي وبإخوة أخرين من جماعات متفرقة تابعين له. وبعد تبادل السلام والتهاني بيني وبين الإخوة الآخرين، دخل علينا شيخ الجماعة الذي استقبله الآخرون بالتكبير والتهليل. كان الجميع فرحين بهذا اللقاء إلا أنا. حيث تسمّرت في مكاني مدهوشاً. أطالع بفضول هيئة الشيخ ووجهه وملامحه التي بدت مألوفة عندي. لقد كنتُ أعرف جيداً هذا الشيخ على الرغم من ملابسه البيضاء وغترته ولحيته الطويلة. خصوصاً بعد أن نظر إليّ مبتسماً وصار يطالعني حين اقبلت عليه مسلماً. فعرفت فوراً حين صافحني بحرارة، أنني قبلتُ من حيث لا أدري بالوظيفة الشاغرة التي عرضها عليّ من قبل.

***

أنمار رحمة الله – قاص عراقي

.............................

* التوثية: باللهجة العراقية تعني العصا الغليظة

 

أنا عميلٌ سريّ للحدائق العامة

وللبساتين المتجاوزةِ على مساحة النهار

أتوارى داخل تويجات الورود الغافلة

وأسرقُ شَفراتِ رسائلِها العطرية

وعندما تتعبُ الأشجارُ من الوقوف

أتبادلُ معها الأدوار

لأتحسّسَ رحِمَ السواقي الحوامل

ومن مخبئي السريّ داخل اليقطينة

أراقبُ مؤامراتِ المطر

وأردّ عليها بالطشوتِ والقبعات

**

أنا العميلُ السريّ

للمزارع المزهوّة بأقراطٍ من الخنافس

أكتبُ تقاريرَ عن إصابة الحشائشِ بالصَلَع

وأقترحُ نقلَها للنوم في سريري

وأبالغُ في تقدير خطورة الخصوم

فأوصي بارتداءِ اليعاسيبِ نظّاراتٍ سود

**

أنا العميل السريّ للغابات الولود

تلك التي تُنجبُ في كلّ ولادة

آلافاً من غرف النوم والاستقبال

أبحث عن فسائلَ تُقاسي الوحدةَ واليُتم

وعن براعمَ مَلّتِ العملَ بدوامٍ كامل

فخرجتْ للتنزّهِ حاسرةَ الوجه

وربما أتّهمُ الفراشات والديدان بالخيانة

فأوعز للمقصّ بشنّ حملات تفتيش

وغاراتٍ مفاجئة

**

لا ضرورةَ لإنكار بصمةَ إبهامي

فأنا عميلٌ لسلطات الخضرة من أقصى الأمزون

حتى مذابح النخل البصرية

أتبعُ الدعسوقةَ إلى مستشفى الولادة

متوسلاً إليها أن تُنجبَ توائمَ

ببقعٍ تومض كالمصابيح

وأوقّع مواثيقَ لتقاسم الفصول

ما بيني وبين حديقة الجيران

فلا ساقيتهم تجرفُ حصّتي من الضوءِ إلى تقاويمهم

ولا ساقيتي تُغري ضفادعهم بالانتساب إلى أبنائي

**

أنا والأحراج

تدرّبنا في المعسكرات المُعطّرة بأنفاس الطين

وتقاضينا ثمن عمالتينا عناقيدَ عنب

ربما في غدٍ أتحوّلُ شجرة

فتنمو لأكتافي أغصانٌ وأوراق

وتُحوّلُ عظامي نُخاعَها إلى نسغ

***

شعر: ليث الصندوق

يا لها من لحظات ساحرة فردوسية الروح.. كان الربيع يتمايل على أنغامها طرباً.. أومأت الشمس بغمزاتها  القرمزية مودعة رياض الحياة بعد نهار حافل بالعشق والفرح.. وبينما الربيع يزخر بهذه النشوة العارمة حَطت على كفّيه فراشة كسيرة الجناح يخفق قلبها ألما كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة وتودع لحظاتها وتستنجد متلهفة !!

 ارتعد الربيع، وقال: ما الخبر يا فراشتي؟؟؟

  أجابته هامسة: لا أدري يا ربيعي.. أنا فراشة آتية من قوس قُزَح لأنشر السلام والحب في جميع أرجاء الأرض وأُزيّن الدنيا بألواني الرومانسية العاشقة.. كنت أعيش حياة حرة طليقة.. أزهو بألواني.. أغازل أكمام الزنبق وعناقيد الكرز، وألثُم براءة النسيم، وأسابق الريح مع الأطفال.. فجأة طاردني صيادون، وحاولوا اصطيادي فوقعت بين كفّيك ألتمس عطفك وحنانك فلا تتركني..

 طفقت عينا الربيع بالبكاء.. ولامس جناحي الفراشة برفق متناهٍ .. وهمس قائلا: يا فراشتي القُزَحية.. لأجلك سأفعل المستحيل حتى ترفلين ثانية كما عهدتك.. فأدمعت عينا الفراشة من الحسرة، وسألته بغصة: هل أنت ربيع حقيقي؟؟؟

أجاب: أفديك بدمي وروحي يا فراشتي الجميلة، لك ما تشائين، وسأمنحك كل الحب دون مقابل..

وتسأله: أليس بالحب تحدث المعجزات؟؟.. سأبعث فراشة قُزَحية لأجلك ونَغمر الأرواح المستغيثة على الأرض بالأمل إنما أريد مساعدتك..

الربيع: أطلبي.. وسأكون عند حسن ظنك، وإلى جانبك ما حييت..

الفراشة: أريدك أن تطلب من جميع من في الطبيعة، نسيمها، وزهورها، وطيورها،وأشجارها، وحشائشها وفيافيها، وبراريها، ولياليها، ونهاراتها وكل دابة فيها أن يؤازروا بعضهم بعضا وأن يشيعوا المحبة فيما بينهم، وأن يتصدوا لهؤلاء الصيادين الذين يطاردونني ويريدون أسّري و كل الأحرار، وأن يؤدّوا الصلاة والتأمل لسلامة الأرض، ولشفائي هذه الليلة، لأنني لن أبعث من جديد إلا بمحبتكم، وأريدك أن تحفظني في قلبك وتغمرني بدفئك وحنانك ..

فما كان من الربيع إلا أن وعد الفراشة وعدا قاطعا بأن يحفظها في قلبه، ويحرسها بعطفه وحنانه لتنام ملّتحِفَة بشغافه بعد سماعه كلماتها المستغيثة، ثم نادى على جميع من ذكر في الطبيعة طالبا منهم تأدية الصلاة والمواظبة عليها بأمانة وصدق، وكذلك مؤازرة "فراشة قُزَح" في مطاردة الصيادين صباح مساء دون هوادة لتخليصها من براثنهم المميتة..

تملّكت الفراشة سكينة صامتة أنجبت فجراً وردياً مُشرقاً بعدما شعرت بتضامن الآخرين معها، والتفافهم حولها في معركتها حتى تنتصر أحلامها وتتحقق رغباتها، فجأة  طارت  من  قلب ربيعها فراشة ناصعة البياض مزركشة بلون الصفاء والنقاء والسلام.. وقالت: لأجلك بُعثت أيها الربيع لأني أعشقك ولا حياة لي بدونك، ولأجل رسالتي الغالية التي أطمح في إيصالها للبشرية.. ابتسم الربيع بملء شدقيه مجيبا: أنت فراشة قلبي، وتعانقا معا عناق الأحبة..

بعد أن اطمأنت الفراشة القزحية لهذا اللقاء وعلاقتهما الأبدية التي لا ينفصم عراها طارت تعلو نحو السماء والسرور يغمرها..

 ناداها الربيع: إلى أين أنت ذاهبة يا فراشتي البهية؟

أجابته والدموع تملأ مقلتيها: سأعود العام القادم في مثل هذا الوقت.. انتظرني.. أنا مُمتَنّةٌ لك جدا على مساعدتك الدائمة لي ولن أنساها طالما يسري النبض في عروقي.. وكل عام وأنت ربيع عمري وحياتي، والحق، والعدل، والخير، والسعادة.. والربيع الحقيقي.

***

سلوى فرح - كندا

 

صوتُ الحقيقةِ

ناحَ على دروبِ الرَّدى

تُباغتُنا الحروبُ

بأقنعةٍ شيطانيَّةٍ

تُرعِبُنا

وتُشرِّدُنا

وتجعلنا في بوتقةٍ حمراءَ

نتهجّى كلَّ ألوانِ

العذابِ

ونكفرُ بالألمِ في دربِ الظَّلالِ

وهم قابعونَ

يخيطونَ جلودنا

بإبرٍ سامةٍ

ويبيعونَها على أرصفةِ الموتِ

نقاومُ الزَّحفَ… بالزَّحفِ

نصطادُ الوقتَ المبعثَرَ

على قارِعَةِ الشُّجونِ

لطردِ ضبابِها الأسوَدِ

الممتدِّ في كلِّ الجِهاتِ

كعاصفةٍ حمقاءَ

تُدَمِّرُ كياننا وتعبثُ

بكلِّ ما هو جميل ..

***

سلام البهية السماوي

من ديواني النثري (على أجنحة التيه)

 

الساعة على وشك منتصف النهار، وضوء الشمس في يوم صيفي قائظ قد حرك ستائر نافذه غرفة النوم بلهيب رقراق.. فتحت ريحانة عينيها لكن ما لبثت أن أغمضتهما من جديد، واضعة ذراعها على وجهها،فاشعة الضوء كانت اقوى من أن تحتملها مقلتاها..

من شهر وقبل أن يعلن الصيف لهيبه المبكر بعد سنة من جفاف شح فيها المطر، وريحانة تفكر في تغيير ستائر غرفتها بأخرى أكثر سمكا وأشد غمقا. يداهمها أمر مفاجئ فتنسى الستائرالى أن يأتي يوم جديد،تضرب الشمس عيونها صباحا فتنتبه للستائر التي يجب أن تغيرها.. 

أكثر من مرة خرجت لتقتني ستائر جديدة، فتتدفق عليها، ذكريات ماضية في الطريق، فتقصي كل غرض قد خرجت من أجله ؛ كم حاولت أن تتغلب على نسيانها هذا لكن لا تلبث ان تسقط فيه وتتمرغ في جديد طارئ تنشغل به الى أن يتبخر الأصل الذي كانت تعول على إنجازه..

اليوم يوم الستائر عبارة وضعتها في صلب عقلها وعلى طرف لسانها ترددها :

الستائر، الستائر، الستائر... ولاشيء اليوم غير الستائر..

