قراءات نقدية

علاء البغدادي: بناء وجماليّة النّصّ الشّعريّ عند الشّاعرة ريما آل كلزلي

مقاربةٌ تمهيديّة

من البديهي القول: إنّ عمليّتي التّأويل والإدراك لا يتوقّف نشاطهما إطلاقاً – باعتبارهما من آليّات الوعي الضّروريّة للفهم – عند ممارسة جملة من الاشتغالات حال مواجهة المُتلقّي للثّقافة وكُلّ نتاجاتها، لا سيّما اللّغويّة، وبالأخصّ النّصّ الشّعريّ الذي يزيد من حِدَّة التّأويل والإدراك، كما لو أنّه قد تمَّت كتابته حتّى يكون مسرحاً للتّأويل وتلقّي المعنى، حيث يعثر التّأويل على ضالّته في هذا النّوع من النّصوص اللّغويّة.

ومن البديهيّ أيضاً، أنّ نصوص الشّاعرة ريما آل كلزليّ تَحطّ رحالها في هذه المساحة تحديداً، لتكون نصوصاً تستدعي التّأويل، لتقودك إلى طرقاتٍ لم يسلكها أحد في تجاربهم الشّعريّة التي تهتمّ بالحبّ والوعي.

وعندما نجري أيّة مقاربة تحليليّة عن تجربة الشّاعرة ريما آل كلزلي ونحاول البحث في بنية القصائد التي كَتَبَتها، فإنّنا أمام تجربة غاية في التّميُّز والإكتناز، ترتكز على أرضيّةٍ معرفيّة رصينة وبجماليّةٍ خصبة، استطاعت أن تنمو وتزدهر ضمن مَديات كثيرة، وتنماز بنسيجها اللّغويّ المتماسك والأخّاذ، مما مَكَّنها أن تكون جديرة بحياكة خيوط قصائدها بهذا الثّراء الفاتن والفائض بالصّور الرّائعة من وجدانها إلى النَّصّ.

دأبت قصائد ريما آل كلزلي على التّمازج النّقّيّ بين تجديد التّمثّلات الواعية التي تجعل من الشِّعر قوّة تعبيريّة عن اشتغالات جَمَّة في هموم الوطن والحبّ من جهةٍ، والثّقة بإمكانيّة المفردة على تنضيج الجمال واتّخاذه منطلقاً للقصيدة وتطلّعاتها الخصبة.

  فها هي هنا تطرح تساؤلاً شفيفاً وغاية في الجمال والبلاغة:

(مَن أنت؟

من أي ّزمن ٍعبرت؟

الوجوهُ تتعدّد، وحدكَ بلا شبيه

مرّةً أراك أسطورة.. ومرّةً عاشقاً

يقطع ُبحوري في سفن ِالمُحال..

أيها الحالمُ

يا تلك الرّصاصة التي انتزعتني

من غفوتي).

هكذا تمكَّنت ريما آل كلزلي من أن تكون قصائدها غَنيَّة وضاجَّة بالمعنى في جانبيها الموضوعيّ والجماليّ، مع التّأكيد – ببراعة الشّاعر الحاذق – على قوّة الإيقاعات الصّياغيّة والمعبَّئة بميكانزمات صوريّة خلّابة، لا تبتعد كثيراً عن أداء الموسيقى الشّعريّة المتوارثة.3279 ربما الكلزلي

جماليّة الأسلوب عند ريما آل كلزلي

إنّ للشّعر أساليبه العديدة والبليغة، وله أيضاً الكثير من المؤثّرات الهامّة في تنضيج الرّؤى الشّعريّة للنّصوص، لا سيّما المعاصرة منها، خصوصاً عندما ترتكز على قوّتها الدّلاليّة المتأتية من إتّقان الأساليب وتنوّعها واكتنازها الجماليّ بالآليّات الفنّيّة الحديثة فيما يتعلّق بالتّراكيب والصّياغات والأسلوبيّة.

