أقلام ثقافية

الدم .. الغواية الكبرى

"أحب فقط ما كتبه الإنسان بدمه" .. نيتشه

إن الخوض في حديث عن الدم لن يخلو من تعقيد لما فيه من تعدد أماكن وزوايا النظر فهو نظر فلسفي وسوسيولوجي في تمثل يكاد يحضر في كل الشرائح الاجتماعية بتعدد أشكاله فالدم حاضر بقوة في التمثلات والطقوس بما فيها الدينية والتي كثيرا ما ارتبط فيها بالتطهر والطهارة والقداسة والتماس البركة في مختلف الأديان السماوية والوضعية.

فطقس الذبح في الإسلام مثلا بما هو شعيرة دينية لا يخلو من حضور رمزية الدم من خلال الأضحية المقدمة، كما هو الحال في المقدس المسيحي أيضا - ولو رمزيا - فالكتاب المقدس يؤكد أن يسوع المسيح هو الذي أصبح الذبيحة لفداء العالم..

كما أن التصورات القائمة في المجتمع عن "الدم" تتعدد وتأخذ صورا كثيرة،حيث نجد في الذهنية الاجتماعية المتشبثة بالمقدس الضرائحي أنه لحل مشكلة ما لا مناص من تقديم ذبيحة للولي كما أنه في معظم الأحيان لا يُضمن قبول القرابين التي تقدم للأولياء إلا بذبحها في الحين وإراقة الدم أمام ضريح الولي التماسا لبركته، وهو طقس وراءه رغبة حارقة في الاحتفال بالدم ذلك السائل الذي لا يخلو من رمزية الملوحة التي يهبها لوجود لا يستقيم طعمه بلا نكهة الدم.

لقد تمركزت كثير من الطقوس الاجتماعية حول الدم ولم تنفصل تلك الطقوس عن المقدس الديني ويحايث ذلك الإحالات الرمزية لهذا الفعل الجماعي ففي المتخيل الاجتماعي يحضر الدم بصورة ملحوظة في أكثر من مناسبة،في الزواج مثلا من خلال التمثل القائم حول دم الافتراع ليلة الدخلة الدال بشكل أو بآخر على الأخلاق والطهارة والشرف،ولا يقتصر التواشج بين دال الدم ومدلول الطهارة والشرف على هذا الجانب، فمنظومة القيم المتوارثة في مجتمعاتنا ترسخ بقوة صورة الحفاظ على الشرف "بالدم" حتى في مناحي أخرى وهذا لسان الشاعر أبو الطيب المتنبي يقول: "لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى*حتى يراق على جوانبه الدم"

كما من المعروف في المتخيل الشعبي أنه إذا كان أحدهم يعاني من "سحر" أو "عسر" أو "مس" فإنه عليه حتما أن يطهر نفسه من هذه الأمور وذلك عن طريق تقديم الذبيحة كما سلف الذكر إضافة إلى طقوس مناسبة الختان المسمى عرفا بـ"الطهارة" نظرا للصلة الوثيقة بين عنصري الدم والطهارة في المخيال الجماعي.

وغير خاف اقتران الدم أساسا بسلوك القتل أيضا بما أن هذا الأخير إراقة للدم في الأصل وفي معظم الأحيان،وذلك منذ الجريمة الكونية الأولى التي تكاد جميع الكتب السماوية تتفق على أحداثها، ما عدا بعض الاختلافات البسيطة في سرد أحداث السفك الأول، حيث إن هذا الحدث سيغدو في سيرورة تضخمية نحو جغرافيات لامتناهية .حدث الأسرة الآدمية الأولى كنقطة تلاق وليس كنقطة بداية لهذا الفعل الذي هو إنتاج مستمر في حقيقة الأمر، إنه حدث يعود بلغة فريدريك نيتشه. ولذلك فإننا كنا أبناء القاتل الأول أكثر من كوننا أبناء الإنسان الأول الذي استحق الخلافة وتحصل الجمعية الإلهية، وتجلي ذلك في الكيفية التي تم بها تطور سلوك القتل عبر التاريخ من حيث إبداع الإنسان في أشكال إراقة الدم الموغلة في التعدد الذي هو وحدة في النهاية.فكان الإنسان الكائن الوحيد الذي عدد طرق إراقة الدم من قتل وتعذيب وما إلى ذلك فهو الكائن الوحيد الذي يفعل ذلك من أجل تحصيل اللذة.

لقد ارتبطت السلطة أيضا والسعي وراء الحفاظ على مناصب الحكم أيما ارتباط بإراقة الدم ولعل الدرس التاريخي يفيض بصور هذا الارتباط فهذا الحجاج بن يوسف الثقفي يقطف رؤوس معارضيه غير ما مرة ويردع بدمائهم من على شاكلتهم في الموقف ويُسخر بذلك الدم وسيلة للحفاظ على كرسيه وهذا أول خليفة في دولة بني العباس ببغداد واسمه أبو العباس عبد الله السفاح،وواضح من لقبه وكذا أرشيف تصفياته مدى تعلقه بالدم والقتل الذي شكل عنده حجر الزاوية في الحكم وكذا عند غيره من الحكام الذين كانوا يجتثون معارضيهم ويعلقون رؤوسهم المملحة في أبواب المدن ترهيبا وعبرة.

ودل ذلك على التعدد الصوري الذي حظي به الدم في حياتنا،فهو أحد أسرار الحياة وهو أيقونة الصراع والتطاحن البشري وغيرها من تجلياته الدائمة غوايتها.

 

 ياســر نـحـيـل

 

في المثقف اليوم