أقلام ثقافية

فوضى القراءة

nadeer almajedفي كتابه "نظرية التناص" يقترح "جراهام آلان" جملة من الخيارات والاحتمالات القرائية. كيفية القراءة لأي نص، سواء كانت دراسة أو عمل أدبي، لكاتب مثل بارت أو باختين أو امبرتو إيكو أو حتى لجراهام آلان نفسه، هي مسألة تقع في قلب نظرية التناص. والتناص هنا طبيعة ثقافية أعم مما هو مكتوب أو منطوق أو مرئي، وجراهام آلان يتعقبه بداية من أصوله عبر المزيج الذي وضعته الناقدة "كريستيفا" بين لسانية "سوسيور" والمبدأ الحواري للناقد والفيلسوف الروسي ميخائيل باختين، مرورا بالصياغات الما بعد بنيوية للناقد الفرنسي رولان بارت، وانتهاء بالمداخلات والنقد النسوي.

منذ البداية يمنح المؤلف قارئه سلطة القراءة، يعطيه حرية أن يصوغ طريقته المفضلة في التلقي، كأن القراءة تبدأ بقرار، تبدأ بتعسف واعتباطية، كأنها لعبة يضع قواعدها المتلقي وحده، إن القرارات لا نهائية مثلما هي احتمالات التلقي، قد يقرر القارئ القراءة من البداية إلى النهاية، من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة، من الغلاف إلى الغلاف خاضعا لإملاءات المؤلف في تتابع النص، هذه القراءة سلبية خاضعة وممتثلة.. "وقد يقرر بعض القراء الذين لديهم معرفة مسبقة بنظريات خاصة قراءة الفصول التي تناقش هذه المقاربات قبل التحليق خلفا إلى نقطة البداية".. يعني ذلك قراءة بالعكس، قراءة بالمقلوب، قراءة انتقائية، ربما. لكن هنالك قارئ عملي يمقت التعقيدات النظرية، يطيب له القفز على المعالجات النظرية نحو الشق التطبيقي، والمؤلف يمنحه الحق في ذلك، أما القراء المهتمين بنظرية التناص تحديدا، فلهم الاكتفاء بالفقرات المتعلقة بسوسور وباختين.

أن تقرأ يعني الدخول في شبكة من التعالقات السيميولوجية، فضاء أو متاهة نصية معبأة بالاقتباسات، وعي القراءة بهذا المعنى هو وعي "ما بعد حداثي" لقارئ غير نسقي، يتجاوز القارئ المثالي الذي يكرر نفسه بتكرار النصوص التي يقرأها، كما يتجاوز أيضا وفي الآن نفسه ذلك القارئ المتعالي المنهمك في قراءة الكلاسيكيات: "لا تقرأ سوى الأدب الرفيع" !!.

وكما هو الشأن دائما في "المابعديات"، تمقت القراءة الما بعد حداثية النمذجة، إذ ليس ثمة قراءة نموذجية أو قارئ نموذجي، هناك فقط قراءات لا تنتهي، قراءات بصيغة الجمع، وكما أن هنالك كتب هنالك أيضا قراءات وتأويلات، يقول المخرج الروسي تاركوفسكي "الكتاب الذي الذي يقرأه ألف شخص مختلف يصير ألف كتاب مختلف"

إن القراءة في وعيها "الما بعد حداثي" ليست فعلا سلبيا، ليست مجرد تلقيات سلبية، إنها فعل تورط يعيد بناء النص باستراتيجياته القرائية المتنوعة، يقول فيلسوف التأويل بول ريكور: "حين نعيد قراءة (عمل، نص) فإننا لا نكرر وإنما نعيد بناء النص (نعيد تكوينه المعماري)". وإذ لا وجود لنص بريء، النص العاري من الاقتباسات، كذلك لا وجود لنموذج مكتمل ونهائي للقراءة. من هنا أمكن لجراهام آلان أن يدشن دراسته بروشته "وصفة" تقترح على القارئ بخجل شديد أن يقرأ الكتاب من البداية إلى النهاية، أو من الصفحة الأخيرة، أو يقرأ بعضه، أو لا يقرأ الكتاب إطلاقا: "القراءة التناصية تشجعنا على مقاومة القراءة السلبية للنصوص من الغلاف إلى الغلاف. فليس ثمة طريقة واحدة صحيحة لقراءة أي نص، لأن كل قارئ يجلب معه توقعات مختلفة واهتمامات ووجهات نظر وخبرات القراءة السابقة.

ومن النص المكتوب إلى المعنى، إلى الأيديولوجيا والرموز الثقافية والدينية والسياسية، تتسع القراءة وتأخذ شكل تأويل، إذ تؤكد "ما بعد الحداثة" على المساحة الشاغرة، على النقص الفطري والثغرات المتأصلة في بنية كل نص، القراءة الما بعد حداثية هي دائما وأبدا قراءة غير مكتملة، لا يوجد شيء نهائي، المعنى احتمال ينبذ التأكيدات واليقين الدوغمائي، بما أن القراءة فعل يكتنفه الصراع أو الحوار بين آفاق ثلاثة: المؤلف، النص، المتلقي. أحادية القراءة إذن خرافة تدينها التلقيات المابعد حداثية، على أن هذه الأخيرة تستبعد شيئا لا وجود له بحسب ما نفهمه من بول ريكور، فإذا كانت القراءة تأويل، والتأويل يوجد حيثما يوجد معنى متعدد، أي حيثما توجد رمزية، وأن الرمزية طبيعة تدخل في صلب تكوين اللغة، فلا وجود لقراءة نهائية أحادية تستحوذ وتحتكر المعنى وتخنق في المتلقى رغبة التأمل والتأويل، " تعددية المعنى –يؤكد ريكور- ليست ظاهرة مرضية بذاتها، كما أن الرمزية ليست زينة لغوية، فتعددية المعنى والرمزية تنتميان إلى تكوين اللغة وعملها"، هكذا فإن الغة سديم يترجم ذاته في انهيارات المعنى وانزلاقاته وانزياحاته: النص الذي لا يترك مساحة شاغرة، مساحة للتأمل والتأويل، لا يترك مكانا للمتلقي، هذا النص الاستبدادي لا يعول عليه.

 

في المثقف اليوم