تعد فطورها وهي تركز في نوعية الستائر التي تناسب ألوان غرفتها، تتناول ما أعدته وألوان الستائر هي ما يرفرف أعلاما بألف نوع وشكل، مصفوفة أمام بصرها، تضيف لغرفتها جمالا ورونقا، تغير لباسها وهي تدندن:

طلع الصهد فالراس

 ودوخني حر اليوم

النسيان راه وسواس

يحرك لعتاب واللوم

الرضا بواقعها ما يملأ صدر ها بقناعة،فهي قد فقدت أمها وهي صغيرة، وكان ابوها غارقا في السياسة تبتلعه بمشاكلها الى أن أخذت عمره ففقدت ريحانة كل حنان قد يعوضها غياب الأم، ملأت الغربة كيانها وكادت أن تبدد شخصيتها التي تشرذمت حين هاجر أخوها الى كندا لاتمام دراسته، ولم يتبق لها غير الغربة تعقد معها ألفة وثيقة..

طرقات على الباب تقرع سمعها فترد باسمة :

ـ ستائر انتظري..

 تتوالى الطرقات..من هذا المتعجل الذي اتى ليشغلها عن الستائر؟

يفاجئها بالباب رجل أشعث، كث اللحية ذابل الجسم،يبادرها بسلام..

تدير وجهها وقد أقفلت الباب وهي تقول : "الله يسهل "

صدى الرجل يصل اليها متقطعا كأنه يتوسل أمرا :

ـ ريحانة القلب أرجوك، تمهلي..

بسرعة تعيد فتح الباب وقد فاجأها الرجل وهو يردد اسمها كاملا. تقف أمامه متفرسة في وجهه.."أعد ما قلته"

يخفض الرجل بصره ويردد ـ

لم أقل شيئا للا ريحانة، بادريني بأكل الله يرحم الحاج المعطي..

ردد العبارة بمسكنة وتذلل ولدت في نفسها شفقة ورحمة !!..

تزداد استغرابا، الرجل يعرف اسمها واسم المرحوم أبيها، ربما أحد ممن كان تحت سلطة أبيها.. تشرع له الباب وتدعوه للدخول قبل أن تتحقق ممن يكون.. تتركه وتقصد المطبخ لتجلب له أكلا..

حين عادت وجدته يتفرس في محتويات البيت، وكأنه يسترجع ذكريات ماضية.. ركبتها رهبة جعلتها تأخذ كل الحذر وهي تضع له ما يسد به جوعه.. فما أثارها في الرجل أكثر بكثير مما استكانت اليه، وقد شرع يتصرف وكأن لا أحد يستطيع مقاومته..

دلفت الى غرفة نومها، أخذت هاتفها وحاولت ان تستدعي خالها، إذ يلزمها مؤنس يصد عنها ما قد يباغثها، فصدماتها السابقة في فقدان أمها ثم قتل أبيها غدرا من قبل رجل دنيء الأصل رضيت به زوجا، جعلها تشك في زائر غريب كم تؤنب نفسها بتوبيخ وندم أن سمحت له بالدخول الى البيت وهي وحيدة بلاحماية.. بسرعة يفاجئها الرجل بباب غرفة نومها يتطلع اليها في خبث فتضطرب، عيناه تنفذان الى دواخلها في وقاحة لم تلاحظها من قبل، يسقط الهاتف من يدها :

ـ من أنت ؟ وماذا تريد ؟ تركتك تأكل وأنا بك واثقة، وأمهلتك حتى تنهي أكلك ثم أسألك عمن تكون ؟

كشر الرجل عن أسنان سوداء :

ـ أحقا لم تعرفيني ؟ أنا فعلا تغيرت..ألم تكوني تسخرين من سمنتي ؟..أنا إسماعيل، زوجك، حبيبك، من كنت تسمينه "عبل " خرجت أمس من السجن واليك بادرت بزيارة..شوق الى مطلقتي العزيزة..

ترتعب، حلقها يجف، والحصرم ما يتوقف في حنجرتها، كل مافيها يهتز من رعب، عشرون عاما غيرت شكله.. كان بدينا حليق اللحية، أقصر قامة مما هو عليه الآن..وها هو أمامها بشعر طويل، ولحية كثة، ضامر الجسم وقد غارت عيناه فصارت كل عين في وقب عميق تحيطه حراشيف وقشور. تتجلد متحملة نظراته الوقحة عساها تخفي عنه خوفها، لكن عقلها شغال، يبني حلولا لنجاتها.. تراجعت قليلا الى الخلف، تمسكت بستائر النافذة..

ـ ماذا تريد مني، قتلت أبي،وافترقنا بطلاق،فماذا تريد بعد ؟

يسترسل في ضحكات المكر مكشرا عن أنيابه فتتبدى أكياس صغيرة تحت عينيه كأنها مملوءة بسوائل على وشك الانفجار، رعب أكبر يتملكها، شيطانا يتبدى لها، جثة أبيها تتماوج أمام ناظرها، بدقة تراقب الزائر أمامها في لحظة تحاول أن تطرد صورة أبيها حتى لا يغيبها أثر الحادثة عن حضور البديهة، فينقض عليها كما انقض على أبيها حين فاجأه وهو يفتح خزينته فطعنه بسكين بلارحمة ثم ارداه قتيلا..ولم يتم القبض عليه الا بعد شهرين من بحث وتربص..

يتقدم خطوة منها، عيناه تتحركان كبوصلة تحدد موقعا، أدركت أنه يتقصد أسهل طريقة للارتماء عليها وشل حركتها "قاتل، خبرته كبيرة بكيفية الانقضاض على ضحاياه ".. يرن الهاتف، فيتراجع،و بلهجة آمرة يقول :

ـ ردي على الهاتف،ربما يكون حبيبا،خطيبا جديدا،أليس كذلك؟

أدركت أنه يريد أن يتمكن منها فتعمدت أن تترك الهاتف يرن فوق سرير نومها، لاتوليه التفاتا، حذرة من أن تفقد قدرة تركيزها على الزائر.. يقترب أكثر من السرير، ثقته بنفسه شجعته على أن يمد يده ليلتقط الهاتف،استغلت انحناءه و نثرت ستائر النافذة بقوة، والقتها عليه فصار يتخبط داخلها كمن ركبه مس من جنون، يضرب يمنة ويسرة يحاول الانفكاك من شرنقته..

بسرعة تفتح النافذة وتقفز منها الى حديقة البيت تستغيث.

حاول الهروب بعد أن تخلص من ستائر النافذة فوجد حراس الحي بالباب وقد تنبهوا لاستغاثتها فأطلقوا الكلاب تنهشه نهشا الى أن اتى رجال الشرطة..

خسيس وضيع، لم ينفع فيه سجن ولا عقاب يوم أتى لخطبتها لم يكن غير موظف بسيط قفز بالتملق يرتقي السلالم بسرعة بعد أن ساعد اباها في الانتخابات الجماعية فاستخصه الأب كاتبا له حين تم انتخاب أبيها عمدة للمدينة، ما أن تزوجها بعد تزلف كبير لأسرتها حتى ظهرت أطماعه و نوازعه الشريرة.. انحطاط نفسه جعله يتاجر بأسرار ابيها لصالح منافسيه من تيارات أخرى وعليه يتآمر.

ذات ليلة.تسلل اللئيم من غرفة نومها وحاول سرقة وثيقة سرية وخطيرة من خزانة أبيها ولما كشفه الأب أرداه اللئيم قتيلا ثم عاد الى جانبها لينام قرير العين حتى إذا اصبح الصباح كان ممن روجوا عن أبيها التلاعب بميزانية الجماعة فانتحر اتقاء للفضيحة..لكن دهاء الشرطة كان اقوى من نفسه الشريرة فكشفت لعبته بأثر دم لا يكاد يبين وجد على وسادة زوجته فكان الخيط الذي عرى جريمته التي تم على إثرها حل حزب وتوقيف أشخاص آخرين.. شهران وهو فار متخف في قبو أحد معارضي أبيها الى أن كشفته الزوجة الثانية للمعارض..

لم تنس ريحانة ستائر نافذتها، رحل الصيف وحلت تباشير الخريف بعد إقامة عند خالها لشهور، وعاد أخوها من كندا، وقد هدأت زوابع زائرها القاتل اللئيم الذي تم الحكم عليه بالمؤبد لتختار ستائر لنافذة غرفة نومها وهي أكثر صلابة واوفر ثقة بنفسها، بين عيونها قرار حتمي: لاثقة في سائل متمسكن، ولا شفقة على دنيء وغد..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

ســيذهبُ كــلَّ مــاتركَ البُغَاةُ

وتَــذْرُوهُ الــرِّيَاحُ الــسّافِياتُ

*

ويَــسْقطُ ماادَّعَوْا زَيفاً لشِعْرٍ

ولــنْ يَــبقى لــهُ إلّا الــرُّفاتُ

*

وإنْ شَــغَلَ المنَابرَ والمقاهي

ونــاصَرَهُ الأَكــابرُ والذَّواتُ

*

طلاسمُ أربكتْ عُمْقَ المعاني

ومِــنْ سَقطاتِها انتحرَ النّحاةُ

*

لــيجعلَهَا الــعَييُّ لــهُ مَــلاذاً

إذا ضــاقتْ عــليهِ المفرداتُ

*

تَــلَــقَّفَها الــشّغوفُ بــكلِّ آتٍ

مــن الأغــرابِ كانَ لهمْ أداةُ

*

فلا البحرُ المُقَرفِصُ فوقَ تلٍّ

مـــع الأيــامِ تــرويهِ الــسقاةُ

*

ولا قِــطٌّ يــطيرُ بــلا جَــناحٍ

ومِــنْ طَــيَرانهِ تخشى القَطَاةُ

*

ســيصبحُ قِــبلةً للناسِ مَهوىً

كــنــجمٍ فــيــهِ تــأتــمُّ الــهداةُ

*

فــأَصْلُ الــشعرِ تِــبْيانٌ جَلِيٌّ

مَتَى غَلَبَتْ عليهِ المُبْهَمَاتُ.؟

*

ســيبقى الأصلُ جذاباً جميلاً

مــدى الأيــامِ تــرويهِ الرُّواةُ

*

ســيبقى صــامداً مادامَ عُرْبٌ

بــهمْ نَــفَسٌ وإنْ قــلَّ الرُّعاةُ

*

فــذوقُ العُرْبِ مصقولٌ رفيعٌ

ومـــا تُــغرِيهِ إلَّا الــطيّباتُ

*

ســيَلْفِظُ كــلَّ مــولودٍ هــجينٍ

غــريبٍ قــد يجيءُ بهِ الغزاةُ

*

بثوبٍ عَورَةٍ ما صانَ عِرْضاً

وقد غابتْ عن الجسدِ الحياةُ

*

أَنُــبْدِلُ بالحَصَافةِ شِبهِ عُرْيٍ

ومِــن أَثْــوابِنا غَــارَ الــعُرَاةُ

*

فــلا تركنْ لِمَنْ يَشْتَاطُ غَيظاً

ولا تــسمعْ لِــما قــالَ الوشاةُ

*

فــمَنْ يَــعْتَدْ عــلى زادٍ وفيرٍ

فــهلْ تُــغنِيهِ فــي يــومٍ فتاتُ

***

عــبد الناصرعليوي الــعبيدي

 

المسيح لم يولد

منذُ أعوامٍ عدة.

