تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

عبد السلام فاروق: علم المصريات.. متى يصير مصرياً؟!

فى مقال سابق تحدثت عن مؤرخى مصر وقلت إن جهود المؤرخين فى مصر أكثرها جهود فردية، وأننا نفتقد للمنظومة أو الفلسفة العامة التى تجعلنا نستفيد من تاريخنا العريق خير استفادة..

هذا الأمر ينطبق أكثر ما ينطبق على علم المصريات.هذا العلم الذى بدأنا نلتفت إليه فقط فى أعقاب الاستعمار الفرنسي والاكتشافات الفرنسية والبريطانية لكنوز التاريخ المصرى القديم التى نهبوا زبدتها، وصنعوا بها أكبر متاحفهم. لكن حتى العلم ذاته بات حكراً على الفرنسيين والإنجليز، وغدت مصادرنا الرئيسية لعلوم الحضارة المصرية القديمة تُستقى من نبع الدراسات الغربية له! هذا الأمر يحدث رغم العدد الكبير لخريجى الآثار والباحثين الذين يتحولون فور تخرجهم إلى موظفين لا باحثين وعلماء..هناك مشكلة يجب الالتفات لها فى هذا الشأن.. هى أن علم المصريات كان وما زال علما غربيا بامتياز!

موسوعة واحدة فى قرنين من الزمان!

هناك عشرات الكتب والدراسات والأبحاث التى كُتبت وتكتب حول الحضارة المصرية القديمة، لكنها كلها تحصيل حاصل وصب من نبع راكد. أما الدراسات القائمة على علم موسوعى واطلاع على السابق واللاحق من الاكتشافات الميدانية، وإلمام بكل ما يخص هذا العلم الذى يتسع يوماً بعد يوم مع كل اكتشاف جديد، مثل هذا النوع من الدراسات غير موجود فى مصر بشكله المدروس المنظم القائم على فلسفة علمية ورؤية منهجية واضحة.. والدليل على هذا أن مكتبة المصريات لا نكاد نعرف منها إلا موسوعة سليم حسن التى هى بعض من كل، بينما تحتوى مكتبات الغرب على آلاف الموسوعات والدراسات والأبحاث فى هذا العلم المصري الخالص!

كيف يمكن لنا أن نتصور أن الجهد الأكاديمى والبحثى على مدار أكثر من مائتى عام منذ الاستعمار الفرنسي حتى اليوم لم يستطع أن يثرى المكتبة العالمية والمصرية إلا بموسوعة يتيمة، وعدة دراسات متفرقة لبضعة أسماء لم يشتهر منها إلا قليل. سليم حسن نفسه لم يكن إلا تلميذاً لعالم مصريات أعلى شأناً وأكثر علماً وأسبق جهداً نسيه المصريون رغم أنه رائد علم المصريات الأول أحمد  باشا كمال!

كم مصري مثقف، لا أقول جاهل، يعرف من هو أحمد باشا كمال رائد المصريات الأول فى مصر؟!

إنه رائد الدراسات الأثرية فى مصر فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والذى كان يجيد نحواً من سبع لغات حية وميتة، منها القبطية والحبشية وكان يجيد قراءة الهيروغليفية بشكل فورى..

إنه وباعتراف الجميع كان أول مؤرخ مصري عربي،تعود أصوله لجزيرة كريت، يكتب عن حضارة مصر القديمة، وعلى يديه تربي جيل كامل من الباحثين فى هذا العلم كان من بينهم سليم حسن صاحب الموسوعة الشهيرة. واهتم كمال بتوثيق الاكتشافات الجديدة أولاً بأول مع ما شارك فيه من عمليات البحث والتنقيب، وجمع دراساته الميدانية والبحثية فى عدة كتب قيمة هى من أهم وأقدم ما كُتب من أبحاث فى هذا المجال.

الغريب أنه لم يحظى فى البداية بفرصة العمل الرسمى كباحث فى علوم الآثار؛ إذ أن الإنجليز وقتذاك كانوا يحتكرون مصلحة الآثار ولقد منعوه من الالتحاق بها، فعمل فور تخرجه كمعلم للغة الألمانية التى كانت واحدة من عدة لغات يجيدها كالفرنسية والإنجليزية والتركية. وقد تحين الفرصة لوضع نفسه فى وظيفة مرتبطة بالآثار حتى أفلح فى تقلد منصب أمين مساعد بالمتحف المصرى وكان أول مصرى يحصل على هذا المنصب، ومن خلال تلك الوظيفة مارس هوايته المحبوبة المتعلقة بالآثار تنقيباً ووصفاً وبحثاً وتأليفا..

كتب العديد من الكتب أذكر منها كتاب (الحضارة المصرية فى مصر والشرق)، و(بغية الطالبين فى علم وعوائد وصنائع وأحوال قدماء المصريين) وغيرها من الكتب والمؤلفات.. إلا أن أشهر وأجل أعماله قاطبةً: (معجم اللغة المصرية القديمة) الذى كتبه فى 22 مجلداً ليجمع به مفردات اللغة المصرية وما يقابلها بالعربية والفرنسية والقبطية والعبرية. وقد أعيدت طباعة المعجم فى 23 مخطوطة تحت إشراف عالم الآثار الدكتور ممدوح الدماطي  وزير الآثار الأسبق عام 2002.

شاهد من أهلها!

قد يعترض أحد على ادعائى بأن علم المصريات ليس مصرياً صرفاً،لا الآن ولا فيما سبق. لهذا سوف أستعين بشهادة أحد الباحثين المرموقين فى مجال التاريخ المصري، وهو الدكتور لؤى محمود سعيد المشرف على مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية وهو يتحدث عن أحمد باشا كمال كنموذج للريادة والتفرد فى مجال دراسة الآثار ..

يقول الدكتور لؤى إن أحمد باشا كمال حالة استثنائية فى تاريخ العمل الثقافى الوطنى فى مصر وليس فى العمل الأثري فقط، وأن تأثيره فى هذا العلم نبع من دوافعه الوطنية والإنسانية السامية، وأن هذه الدوافع لا نجد مثلها لدى دارسي هذا العلم اليوم.. نحن لا نتحدث هنا عن تهريب أو تخريب الآثار، بل عن عدم الاكتراث بعلوم الآثار والمصريات وكيف أن مثل هذا الإهمال ذا أثر سلبي عميق على الاقتصاد المصري ذاته لأنه يؤثر بشكل غير مباشر على حركة السياحة فى مصر، لأنه حتى المختصين بهذا المجال لا يفكرون إلا بما يعود به عليهم من نفع مادى..

يعود الدكتور لؤى ليستطرد ناقداً تلك الحالة من اللامبالاة وضياع المغزى والهدف، فيؤكد أن علم المصريات بالنسبة للباحثين المصرين هو اقتفاء أثر العلماء الأجانب، وهذا ما رفضه أحمد باشا كمال بأن يكون نسخة من علماء الغرب مع الاعتراف بفضلهم في هذا العلم، حيث كان يسعى إلى تمصير علم المصريات وهو ما لم ننجح فيه حتى الآن،ولم تتحرر مصر بعد من المدارس الأجنبية في هذا العلم.

وأشار سعيد إلى أن المصريين يدرسون تراث مصر وحضارتها لهدف أساسي ووحيد وهو تقديمها في معلومات للمرشدين والسياح الأجانب ولم يستخدموه في الحفاظ على الهوية المصرية، إذ لا تزال دراسة علم المصريات خاصة بالغرب والمصريين ضيوف عليه حتى الآن.. وأكد إن أحمد باشا كمال كان يمتلك رؤية وطنية، ما دفعه للقيام بجهد شخصي منفرد لإبعاد المواقع الأثرية عن أعين اللصوص المصريين والأجانب من خلال ضمها لمصلحة الآثار لحماية تاريخ مصر خاصة أن القرن التاسع عشر شهد أكثر وأوسع عمليات السرقة،وكان كل القناصل الأجانب لصوص آثار!

لقد شدد الدكتور لؤى سعيد إن تمصير علم المصريات لابد أن يكون ولو جزئياً معتمدًا على الثقافة المصرية المعاصرة التي تُعد امتداداً للحضارة القديمة، وأن يكون لنا دوافع واضحة وأهداف سامية تجاهها من أجل تأصيل المنهج الذى من خلاله نستطيع الجمع بين الحضارة المصرية والثقافات المختلفة حولناا.

جهلاء فى عصر المعلومات

كثير من المصريين يجهلون كل شئ عن أقرب المتاحف والمعابد الفرعونية لهم، ولم يفكروا فى زيارتها إلا قليلاً، فضلاً عن أن يعرفوا طرفاً مما حوته من تاريخهم القديم العريق.. لكن حتى على مستوى المثقفين والنخب، هناك درجة أخرى من الجهل بالتفاصيل وعدم الرغبة فى التعمق والاهتمام بجوهر الأشياء.

ماذا لو أننا كنا المحتكرين الأوائل لعلم المصريات؟ ماذا لو أن هذا الاهتمام بات مشاعاً بين المصريين؟ ألن يكونوا هم أول الدعاة لتنشييط السياحة داخل مصر وخارجها.. إننى على يقين لو دار حوار بين مصري يعيش فى الخارج وبين أحد السياح الأجانب أن المصري هو صاحب المعلومات الأقل حول تاريخه القديم وآثاره المنتشرة هنا وهناك يؤمها الناس من أقطاب الأرض، وتجاهلناها نحن!

لو أننا قارنا بين مدى الاهتمام الذى تحظى به آثارنا فى متاحف أوروبا والعالم، لأدركنا حجم الإهمال والإغفال لما نملكه من كنوز، وأول الطرق لحسن استغلالها معرفتها وفهمها وإدراك كل صغيرة وكبيرة تخصها. ولا يمكن أن يتحقق هذا الهدف بجهد فردى لباحث أو عالم أو عدد من الباحثين، بل بجهد عام شامل لكل المصريين سواء كانوا باحثين أكاديميين أو عاملين بمجال الآثار أو مهتمين أو هواة..الجميع عليه أن يسهم بدور فى تحويل علم المصريات إلى باب يوصلنا إلى أن نصبح القبلة السياحية الأولى عالمياً كما ينبغى أن نكون.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم