أقلام ثقافية

كاتب موقوف التنفيذ

osama benjalunالكتابة صورة من صور الإبداع البشري، وهي وليدة تجمع ضروف معيشية مواتية للحكي والملاحضة والتقييم والإستنثاج بإمكانات لغوية تمكن من إضفاء المكتسبات والإكتشافات الفكرية في قالب سردي محبوك، سواء أكان ذا طابع نثري أو شعري، ولا شك أن الأديب في الغالب يكون متدربا على أساليب الإبداع الأدبي وأنماط الكتابة وطرقها بمدرجات الجامعة، فتكون دراسته لما فيه ينشط، فإن هو كتب إذا كان مثريا لعمله ودراسته، ومغنيا إياها، لكن العصامي أو" الكاتب بالولادة" دائما ما يجد صعوبة في تطوير أساليبه أو الحرص على تحديث آلياته وميكانيزماته في طريقة تجميعه للأفكار وصياغتها، بالمطالعة ودراسة النقد...على أن المادة الخام موجودة عنده وهي ملكة الكتابة، أو تلك القدرة على تصوير المشاعر واللحظات، القدرة على إحياء المتلقي داخل الأوراق، على إسعاده وإشجانه، ووعظه، أو ربما منحه نظريات حول الحياة والناس والأشياء من حوله من وجهة نظر ذاتية مبنية على ما جابهه الكاتب من أحداث وما راكمه من مواقف مادية تخرج المفاهيم والمبادئ من لباسها المجرد الوردي، أو علمية مستندة في لبها إلى نازع ديني محض أو فلسفي، ..أو متأصل من دراسات في علم النفس وأقوال لمحللين نفسيين....  

على الكاتب بالولادة إذن وبالخصوص لو كان محيط نشاطه مغايرا لمجال كتابته أن يعيش بروحين، أن يملك عقلين وخاطرين، وهو أمر يصعب الإلتزام به في زمن تقلبت المفاهيم وضاقت الصدور فيه، بفعل ما للعولمة من آثار على النفوس وما للتضخم الإقتصادي من وقع على تصرفات الناس التي صارت تتجه نحو نهج المذهب االمادي بشكل لاشعوري، والسعي الدائم إلى الإندماج في مشاريع وأنساق تضمن المساهمة في دوامة حركة الإقتصاد الهائجة للظفر بجزء من مردوداته وغيرها، ..

قد يصاب هذا النوع من الكتاب بدوار روحي حاد ناثج عن عدم القدرة على ملائمة ضَجيجِ واقع الأحداث بحَقِيقِ مبادئ الإبداع، ففطرة الكتابة عنده صافية نقية، رغم تأقلم تصرفاته مع العالم الخارجي الخشن، وضبطه لكيفية التصرف داخل الغابة والحضي بالأمن والسلم والإحترام فيها، لكن دواخله دائما تكتب الحقَ، لا تكتب إلا حين يشعر، ولا تكون مكتوباته غير حقٍّ في نفسه يَقنَعُ به ويؤمن، هذ النوع من الكتاب قد لا يجد طريقه إلى النشر وبسهولة وقد لا يبصم على مسار حافل إلا بعد أن ينال العمر منه، أو يقضي على وجوده، لأنه لا يهدف إلى إنثاج الكتب كالبطاطس المقلية لبيعها ساخنة بعلب حمراء يافعة، بقدر ما يحب أن يكتب لغرض ذاتي بحث، ..يحمل كذلك همًّا للناس ويكتب لهم أحيانا، لكن الكتابة أمر يعنيه هو، ونظرياته له هو، يؤمن بجدواها ويحكي عنها بعفوية مطلقة، فعليه إذن أن يجابه هذا النوع من الإنفصام وهذه الإزدواجية بين مهمته كفرد في مجمع وبين هويته ككاتب داخل مكتب أو داخل فناء كونٍ، فتكونَ له دروب هنا وهناك، أن يعطي لوضعه القانوني كفاعل مجتمعي أهميته فيسهر على الكد لبلوغ المرامي العلا، وأن يحافض على "أوركازم" الكتابة وإدمانها عنده، أن يمتلك الحكمة والصبر اللذان يسمحان له بالموازاة بين عمله اليومي وبين تأطير تصوره الأدبي وصياغته بشكل لائق، وأن يملك فوق هذا كله الوقت للكتابة، ووسيطا يدعو الإلهام إلى يراعه وذهنه...

