تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

عبد الكريم رحموني: كسر الجليد فهل لدرس الفلسفي من جديد؟

الصمت وجوه من وجوه الكلام، والتأمل وجوه من وجوه التفلسف، وبين الصمت والتأمل تنبثق الذات الواعية، المفكرة، المتسائلة بغية التنقيب والتفتيش  لتسبر أغوار المسكوت عنه الذي تلوكه الألسن وتكشف عن المحجوب، الخفي، المستتر للمفكر المبدع والفيلسوف المتأمل الذي يوجس خيفة هذا الصمت، حتى تنبلج أفكاره في فضاء الدرس الذي هو جواب على مشكلة فلسفية أو رأي من آراء الفلاسفة والأساتذة، فلا تقتصر أهمية التدريس الفلسفي إلا على المواصفات الايجابية التي تسعى إليها بيداغوجيا الكفاءات في منهاجنا التربوي الجزائري،المتمثل في تكوين مواطن له شخصية فاعلة تساهم في تنمية المجتمع الذي ينتمي إليه،ويكون فاعلا حقيقيا في تفاعله البناء مع محيطه المحلي والوطني، متفتحا على مكتسبات المجتمع الإنساني عامة.ولا شك أن الدرس الفلسفي أرضية خصبة لتكوين هذه الشخصية ونموها ونضجها ورسوخها، إذا تم استغلاله استغلالا تربويا، ففي طبيعة التدريس القائم على الدرس الفلسفي وفي خصائصه ومنطقه ما يبرز ذلك، علما أنه:

- الدرس التفكيري: يكسب المتعلم قدرات عقلية تمكنه من ممارسة أفعال السؤال والشك، الحجاج والنقد، البحث والتمحيص.هي أفعال تؤسس فكر التحليل والتركيب والتقويم والإبداع.

- الدرس التحديثي: يساهم في تطوير نوعية الثقافة المدرسية،لدى المتعلم ويفتح أمام تكوينه المعرفي مسلك وضرب التنوير العقلاني وهو جزء لا يتجزأ من كل حداثة منشودة،نتوخاها في التدريس.

- الدرس المنهجي النقدي: يجعل الذات واعية في التعامل مع قضايا العالم المعاصر الذي تتسارع ثقافته ومعلوماته وتتجه إلى الهيمنة على العقول والأفكار والمعتقد، إذن هناك علاقة تكامل وارتباط عضوي بين ما يميز تدريس الفلسفة في الجزائر، من جهة، وبين ما تستهدفه التربية التعليمية من جهة أخرى.

لكن كيف نحقق إستراتيجية ناجعة وفعالة في منظومتنا التربوية لإنجاح كفاءات التدريس الفلسفي في الثانوية العامة قاطبة؟ وكيف يتم كسر جليد الجمود والركود في المنهاج المغيب للدرس الممتع؟

لا يتجلى هذا إلا بالاعتماد على موارد أساسية، تعتبر القاعدة الصلبة المتينة في التدريس الناجح وهي:

المكون، الأستاذ، المنهاج.

المكون: إذا كان هذا هو المنتظر من أستاذ الفلسفة في الثانوية تحقيق كفاءة تدريس، يحق لنا أن نتساءل عن تكوين هذا الأستاذ.

هل التكوين الذي يخضع له أستاذ الفلسفة بهذه الشعبة بالمدرسة العليا للأساتذة والجامعة الجزائرية عبر المعمورة ملائم لما ننتظره من تدريس الفلسفة بالثانوية العامة؟

وهل يؤهله هذا التكوين بالشروط التي رسمتها بيداغوجيا الكفاءة في التدريس؟

ثم ما هي مواصفات هذا التكوين؟

من هنا تبرز ضرورة الاهتمام الجدي الفعال بالتكوين لكل مقبل على عملية التدريس،لأنه المعول عليه بالدرجة الأولى في الحفاظ على مكسب تدريس المادة،وتوسيع الفئات المستهدفة به وتعميميه هو العناية أولا بالأستاذ نظرا لخطورة المهمة وجسامتها فالشهادات الجامعية وحدها لا تؤهل لممارسة التدريس الممتع، فالمعول عليه في كل هذا تكوين المكون الذاتي المتجدد والمستمر،وغاية التكوين في جزئه الأكبر هو جعل المكون يشعر بثقل المسؤولية ونبلها وخطورتها.

إن هذا النوع من الوعي ثمين جدا،لأن الواعي بالشئ أفضل بكثير من الجاهل به، وهو الوعي الذي سيجعل المكون يراجع الأنا أو الذات باستمرار ويشك فيها « إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة والضلال»[1]، منتقدا إياها أولا باعتبارها محور العملية التعليمية التعلمية،بدل توجيه سهام النقد للأخر المتعلم أو الظروف الخارجية كما نجده عند بعض المدرسين، لهذا يجب الإقرار بأن هناك مشكلة في المكون، وإشكالية كبرى في التكوين كذلك، فالأول يغلب عليه الجانب النظري والتنظيرات السطحية،ويفتقر إلى العمق فلا بد من تكوين تربوي ديداكتيكي، يكسب المكون مؤهلات ومهارات وقدرات للقيام بهذه المهمة باعتبارها ممارسة واعية سليمة تربوية.والثاني يجب أن يخضع لمواصفات تتمثل في الحصول على مرونة معرفية وبيداغوجية وديداكتيكية باستعمال الآليات الضرورية وتحويلها إلى مادة دراسية ملائمة. وتتحدد ملامح النموذج الأمثل للتكوين، في المهارات الأساسية لإنجاز درس فلسفي بالمواصفات التربوية وفق بيداغوجيا الكفاءة في الثانوية « إن الفلسفة الأعلى، بالنسبة للغايات الجوهرية للطبيعة البشرية، ليس في وسعها أن تؤدي إلى أبعد مما تفعله القيادة الممنوحة للحس المشترك»[2]

الأستاذ: يحتل مكانة بارزة في العملية التعليمية التعلمية لما يقدمه من مجهود جبار في إنجاح الدرس الفلسفي، لكن كيف يدرس الأستاذ في الصف؟

كيف يقدم درسه الفلسفي ويمرر المنهاج ويطبق معلوماته وفق الإستراتيجية الجديدة؟

من الناحية البيداغوجية والتشريعية والمؤسساتية الأستاذ ملزم ببرنامج، وليس له هامش من الحرية للتصرف،ولكن الأستاذ هو أولا وقبل كل شئ حصيلة تكوين وبحث مما يحيلنا إلى سؤال التكوين في مدارسنا العليا وجامعتنا ومعهدنا،فنقول إن التكوين تم ضمن تلك الظروف الصعبة،لدى يجب الإقرار بالخلل الذي يعانيه الأستاذ،والمشكلة الكبرى لا يملك الأستاذ المقدرة على تحسين مستواه،ولا تمكنه المؤسسة الجامعية إلا من خلال تربصات وبحوث نعتبرها محدودة للغاية.وعلى مستوى التكوين الإضافي للأستاذ المتخرج بشهادة اللسانس من الجامعة، بالنسبة لمعاهد تكوين الأساتذة وتحسين مستواهم،لا يصبو إلى تطلعات هؤلاء وطموحاتهم،إذ يغلب عليه الطابع النظري لا التطبيقي،فمقياس علم النفس المراهق ،يبقى تدريسه في المعهد نظريا،لا نجد تشخيص للمشكلات الصفية التي يعاني منها الأستاذ، وكيف يعالجه؟

وما هي الحلول التشخيصية العلاجية للمشكلات الصفية؟

أما مقياس علوم التربية لا يرقى إلى الجانب التطبيقي الإجرائي،حيث يركز على النظريات التربوية القديمة في شقها النظري،ولا يقدم نظريات تربوية عملية تعلم الأستاذ كيف يربي التلميذ ؟كيف يتعامل مع المشاكل الصفية في حجرة الدرس؟

منهاج مادة الفلسفة: قد نتفق على أن الدرس الفلسفي عبارة عن لغة فلسفية تتميز ببعض المميزات الخاصة كالتجريد والدقة والمعنى الخاص للفيلسوف « ليست الفلسفة مجرد أفكار ونظريات جاهزة، بل هي قبل كل شئ نشاط وفعالية يقوم بها عقل له أسسه وقواعده ومعاييره في التفكير؛ يمارسها العقل المفكر بناء على مناهج واستدلالات، تستنطق الفلسفة وتمدها بالتربة الصالحة لإنتاج مدلولات جديدة هي أصل التفكير»[3]، وهي تحمل أفكار وأدلة وسياقات ثقافية مختلفة مما يحتم علينا طرح هذه الأسئلة:ما الهدف من تدريس الفلسفة اليوم؟ ماذا نريد من هدف التدريس؟ هل نريد إكساب التلاميذ مناهج في البحث النظري المجرد؟ هل نريد تدريب التلاميذ على التفلسف الذي يشغل الفكر والعقل ويكسب العقلانية والتعقل، ومهارات الحجاج المنطقي؟ وأي برنامج ومحتوى يلزم وضعه للدرس من أجل تحقيق ما نصبو إليه؟

الإجابة مع الفلسفة بغية نقد منهاج مادة الفلسفة بالأمس كان برنامج الفلسفة يُمتع التلميذ وُيسعد الأستاذ متسلسل في دروسه من فلسفة العمل إلى نظرية المعرفة،يخدم الإطار الفكري العام،أما اليوم نحن نعتقد أن البرنامج الحالي للفلسفة يفتقد إلى الإطار الفكري العام والوحدة النظرية والمنهجية للدروس.إننا نشعر عندما ننتقل من درس إلى درس ومن إشكالية إلى إشكالية،أننا ننتقل من فجوة إلى فجوة،ومن جزيرة إلى جزيرة دون أدوات ربط منهجية أو فكرية – فالفلسفة تناغم وانسجام حسب المدرسة الفيتاغورية- وهذا ما يجعل الوعي الفلسفي للتلميذ مشتتا بين كل دروس البرنامج السنوي.

لماذا مشكلة الحقيقة ومشكلة المعرفة موجودة في آخر البرنامج؟

ألا نعتقد أنها من الدروس الافتتاحية، لأن التلميذ بفضل هذه المشكلة يتعلم مصدر معارفه، وأهم التيارات الفلسفية المكونة للفكر الفلسفي منذ القديم إلى اليوم.ثم ما الفائدة من تدريس مشكلة العلوم البيولوجية بالمفاهيم الكلاسيكية، والوقوف على إشكالية الآلية والغائية في علم البيولوجيا، وإهمال المفاهيم الحداثية والمعاصرة في علوم الحياة والعلوم البيولوجية مثل الهندسة الوراثية والاستنساخ وأطفال الأنابيب.لماذا نزج بمحاور إنسانية فكرية روحية كالتصوف والذوق، رغم التباين الأيديولوجي والتكوين النفسي للتلميذ،مع هكذا مواضيع تحتاج إلى درجة من عملية الرشد الذهني.

***

رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر.

.....................

قائمة المراجع:

أبو حامد الغزالي: ميزان العمل، طبعة أولى 1964، دار المعارف مصر

جيل دولوز: فلسفة كانط النقدية، تعريب، أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، طبعة أولى 1997، بيروت.

رحموني عبد الكريم: مقالات في الفكر والفلسفة والأدب، طبعة أولى سنة 2021، أدليس بلزمة للنشر والترجمة، باتنة، الجزائر.

هوامش

[1] أبو حامد الغزالي: ميزان العمل ، ص 204.

[2]  جيل دولوز: فلسفة كانط النقدية، ص 37

[3]  رحموني عبد الكريم: مقالات في الفكر والفلسفة والأدب، ص: 31.

 

في المثقف اليوم