اليَدُ التي تقرعُ الاجراس

مبتورةُ الاصبع

تَلوَنت خدودُ العذراوات بالسوادِ

انصهارُ الكحل

بجمِر الدمع

يترك ندبا على ثنايا الروح

كُل الاماني ذابلات

أزهار الميلاد بلا روح

على دكِة المغتسل

تنتظُر الدفن!

هطولُ الأمطارِ، ذات شتاء

سَتروي الزرع

هَلّ جفَ الضرع؟

لا قدور على موائد الايتام

لااماني

لا احلام

تمازح لَيل الفاتنات

هلّ باع التاجر اقمشة

بالوان زاهية!

في الصيف القادم

ساعاقر كاس ماء بارد

لكن  أنا

رجلٌ عاقرُ

الا انها

لم تكن كذلك

هذه الارض

انها

ولادة انجبت

خوذاً، ورماحاً

واعذاق  تمرـ

***

كامل فرحان حسوني - العراق

 

حين تشيخ الأيام لا تخبو نواصيها

ولا يأذن غروبها بذاكرة العمر

غير أنها تنضج ويزهو شبابها

منتحلة هوية أيامنا بمحض نسخة.

فتنسل كأرملة سوداء بعنوة صمت يؤرقني

فلا استجارة للأستفهام منها،

غير آبهة بمشيب بيوت ارواحنا..

موشومة باستسقاء أعمارنا من ملح الذبول.

وكي لا اجامل جدية فلذات روحها

سأكون بلطافة أبنة مزن الوقت.

أهمس بوجه قلبها اللامبالي

بما أوتيت من غفلة فطرة،

وليطمئن نبض اندهاشي

من ارتعاد مجون السؤال برخاوة الفكرة.

فكل أبناء أيامك تشابهت علينا

أيتها المولودة من رحم العمر

الممهور حبلها السري باندثار الأجداد.

كلما نرقّع هندام هروبها البارد

تمزق قماط مسراتنا الدافئ

لمَ تأتينا عارية الفجأة همجية الفواجع؟

برفاهية نزوات القدر؟؟!

سأدفن بذرة الحزن خفية في تربة العمر..

ربما تنبت بادرات الفرح بنزاهة الهدنة.

ليتوضأ غد الشمس نثيث قبلة فجر.

وتولد كل شهور السنة غابات ديسمبر..

باشجار ميلاد جديد !!

***

إنعام كمونة

30/12/2023

 

هكذا كان الأمر حسبما نشرته إحدى الصحف الأجنبية

شخص ما

في مكان ما

يبني عنكبوت في إحدى أذنيه بيتا

والحق إني عشت حالة رعب قبل أن يجذبني النوم إليه. في يقظتي رأيت خرابا:

بيوتا تحترق

أشلاء

ركام

وفي أحد مشاهد اليوتوب وقع بصري على جنديّ إسرائيليّ يطرق بوابة عريضة لبيت متهدم من جراء غارة في غزة. أظنه كان مرتبكا أو فقد أعصابه.. كان هناك ركام خلف البوابة والجندي يطرق بقبضته. دفعني الخوف والملل وكثير من الحتق إلى أن أعرض عن المشاهد المتحركة أمامي وأنصرف إلى الصحف الأجنبية، وربما أنساني خبر العنكبوت في تلك الصحيفة هول الحرب المتحركة على وسائل التواصل الاجتماعي في غزة.

لكنني مع ذلك تمتعت بنوم مذهل بعد كل ما شاهدت وقرأت:

ليست هناك من كوابيس اجتاحت نومي سوى بعض حركة في أذني..

الأذن اليمنى بالضبط

قيل إن الأنبياء يأتيهم الوحي من الأذن اليمنى والشياطين تنفث هلوستها للسحرة والساحرات باليسرى.. أعرف نفسي لست شيطانا ولا نبيا. أذني الآن ثقيلة خَدرة.. نعومة غير معهودة وهناك شئ ما.

نهضت من فراشي متثاقلا، ووقفت وقفة جانبية أمام مرآة خزانة الملابس الطويلة:

دهشة

تأمل

صدمة

شبكة على بوابة أذني وسطها عنكبوت يتربص بعينيه الجاحظتين

إذن كانت الصحيفة تكتب عني.

لا أحد سواي

لفت نظري قبل النوم مشهدان أحدهما منظر الجندي الذي يقرع بوابة بيت أصبح أنقاضا، وخبر قرأته.. رؤيا ثابتة وأخرى متحرّكة ما أبصرت من عنف وماقرأت نصفه تحقق

كنت أخشى أن يكون العنكبوت ساما، يلدغني إذا ما أهجته بيدي. كل شئ أصبح الآن واضحا: عليّ أن أضع سماعة الهاتف إلى الأذن اليسرى لأرد على أية مكالمة وأتعامل بالطريقة ذاتها مع الهاتف النقال، قالت لي الطبيبة:من الأفضل أن تدعه وشأنه فهو لا يقدر إن يتوغل داخل الأذن وإلا ستقتله مادة الصمغ المرة، وعليك أن تضع في الحسبان على الأقلّ أن يكون من النوع السام فلا تحرك يدك نحوه عرفت أنه قد يبقى يوما أو يومين. رحت أراقب أذني عبر المرآة بيت جميل.. نت يربض وسطه عنكبوت يظلّ يطل من موقعه على العالم بعينين مذهلتين. خلت أن نصفه عينان، وقد اتعبني الوقوف الجانبي أمام المرآة والنظر إلى أذني فيما يشبه حالة الشزر، فلجأت إلى المرآة الصغيرة التي أمسكها أمام أذني وأحركها نحو زاوية أقرب إلى عيني. فأتقين أن هتاك بقايا بعوضة أو جناج ذبابة اصطادها ضيف أذني الطفولي.

كنت أتحاشى النوم على جانبي الأيمن، لو كانت أمي حية لقدمت لي تفسيرا أرتاح له. كانت تقول إن العنكبوت خير فهو الذي بنى بيته على باب الغار ليوهم المشركين ألا أحد فيه في حين كان النبيّ ورفيقه داخله.. أووه معان كثيرة كان يمكن أن أستوحيها من ضيف لم أتوقعه فيما لو أردت.

إذهب إلى الشارع

أتبضع

أقابل أصدقاء

حياة عادية

ولا أظنّ أحدا التفت إلى أذني. ولم تعد قنوات التواصل الاجتماعي تظهر مشهد الجندي الإسرائيلي الذي دق عدة دقات على بوابة بيت فلسطينيّ تهاوى تحت القصف. لم يغادر العنكبوت ومن خلال المرايا رأيت بقايا ضحاياه. زرت الطبيبة مرة أخرى فطمأنتني أنه سيغادر، ولا ضرر مادمت أمارس عملي وأعيش حياة طبيعية. ولكي أتجاهل أروح أتابع القنوات.

أرى جيدا

أسمع بكل وضوح وهو اليوم الرابع أو الخامس والثمانون للحرب

بين حين وآخر ألجأ للمرآة فأرى ضيفي القبيح. أحيانا أشعر بهزات بيته فأعرف أنه اصطاد حشرة ما

ومرآتي اليدويّة التي أزوغ ببصري معها تساعدني على أن أجد في بيت هش مشادٍ في أذني بعض بقايا الحشرات.

مرّ أكثر من شهرين مع ذلك مازلت أواصل مشاهدة الأخبار.. ثم انام على جنبي الأيسر في انتظار أيهما يغادر قبل الآخر الحرب أم العنكبوت؟

***

قصّة قصيرة: قصي الشيخ عسكر

 

وماذا بَعْدُ ياعَــــــــرَبُ؟

وماذا بَعْدُ ياعَــــــــرَبُ؟

*

سؤالٌ تــــــــــــافِهٌ أدري

وأتفهُ منهُ من خَطَبــــوا

*

وبالوا فوق ثوب الشعبِ

كـــــــي يَتَنَجَّسَ السببُ!

*

فلا يَقْــرُبْهُ إنســــــــــانٌ

ويُلْغيْ الطالِبَ الطَّـــلَبُ!

*

ويَمضي الجائرُ المجرور

مرفـــوعاً و(يَرْتَكِـبُ)!

*

وماذا بعد غير الجُرحِ

يَفْتَحَــــــكُمْ ويلتَـــهِبُ!

*

وغير الذَنْبِ تَحْمِلـــكمْ

على أذيـــــــالها الرُّتَبُ

*

أيُطْرِبكمْ صُراخ الـــدمِ

والأشـــــلاءُ تَختَضِبُ؟!

*

أيُثْلِـــــجُ شمسَ أعيُنِكمْ

إذا اكتَحَلَتْ بما حَــرَبوا؟!

*

وعـــــــاثوا في تَوَحُشهُمْ

وهَانَ الخَطْبُ.. والخُطَبُ!

وقادوا صَــــــــمْتكمْ رَغْمَـاً

إلى أحواشِ من حَلبــــوا!؟

*

فلا وجَبَتْ عُروبتــــــــكُمْ

ولا قُمْتُمْ بمـــــــــــا يجِبُ!

*

فلســـــــــــطينُ هي الدارُ

وأُمُّ عيـــــــــــــــونِنا وأَبُ

*

يَمينُ الله لن تكــــــــــبو...

ولن يَنْبـــُــــو  لــــــنا دَأَبُ

*

وضُفْرُ (بـــــــراءة ٍ) يكفي

ليَخْشــــــــــوهُ ويَرتعِبوا!

*

وسيـف الله فَوَّضْـــــــنَاهُ

يَمحُـــــــــوهمْ إذا اقتربوا

*

يَمــــــــــانيونَ رِبِّيُــــــون

يعلو الرأسُ لا الــــــذَنَبُ

*

فلا نــــــــــامت لنا عينٌ...

ولا ارتفَعَتْ لنـــــا سُحُبُ!

*

لنا الميــــدان  لا أنتــــــمْ

فَمِــــــنّا الليثُ... والشُّهُبُ

*

ومنّا العـــــــــــهدُ لايفنى

وإنْ هَرِمَتْ بنَــا الحِقَبُ!

*

و فينا عِـــــــــــــزَّةٌ تَأبى

خُنُوعــــاً أيها الـ(حُجُبُ)!

**

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

ديسمبر ٢٠٢٣م

 

العمر له نجوم

والنجوم لها عمر

فكلما وسعت سماء روحي

يزداد العمر الافتراضي

لاقمار قلبي ونجومه

2 -

ارائي ورؤاي

تركض حافية

صوب سماء الحقيقة

فيما الحقيقة

نجمة ساطعة

في سماء روحي

3 -

المسافة بين الياس والحزن

ضعف المسافة

بين الفرح وسماء الحقيقة

لكن المسافة بين بيدر قلبي

وزقزقات عصافيرة

تساوي صفرا .

***

سالم الياس مدالو

كل ما اعرفه عن الهيدروجين

انه اكسير للمحكومين  بالاعدام

*

وكل ما اعرفه عن الذكاء الاصطناعي

انه استنساخ للمتقدمين في السن

*

وكل ما اعرفه عن المناديل الورقية

انها تزداد نعومة

في ايادي الجميلات

الرافلات في الاحذية المدببة

*

اما انا فسأكمل رحلتي

في سلال القمامة

باحثا عن حظي اليائس

بين بقايا ارواح منتهية الصلاحية

*

فلا حاجة لي اليوم

ان اصحو على صبح جديد

لاكون صريحا معكم تماما

لقد انطفأ الحلم وخاب الامل

وسأموت بعد ايام

وكاجراء روتيني

ساستيقظ بعد مراسيم الدفن

لاستخراج شهادة الوفاة

من مكتب حفار القبور

*

ليس لي في محافل الشعر

غير اثقال الشيخوخة

وايام هرمت بسرعة الضوء

*

عندما امر بمرحلة وحشية

اقوم ببحث عن الثأر

في زرب الانترنت

ما أنا الاذئب منفرد ابتكره الذكاء الاصطناعي

قد يحدث ان اجلس على مقعد في حديقة عامة

مع المفلسين والمشردين

وصعاليك من سلالة الهيدروجين البشري

*

وسافترض انني نمت فى حضن  حجر نجمة غجرية

تحت ضوء القمر بابعاد ثلاثية

وكلما كسبت رهان من اجل كبوة معكوسة

لخيول جامحة

أتأخر في كتابة وصيتي

أتعسف على كثير

ممن دخلوا حلبة الشعر

فقصائدهم غير متكافئة

وغير قابلة للتجديد

فهي تحتاج الى هيدروجين سائل

يجردها من الصدأ

*

كل ما انجزته الآن

لا شيء  غير ربوت لامرأة عاقرة

فقدت رضيعها

نتيجة علاقة غير شرعية

افتعلها الذكاء الصناعي

*

بقي ان اقول ان الهيدروجين

جراد متناسل

وان بمقدوري ان اتحدى

الذكاء الاصطناعي بكل سهولة

فقوانين اللعبة لا تتغير

لمن يبغون التوقيت

بحبات الساعة الرملية

***

بن يونس ماجن

بلونِ التحيات يدخلُ منسللاً

وجه ُ هذا الغريب ِ،

يُفتّشُ عن وجع ٍ تائه ٍ

في ثيابِ الحدائق ِ،

في بحّةِ النايِ،

أو شهقة ٍ للندى

تستريح ُ السماءُ على صمته ِ لحظة ً

للتأمّل ِ

في وجه ِ هذا الغريب ِ

المُغيّب ِ بين النهايات ِ

يستنزف ُ الماءَ من جبهة ِ الصخر ِ

لاشئ َ غيرُ القميص ِ

الذي ترتديه ِ المياه ْ

يرفّ ُ على روحه ِ بانتظار النوارس ِ

تختطفُ الموجٍ َ

مشتعلا ً في أناه ْ

هو الآن َ ينهضُ فيه الرمادُ

الأخيرُ

فتبكي الأغانيْ على جمرة ٍ

رقدت ْ في رؤاه ْ

*

صوت ُ هذا المدى،

والزمان ِ الذي كان (أعمى المعرّة ِ)

يُطفي نياشينَه ُ

باحتدام ِ النشيد ِ مع الأسئله ْ

" أبكتْ تلكمُ الحمامةُ "

أم أفزعَتها الأغاني؟

هنا

يستبيح ُ المسافة َ بين المسّرة ِ في النرجس الفذ ِّ

وبين العذاب ِ على " الجلجله ْ

***

شعر: نزار حاتم

وجهك ام رفاتُ

ليس به حياةُ

*

غادره الحسنُ البريء فهوَ ترَّهاتُ

*

جُنَّ بحسنٍ زائفٍ

وانفلت انفلاتُ

*

يا موظةَ التجميل ما في قبحها موظاتُ

*

لم يبق وجهٌ واحدٌ

لم تره الصالاتُ

*

قلت ارحمونا وانتهوا

ولتنتهي مأساةُ

*

وانتِ يا وجيهةً

وجهك تحريفاتُ

*

والله كنتِ امرأةً

واليوم أنتِ شاةُ

*

ماذا أرى .. ألم تكن

تَصدقك المرآةُ؟

*

فمٌ ولا بَقَرَةٌ

أنفٌ ولا سَعلاةُ

*

حواجبٌ أضاع حسنَ رسمهنَّ (التاتو)

*

وطال حنكٌ كأبي الهول فيا زوعاتُ

*

وفي الشفاه فِنَرٌ

مُجَّت به القبلاتُ

*

سكَّانُ وجهك المساكينُ جميعا ماتوا

*

والله لم أعرفك! قلتُ: (هل لها خواتُ)؟

*

أصبحتِ (أخرى) ليسَ أنتِ، ليسَ فيك ذاتُ

*

أتلك (تجميلاتُ)

أم تلك (تقبيحاتُ)

*

ماذا جرى تخبَّل النسوانُ والبناتُ

*

الذنبُ للقالب لا

ذنبٌ لها الطيناتُ

*

جاءت ترينا حسنها الجديد (خريعاتُ)

*

فلعَّبت نفوسنا

كأنها كراتُ

*

قلتُ ابدلي رأسك لا

تُجدي الجراحيَّاتُ

*

هيهات منك الحسن يا

قبيحةٌ هيهاتُ

*

بريئة كنتِ فزانتك الجماليَّاتُ

*

عودي الى وجهك

أو نفسك يا فتاةُ

***

الدكتور محمد تقي جون

 

مُـتـمـاهٍ بـفـراديـس مـغـانـيـكِ

كـمـا حِـبـرٌ تـمـاهـى

بـوَرَقْ

*

فـأغـيـثـي مـن ذئـابِ الـوجـدِ ظـبـيَ الـقـلـبِ

فـالـبـئـرُ عـمـيـقٌ

والـضـحـى أدجـى مـن الـكـهـفِ

فـمُـدِّيْ لـيَ حـبـلاً مـن مـيـاهٍ

لـيس فـي " أوروكَ " مـا يُـنـبـئُ عـن وعـدٍ بـغـيـثٍ

وفـلَـقْ

*

غـادرَ الـيـنـبـوعُ بـسـتـانـي

فـنـخـلـي دون تـمـرٍ ..

وزهـوري لا عَـبَـقْ

*

حَـرِّريـنـي مـن وقـارِ الـشـيـخِ

يُـخـفـي شَـبَـقَ الـجـذرِ الـى الـطـيـنِ

وشـوقَ الـعـاشـقِ الأعـمـى

لـكـأسٍ مـن ألـقْ

*

لأرى

غـيـرَ الـذي أبـصَـرتِـنـي فـي الـرحـلـةِ الأولـى

الـى حـيـثُ الـنـدى

يـنـضـحُ مـن أفـوافِ زهـرِ الـلـوزِ ..

والأشـواكُ تـغـدو

وردَ رُمّـانٍ وآسٍ وحَـبَـقْ(*)

*

فاسـجـري لـلـحَـطَـبِ الـتـنُّـورَ

مُـدِّي لـيْ بـسـاطـًا سـومـريّـا

وأعِـيـديـنـي الـى الـطـفـلِ / الـفـتـى / الـصَـبِّ

الـذي

فـي روحِـهِ الـلـهُ

وفـي مُـقـلـتِـهِ أوثـانُ طـيـشٍ

ونـزقْ

*

حـيـثُ لا " كـلـكـامشُ " الـجـبّـارُ

يـفـتـضُّ الـعـذارى  ..

وولاةُ " الـمـعـبـدِ الأخـضـرِ " مـن طـيـنٍ كـبـاقـي

أهـلِ " أوروكَ "

ولا مـن سـارقٍ فـيـهـم

وربٍّ مُـخـتَـلـقْ

*

فـأسـجـري لـلـحَـطَـبِ الـتـنـورَ

مُـدّي لـيْ بـسـاطـًا سـومـريًّـا

آذِنـتْ مـئـذنـةُ الـعِـشـقِ بِـشِـربِ الـلـثـمِ

مـن بـعـدِ صِـيـامٍ

فـاسـقِـنـي كـأسَ زفـيـرٍ ورغـيـفًـا مـن شَـبَـقْ

*

وأنـا أسـقـيـكِ زِقًّـا مـن قـصـيـدٍ

وسـريـرًا مـن ضـلـوعـي

ونـعـاسًـا لـلـحَـدَقْ

*

أيـقـظـيـنـي مـن سُـبـاتـي

لأُنـيـمَ الـشـفَـقَ الـنـعـسـانَ فـي حـضـن الـغَـسِـقْ

*

أطـبَـقَـتْ أجـفـانـهـا الـشـمـسُ

سـوى

بـعـضِ رذاذٍ مـن أبـاريـقِ الـشـفـقْ

*

تَـعِـبَ " الـحـلاّجُ " مـن تـطـوافِـهِ فـي مُـدُنِ الـثـلـجِ

كـفـيـفَ الـخـطـوِ

فـاشـتـاقَ الـى مـوقِـدِ جـمـرٍ

فـاسـجـري تـنُّـورَكِ الـطـيـنـيَّ

مـا نـفـعـي بـأحـطـابـي إذا لا تُـحـتَـرَقْ

*

كَـذِبَ الـعـرّافُ

مـا زال ضُـحـى " أوروكَ " مُدجىً

والـفـراتـانِ دمـوعـًـا

وعَـلـقْ

*

فـلـنَـعُـدْ لـلـغـابـةِ الأولـى

فـلا " شـامـاتُ  "  تُـغـويـنـي إذا تـعـرى

وتُـنـسـيـنـي صـلاةَ الـعـشـبِ للـيـنـبـوعِ  ..

