قضايا

علاء البغداديّ: لماذا عليّ الورديّ؟

قد تبدو للوهلة الأولى بأنّ الضّرورة مُنتفيّة لإعادة قراءة مشروع الدّكتور عليّ الورديّ (1913/1995م)، وإنّ محاولة العودة إلى التّفاعل مع منجزه الكبير ما هي إلاّ محاولة الولوج في اللا جدوى، لأنّ المجتمع العراقيّ يُعَدُّ من أكثر المجتمعات عُرضَةً للتّقلُّب والتّحوّل الاجتماعيّ والسياسيّ على امتداد تاريخه، وبالتّالي ما جدوى أن يبقى الاهتمام قائماً بمفكرٍ عراقيّ قدّم نتاجه عن طبيعة المجتمع ومكوّناته الثّقافيّة قبل ستين عاماً تقريباً؟!

إنّ الموضوع بجملته لا يتمركز بالضّرورة حول الإيمان المطلق بما جاء به الدّكتور الورديّ، بقدر ما يرتبط بحاجة الرّاهن العراقيّ المُلحاحة لاستثمار الهدف الابستمولوجيّ لمشروعه، واشتغاله الحفريّ في تبيان مجاهيل المجتمع العراقيّ، الذي ما زال يعيش فوضى عارمة لا قرار لها في مختلف فعاليّاته وعلى كافّة الصُّعد.

فالدّكتور الورديّ من الأوائل الذين دشّنوا ثقافة النّقد الاجتماعيّ في بنية مجتمعيّة إطلاقيّه، تتحرّك وتتفاعل ضمن دائرة مُتبنيّات ثقافيّة جامدة، وكان من غير الممكن سماع صوت مُشاكس، يُغاير السّائد والمألوف لقناعاتِ النّاس وتقاليدهم، التي صَيّرها بعض المُنتفعين إلى مُسلّماتٍ وثوابتٍ مُقدّسة، أصبحت فيما بعد جزءاً مهمّاً من البنية الثّقافيّة والمعرفيّة للمجتمع العراقيّ، وهذا التجذير والقداسة جعلها - أيّ تلك القناعات -خارج أطر الّنقد العلميّ والموضوعيّ، بل وحتّى خارج إمكانيّة غربلتها وتصفيتها، ولعلَّ هذا أوّل الأسباب التي تضطرّنا إلى إعادة قراءة مشروع الدّكتور الورديّ والإشكاليّات التي اشتغل عليها، من غير استشعار أيّ ضجر أو ترهُّل أو استهلاك.

ومن هنا فإنّ المسوّغات التي تُعيدنا لمشروع الدّكتور الورديّ تبدو جَليّة ومقبولة الآن، ليس لأنّ الورديّ قام بدراسة المنظومة الاجتماعيّة العراقيّة وفَكّ مرموزاتها وأجاب عن أغلب إشكالاتها وحسب، بل لأنّه ضغط على جراحنا بقوّة من خلال استفزازنا داخل قرارة ما نحاول دائماً أن نغضُّ الطّرف عنه ونضعه في دائرة الصّمت القَهريّ، واستطاع زعزعة بعض اليقينيّات الواهمة (دّينيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً) والتي دائماً ما نبتعد عنها ونخشى مكاشفتها، فضلاً عن محاسبتها وإهمالها.

لذا، فمشروع الدّكتور الورديّ ما زال يحتفظ بقيمته وطراوته ولم تنفذ فاعليّته حتّى الآن، في حين تلاشت الكثير من الكتابات لمن جايل الورديّ ومن جاء بعده، لاسيّما في مَجالي الاجتماع والثّقافة.

ومن أهمّ الأسباب التي ساعدت على ديمومة مشروع الورديّ، هو أنّه لم يكن من جوقة المُثقّفين الذين لا يرتبطون بالاشتراطات الواقعيّة للراهن العراقيّ اليوميّ المُعاش، ولم يتغافل عن هموم النّاس ومشاكلهم ولم يُدر ظهره لها، بل نراه جابه المخزون الثقافيّ الشّعبيّ، الذي اعتبره من الرّكائز التي دائماً ما تعود بالنّاس إلى الماضي الرّاكد، أيّ أنّ ذلك المخزون الثّقافيّ الذي جابهه الورديّ وجعله تحت مجهره، هو المنبع الأساس الذي يُغذّي الراهن بكافّة التناقضات عن طريق ظهورها على الواقع كممارساتٍ سلوكيّةٍ يوميّة للفرد العراقيّ.

