تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام ثقافية

ضياء نافع: عن مكتبة لينين سابقا ولاحقا

لا زال الروس يطلقون عليها تسمية – مكتبة لينين (ونحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين!)، ولازال الوصول الى تلك المكتبة يعني الذهاب الى محطة مترو تسمى (مكتبة لينين)، رغم ان الامر الاداري بتغيير تسمية المكتبة قد صدر عام 1992 عند انتهاء (العصر!) السوفيتي وولادة دولة روسيا الاتحادية، اذ انها اصبحت منذ ذلك الحين رسميا - المكتبة الوطنية . اختلف المترجمون العرب بترجمة تسميتها الجديدة، فمنهم من يقول – مكتبة الدولة، او، المكتبة الحكومية، او، المكتبة الرسمية، او، المكتبة العامة ... الخ....الخ، ولكننا نميل الى استخدام مصطلح المكتبة الوطنية، التسمية المستقرة في اذهاننا – نحن العراقيين – طوال النصف الثاني من القرن العشرين ولحد الان، اما بالنسبة للروس في الوقت الحاضر، فليس مهمّا كيف تسمّى مكتبتهم الاولى رسميّا، اذ انها بالنسبة لهم كانت وستبقى على ما يبدو – مكتبة لينين، والامر كذلك حتى بالنسبة للاجيال الجديدة من الروس، وقد وقف أحد العراقيين المرحين مرّة في مركز موسكو (اي ليس بعيدا عن تلك المكتبة) وأخذ يسأل الروس – اين تقع (مكتبة الدولة)؟ وكانت الاجابات قاطبة تتوزع بين اجابتين لا غير، وهما - (لا أعرف) او (تقصد مكتبة لينين؟)، وهي تجربة ضاحكة طبعا ضمن تجارب الشباب المرحة، ولكنها حيوية وفريدة في آن واحد، اذ انها تعني ما تعنيه في مفاهيم علم الاجتماع .

وعندما وصلنا في بداية الستينيات الى موسكو للدراسة في جامعاتها، لم تكن مكتبة لينين تخطر ببالنا اصلا، ولكن عندما ازدننا معرفة وعمقا في دراستنا، بدأنا نشعر بضرورة الذهاب الى المكتبات العامة (اذ لم تكن في تلك الفترة الاتصالات الالكترونية كما هو الحال في الوقت الحاضر)، واكتفينا في البداية باستخدام المكتبات العامة، التي كانت موجودة ومتوفرة في جامعاتنا ليس الا، ولكننا بالتدريج وصلنا الى القناعة بضرورة الانتقال الى مكتبة لينين واستخدام مصادرها المتنوعة والغنيّة، والاستفادة من تنظيمها الدقيق والمدهش، ولا زلت اتذكّر (الانبهار!!!) عندما دخلتها لاول مرّة، اذ اكتشفت عالما خاصا، مليئا بملايين الكتب والدوريات، ويخضع لتنظيم صارم وانسيابية دقيقة، خصوصا وان الادارة قد منحتنا – نحن الاجانب – حق استخدام القاعة رقم (1) في تلك المكتبة، وهي القاعة المخصصة للعلماء وكبار الشخصيات، وكنّا نرى بينهم، مثلا، مولوتوف، وزير خارجية الاتحاد السوفيتي السابق ايام ستالين، وكان يواظب يوميّا تقريبا على الجلوس في تلك القاعة بمفرده ويطالع بانتباه الكتب الموجودة امامه على الطاولة، وكان النظام السائد في المكتبة يمنع ادخال الحقائب، وكان هناك مكان خاص عند المدخل نضع فيه حقائبنا ونأخذ رقما خاصا، وعندما نخرج نستلم الحقيبة وفق الرقم، وكانوا يسمحون فقط بادخال دفاتر الملاحظات، وعند الخروج كانوا يلقون نظرة بشكل سريع ومؤدب على تلك الدفاتر (ربما خوفا من وجود وريقة مقطوعة من الكتب)، وقد لاحظت، ان مولوتوف كان يخضع ايضا – وبكل روح رياضية – لهذا النظام العام عندما يخرج من المكتبة. وتوجد في المكتبة كل وسائل الخدمات للقراء من مطعم ومقهى ...الخ، اذ ان المكتبة تعمل منذ الثامنة صباحا حتى العاشرة ليلا .

كل هذه الانطباعات كانت قبل اكثر من اربعين سنة مضت، وعندما عدت الى هذه المكتبة العتيدة قبل سنوات قليلة، وجدت انها قد ارتدت حلّة جديدة زادتها جمالا وتألقا، اذ اصبحت الكتب الشرقية – مثلا - في بناية مستقلّة تقع مقابل المكتبة، وهي بناية تاريخية جميلة، وعندما طلبت منهم كتابا عراقيا صدر في بغداد عام 1945، ساعدني الموظف المختص بالعثور عليه في الفهارس الخاصة، ثم اخبرني بعد حوالي نصف ساعة ان هذا الكتاب دخل في خزانات خاصة للحفظ، وانني اقدر ان اطلع على الفلم المستنسخ منه في قاعة خاصة معدّة لتلك العروض، وحدد لي موعدا دقيقا لذلك . ويسود المكتبة الان نظام الكتروني في الدخول لها والتسجيل والخدمات الادارية الاخرى، وهناك برامج ثقافية ومعارض كتب متنوعة جدا في قاعاتها العديدة ....

في الستينيات كانوا يقولون لنا، ان مكتبة لينين تشغل المكان الثاني عالميا بعدد كتبها ودورياتها، وهو (33) مليون، وذلك بعد مكتبة الكونغرس الامريكية، التي كانت تحتوي على (40) مليون، ولكن هذه الارقام قد تغيّرت في الوقت الحاضر، وهناك الان خمس مكتبات تقف في الصدارة عالميا، ومنها طبعا المكتبة الوطنية لعموم روسيا، اي مكتبة لينين كما يسميّها الروس، وقد اطلعت قبل مدّة على احصائية تشير، الى ان عدد الكتب والدوريات الموجودة بهذه المكتبة حاليا أكثر من (44) مليون، وان هذه الكتب والدوريات ب (367) لغة من لغات العالم .

المكتبات العامة دليل حضارة الامّة، والحفاظ عليها والاعتناء بها وتطويرها دليل حيوية تلك الامّة، والحليم تكفيه الاشارة يا اولي الالباب ...

***

أ.د. ضياء نافع

في المثقف اليوم