لا حـانـة " سـيـدوري " تُـسـاقـيـنـي كـؤوسَ الـوهـمِ

نـحـيـا مـن جـديـدٍ مـثـلَ أفـراخٍ

إذا نـظـمـأ فـالـلـثـمُ

وإنْ  جـعـنـا فـزقّْ

*

آنَ لـيْ أنْ أبـدأ الإبـحـارَ مـن أمـسـي

الـى يـومـكِ

أنْ أخـلـعَ فـي واديـكِ أحـزانـي

وأن أنـزع من رأسي مـسـامـيـرَ الـقـلـقْ

*

أغـرقـيـنـي

لـسـتُ بـحّـارًا جـديـرًا

بـشـراعِ الـسـنـدبـادِ الـسـومـريِّ الـعـشـقِ

إنْ أخشـى الـغَـرَقْ

***

يحيى السماوي – السماوة

28/12/2023

.......................

(*) الحبق: نبات زهري له رائحة ذكية جدا، ويتصف بجمال أزهاره .

 

المخاض يعصرُ رحم الوقتِ

المساءاتُ تُهييءُ نفسَها

لاستقبالِ موتٍ جديدٍ

الزّغاريدُ تنحّت

قرب حقلٍ مضمخٍ بنيرانِ الوعيدِ

ها هي القابلةُ تُعلنُ

انبثاقَ الزّهرِ من أرضِ الخريفِ

حملتِ الدّمعةُ الوليدَ بكفّي هباءٍ

تلقفتُه الطّيورُ الجوارحُ

لتردّدَ في أذنيه ألفاظ َالإعصارِ

كيما يرتعبَ كلما استبدتْ به الرّيحُ

*

من شروطِ البقاءِ

أن تُعلنَ انسحابَك لحظةَ الانبعاث

تتنازلَ عن لبنِكَ

لأن الثّدي الّذي ستنهلُ منه

ملكُ سدنةِ النّارِ

عليك أن تكون بريًّا

حين يُمعنُ القهرُ في تجفيفِ بحيراتِك

استحلابِ جسدِك

أن تكون بحريًّا

كلما زحفَ القيظُ على بقايا جذورِك

وأن تكونَ رخوًا قابلاً للتعليبِ

ليتمَّ إعادةُ إنتاجِك

هَمّا يُصدّرُ إلى حدودِ الخذلانِ

عليكَ أن تحافظَ على الهدوءِ

وألّا تعلنَ العصيانَ

أن تمتهنَ الصّمتَ

ترشّه في كلِّ النّواحي

لتبعدَ عن المكانِ عفاريتَ اليقظة

*

من فرائضِ الاستمرارِ

أن تنكّسَ أمانيك

تنصبَ الحدادَ على روحك

إلى أجلٍ غير مسمى

وعلى امتدادِ دورةِ الظّلام

تذبح حواسَك المشتعلةَ

كلما أمعنَ الحضورُ

في طرقِ أبوابِ جُمجمتِك

تعلمْ كيف تُخاتلُه

انتحلْ الغيبوبةَ...واركبْ الغيابَ

ففي ذلك عبرةٌ لمن يهوى الحياةَ

وفيه سرُّ البقاءِ

*

من سنن.........العيشِ

أن تتكيّفَ على التّنفسِ وسطَ الرّمادِ

تروّض أطرافك على الرّقصِ

داخل حمائمِ النّارِ

عليك أن تخيّطَ العتمةَ على مقاسِك

بل اجعلها أكبرَ حجمًا منك

لتمدَّ ساقيك كما تشاء

وتجوبَ أرجاءها...أنَّا تشاءُ

هكذا فقط ...تكسبُ الرّضا

وتنعمُ بكراماتِ الخفافيش

*

بيتُ النّار مفتوحٌ

على بابه نقشتِ الوصايا العشرُ

والأفقُ يرفعُ كفّيه

علّ النّورَ يطلعُ

من نجمةٍ .... لا تنجلي !

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

نظراتي مجنونةٌ

استطالتْ

واستوطنتكِ

كي تُعيدَ ... سردَ الحكاياتِ

حكايةَ وجودكِ

على نافذةِ عمري

مكلَّلَةً بالياسمينِ

حكايةَ .. انبعاثكِ

في حضنِ أيَّامي

أراجيحَ ساهرةً

في أركانِ القلبِ

تعبثينَ بأزقَّتهِ

كطفلةِ اليقينِ

حكايةَ ... ألفِ قصيدةٍ

تتماوجَ في ذاكرتي

تكتبُني

بحبرٍ سرّيٍّ

يكتبُ ولا يلفظُ

ضجيجاً

و

أهازيجَ

تجمعُ أحاديثَ المحبَّةِ

وتنثرها

على جباهِ

السَّاهرين ....

***

سلام البهية السماوي

من ديواني النثري (بقايا حلم)

 

ترنيمة حب وألم

عند بوابة العام الجديد

***

أنا ..

لا  أخشى حُروفي

أن تبين..

أو أن تَطُلَّ  من الجراح

على العيون

لكنّي أبْحَثُ عن ..

لُغَةِ

من دون أحْرُف علة

أو علامات السّكون

فحروف الكوْنِ

بل كل اللغاتِ عليلة

كل الحروف

حالها ..

أ

ل

م

وثمة ..

جرح دفين

فعرفتُ أن الصَمْتَ

امّا عن رِضا

أوْ عن حياءٍ

أو صمت خوف

حينها ..

مُذ كنت طفلا ،

قررت أن..

أجعل نبضي لغة

وارسم من معانيه

قصائد للصغار

ومن الضلوع

سيوف

يحملها الرجال

لكنّه الزمن الخؤون

سيدتي ..

حين بانَ الخزيُ ،

والخذلان من ..!

انني منك خجول

وأنا أشكو همومي

وأكتوي

ما بين نبضي ودموعي

فان قومي

صُمٌّ وبُكم

لغة الجراح

لا يفقهون

فاليكِ أشكو ياحبيبة

وأبُثُّ حُزْني

إخوة يوسف

لمْ يَتوبوا

بَلْ جهارا

أعلنوا عَنْ غَيّهم

واتخذوا الغدر سبيلا

واستطابوا الذل

والخِذلان

وعار المشأمة

وا أسفاه ..

كيف يعرف حبك

من لا قلب له...؟

ومن أضاعوا البوصلة

لا يهتدون

وكيف تُبْصرُ

هالة جُرحكِ

عمياء العيون ...؟!

فلنكن أو لا نكون

جُرحكِ

أكبر من آلامنا

فاسمحي لي سيدتي

أن أوقدَ أحلامي شعلة

بهمومي

وبحزني

وبآمالي في العام الجديد

فارسمي نبضات قلبي

على أوتارِ حُبكِ

أغنية

ودعينا ننشد

يا قدس يا حبيبتي

نحن اليك قادمون

يا قدس يا حبيبتي

نحن اليك قادمون

***

الدكتور ابراهيم الخزعلي

22/12/2017

أحبّ ابن خالي الاكبر، المغنّي اللبنانيّ العربي الاصيل طوني حنا حبًّا ملك عليه أيامه ولياليه، فراح يردّد اسمه على الطالع والنازل بمناسبة وغير مناسبة، مستمتعًا بنطق أحرفه، جائدًا على محدثه أيًا كان مِنَ الناس بحركات تذكّر به، وقد تجاوز حدوده هذه يوم شرع بتقليده له في بُسطاره اللافت للنظر ذي العنق الطويلة.. وفي ملابسه التي توحي بالفروسية العربية وما يرافقها من أنفة ورفعة شأن. وكنّا نحن أقاربه نتابع خطواته وهو يضرب بها الارض، متابعة المحبّ المعجب بهكذا حبّ يقطع الحدود الشائكة ويطير إلى حيث يأخذه قلبه وحنينه، غير عابئ بأي شيء سوى ذلك المغنّي وما يجود به من حركات تهزّ قلبه وكلمات تهزّ كلّ كيانه معًا.

عندما وقعت أحداث هذه القصة المؤسية، كان ابن خالي في حوالي الخامسة عشرة من عمره، وكانت أمه مبهورة به وبِحبّه العظيم لرجل يفيضُ رجولةً هو المطرب صاحب الراس المرفوعة طوني حنا بفخر واعتزاز.. وهو ما كان يمكن أن يشحن ابن خالي بالمزيد من المحبّة لرجل فنان رأى فيه العالم.

سألت ابن خالي ذات لقاء لنا: ما الذي يجذبك إلى طوني حنا؟ فردّ بكلام كثير الخصه بعدد قليل من الكلمات، مفادها أن طوني حنا في نظره عربي أصيل، ويوحي دون أي افتعال أو تمثيل بشخصية العربي الجميل الذي يمكننا أن نباهي به العالم.

ابتسمت لابن خالي ومضيت وأنا أكبرُ فيه هذا الحبّ وأشعر أنه إنما نضج وكبر في وقته المناسب.. ومما أتذكره عن ابن خالي هذا أنه كان يطلق صوته بطريقة تذكّر بفنانه المحبوب، ففي الحمّام كان يصدح بأغانيه.. وفي الشارع يفعل ذلك.. بل إنه كان كثيرًا ما يظهر وكأنه ملك العالم.. وهو يعتلي درّاجته الهوائية وينطلق بها صادحًا: " يا با يا با له يا با يا با له.. من شردلي الغزالة". سألته ذات يوم مداعبًا: لو أمكنك أن تسافر إلى أي مكان.. في الدنيا.. إلى أين تكون وجهتك، فنظر نحوي بنصف عين، وردّ قائلًا: وهل أذهب إلى مكان آخر.. غير مكانه؟، عندها حاولت أن أعاييه قلت له مَن تقصد فردّ بتصميم ومَن غير طوني حنا. لقد كنت بدوري أجد متعة في متابعة ابن خالي هذا، لا سيّما وهو يمشور ممتطيًا دراجته تلك ومنطلقًا بها مغنيًا مرددًا.. ما ردّده عشرات ومئات و.. ربّما آلاف المرات لغزالته العربيّة المشرّدة الرائعة.

في أحد الايام وأنا أتابعه متابعة المُحبّ المعجب بحلم يكبر أمامه يومًا بعد يوم وساعةً في أعقاب ساعة، حدث ما لم أكن أتوقّعه، ويبدو أن أغنية الغزالة الهت ابن خالي عن نفسه.. فاصطدم بدرّاجته.. بسيارة خصوصية.. وعندما ركضت باتجاهه لأرفعه عن الارض، طلب منّي ألا أنفعل كثيرًا.. مضيفًا أن خيرًا حصل.. وعندما اقترب منّا مَن اصطدم به، خائفًا وجلًا طمأنه بإشارة من يده قائلًا له لا تخف.. أنا بحالة سليمة ولم أصب بأي أذى. بإمكانك أن تواصل طريقك. طار السائق الفرح من أمامنا وهو يشكره ويشكرني، ونظرنا إليه ابن خالي وأنا بأمل وحلم، فيما انطلق ابن خالي يغنّي لغزالة طوني حنا التي تشبه غزالته بصورة جنونية.

افترقنا، ابن خالي وأنا، يومها على أمل اللقاء في اليوم التالي، إلا أنه لم يأت، إلى الشارع حيث كنّا نلتقي.. هو على دراجته وصوته وأنا على أملي وحبّي له.. عندها توجّهت إليه في بيته وكنت كلّما اقتربت خطوة من بيت خالي أستمع إلى صوت ابنه حبيبي الغالي ينبعث مردّدًا أغنية الغزالة مِن الشبابيك.. الارض والسماء، فيرتاح قلبي وتدخل الطمأنينة إليه، وليتني ما فعلت.

أقول هذا لأن الايام قالت ما لم تقله الاغنية وعاكسته معاكسة الواقع المُرّ للحلم الجميل، فقد اكتشفنا في الايام التالية أن ابن خالي أخذ يضعف ويهزل جسده، الامر الذي نبّه والديه إلى أنه قد يكون وراء الاكمة ما وراءها، فراحوا يحقّقون ويستطلعون، وكان أن سألوه أمامي عمّا إذا كان قد وقع حادث له أو ما شابه، فأنكر قائلًا إنه لا يشعر بأي شيء.. وإنه لم يقع له أي حادث غير طبيعي. عندها سألته أمام والديه عمّا جرى له بعد اصطدام دراجته بتلك السيارة، فوجدته ينكسر ليعلن أمامنا جميعًا، والديه وأنا، أن تلك الحادثة لم تنته على سلام وأنها خلّفت بين فخذيه كتلة أخذت تكبر يومًا بعد يوم.. عندها هتف به والداه بصوت كاد أن يكون واحدًا: لماذا لم تخبرنا منذ البداية، فأغمض عينيه وهمت الدموع من عينيه.. وهو يهزّ رأسه بأنفة وكبرياء على طريقة محبوبه الفنان العربي المعتزّ بعروبته.

ما إن انتهى ذلك المشهد المُرعب، حتى سارعنا جميعًا لاصطحابه إلى أقرب مستشفى في البلدة، وجاءت الفحوص التي أجراها الطاقم المختصّ صاعقة.. إن مريضكم مصاب بالداء العضال، وليس لدينا أن نقدّم له أي علاج، لو جاء في بداية المرض لقدّمنا له العلاج اللازم. والآن يا دكتور ماذا علينا أن نفعل؟ عليكم أن تأخذوه إلى مستشفى العاصمة.. لعلّهم يقدّمون له العلاج هناك، وينقذون به حياته.

توجّهنا جميعنا إلى بوّابة المستشفى، وطرنا به وسط دموعها وبكائها، إلى العاصمة، هناك أجرى الاطباء المختصون لمريضنا، الفحوص اللازمة ولم يجودوا علينا بأية إضافة إلى ما قاله الاطباء في مستشفى بلدتنا. والآن يا أهل الدوا والطب ماذا بإمكاننا أن نفعل؟ أرسل ألينا الاطباء نظرات مرفقة بدموع حائرة، لم يتبقّ أمامكم سوى أمر واحد هو أن تنقلوه إلى مستشفى الامراض النهائية، "خلص انتهى"، هتفنا بصوت واحد، فردّ الاطباء قائلين خذوه إلى هناك.. مَن يعلم قد تحدث المعجزة وقد يقوم مِن مرضه كما قام العازر من رقدته الابدية.

بعدها.. نقلنا حبيبنا المكلوم إلى مستشفى الامراض النهائية، ورحنا نتردّد عليه يومًا إثر يوم في محاولة منّا لبعث الامل في قلبه وعقله، وكنّا كلّما اقتربنا من غُرفته نستمع إلى صوته يصدح بأغنية الغزالة، فتطمئن قلوبنا وترتاح أساريرنا، إلى أن جاء يوم مقطّب الوجه مكفهّره.. قمت خلاله بزيارته ولمّا اقتربت مِن غرفته في ذلك المستشفى، كان صوته يبدو منهكًا متعبًا، وعندما دخلت غرفته تلك، أرسل نحوي نظرةً آملةً وهو يقول لي أريد أن اودعك وصيتي هل تتحمّلها وتنفذها؟ هززت رأسي موافقًا وعندما لمح دمعةً في عيني، قال لي غير مُلتفت إليها، أشعر أن أيامي في هذه الحياة باتت محدودة.. أريد أن تفعل ما لم يمكنني أن أفعله. أريدك عندما تفتح الحدود بين بلادنا وبين لبنان، أن تذهب إلى طوني حنّا وأن تبلغه محبتي وإعجابي.. وشدّ على يدي وهو يقول لي: قُل له إنني أحببته بجنون.. وأرخى رأسه باتجاه لبنان..

***

قصة: ناجي ظاهر

.............

* من مجموعتي القصصية الجديدة " عمود البيت".

 

إلى أطفال غزة في ظلمة البئر والخذلان

سقطت للندى أغنيات،

واسترعت يدا طفل كتوم،

يقضي شتاءه الحزين تحت الأنقاض ..

لهرِير الليل ما تناثر من وجع الخوف،

ثم يبلى قلب العالم،

من قسوتها، التي تَهَتَّرَت في جهلها الرخيص ..

2

طفل بقصيدة مهترئة،

وقميص مشطور برغاء المتحوقلين ،

وأنين اليتامى ..

يتوضأ بفرو قَطِيطَته،

وينام على غبار الفجيعة؟

3

مثل عينين مقفلتين،

تسترقان نشيد الهروب،

حدو الفناء المتداعي،

أو فجوة صخر في هباء الجنون..

جسدان، بينهما يد تتعافى، وروح تسترق النظر في رحيل غامض ..

4

هذا السقف الوطيء ..

هذا الترب المذلَّلُ بالحصى،

هذا التَنّور الملتهب في جوف الفظاعة..

هذا الحشا الطاوي المضمر في عتمة الجحود..

هذا القتل الرجيم، الذي يسحل الرحمة إلى مآويها القاتمة ..

هذا الوحش المتغطرس في ثوب الصهيونية،

هذا السقوط المدوي الهتاك ..

من يكسر الطوق،

ويحضنها، شرف الأمة المغدور؟

يا أيها العدم الذي لا يغضب، ولا يثور للكرامة؟

5

قل شيئا، ولا تصمت..

انج بشيء لك عند الهرج الموتور

في غزة التي لا تصرخ فوق ما يرى جرحها الأثيم ..

فاخر بقسوة الكراسي المظلمة،

وبالأصفار المحزومة على آبار النفط،

وبالشهود الزور المتعانقين تحت ألوية القصف ..

وامض إلى حيث تكون المدامع والخطايا ..

ولا تعد ثانية إلى أحجيات الغابرين ..

فالجمجمة العربية، تستغلق المعادلة

وتغرق في وحل السُّخَام ..

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

في الأيام الباردة

ذات الغيوم الرمادية

كل شيء يبدو متجمداً

الهواءُ.. وشجرة الكستناء قبالة نافذتي

لكن السنجاب الذي يتسلقها يحرك المشهد

يُحركني..

سأعِدُّ قهوتي لهذا اليوم ولهذه الغيوم

لهذا الجنون المتصلب على الطرقات وسكك الحديد

للأسمنت والفولاذ والأرصفة

للذين يمشون ويحدثون أنفسهم

سأغني أيضاً كلمات دافئة للسنجاب وشجرة الكستناء

للطرق الصامتة ولمن يكلمون أنفسهم

للغراب الذي يقف أحياناً على شرفتي

ولي

***

فارس مطر / برلين

26.12.2023

أشياء قد لا تعرفها عن الحرية في الوطن العربي

ما تبقى من اشلاء عالقة

باضراس تمساح ضاحك

2

طبق لحم مر المذاق

وزعيم لا يعرف تفكيك حروف اسمه

3

كثبان رملية متشردة

في المناف النائية

4

زعيم يحشر افاعي

في جيوب المستضعفين

5

قصائد تافهة في تمجيد الطغاة

وتبجيل الجناة

6

قبور غير منسقة لأحياء

يحيكون بأيديهم ما تبقى من أكفانهم

7

علكة سرعان ما يتم

رميها بعد المضغ

8

رضيع حديث الولادة

متخلي عنه

9

منديل مرمي في حاوية

مع بقايا حفاضات لحديثي الولادة

10

عناكب غير مكتملة النمو

اهملها الدهر في الغابات الاستوائية

11

ترقص عارية في المحافل الدولية

وتندب حظها  الميؤوس منه

12

جسر معلق فوق مثلث برمودا لا يعبره الا المكفوفين

والمصابين بفوبيا المرتفعات

13

جنين مشوه

من جراء مخاض عسير

14

زعماء دوما يتسببون في وفاة الحرية

كلما خضعت لعملية قيصرية

15

دمية في مسرح العرائس

يحركها زعيم من غرفة التخدير

16

حمامة في قفص حديدي

معلق في زنزانة الحاكم بأمره

***

بن يونس ماجن

 

أحبك ِ لأنَّك ِ حياتي

وأنكِ بداية التِفاتي

وأنك ِ في المُنتهى بحُبٍّ

ستدفني في قلبكِ وفاتي!

2

حبيبتي تبكي على فراقي

وتسهرالليالي باحــــتراق ِ

وتحبسُ الأيام في أنفاسِها

كي لاتطول ُ دونــــما تلاقي

وفجأة ً تَحُوسُ في دمائي

إلى العِناق ِلوعــة اشـتـياق ِ

لأنها عَـبْرَ الـفؤادِ أرســـلتْ

بذبذبات ِ إلْفِهَــا وثـــــاقي !

3

حبيبتي دقت طبول حُبي

فاستنفري..ولتسعدي بقُربي

تَحققتْ أحلامنا وآن أنْ

تعيشي في سعادةٍ بــقلبي !

4

لا تستخفي حبيبتي بمشاعري

وتُلَمِّحي للأخرياتِ بضـــائري

فالأخريات بغيــــرةٍ مسمومةٍ

يَفْعَلْنَ مالايستطعن بخنجر ِ !

5

...ولأنكِ الأولى على الوردةْ

حُزْنا العُلا ومكارم الوحدةْ

فأنا بحبك ِ حــــامل (الإيزو)

وبِحُبِّي نِلتي شهادة الجودةْ !

6

ودارتْ البشـــائرْ

بأصدق المشاعرْ

تَبُثّنا انتصـــــاراً

مُحَققاً مُغــــايرْ

على عَدَوْ هـَــوانا

والأهل والعشــائرْ

وخابَ كل خـــائنٍ

للدينِ والضمـــــائرْ

وللبلادِ كلهـــــــــــا

من غــــابرٍ وحـاضِرْ !

