أقلام ثقافية

الجنون والجنون!!

الجنون ظاهرة حية ذات طاقات فائقة للتعبير عن فكرة ما.

وهو ليس بالضرورة أن يسمى مرضا أو إضطرابا ويتوجب علاجه.

أي أن الفكرة تتمكن من إستحضار أو إمتلاك طاقات قد تكون مطلقة لتحقيق جوهر ما فيها من الصيرورات الكامنة والساعية للمشاركة في باناروما الوجود الدوّار.

فالذي نسميه مجنونا، ما هو إلا طاقة تمكنت من الإنتصار على أصفاد أسرها، وتحطيم جدران وعائها والإنفلات في محيطها، كما يحصل لمياه النهر الجاري عندما تتدفق إلى غير مجراها حالما تتعرض لإعاقة أو تنسد مساراتها.

وطاقة الجنون تبدو وكأنها إنفجار هائل في أعماق الذات وإنطلاق مدوي في رحاب آفاق الخيال والرؤى.

وهي كالصاروخ الذي يحمل الفكرة إلى مدارات أخرى، ويسعى لتحريرها من قوة الجذب التي تشدها للتراب.

فالجنون صواريخ عابرة للقارات والأجرام والأكوان والعصور، وتعتمد قدرات الإنطلاق والديمومة على ما تحتويه الذات (المجنونة) من طاقات إندفاعية أو حياتية تؤهلها للتفاعل اللا منتهي في أرجاء المنطلقات المتصاخبة كهدير الأعاصير والزوابع والرعود.

 

ولهذا فأن الجنون درجات ومستويات تتناسب ومُختزن الطاقات الفاعلة فيه.

ولا يمكن تعميم حالة الجنون، وإنما لكل حالة خواصها ومميزاتها ومواصفاتها وعلاماتها الفارقة ، التي تحدد طبيعتها وهويتها ومساراتها السلوكية ورؤيتها ومداركها ودرجات وعيها، وآليات تحليقها في فضاءات تستوعبها وتتمازج معها وتكون فيها.

والجنون كما يُقال "فنون"، لأنه حرّ في خياراته وتوجهاته وبداياته ونهاياته، وقدرات إستحضاره وتوليده للحالات المؤهل لإنجابها ورعايتها والإستثمار فيها.

فكل ما هو خارج عن المعتاد والمألوف يمكن تسميته بالجنون، ولا يحتاج إلى علاج، إلا إذا تحوّل إلى حالة مضطربة عاصفة في أرجاء الذات والموضوع.

فالجنون الذي نعنيه بدقة كمرض أو إضطراب سلوكي، هو الحالة التي إنفلتت فيها طاقة الفكرة وتشظت مفرداتها وأبجدياتها، وما عاد صاحبها بقادر على لملمة أشلاء ما يراه ويدركه ويتفاعل معه، وبهذا الإنفلات تتحقق تفاعلات ذات نتائج خطيرة في صيروراتها وتداعياتها.

ولكي نعالج هذا "الجنون"، نسعى إلى لملمة أشلاء الفكرة في وعي "المجنون"، وإعادة قدراته على الإمساك بدفتها والتحكم بإتجاهاتها وإنبعاجاتها، وما تذهب إليه وتريد تحقيقه.

أي أن الفكرة إنفلتت من عقالها وتاهت في مكانها وزمانها، وفقدت القدرة على التبرعم والتشعب والعطاء.

وما نقوم به هو محاولات لإعادة ضبطها ولجمها ومنع جماحها وتصاخبها في أركان ما حولها.

وهذا النوع من الجنون يكون كما نسميه - مرضيا - وهو لا يشكل نسبة كبيرة من عواصف الجنون الفاعلة في الحياة.

فالواضح أن الحياة محكومة بطاقات جنونية فائقة تؤثر فيها وتحدد مسيراتها، وما تؤول إليه، ولهذا فلن يتحقق السلام والعدل والحرية والكرامة الإنسانية، لأن سورات الجنون وطاقاته أعتى من السكون والهدوء المتناغم المتهادي بإنسابية عذبة رقراقة.