وللكتابة طقوس منها ما ينثج بداخل النفس ويتعتق إلى أن يخلق كومة من الأفكار تتسارع و"تتكركب" حتى تصاغ في بسرعة بورقة وتنسَّق وينضاف إليها ما ينضاف، فتطُول أو تقصُر، وتخرج منها القصة أو الرواية أو ما تريده أنت، فما أخرجته عصير إحساسك، جزء منك تشكله إذ اذك كيفما شئت.

ومنها ما هو خارجي، وهو في رأيي ظروف الكاتب المعيشية، إن كانت طيبة أو مزدراة، مطبوعة بالتسارع والهرولة أو بطيئة رصينة، وبعدُه في روتينه اليومي الملزم بالخوض فيه عن روح الإبداع، عما قد يقربه من الرغبة في التأليف، فلو كان مجال تخصصه مثلا تخصصا جافا كتخصصه في علم القانون، -وهو حالي-و هو مجموع قواعد وأحكام ملزمة تشمل مختلق مجالات الحياة، قد يبعده عن طقوس الكتابة ويستدعي منه تكريس كل جهده لضبط أبجديات هذا العلم الشائك والتمكن من التقرب من معالمه لإمكانية دخوله في مصاف المهتمين به، وكذلك هو الحال في كل العلوم وكل الإتجاهات والمهمام والأعمال، فكل مجال ترتزقه يسلبك كلا، ولا يمكنك معه التفرغ للكتابة التي هي مشوار عمر كامل وجلوس تأمل دائم لا تسعفك فيه "سنن الحياة الطائرة"، إلا إذا توافقت مع نمط عيشك أو فرضتها فرضا، كما كان يفعل نجيب محفوظ حين كان يخصص ساعات خمس أو ست من ليله لكتابة رواياته العالمية، وها هو استثناء وحيد من اتجاه الإنثاج الممقوت في الأدب، فتجربة محفوظ نجحت رغم الغزارة لأنه لم يكن يكتب لمراكمة المؤلفات، وإنما لتصوير مشاهد من واقع الحارة المصرية بمختلف ظواهرها وآهاتها يحتك به تكرارا ومرارا في ذهابه وإيابه من المقهي، وفي خروجه من الكلية ومجالسته للناس، وهو استثناء كذلك لأنه فيلسوف قبل كل شيئ، ولأنه منظم يعرف كيف يكتب ويعمل كموضف عمومي ويعزف على آلة القانون ويجالس الحرافيش في يوم واحد، ولأن لا أحد قد يستطيع في قادم الأحيان التمتع بهذه الرغبة الكبيرة وهذا العزم الشديد على إكمال الرسالة لن نرى إلا نجيبا واحدا والله منا أعلم...

فحين تدرس القانون مثلي، تجد نفسك في محيط بعيد عن كل البعد عن مجال الآداب حيث يهيم الدارسون بالجمال تغنيا قبل الوقوف عند مكامن الآلام..، وعليك أن تجذف لأنك اخترت عن وعي وإدراك، ولأن التحدي قد أغراك وأردت الغوص في دراسة القوة التي تحرك العالم، وتضبط تصرفات الناس لتجعلها على اضطراد وتماثل...، وأن تكتب بيد ثالثة حن تستلقي على قاربك لترتاح من التجديف، على أن تتفرغ لفنك حين الوصول إلى البر,أو في مرحلة شيخوخة، ,أو أن يكتب له الله أن ينشر بعد هلاكك كمخطوطات مقدسة...، أما الآن فأنت يا ولدي كاتب موقوف التنفيذ.

 

أسامة بن جلون

باحث بسلك الماجستير بكلية الحقوق تطوان-المغرب.

 

في المثقف اليوم