7

لأنك ِشبيهة المعـــــــــــــــــــابدْ

وَجَّهْتُ شعري نحوكِ كعــــــــابدْ

كعاشـِــــــقٍ بثوبِ نَــــثْرٍ قـد أتى

يؤدي ماافترضتي من قصـــــائدْ

وماعليه ِمن طقوس ِنَشْر ِهــــــــا

بالفـيسِ..والستالايت ِ.. والجرائدْ

وبعدها تَتِمُّ ياحبيبتـــــــــــــــــي

طقوسنا.. وتبدأ الفـَــــــــــــرائدْ !

محمد ثابت السميعي - اليمن

٢٠١٨م

فراش مهلهل

تغادره على مضض

عينان

تبحث عن قوتها في صندوق القمامة

*

صقيع رصيف

فراش وثير

لمشردٍّ

هزمته حرب نهمة

*

عند سفح جبل

تجمّد الجنود

خوفا من العدو

وهم يحلمون بجذوة من نار

*

ثلج ثلج ثلج*

تشدو

فتجتاح بدفئ صوتها

سيول

وليجرف الحنين

قلوبا

تتدفأ بثلج صوتها

*

وحشة

تلّف أرجاء بيتها العتيق

إلا من صرير باب

تصفقه رياح

لشتاء موحش

*

ليله طويل

شتاء يتعامل بصلف

ليعبث

بخيوط ذاكرتها العنكبوتية

***

ابتسام الحاج زكي/ بغداد

..............................

* اغنية لفيروز

 

كنتُ على وشك أنْ أبلغ سنَّ السَّابعة حينذاك، وكما هو شعور كل أقراني، كان عالم طفولتي يتمحورُ في الحصولِ على المزيّد من ساعات اللَّهو والمرحِ مع رفاقي وقضاء أجمل الأوقاتِ في لَعب الكُرةِ أو تبادل الأحاديث المُمتعة مع بقية الأطفال في الحي.

ورغم أنَّ الأحوال المعيشة لم تكن في مُستوىً عالٍ، وذلك لأسبابٍ مختلفةٍ ومتنوعةٍ من بينها كثرةَ عدد الأبناء والبنات في الأُسرةِ الواحدةِ وقِلّةَ وجودِ الأعمالِ والوظائف الشَّاغرة وصعوبةَ إيجادِها، وفوق هذا وذاك كان المستوى الماديّ للأُسر بشكلٍ عامٍ يتراوح بين المتوسط ثم الأدنى فالأدنى وهكذا، حيث كان من النَّادر وجود تلك العائلات الغنية من الطبقة الباذخة الثراء، فإن وجدت في تلك الفترةِ فإنها كانت تصبحُ مضربَ مثلٍ، ويُشار لهم خلال الأحاديث بالاسم وذلك نظراً لنِدرة وجودهم آنذاك.

وعلى ذلك ما كان مصروف الجيب -هذا إن وجد أصلاً-  يعدو أن يكونَ بضعةَ قروشٍ معدوداتٍ قد لا تكفي لشراء أكثر من ثلاث أو أربع حباتٍ من تلك السكاكر الكرزية اللُّون والتي تذوب بنكهتها السَّاحرة في أفواهِنا بكلِّ لذةٍ وهناءٍ، والتي كُنَّا نشتريها من دُّكان "العم كبرو" أو دُّكان "الخالة خزمة"، وربما إن أردنا أن تصبح لحظات التسُّوقِ أطولَ وأكثرَ إمتاعاً نسير حينها بصُحبةِ أحدَّ رفاقِنا إلى الدكاكين الأبعد نسبياً والمطلَّةِ على شارع الوحدة الكبير ونقرِّر حيّنها التسوّق بكامل القروش الخمسة، إما من دُّكانِ "ألياس" أو من عند العم كيراكوس والذي كنا نسميه "چوچكيه" أو من عند  طيِّب الذِّكر "دالّوكيه"، أو ربما من دكان صوغومون، الأبعد قليلاً لنستمتع بما اشتريناه من حَلوىً لفترةٍ أطول نسبياً.

وأمَّا فيما يخصُّ وسائل لِعبِنا ومتعتِنا فهي تكاد تكون شبه مجانيّةٍ، فكُراتُ لِعبِنا بسيطةٌ وأدواتُ لَهوِنا لا تخرج عن كونِها بِضعةُ أحجارٍ أو أخشابٍ، نُحوِّلُها إلى ألعابٍ نقضي بها سويعاتَ لَهوِنا ومرحِنا، بلا أيِّ محاولةِ احتجاجٍ على والدينا ومن غير أن نُرهقَهم بمطالباتٍ لأمورٍ نعلمُ رغم صِّغَرِنا استحالة تحقيقها وتوفيرها نظراً لضيّقِ الحال، ولتركيز ربِّ الأُسرة على توفيرِ الطَّعام والشراب لجيشٍ من الأبناء والبنات، فنحن ندرك أنَّ والدَنا يسافرُ إلى مناطقَ بعيدةٍ، ويبقى هناك لشهورٍ عديدةٍ بغيةَ توفير نفقات معيشَتِنا، وبالتالي فمن الواجب عدم المطالبة بأمرِ ما يمكن تسميته بالكماليات وتأجيل ذلك إلى المستقبل الَّذي ربما قد يتحقَّق أو لا يتحقَّق.

ورغم كلّ هذا فإن جينات الطُّفولة لا يمكن أن تغادرَ جسدَ طفولتِنا الغضةِ أو تتركَ أفكارنا البسيطة بشكلٍ تامٍ، فرغم كل ما ذكرناه عن قلةِ حيلةِ أربابِ أُسرنِا في تأمين كامل لوازمنا الحياتيّة فنحنُ نبقى مجردَ أطفالٍ في حدود السَّابعة من أعمارنا تُفرحنا كرةُ قدمٍ جديدةٍ أو قطعةُ لباسٍ في يومِ عيدٍ أو مصروفُ جيبٍ محترمٍ يغطي احتياجاتِنا من أجل شراء الحلوى والبوظة وغير ذلك من مُتَعِ طفولتِنا البريئة والمفرحةِ.

في ذلك اليوم الصَّيفي الحارّ كان رفيق طفولتي جان قد جاء إلى مكان اللَّعب وفي يده قطعةً ضخمةً من البوظة، وعندما اقترب منِّي سألتُه على الفور: هل حصلتَ على مصروفٍ من والدك؟ ونظرا ًلانشغاله بالتهامِ البوظَة اللَّذيذةِ، اكتفى بِهزِّ رأسِه نافياً ذلك فعُدت لسؤالهِ: إذا أمُّك هي من أعطَتكَ نقوداً؟ عاد مُجدَّداً لهزِّ رأسِه بالنَّفي، وفيما كان ذهني منشغلاً بالبحث عن تلك الخيارات التي يمكن أن يكون قد حصل منها رفيقي جان على ثمنِ شراء تلك البوظةِ، وجد رفيقي نفسَه مُرغماً على التوقّفِ عن مُتابعةِ التهام بوظَتِه وتوضيح الأمر لي بدلاً من استمراري بمسلسل تساؤلاتي لهُ، والتي على ما يبدو ما كانت ستعرفُ نهايةً، لأنَّ مصدر حصولهِ على ثمن تلك المرطَّبات ما كان بحالٍ من الأحوال سيخطرُ على بالي أو "سيعنُّ على خاطري " من خلالِ تلك الأسئلة المُلِّحة الَّتي كنتُ أوجِّهُها لهُ تِباعاً سؤالاً إثر آخر.

أبعد البوظةَ عن فمهِ المُلَّطخِ بألوان قوسِ قزحٍ الجميلةِ والَّتي تركت آثارَها عليه من ألوان البوظة الطيِّبَةِ المَذاق، وقال بشكلٍ شبه مَفهومٍ وهو يبتلع لُقمتَه الأخيّرة لقد بعتُ لذلك الرَّجل "شحاطَتين*" قديمتين، ورغم سماعي لما قالَه لكنَّ الأمرَ كان بحاجةٍ إلى المزيدِ من الشَّرح والإيضاح، ولذلك كان عليه أن ينهالَ مُجدداً على البوظة بلَحسةٍ كبيّرةٍ هذه المرَّة لتكفي مُؤقتاً للزمن الَّذي سيستغرقُه في إيضاح الأمر لي، قبل أن يعود لاستكمال التهامِ ما تبقَّى من البوظة، ثم قال لي: تعرف أنَّ هُناك رجلاً يجرُّ عربةً عليها "شحاطاتً" قديمةً ومستعملةً وأشياءَ أخرى، يشتريها ذلك الرَّجل ويُعطي ثمناً مقابل الحصول عليها، لا أعرف ماذا يفعل بهذه الأشياء البالية، ولكنَّه أعطاني البارحة عشرةَ قروشٍ مقابل شحاطتين قديمتين أعطيتهما له، واليوم اشتريت بثمنِهما هذه البوظة الكبيرة، أنهى جملَتَهُ الأخيرة على عجلٍ بغية العودة لالتهامِ ولحسِ ما تبقَّى من قطعة البوظة التي كانت في طريقِها للذوبان والسيلان فوق يدهِ بتأثيرِ حَرِّ شهر تمُّوز اللَّاهب.

أصغيتُ باهتمام ٍ لتوضيحاته لي وأعجبتني تجارتَه المُفيّدة والرَّائعة، كان قد أتى على كامل قطعة البوظة وبقيت أثارَها على يديه وفمه لكنَّ ذلك لم يمنعْنا من بدء ألعابِنا ولهوِنا ومرحِنا إلى أن بدأت شمسُ ذلك النهار تغادر حارتَنا بهدوءٍ وصار لِزاماً علينا أن ندخُلَ إلى البيوت لتجنُّبِ التأنيب من قبل الوالدة.

في اليوم الثَّاني لم تظهر عربة ذلك الرَّجل الَّذي اشترى من رفيقي جان تلك الشحاطتين القديمتين، ولكنني لم أكترث للأمر، وزاولنا ألعابنا بمرحٍ كالمعتاد وقضينا أجمل الأوقات قبل عودتنا للبيت.

بزغت شمسُ يومٍ صيفي جديدٍ، وبعد الإفطار كنت مع باقي الشِّلَّة من الرِّفاق نقذفُ كرتَنا بكل مرحٍ محاولين إحرازَ هدفٍ في المرمى الذي قدَرناه وسط الشارع بوضع حجرين في الوسط ليقوما بدور المرمى، وحينما كنت على وشك تسديّدِ الكُرة سمعتُ صوتاً عالياً ينادي: "يلي عندهُ شحاطات عتيقة للبيع، ويلي عنده نحاس للبيع، ويلي عنده بافون* للبيع".