والتأريخ البشري بأكمله ترسمه طاقات جنون فعّالة وبائية التوجهات، وتتوطن في جيل وغيره من الأجيال، وبعضها ذات إزمان وتمكن ثابت.

فالجنون السائد والفاعل في الحياة، هو الذي يتصل بالفكرة وما تحثه حولها من مشاعر وإنفعالات وعواطف شديدة، تكرسها وتكررها وترسخها وتعززها في متاهات السلوك والمدارك والوعي والرؤى للكائن الحي.

وما تعانيه الأجيال في الأرض هو جنون الفكرة الذي يأخذها إلى أفظع حالات الجنون الوجودي والكوني، لكنه لا يُحسب مرضا أو إضطرابا، لأنه يشتمل على الغالبية الفاعلة في الزمان والمكان.

والعديد من الأمم والشعوب إجتاحتها موجات فكرية جنونية ذات طاقات تدميرية هائلة، فأذعنت لها وتواصلت معها، حتى خفتت سورتها ووصلت إلى أوج تأثيرها وتهاوت أركانها، وهدأت لحين، حتى تجتاحها فكرة أخرى ذات آليات جنونية متولدة منها.

أي أن الموجودات تتعرض لنوبات جنونية متكررة مصدرها الطاقة المنفلتة في كوامن الذات الحية، والتي يتسبب فيها الدوران الكوني السرمد.

وعليه فأن الحروب تتوالد، والتداعيات تتواصل، وكل طاقة تتحول إلى أخرى، وبما أن الجنون طاقته متصلة بفكرة، فأن أية فكرة مهما تصورنا أنها غير مجنونة، فأنها ستعبّر عن جنونها عندما تتوفر الظروف المؤاتية لذلك.

وهكذا فأن كل معتقد أو رؤية وتصور يحمل طاقات جنون تكفل له التفاعل المجنون مع ذاته وواقعه، ولن تخلو أية فكرة من سلوك جنوني يرتبط بها.

ولهذا فما نعالجه من "جنون"، عبارة عن حالات فردية لم تجد المكان والزمان الذي يستوعبها، وقد لا يكون بحاجة لعلاج في بيئة غير البيئة التي تصفه بالجنون.

وهذا يعني أن الجنون حالة نسبية وليست مطلقة وأن المكان والزمان يحددان التوصيف، ويمليان التفاعل العلاجي مع الكائن الحي الذي إكتسب تعريف الجنون.

 

لكن الجنون بمعناه الجمعي لا يُعالج، وإنما يمضي في رحلته للتعبير الأقصى عن أفكاره، المشحونة بأعلى قدرات ودرجات الطاقة اللازمة لترجمة الفكرة إلى فعل وعمل وصيرورة قائمة في الحياة.

ترى هل أن الجنون مُخترَع سلوكي للسيطرة على مُضطربات الحياة، التي لا تقوَ إلا على الإمساك بالفرد، أما المجموع فأنه يمسك بعنق الحياة ويسخرها لغايته وتواصلاته الساعية إلى ما نسميه بالجنون الذي يصل إلى حد البطولة، وإرتكاب أفظع ما يمكن تصوره من جرائم الإبادة الجماعية اللازمة لصناعة جنون النصر.

فلكل جنون غاية ووسيلة، وبداية ونهاية، ونوبات جنونية متتالية، ذات تواصلات زمنية لشحن طاقات جنون قادمة.

والخلاصة، أن الجنون طاقة مكبوتة في الحي، والخطورة المترتبة عنه تكمن في الإنفلات الجمعي المتواشج مع مرتكزات ذات شحنات عاطفية وإنفعالية شديدة التأثير، ولن تتعافى البشرية من عواصفه وأعاصيره المدمرة إلا بمواصلة التحصن ضد جراثيمه ومايكروباته الفكرية المعدية، ذات الطبيعة الطاعونية المهلكة الماحقة.

فهل توصلت البشرية إلى مضادات حيوية للأوبئة الفكرية الجنونية؟!!

وهل بقدرتها صناعة لقاحات تعزز المناعة والمقاومة وتدرأ عنها أمراض الجنون الفكري؟!!

 

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم