أقلام ثقافية

التفاعل العقلي!!

العقول مدارات تسبَح فيها الأفكار، وتدور بتعجيل متنوع يساهم في إيقاد طاقاتها التفاعلية، وتأجيج إراداتها التصاعدية نحو تعجيل أسرع، لكي تتحرر مما تكتنزه من قدرات الفعل والتأثير.

فلكل فكرة بداية وذروة وختام، لكنها أثناء ذلك تتلاقح وتتوالد وتنجب أجيالا من الأفكار، القادرة على التواصل مع زمانها ومكانها، ولهذا فأن أية فكرة لا يمكنها أن تؤول إلى العدم، أي أن الفكرة لا تموت، وإنما تؤدي دورها وتلد جوهرها وتحقق مسيرتها، وتكرر ذاتها بأساليب وآليات تتوافق مع حينها وموضعها، فهي تذهب لتعود، وتغيب لتبزغ من جديد.

والمسافة ما بين شروق الفكرة وغروبها تتباين وفقا لتوافر الظروف اللازمة لإحتضانها، وإطلاق ما فيها من قدرات تفاعلية وتأثيرية على آفاق الحياة، أي أن الفكرة ذات طبيعة موجية وبأطوالٍ تقدّرها قوانين الدوران، ونواميس الإنبثاقات والصيرورات التفاعلية المحكمة الحسبان.

والأفكار ذات علاقة بالمخلوقات، ولكي تنتفي لا بد أن تنتفي جميع الموجودات، وهذا غير قابل للحصول وفقا لبصائر العقول الكونية.

 

وإنما كل فكرة تدخل في حلقة الدوران السرمد حتى لتجد مدارا يستوعبها، أو مدارات لا تحصى ترعاها وتذعن لإرادتها وفحواها، وقد يكون ذلك على نوبات ذات فواصل زمنية متباينة.

لأن الظرف المكاني والزماني يؤهل الأفكار للقيام بأدوارها، التي ربما تتناقض مع ما قامت به من أدوار سابقة، وذلك يعتمد على مستوى المدارات التي آوَتها، وتمكنت من تسخيرها للتعبير عن رسالتها المتحققة بفعل الدوران.

وهذا يفسر كيف أن الفكرة ذات طبائع سلوكية متنوعة وفقا لطبيعة الأجيال، التي تحملها وتمضي مُستعبَدة بها.

ويتضح ذلك في العقائد، حيث يكون التعبير عن ذات العقيدة بأساليب وتفاعلات متناقضة ومتضادة، ففي مراحل المسيرة البشرية يكون ترجمة العقيدة كفكرة ومنهج سلوكي متقاطعا أو منسجما مع جوهرها ومراحله، والأمثلة متنوعة وعديدة في مسيراتها جميعا.

وبما أن الفكرة لا تموت فأنها تنطلق بأشكال وصياغات وتفاعلات مطلقة متواصلة في نهر الخلق الدفاق.

والأفكار ذات طاقات تفاعلية تسعى للتزاوج والتوالد، وطاقاتها المترافقة معها، تتباين ما بين العقول التي تدور في أفلاكها، وكلما تنامى تفاعلها، إختزنت طاقات تأثيرية وسلوكية أعظم، فبدون التفاعل العقلي الفكري، تبقى الفكرة عزلاء مُصفّدة في أسر الذات المنقطعة عن ميادين العطاء والنماء.

وتأثير الفكرة يعتمد على قوة نبعها، وقدرة مصدرها، وقابليته على حث العقول لإستنهاض مداراتها، الكفيلة بتوفير سرعة دوران متزايدة لسيادة الفكرة على أرجاء الكيان.

ولهذا فأن الفكرة مهما كان نوعها، قد يتوفر لها العقل القادر على بثها وحثها في مدارات العقول من حوله، وتحويلها إلى توابع تدور وفقا لسرعة دوران الفكرة في مستويات وعيهِ، وهيمنتها على سلوكه ومَداركه.

والأفكار لا يعنيها إستهداف العقل الذي إلتقطها وتمكّن من بثها وبذرها في أدمغة الآخرين، لأنها حالما تتوطن أي عقلٍ مهما كان نوعه وطبيعته، فأنها تستثمر فيه أقصى الإستثمار وتغادره للإحلال بعقول أخرى وأخرى، تتمكن بواسطتها من إنجاز مشاريعها الكامنة فيها، والمتوافقة مع نبضات العقول والنفوس التي غنِمَتها، فالفكرة تحتاج لقادح لكي تلتهب وتتأجج، وتصيب ما أمكنها من العقول وتسخّرها لغاياتها، بعد أن تشحنها بمؤهلات التمسك المطلق بها، ذلك أنها قِوى تعبّر عن قوانين القوة المعلومة والمجهولة على ظهر كوكبٍ مأسورٍ بقِوى جذبٍ وتنافرٍ دقيقة الموازين.

والأفكار كالمولودات الحية تحتاج للماء والهواء والغذاء والرعاية والمُداراة، ولا يمكن للفكرة ان تتواصل من دون الظروف الحياتية المؤاتية، وأسباب الحضانة الكفيلة لحياتها وبلوغها مراحل التفاعل والعطاء.

ولكي تنطفئ جذوة أية فكرة فعّالة، لابد من تعويق قدرات حثها وتوليدها، والتقليل من سرعة دورانها في مدارات العقول، والإتيان بفكرة تدور بتعجيل أسرع منها، لكي تصاب بالإنكماش والتجمّد والتأسن في مواضعها، ولو لحين.

والأفكار المنتشرة في المجتمعات، وجدت الحاضنات المَدارية، وأسباب العيش والحياة والتلاقح والتنامي والإزدهار، ولا يمكن الشفاء من أضرار بعضها، إلا بإستهداف الظروف التي أوجدت حواضنها النفسية والفكرية والسلوكية، وضخ المدارات العقلية بأفكار ذات تطلعات إيجابية صالحة راجحة، تساهم بإصابة الفكرة المُستهدفة بفقر التأثير والهُزال فتذوي وتنكمش في قوقعة ذاتها، وتنحبس في صندوق إختناقها وفقدانها قدرات الحصول على طعام ينمّيها ويمنحها طاقات تفاعلية مؤثرة .

فالأفكار تتقادح وتتقاتل وتتعايش، لكنها لا تتماحق، فكلّ فكرة تؤتي أُكُلُها في وعائنا الدوّار، وتبقى تدور؟!!

 

د-صادق السامرائي

في المثقف اليوم