كان الرَّجل يكرِّرُ هذه الجُمل كأنَّه قد قام بتسجيلِها على آلةِ  تسجيلٍ بشكلٍ رتيبٍ ومنتظمٍ من غير أن يُخطِئَ في ترتيب الجُمَلِ أو في مقدار زمنِ تكرارِها، وعندما كان على وشَك بدءِ ترديدِ المرَّة ِالثالثةِ لسيمفونيتِه الجميلةِ، كنت قد هرولت نحو البيت بكُلِّ سُرعةٍ، ومن أمام عتبة غرفة الجلوس تلقَّفتُ زوجين من "الشحاطات" العديّدة المتراكمةِ الموضوعةِ هناك عند المدخل وضعت الكنزَ تحت إبطي، وحانَت مني التفاتةً إلى المطبخِ ومن هناك خُيِّل إليَّ أنَّ مقلاةَ "البافون*" تبتسمُ لي وتغريني بحملِها فلم أُضِع الوقت، اتَّجهتُ إلى داخل المطبخ وألقيتُ القبضَ على المُقلاةِ وبسرعة البّرق انطلقت ثانيةً نحو الشَّارع مرةً أُخرى.

كان الرجل وعربته قد صارا في الطَّرف الآخر من الشَّارع، وكان على وشكِ بدء السُّوناتا الخامسة من عزفه المنفرد، فركضت باتجاهِه ووصلت إليه وأنا ألهثُ، اضطرَّ الرجلُ إلى إيقاف سيمفونيتِه الخالدة، نظر إلى ما كنتُ أحمله ثم أخذهم مني وبدأ يتفحصُّهم بعنايةٍ وهدوءٍ ودقةٍ، بدأ بالشحاطتين أولاً ثم هزَّ رأسَه برضىً ووضعهما في جهةٍ قريبةٍ فوق العربة ثم حمل مقلاة  "البافون*" وتَفحَّصَها أيضاً بعنايةٍ ثم هزَّ رأسَه كعلامةِ قبولٍ على شراء البضاعة، ثم وضع المقلاة على جانبٍ آخر من العربة، حيث كانت هناك عدَّة أوعيةٍ وصُحون "بافون*" قَذرةٍ متراكمةٍ فوق بعضها البعض، بقيت واقفاً هناك انتظر الخطوةَ الأكثرَ أهميةٍ بالنسبة لي ورغم تأخُّرِها لبعض الوقت وقد أحسَست أنها تُعادلُ دهراً من الزَّمان، لكنَّها أتت أخيراً حين مدَّ يدَهُ إلى جيبِ شِروالِه الواسع وأخرج حَفنة من النقود المعدنية وأخذ منها ثلاث قطعٍ من فئة الفرنك أو ما يعادل خمسة عشر قِرشاً بالتَّمام والكَمال.

ناولني النقود في يدي الممدودة نحوه، وأعاد بقية القروش إلى جيبِ شِروالِهِ ثانيةً بعد أن دفع لي المبلغ الذي قدَّره ثمناً للشحاطتين ولمقلاة "البافون*"، ثم عاد صَّوتُه يصدَحُ ثانيةً بأعذبِ الألحان: "يلي عنده شحاطات عتيقة للبيع، يلي عنده نحاس للبيع، يلي عنده "بافون*" للبيع".

كان صدى صَّوتِه يتلاشى شيئاً فشيئاً وأنا أسيرُ مقترِباً من دُكَّان العم" كبرو" حيث ناولتُه كلَّ ثَرّوتي البالغة ثلاث فرنكات ، وقلت له: أريد بوظةً وسكاكرَ حمراء، ناولني ما طلبتُ وأعطاني فوقها قطعةً من راحة الحلقوم لتكتمل قيمة القروش الخمسة عشرة، عُدت إلى البيت، وزحفت تحت أسفل ذلك السَّرير الخشبي الضَّخم المنصوب في أرض الدَّار، والمخصَّص من أجل النَّوم في الحوش أو على السَّطح هرباً من قيظ الصَّيف الحارّ، بدأت بالتهام البوظة التي كانت في طريقها للذَّوبان وأنا استمتع بكُلِّ لَحظةٍ من تلك اللَّحظات وأنا أعمل لساني وأسناني نهشاً وتمزيقاً في قطعة البوظة المسكينة، وعندما انتهيت منها تناهى إلى سمعي صَّوت أُميّ في الطَّرف الآخر وهي تقول: أين ذهبت فردة شحاطتي الأُخرى لا أعرف أين هي، عجباً لا يوجد سوى فردةٍ واحدةٍ، وبعد قليل كانت أُختي الصغيّرة بدوّرِها أيضاً تخاطب أُمي وتقول: ماما أنا أيضاً لا أجد سوى فردةٍ واحدةٍ من شحَّاطتي. ورغم ذلك تصوَّرتُ أنَّني مازلت بأمانٍ وذلك لسببٍ بسيطٍ وهو أنَّنا عندما كنَّا نقوم بارتكاب الحماقات كانت أُميّ تلجأُ إلى قذف بعض "الشَّحاطات" علينا من أجل معاقبتِنا، رغم أنَّها في الغالب كانت تتقصَّدُ ألا يصيبُنا شيئاً من شظايا "شحاطاتها"، ولهذا فهي من الممكن أن تفكِّر بأنَّ إحدى فردتي الشَّحاطة ربما مازالت وسط الحديقة في الحوش أو في مكانٍ ما، جراء قذيفةٍ من القذائف الطَّائشة "للشَّحاطات" المتهاطِلة عليّنا كالمطرِ في ساعات الذَّروة وسط أتون المعركة.

ولكنَّ الأُمورَ تفاقمت عندما كانت أُختي الكبرى قد دخلت إلى المطبخ وبعد ثوانٍ صرخت بدورها: ماما كيف سأقلي البيض وأنا لا أجد المقلاة، ردَّت أمي عليها من غرفة الجلوس: يا سبحان الله عليّكم، حتى لو الغرض أمام" بروص*"عينيكم لا تجدوه أنا قادمة.

كانت كل مشترياتي اللَّذيذة قد وجدت طريقها إلى مَعِدَتي، لذا تسلَّلتُ مجدَّداً من تحت السَّريرِ الضَّخم، وكانت في فمي قِطّعة السُّكر الكرزيِّة الأخيرة، توجَّهت إلى باب الدَّار لمتابعة الَّلعبِ مع رفاقي في الحيِّ بينما كانت أُمّي ما تزال تتناقشُ مع أُختي عن ضرورةِ البحثِ عن المِقّلاة بشكّلٍ جيدٍ قبل الإعلان عن فُقدانِها.

***

جورج مسعود عازار - ستوكهولم السويد

7-3-2022

.....................

الشَّحاطة: لِباسٌ بلاستيكي مريحٌ للقدم ويلبس في البيت.

بافون: ألمنيوم باللَّهجة العاميَّةِ.

بروص:  بؤبؤ العين باللَّهجة الأزخينية.

 

حلَّ غراب يقل مسودَّة الفراغ.. فوق نعش مكشوف للخذلان.. كنت أنحت عيون المدى بأصبع الشهادة.. مركونٌ بحسرتي..أمام بحْلقَةِ آلاف العيون.. لست فارسا متمرساً.. لكن وانا على ظهر حصانٍ من ورقٍ كنت أخشى السّقُوطَ في اليَّم ليس نكُوصاً من جريانِ الماء حولَ كفي.. بل عُدَّتي للهرب أشبهْ بغريقٍ.. كنتُ أخشَى الرِّيح أنْ تحملني لمغارةٍ يسكنها سجَّان، وأنا أحمل قلَقَ أمَّة فأجدعُ أنفهُ..وأجعله خَصِياً.. أحمل حمقَ أمَّة.. فأخلعُ عنه صوابَ الانسان وأقعدُه على الأربع ناتئ الظَّهر.. تقلدت مراسم الخديعة بالنكران كان الوهم يسبقني.. وحجتي داهية حين أخالني شجرة حلم.. واهيةْ حين أفزعُ من ظلي.. السِّر في يدي ماء.. السّرُ في يدي رمادٌ.. السِّرُ في يدي سرابٌ.. هكذا.. صنعت تمثالاً لا يعرف الكلام بذكرياتٍ منسيّة حفرتُ على وجهه ردحاً من الألم.. فصرنا نتعارف رغم فضاعة التجريد هو يعشق فيَّ صراخي وتمردي وانا أعشق فيه صمته الطويل.. رجاءاً..من يُصيًُّرني باكورة عشقٍ تلدُ ألف عامٍ.. خَطْفة برقٍ أضيء الأمد.. أنا الرائي الأخير لدُنيا العبثِ.. حفدة الشَّيطان في الربعِ الأخيرِ من النهارِ، ستلقي ناعورة الزمن في بئر الخرافة.. وسيطير هدهدٌ جديد من شرق البلاد لغربها ليخبر سليمان أنّ لا شيء في الوجود يتحمَّل الصَّمت.. تذكير..! أنا الرائي الأخير لدُنيا العبث خذوني في حضرة الأقنعة إلى متحف النّكبات واتركوا الجبل لنشر امواتكم أنا في نوبة رقصٍ روحانية.. اتركوني كما الجبل بقربي بن منصور الحلاَّجْ بحلَّة الرَّب.. بن رشد أبو الوليد.. وهو يضمد جراح التنكيل برماد كتبه.. صلادي عباس.. يطعمُ طيور جنَّته.. عبد الله راجع.. ضيفاً مقصيّاً من حفلة الشعراء.. ومحمود درويش.. يمسح آثار الدم على نظارته مهزلة الآخرة..!! تحت جلبابك سيد ألبرت إينشتاين فلا تعرضه للرّيحْ.. صلصالة أصلي تتهيأ لانفجار عظيم فقد ابعث من دمي شبحاً..! طائراً..حجراً..لغزاً آخر من السّماء.. ثقب الأزون منفذ للذكرى.. على مدى الأبد.. لا تصلح الدمعة لميلاد الأغنيات حزيران سليل النّكبات وأمُّ الهوى تخيطُ شبْشُباً من تبن.. يا ترى لمن..؟ الأقزام لا تنطُّ من شبكة الدعر.. لا مزاد بعد اليوم في أسواق الخديعة لا تصلح الأكتاف العريضة لبثر ساق شجرة تحترق.. أنا الرائي الأخير لزوبعة الجنون أجر مزهريتي في سطح اللامعنى.. صنعت من حبال الحزن سفينة للنّجاة لكنّي لم أصنع جزرا لمدي..ولا حداً لقبري.. فقادني ريح الجنوب إلى حضنِ العاصفة وقادني جنوني إلى بوابة العبث..

بطاقة هويتي: في مارستان الهذيان ورقم ترتيبها من صفر إلى ما لا نهاية.

***

عبد اللطيف رعري

 24/12/2024

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم