أقلام ثقافية

عز الدين قبل برايل

saleh altaeiالمتداول بين الناس أن الفرنسي الأعمى "لويس برايل" المولود سنة 1809 في إحدى قرى باريس، والذي فقد بصره في الثالثة من عمرة، في حادث عرضي وقع له، والمتوفى سنة 1852 هو الذي استنبط سنة 1829 أسلوب تعليم العميان القراءة والكتابة الذي عرف بـ(طريقة برايل)، والمستخدمة اليوم بشكل واسع في جميع أنحاء العالم.

وبذلك حققت فرنسا بفضل برايل سبقا علميا يحسب لها تاريخيا، بالرغم من وجود خلط تاريخي سببه تهاوننا نحن العرب؛ الذين لم نعرف في تاريخنا موضوع تسجيل براءات الاختراع، أو تهاونا كثيرا مع حقوقنا حتى نهبها الآخرون، ونسبوها إلى أنفسهم، ففازوا بالفخر وحُسِبَ التأخر والجهل لنا وعلينا وحدنا.

وهذا من سوء حظ العرب؛ الذين شغلوا أنفسهم على مر التاريخ إما بالتوافه، أو بالجنس والمال، أو بالصراع المذهبي والطائفي، وتركوا الأصول والجواهر لغيرهم، فخسروا الدنيا والآخرة. وإلا فالعالم ليس غافلا عن العربي العراقي البغدادي الأعمى "زين الدين علي بن احمد الآمدي العابر" هذا العالم الجليل؛ الذي عاش كفيفا في حدود سنة سبعمائة للهجرة، أي قبل برايل بحدود سبعمائة عام؛ كما يقول ميخائيل عواد في كتابه "حضارة بغداد في العصر العباسي"، والذي كان هو السباق لاكتشاف هذا الفن، وله وحده يعود فضل ابتكار فن الكتابة البارزة للعميان.

بالرغم من آفة العمى التي كان يعاني منها، كان الآمدي رجلا استثنائيا، يملك بصيرة تفوَقَ بها على المبصرين، لا في زمانه وحده بل حتى في أزماننا، ولذا لم يمنعه عوقه عن شغل منصب (أستاذ) في المدرسة المستنصرية ببغداد، وهي اكبر جامعة في العالم يومذاك، فأبدع وأجاد لدرجة أن إدارة المدرسة (رئاسة الجامعة) خصصت له غرفة منفردة تعظيما لمقداره وشأنه، واعترافا بمنزلته الفريدة.

بدايات هذه الفكرة لحظها الناس لدى الآمدي؛ الذي كانت له مكتبة شخصية كبيرة، لأنه فضلا عن كونه عالما، كان يتاجر ببيع وشراء الكتب أيضا، فاجتمعت لديه كمية كبيرة منها، وكان إذا طلب منه كتابا ما، نهض إلى خزانة كتبه، واستخرجه من بين مئات الكتب، لا يخطئ في ذلك مطلقا، مهما كان عدد أجزاء الكتاب وعدد نسخه، حيث كان يتحسس الكتاب بيده، فيعرف محتواه، وإذا مرر يده على إحدى صفحاته، يعرف عدد اسطرها ونوع الخط مهما كانت أنواعه.

فضلا عن ذلك كان الآمدي يعرف أثمان كتبه؛ فهو حينما يشتري كتابا ما، يأخذ قطعة ورق خفيفة، ويفتل منها فتيلة صغيرة، ويصنعها حرفا أو أكثر من حروف الهجاء لعدد ثمن الكتاب؛ بحساب الحروف، ثم يلصقها على طرف الكتاب، فإذا أراد معرفة ثمن الكتاب، يمرر يده عليها، ويتحسسها بأصابعه، فيعرف ثمنه.

وفوق هذا وذاك، كان الآمدي لغويا يجيد التحدث بلغات كثيرة، او بالأخرى باللغات الحية المشهورة في عصره، وكان أيضا يؤول الرؤيا بشكل دقيق.

عن تأويل الرؤيا، جاء في كتاب "نَكْت الهميان في نُكت العميان" لصلاحالدين خليل بن أيبك الصفدي (المتوفى: 764هـ) قوله: "كان الآمدي آية عظيمة في تعبير الرؤيا، مع مزايا أخر عجيبة، تدل كلها على عبقريته وشدة فطنته وذكائه"

وعن معرفته باللغات المختلفة، جاء في كتاب حضارة بغداد لميخائيل عواد قوله: وحينما دخل عليه السلطان المغولي "غازان" وهو من أحفاد هولاكو بن جنكيزخان سنة خمس وتسعين وستمائة كلمه الآمدي بالتركية، ثم بالفارسية، ثم بالرومية، ثم بالعربية، فعجب السلطان من فطنته وذكائه، فخلع عليه، ووهبه مالا كثيرا، ورسم له بمرتب يجري عليه في كل شهر، وحظي عنده وعند وزرائه بمنزلة رفيعة.

كل هذه الصفات النادرة تميز هذه الشخصية الفريدة وتؤهلها لأن تبتكر وتبدع، ولذا ليس من الغريب أن يستنبط طريقة الكتابة البارزة ويستخدمها، على خلاف الفرنسي لويس برايل الذي يقال أنه حينما كان طالبا في معهد للمكفوفين اليافعين في باريس، قام ضابط في الجيش الفرنسي اسمه "شارل باربيار" بزيارة للمعهد سنة 1821، أبلغ خلالها لويس برايل بأنه ابتكر طريقة جديدة مشفرة للكتابة، يستطيع بها الجنود التخاطب فيما بينهم في الأمور السرية بدون الحاجة للكلام، وهي بأن تبرز على ورق سميك أشكالا من النقاط أقصاها اثنتي عشرة نقطة، لكل منها دلالة كلامية، ومن ثم أخذ برايل فكرة غيره ونفذها بشكل آخر، فهي ليست من ابتداعه.

ولأن برايل واجه صعوبة في فهم تلك الكتابة، نفذها بشكل آخر، حيث قام بتخفيض عدد النقاط من 12 إلى 6، وبدأ في نفس ذلك العام العمل على استخدامها بشكل واسع، وانتهى في عام 1824 ثم قام لاحقا بتوسيع نظام كتابته ليشمل رموز الرياضيات والموسيقى. ونُشر أول كتاب بنظام كتابة بريل في عام 1829.

وهذا يعني أن الآمدي مرشح أكثر من غيره للقيام بهذه المهمة وتحقيق هذا النصر الذي سرقوه منه، ونسبوه إلى من هو أقل منه منزلة ومنزلا ومركزا وعلما، وصاروا يطلقون عليه ألقابا لا تليق إلا بالآمدي، مثل: المكفوف العبقري، العبقري الأعمى، الأعمى الذي ساعد المكفوفين على القراءة، الأعمى الذي غير العالم، زارع النور تحت أصابع المكفوفين، مبصر المكفوفين.

 

صالح الطائي

 

في المثقف اليوم