وكذلك من الأسباب التي تجعل منجز الدّكتور الورديّ مادّة مقروءة طازجة لم تؤثّر فيها عوامل التّقادم، هو كون الورديّ تحرّر من شِراك الإيديولوجيّة وشِباكها وهو يشتغل في تشخيص المخزون الثّقافيّ العراقيّ، وقد يكون هذا أمراً مستحيلاً في البحث العلميّ المتعلّق بموضوعة الإنسان والتّاريخ، بل أنّه تحرّر أيضاً من القيود المنهجيّة والأكاديميّة غير المنطقيّة لعلم الاجتماع ذاته، مما ساعده على امتلاك زمام الموضوعيّة، من غير إن تتصدّع تساؤلاته الإشكاليّة وتترهّل كُلّما تقادم الزّمن.

كان الدّكتور الورديّ دائم السّعي لإنتاج ثقافةٍ نقديّةٍ فاحصة، ووعي دائم الحِراك للفرد العراقيّ، عِوضاً عن قوالب الثّقافة المؤدلجة واطلاقيّتها، التي دائماً ما تصنع مخيالاً مُزيّفاً للنّاس وتُصيُّر بعض التّقاليد الموروثة على أنّها من الثّوابت والمرتكزات التي لا يُمكن تَخَطيها. وأيضاً من المبرّرات التي تُعيدنا إلى قراءة مشروع الورديّ وتجعله في صدارة الاهتمامات للقارئ والباحث، هو النّكوص الثقافيّ العراقيّ وتشظّيه منذ اكتشاف الورديّ مَواطن الوهن والخور في ذلك المنجز وحتّى الآن، حيث أنّ ما أنجزه وأبدعه المثقّف العراقيّ لم يَرقَ ليُصبح مكوّناً أساسيّاً من مكوّنات ثقافته، ولم يسع المثقّف العراقيّ لتصحيح هذا المسار الخاطئ، ولم يتمكّن من إنتاج رؤى مُغايرة ومُشاكسة لوعي الفرد العراقيّ المألوف. بل دائماً ما كان - ولعلّه حتّى الآن - ذلك المُنجز بمثابة المحاولات الفرديّة التي لم تتجاوز جانب الإرهاص عند مُنتِجيها، ومنذ أيام الدّكتور الورديّ وحتّى الآن لم يَخرج لنا مشروعاً ثقافيّاً كبيراً إلّا ما نَدَرَ، يعتمد الموضوعيّة والنّقد العلميّ المتحرّر من قيود الاستلاب والتّبعيّة، وبالتّالي يُنتج تفاعلاً ثقافيّاً يُفضي بنا بالضّرورة إلى تفاعلٍ اجتماعيّ.

وهذا لا يعني التّنكيل والتّقليل من شأنيّة الثّقافة العراقيّة برمّتها أو الحكم عليها بالفشل، بل هو إيضاح إلى أنّ منجزها ما زال متشظّيّاً هنا وهناك، ولم يستطع إنتاج منظومة وعي عراقيّة مستقلّة، لأنّ الكثير ممن اشتغل على إنتاج المنجز الثقافيّ في العراق، ولأسباب مختلفة، لم يندكّوا بواقع المجتمع والفرد ليكونوا في خطّ المواجهة مع كُلّ المتغيّرات التي تطرأ على الرّاهن اليوميّ للنّاس، وهذا ما أشار إليه الدّكتور الورديّ كثيراً، واستهجنه أكثير.

إنّ الرّاهن العراقيّ (سياسياً واجتماعيّاً) وما يكتنفه من صراعٍ واحترابٍ جَليّ، قد استشرفه الدّكتور الورديّ في الكثير من كتاباته، لأنّ شخصيّة الإنسان – بحسب الورديّ – هي نتاج ثقافته وانعكاس لها في الأعمّ الأغلب. والصّراعات السّياسيّة والدّينيّة والاجتماعيّة التي نشهدها اليوم تظهر لنا وبوضوحٍ النّزعة البدويّة لدى الكثيرين ممن تصدّروا المشهد، وبالتّالي فهم يديرون دفّة الأمور بمنطقِ البداوةِ والغَلَبَةِ والثّأرِ والاستئثار.

ولأنّ السّائد في العراق بمختلف المجالات، هو خاضع لذات العناصر الثّقافيّة التي اشتغل عليها الورديّ، بل وما زالت فاعلة وبقوّة بسبب وجود من يسعى وبكلّ جدٍّ لدوامها وإنعاشها، فإنّ اهمال ما أكَّد عليه الوردي كون العقل من منتجات المجتمع، قد يبدو أمراً مغالطاً ومجانباً للصّواب، وهذا ما يبقي الدّكتور الورديّ ومشروعه التّصحيحيّ إنعطافة كبرى في تاريخ العراق وثقافته، ما دام المنجز الثّقافيّ العراقيّ خاضعاً ومُذعناً لنفس التّقاليد – المُسَلّمات – الزّائفة.

وهذا ما قد نتحدّث عنه في مناسباتٍ لاحقة.

***

علاء البغداديّ - باحثٌ وكاتبٌ من العراق

 

في المثقف اليوم