أقلام ثقافية

الصِبا والحياة والنغم المكتوم!!

ترعرعنا في مدينة سامراء المنورة بعبق الروح والفكر والثقافة والسحر والجمال، والمتناوسة على أنغام القراءات الفياضة النفحات والتهدجات الصداحة السامية، النابعة من قلوب نقية منغمسة بسلاف المحبة والإنتماء الأصيل للعروبة وجوهر اللغة والدين.

المدينة المتوجة بالحضارة، والمسافرة في آفاق الإنسانية منذ مبتدأ خطوات البشرية، وأول تعبيراتها الفكرية والإبداعية والفنية، التي حفظها لنا "تل الصوان".

مدينة كانت ذات حسن ونكهة وأفياض روعة وسرور، وبهجة تتماوج على الشطآن، وتتلألأ في النفوس والمشاعر والوجدان.

وفيها كنا صبية نتمتع بالموسيقى والأدب والفن، والثقافة والشعر والمعارف العالمية في مكتبتها التي أنشِئَت مع تأسيس دولة العراق في الربع الأول من القرن العشرين.

وكنا نجتمع في المساء لنداعب أحلامنا، ونباري أذهاننا، ونطلق ما فينا من الطاقات والقدرات، التي تميز كل واحد منا، ومن بيننا الذي يمتعنا بصوته الشجي الرائع، وهو ينطلق مصدحا بالمقامات العراقية، وكان أخاذا ومؤثرا ورائعا، وبقي صداه في مخيلتي، حتى جعلني أتصور أن لا قارئ مقام يتفوق عليه، فكأنه وُلد والمقامات مزروعة فيه، فلم يدرسها أو يتعلمها على يد قارئ، وإنما هي موهبة كامنة فيه وتفتقت كالبركان.

ودارت الأيام وفعلت فينا الحروب والحصارات فعلها، فتفرقنا وتشتتنا في بلاد الغرب أوطاني، وقبل بضعة أشهر تواصلتُ مع صاحب النغم المكتوم، فأيقظ أيام الصبا، وأعاد مياه الحياة الإبداعية إلى مجاريها، وكنت متشوقا لسماع المقام العراقي بصوته المنحوت في ذاكرتي، وإذا به يصدح شاديا عبر الهاتف، فألهب روحي وأجج مشاعري وأشعرني بالحياة التي كنا نتطعم بها ونتغرغر بهنائها، والبراءة والصفاء يحفان بنا.

الإنسان الرائع الموهوب العذب الروح، لا يزال بذات الصوت الجميل محافظا على روح الموهبة التي حباه الله بها، لكنه تمنّع عن البوح بها وإطلاقها، لأنه من عائلة متدينة، تأبى عليه الغناء، وتوصيه بأن لا يغني أبدا.

والموهبة ليست ملكا للشخص أو للعائلة، إنها رسالة الحياة للحياة!!

لكن صاحب النغم المكتوم لقوة موهبته وفوران طاقاتها إتخذت طريقا آخر، فبرع بالرسم والسيراميك، حتى قدم لوحات ذات قيمة فنية عالية، وقطع سيراميكية رائعة الصياغة والتقنية والأصالة، التي تحمل روح المدينة التي نشأنا في مواطنها الغنّاء.

تحية لصديق الصبا، الذي أعادني للرسم بعد أن سرقه الطب والقلم مني، وأبهجني بعطاءاته الفنية، ذات الحضور العالمي والإنساني السامق، كملوية وجودنا الروحي والفكري الشماء!!

 

د-صادق السامرائي

في المثقف اليوم