والأسلوب في الكتابة، له القيمة العُليا والمهمّة في فكِّ شفرات شاعريّة النّصّ لأيّة نتاجات أدبيّة، وهذه الشّاعريّة لا تتأتّى إلّا عِبر جمال الأسلوب وروعته، وهذا يدلُّ على أنّ قيمة الكلمات على المستوى الفنّيّ لا تتأطّر إلّا في السّياق الذي تأتي من خلاله، أيّ أنّ الشّاعريّة في النّصّ المكتوب، ليست كامنة في بنية الكلمات ذاتها، بقدر ارتباطها بما سبقها وما سيليها من عناصر أسهمت في تركيب النّصّ وهندسته، بمعنى آخر أنّ الشّاعريّة تكون في رسم التّعبير وآليّة البناء التي جاء من خلالها، وليست فقط من خلال المضمون أو المعنى الذي يبثّه النّصّ على مستوى نسقه.

وما تَقدّم، نجده في أجلى مصاديقه يتوافر في نصوص الشّاعرة ريما آل كلزلي، ففي أسلوبها عند كتابة النّصّ الشّعريّ خاصّتها، نرى أن للكلمات موسيقاها الخاصّة، والمستقلّة عن المعنى، حيث تُبدع كثيراً في أسلوبها وتحرص على انتظام تعابيره، من خلال وضع كلمات نصوصها في قوالب فنّيّة مبتكرة وجديدة غاية في الجمال، لتمكّن من منح كلماتها البريق والتّوهّج الشّعريّ الأخّاذ.

 تقول في أحد نصوصها:

(ذات يوم حقّيقيّ كامل التّفاصيل

سأجلس على العرشِ

وأشدو مع ذئابكَ للقمر

ثمّ أبحث ُفي نار أضَعتُ فيها شفاهي).

إنّ اللّغة الشّعريّة التي تكتب بها ريما آل كلزلي قصائدها، لا تعتمد الوصف الظّاهريّ للأشياء، ولا تُكرّر المعاني بذات الحَرفيّة، حتّى تبدو وكأنّها عَصيّة على الرّكاكة والاستسهال ولم تقتصر على نقل الوقائع بشكلها البسيط، أيّ أنّها تؤمن – إيماناً شاعراً – أنّ هذا لا يُمكن أن يكون من مهام الشّعر الخالد.

إن ريما آل كلزلي تؤمن بأنّ الشّعر لا بدّ أن يكون قادراً على تغيير ملامح الواقع وتغيير مساراته وزعزعة استقراره، يقول في إحدى قصائده:

في نَصّ (برعم فكرة) تقول:

(اسمح لي أكتبكَ

بيتاً لا حدود له..

تتوحّد الرّؤى حوله

لا تاريخ َيحكمهُ ولا جواز َيعبره)

بهذا الوهج الإبداعيّ تنتقل بنا ريما آل كلزلي إلى واحدةٍ من قمم الجمال الصّوريّ، لتؤكِّد أنّ استفزاز ذائقة المُتلقّي لا يمكن تحقيقها إلّا من خلال الإبداع في صياغة النّصّ، وتعقّب اللّغة في تراكيبها التّعبيريّة أثناء نسج الصّورة الشّعريّة، لتُميط اللّثام عن شاعريّة سامقة وفَذّة، ومتفرّدة في روعتها وجمال أسلوبها وعمقها على المستوى الفنّيّ والموضوعيّ، فضلاً عن الإحساس المرهف العالي.

وفي نَصٍّ بعنوان (لحنٌ مُلتهب) تقول:

(أريد الحُبّ أغنيةً أتلوها كالصّلوات

أريدُ الرّيح يقظة في قعر السّبات

أريدُ اللّيل حقيبةَ حُبّ في أقاصي السديم

كُلّما حَدَّثني صمتك عن أسرار النجوم

دع الشفاه تحكي بلغة الاقحوان

حكايات لم يرويها الخيال

يا أيّها المعنى تَحرّك بين صخوري

وانتفض).

لقد تمكَّنت ريما آل كلزلي من إبداع نصوصاً حقيقيّةً، تماهت بصورةٍ رائعةٍ ومتبادلة مع محيطها، كما أنّها تعاطت مع معطيات اللّغة الشّعريّة تعاطياً تصاعد فيه أفق التّعبير وجمال التّصوير ضمن السّياقات الواعية للنّصّ، فهي القائلة في نَصّ (عُزلة):

(تُداوينا العزلة ُ

في كلّ مرة ٍ يسقط ُمن السلالِ حلم ٌ

***

كنجمةٍ في السّماء

تختفي كلّما ابتعدَتْ

هكذا اعتزلتك!

***

أبحث ُفيك َعن آثاري

انتماءاتي

وصورٍ قالوا: تشبهني)

بمثل هذه النّصوص الواعية تُثبت ريما آل كلزلي بأنّ الشّاعر الذي لا يمتلك غير موهبته، لا يُمكن أن يكون مبدعاً متفوّقاً، إذا لا بدّ من وعيه بالثّقافة وإدراكه للواقع، واستعداده فنّيّاً للتّعاطي مع ابتكار الصّورة الجماليّة للنّصّ.

دهشة الاستهلال في قصائد ريما آل كلزلي

ما أعنيه بـ(دهشة الاستهلال) هنا، هي الكلمات المفتاحيّة التي تبدأ بها الشّاعرة قصائدها، من حيث قوّة بنائها وفاعلية تأثيرها، وعمق إيحائها، حيث تُبدع كثيراً في هندسة تشكيل النّسق لكلمات القصيدة، وتثوير إيقاعاتها النَّغَميّة، التي تتماشى مع الاسترسال الشّعريّ وديناميكيّته البنائيّة.

لقد أدركت ريما آل كلزلي - بوصفها ممن يكتبون النّصّ الواعي -، أنّ إتّقان كتابة الاستهلال بشكلٍ برّاقٍ ومدهشٍ ومبتكر، هو مما يُحفّز المُتلقّي ويجذبه إلى عمق فضاء النّصّ وبنيته، كون ذلك سيجعله – أيّ النّصّ – وهجاً يوحي بالجمال والدهشة والتّأثير، ولا بدّ في ذلك أن يكون الاستهلال مُباغتاً إلى حدٍّ ما. وللوقوف على ذلك وبيانه، نأخذ هذه الأبيات المفتاحيّة من بعض قصائده.

ففي نَصّ (لقاءٌ بلا قدر) تستهلّ بقول:

(يامن ادّعيتَ التّصوّفَ

وشبّهت َ قصائدي

بزوبعةٍ أو إعصار

ما كان حبي معصية ً

والذنوبُ لا تتجلى في وضح النهار؟)

وفي نَصّ (هاجس) تقول:

(أرجوك لا تحبّني

لأنّي، وبعصفٍ كُلّي

عليك أنهمر)

وفي نَصّ (فراديس السّراب) تستهلّ:

(كُلّما قرأتكَ أكثر

تطفو على وجهي علاماتُ الدهشة!

وتغوصُ في أعماقي شروحات الرّسائل المُقدّسة)

وهكذا، مع هذه الكلمات المفتاحيّة للنّصوص، تُباغت ريما آل كلزلي المُتلقّي بدهشةِ المعنى وبراعة الأسلوب وسحره وشفّافيّته، فضلاً عن الكمّ الهائل من العاطفة والأحاسيس التي تبثّها المفردة، مع التّأكيد على أنّ جمال الكلمات المفتاحيّة في قصائدها لا ينفصل أبداً عن النّسق العامّ للقصائد حتّى نهاياتها، أيّ أنّ المتلقّي سيظلّ طائراً على جناحي الدّهشة والجمال حتى اكتمال آخر القصيدة، وعلى هذا جاءت كُلّ نصوص ريما آل كلزلي.

جمال الخاتمة في قصائد ريما آل كلزلي

(جمال الخاتمة) الذي أعنيه هنا، هو جمال الكلمات الأخيرة للنّصوص أو الأبيات الأخيرة التي تنتهي بها القصائد، كونها تكشف عن خلاصة الرّؤية والإحساس العالي الذي يودّ إيصاله الشّاعر في نهاية رحلة قصيدته، وتكمن روعة الخاتمة بقدر إثارتها للمتلقّي، الذي سيبقى أثر الجمال والعمق المتوفّر في القصيدة عالقاً في ذهنيّته على المستويين، الموضوعيّ والفنّيّ.

الشّاعرة ريما آل كلزلي كانت مُدركة لأهمّيّة وجماليّة الخاتمة للقصائد التي تكتبها، من كونها تترك الإيحاءات والمَدّ الدلاليّ والأثر الإيقاعيّ وخلاصة الصّور لدى المُتلقّي، ونلأخذ بعض الأمثلة على ذلك من نصوصها.

في نصّ (اعترافات) تختم:

(أنتَ قوّتي في التواصل

انثر ْقمحكَ على رَحى ودّي

نطربُ معاً

إلى جَعْجَعة الحنين).

وفي نَصّ (ولادة) تختم بـ:

(ومثل شموس ِالفجر ِما زلتَ تتشكّل

كالرّبيع الفتي

فيما أنا عصفور

أُغرّد في ضوءك).

وفي نَصّ (غربة روح) تختم بـ:

(أيا ذنباً أشركته قلبي

أيا حبّاً رجوت الله

أن لا يكون مغفورا).

نلاحظ بجلاءٍ مع هذه الكلمات الختاميّة في قصائد الشّاعرة ريما آل كلزلي روعة النّهايات وقوّة بلاغتها ودقّة المعنى فيها، من خلال اكتمال النّسيج اللّغويّ والهندسة الصّوريّة والإمتلاء الموضوعيّ للنّصّ، وهذا ما يُظهر تَمكّن الشّاعرة من أدواتها، ودرايتها التّامّة بمناطق اشتغالها من حيث ربط النّسق الشّعريّ وتكامله على وتيرةٍ واحدة، مكتنزة وناضجة من دون أيّ ترهّلٍ أو تراجع في بنائها وسحرها.

من يقرأ قصائد الشّاعرة ريما آل كلزلي من بداياتها حتّى نهاياتها، يتذوّق جمال المفردة وعذوبة المعنى ودقّة وبلاغة السّبك الشّعريّ الذي يشدّ أواصر بناء القصيدة ضمن أنساق إبداعيّة متراصّة ومموسقة.

التّجديد في نصوص ريما آل كلزلي:

تمتلك الشّاعرة ريما آل كلزلي الشّيء الكثير من الأدوات الفنّيّة العالية التي مَكَّنتها من كتابة قصائدها بهذا النّسق الجماليّ الرّائع على اختلاف الأشكال والأوزان البنائيّة، فهي قادرة على ابتكار اللوحات الضّاجّة بالدّلالات الرّصينة والتّعابير السّامقة، وكأنّها تحرص دائماً على تزويد المُتلقّي بمخزونٍ شعوريّ كبير، يقفز على الاحتمالات، ويحثّه للولوج في فضاءاتٍ جديدة، تقود إلى بناء مَجَسّات الجمال التي تتميّز بالوعي والاتّقاد من جهة، ومن جهةٍ أخرى تسبر أغوار الذّائقة وتتمكّن منها.

إنّ قصائد ريما آل كلزلي تشتغل على محاولة استنطاق الأشياء، وتوطيد الأواصر معها، للوصول إلى معانٍ إنسانيّة وجماليّة سامية، تنسجم والتّأثير الكبير الذي يُمكن أن تتركه الكلمة على المُتلقّي. كما أنّها اشتغلت أيضاً على ترجمة الهمّ الإنساني في تساؤلاتٍ ومعالجاتٍ رائعة، بعيداً عن سياقات التّسطيح والرّتابة.

الشّاعرة ريما آل كلزلي تؤمن بأنّ المُتلقّي له أن يُسهم في تحريك القصيدة واستنطاقها، مع تباين المستوى المعرفيّ بين متلقٍّ وآخر، لذا فإنّها حافظت على إبقاء آصرة جماليّة مع من يتعاطى نصوصها في جميع ما تكتب، وتمتاز بذات الأسلوب التّجديديّ/ الجماليّ، والذي جعل من نصوصها مُتاحة للجميع على مستوى التّلقّي والتّفاعل، وهذا ما لا يستطيعه إلّا النُّدرة من الشّعراء.

***

علاء البغداديّ

كاتبٌ وباحثٌ من العراق

 

في المثقف اليوم