أقلام ثقافية

عطسة موظف تشيخوف واستنتاجاتها

عندما كنت أتصفٌح – كعادتي يوميا – جرائد يوم 7/1/2015 لفت انتباهي عنوان طريف وغريب ومثير في صحيفة الشرق الاوسط اللندنية وهو – (عطسة موظف) بقلم الاستاذ خالد البسام، وقلت بيني وبين نفسي، ربما يوجد موظف عربي، او موظف آخر في العالم عطس واصبح مشهورا غير ذلك الموظف الروسي المسكين – بطل قصة تشيخوف المعروفة – (موت موظف)؟ و لكني عندما قرأت المقالة فهمت ان الحديث يدور فعلا حول نفس ذلك الموظف (انظر مقالتي بعنوان - قصة تشيخوف القصيرة موت موظف)، وفرحت جدا في الواقع ليس لاني أعرف ذلك الموظف حق المعرفة، وانما لأن هذا يعني ان الكتٌاب العرب في صحفنا قد بدأوا باستخدام رموز الادب العالمي وشخصياته وافكاره في مسيرة حياتنا اليومية، وهذا شئ مفرح بلا شك لأنه دليل نضوج كتٌابنا، ولكن الشئ غير المفرح، والذي اصطدمت به هنا، هو ان الاستنتاجات التي توصل اليها الكاتب واستنبطها من مضمون الحكاية (كما اسماها) لم تكن تتناغم او تنسجم مع روحية تلك القصة القصيرة وجوهرها واهدافها، وهي اربعة استنتاجات جاءت في نهاية تلك المقالة وكما يأتي –

(لم يسخر الكاتب الروسي الراحل الشهير انطوان تشيخوف في هذه الحكاية من هذا الموظف الغلبان، لكن حكايته البليغة لها الكثير من الدلالات والمعاني، ولعل اهمها ان هناك نوعا من البشر، ومنذ زمن بعيد وحتى اليوم، يحتقرون بشرا غيرهم لمجرد انهم أقل قيمة وثراء واهمية )، وهذا هو الاستنتاج الاول، وهذه حقيقة موجودة في المجتمعات الانسانية فعلا أشار اليها الاستاذ البسام، ولكنها لا توجد بتاتا في اجواء تلك القصة، التي كتبها الشاب اليافع تشيخوف وكان لا يزال طالبا في الجامعة، ولا توجد اشارة الى ذلك في نص القصة لا من قريب ولا من بعيد، ولا يحس القارئ بهذا الاحساس ابدا عندما يقرأ تلك القصة، وبالتالي، فان هذا الاستنتاج غير وارد هنا ولا يمكن ربطه بتلك القصة .

الاستنتاج الثاني في تلك المقالة هو الآتي –

(ان المحتقرين يظلون مهما فعلوا محل احتقار من هم اعلى منهم)، وهذه ايضا حقيقة من حقائق الحياة فعلا، ولكنها ايضا لا توجد في ثنايا تلك القصة واحداثها مثل تلك التي اشرنا اليها عند الكلام عن الاستنتاج الاول. ان الشخص الذي يتحدث عنه تشيخوف في قصته تلك لم يكن مديرا كما ذكر الاستاذ البسام، ولم يحتقر ابدا ذلك الموظف المسكين الذي عطس في المسرح، بل تعامل معه بكل احترام ومودة دون ان يعرف من هو هذا الشخص ودون ان يحاول حتى التعرف اليه او الالتفات اليه، ثم حاول ان يبين له انه لم يغضب ابدا من جراء تلك العطسة وبكل بساطة واحترام، ولكن الرعب والخوف المغروس في اعماق هذا الرجل البائس تجاه كل ما يمثٌل السلطة العليا هو الذي ادٌى به الى هذا التصرٌف المضحك والمبكي معا او الكوميدي والتراجيدي معا ، وهذه هي النقطة الجوهرية والاساسية والمهمة جدا في بنية هذه القصة ومضمونها، و التي لم يلاحظها الاستاذ البسام مع الاسف، والتي ادٌت به – على ما يبدو - الى استخلاص الاستنتاج الثالث غير الدقيق وغير المنسجم ايضا مع مضمون القصة تلك وهو الآتي –

(والاهم من الاحتقار هو هذا التعذيب الكبير للضمير الذي يحمله البسطاء داخل قلوبهم، حتى في الاخطاء البسيطة والتافهة ..)، وليسمح لي الاستاذ البسام ان اعلن هنا عدم اتفاقي كليا معه بشان ذلك، فالتعذيب الكبير للضمير (أو تأنيب الضمير كما نسميه عادة) يحمله في اعماقه كل انسان حقيقي وصادق وامين لانسانيته، سواء كان بسيطا او غير بسيط، وهو احساس انساني رائع يحس به كل شخص شريف عندما يقوم بعمل غير صحيح من وجهة نظره تجاه الآخرين ولا يتناغم مع انسانيته، وليسمح لي ايضا الاستاذ البسام ان أقول له ان بطل تلك القصة لم يعذبه ضميره ولم يحس بتأنيب الضمير لانه عطس ليس الا، ولكنه – واكرر ذلك - ارتعب من العقاب الذي يمكن ان ينزله به ممثٌل السلطة الجائرة والظالمة به لاي سبب من الاسباب مهما تكن تافهة، وهو الانسان البسيط البائس المسحوق والموظف الصغير في ذلك المجتمع الاستبدادي، في حالة ان يظن هذا الشخص الكبير انه اساء اليه متعمدا (وارجو ان يلاحظ القارئ ان هذا الشخص لم يكن مديرا له، واكرر هذه الملاحظة مرة اخرى لاهميتها )، اي ان القضية هنا لا علاقة لها ابدا ب (التعذيب الكبير للضمير) لهذا الانسان البسيط كما جاء في المقالة وانما المسألة ترتبط بالخوف والرعب الذي يسيطر على الناس البسطاء من جراء الظلم والاستبداد السائدين في المجتمع الانساني ذاك، حيث لا يمتلك الانسان البسيط حقوقه الطبيعية بتاتا، و هذا هو في الواقع جوهر تلك القصة والسبب الحقيقي لشهرتها في المجتمعات الانسانية كافة، تلك التي يسود فيها الظلم والاستبداد لانها تجسٌد ذلك الظلم، و تلك التي لا يسود فيها الاستبداد والظلم لأنها تذٌكرهم بضرورة الحفاظ على العدل والمساواة بين البشر .

الاستنتاج الرابع في المقالة جاء كما يأتي –

(..غير ان الحكاية الجميلة تقول لنا ايضا ان الكثيرين من البشر ما زالوا ايضا لا يعرفون كيف يعتذرون ولا يجيدون فن الاعتذار)، وهذا استنتاج صحيح من حيث المعنى العام وفي اطار الحياة الانسانية طبعا، ولكنه ايضا لا يمتلك علاقة بهذه القصة، اذ ان تشيخوف اراد ان يقول، ان الرعب والخوف اللذان يسيطران على الانسان البسيط والمسحوق في تلك المجتمعات الانسانية الاستبدادية يؤدي الى فقدان تلك الخصائص الانسانية التي يتمتع بها الانسان الاعتيادي والطبيعي في المجتمعات التي يسود فيها العدل، بما فيها امكانية التعبير المنطقي عن كل شئ (بما فيه الاعتذار طبعا)، وعليه فان هذا الموظف لم يستطع ان يعبر عن مكنوناته ولم يستطع ان يقول ما يعتمل في اعماقه نتيجة الخوف والرعب الذي يسيطر عليه وليس لانه لا يعرف كيف يعتذر، كما أشار الاستاذ البسام في مقالته . واخيرا اود ان اشير الى امتناني وشكري للاستاذ خالد البسام على مبادرته باستخدام قصة من قصص تشيخوف لمعالجة ظواهر اجتماعية في عالمنا العربي وهي ظاهرة حضارية وجميلة في صحفنا العربية، وهذا اولا، وثانيا لانه اجتهد في استنتاجاته رغم اني لست متفقا مع بعضها، ولكني اعترف بالاجتهادات الشخصية واحترمها، ومن نافل القول ان اشير اخيرا الى ان كل الامور نسبية في نهاية المطاف .

في المثقف اليوم