أقلام ثقافية

احتفاءا بالذكرى 128 لولادة الشاعر الروسي الكبير سيرغي يسينين

ترجمة وإعداد: إسماعيل مكارم

في  أيام الخريف الجميلة، في موسم ذهب الغابات،  بهذا العام  سيحتفل المجتمع الروسي على المستويين الأكاديمي والشعبي بالذكرى ال 128 لولادة الشاعر الروسي الكبير سيرغي يسينين.

سوف تقام في روسيا الندوات العلمية، والمؤتمرات ذات الطابع الأكاديمي، وسوف تعقد جلسات بحث لدارسي، ومتابعي، ومحبي أرث هذا الشاعر الروسي الكبير. تجدر الإشارة أن معهد غوركي للآداب العالمية، وجامعة ريازان الحكومية بالتعاون مع متحف يسينين في كونسطانطينوفو - ضيعة يسينين - هذه الجهات كلها تقيم كل عام في اواسط أيلول مؤتمرا علميا لدراسة إرث يسينين. من حسن حظي أني منذ عام 2017 أشارك كل عام في أعمال هذا المؤتمر، الذي ينجز أعماله على مراحل: الاولى في موسكو، والثانية في ريازان، والثالثة في كونسطانطينوفو. نحن ليس للمرة الأولى نتكلم عن عبقرية هذا الشاعر الفذ، وعن أشعاره وحياته، بل سبق لنا أن قمنا بنشر قصائد له مترجمة إلى لغتنا العربية على صفحات صحيفة  " الأسبوع الأدبي" الدمشقية و" صحيفة المثقف" الغراء، كما في الدوريات الروسية.

لاشك أن من اطلع على نتاج مشاهير الأد ب الروسي في القرنين التاسع عشر، والعشرين، ومن درس بعمق هذا الأدب وخاصة ما قدمه الشعراء الروس في العصرين:   الذهبي،  و الفضي سيصل إلى نتيجة مفادها:

أنّ قمة الشعر الروسي في العصر الذهبي - هي أشعار الكساندر بوشكين بأشكالها المختلفة، وقمة الشعر الروسي في العصر الفضي - هي أشعار سيرغي يسينين. إنّ ما يميّز الشعر لدى يسينين هو قرب هذا النتاج من روح الشعب، وتجذره وارتباطه المتين بالأرض الروسية، وانصهاره، لا بل تآخيه مع الطبيعة، إلى جانب دفاع الشاعر عن الإنسان ووجوده أمام خطر هجوم الثورة الصناعية، وزحف العمران المدائني، والخوف من ولادة انسان من نمط  جديد، قد اقتلِعَ من جذوره، وأرضه، وبيئته، ونسيَ ماضيه وعاداته، كما نسي أعياده والتقويمَ الذي عاش عليه أجدادُهُ ومجتمعه.

رأينا اليوم من واجبنا أن نقدم للقراء الكرام مجموعة من قصائد يسينين التي كتبها في مرحلة العشرينيات من القرن الماضي.. وهي مرحلة نضوجه ككاتب وكإنسان. نعتقد أن القارئ الكريم يعرف أن عمر  شاعرنا كان  قصيرا جدا، إذ ولِدَ في  الحادي والعشرين من أيلول عام 1895م (حسب التقويم القديم) أي(3 أكتوبر، في التقويم الحالي)،  وتوفاه الله في 28 كانون أول من عام 1925م في مدينة لينينغراد، ودفن في موسكو، غير أنه ترك لمجتمعه الروسي وللمكتبة العالمية إرثا غنيا وكبيرا، وهذا الإرث العظيم جدير بالدراسة والترجمة.

***

ليسَ غريباً عليّ هذا الشّارع

«Эта улица мне знакома…»

ليسَ غريباً عليّ هذا الشّارعْ

ليس غريباً عليّ هذا البَيتُ المُتواضِعْ.

ولا هذا السّقفُ من عيدان القشّ

الذي تدَلتْ قصَلاتهُ على النافِذة.

**

لقد عِشنا سَنواتٍ قاسِية ً

رأينا فيها قوى قوية جَبّارة.

لا زلتُ أذكرُ أيامَ الطفولةِ في القرية

لا يزال في خلدي ذلك البَهاءُ الأزرَقُ.

**

لم أبحثْ يوماً عن الشّهرةِ والعيش ِ الرغيدْ

إذ أني أعرفُ ما هي الشهرة، صاحِبة السَعادة.

حين أغمضُ عينيّ  في هذهِ الأيامْ

لا أرى سوى بيت الأهل ِ.

**

أرى ذلكَ البُستانَ في أيام المَطرْ

وكيفَ شهْرُ آب يَحنو على السّياج

كيف تحْتضِنُ أشجارُ الزيزفون

تلك الطيورَ وتغريدَها ووَشوَشاتِها .

**

كم أحْبَبتُ هذا البَيتَ الخشبيّ

ففي جذوع الشّجر تلك قوة ٌعظيمة

أما فرنُ البيتِ فقد كان يُصدِرُ أصواتا غريبَة

في ليالي الشتاءِ القاسية.

**

كانَ صوته جَهوريا، كأنه نشيجٌ

على أحدٍ ما قد فقدَهُ أحِباؤه.

ماذا تراءى لجمل ِ الآجُرّ هذا

في زخةِ المَطر وهو يُوَلول؟

**

ربما قد رأى بُلدانا بَعيدة

أو رأى في المَنام مَوْسِماً آخرَ جَميلا

أو رمالَ بلادِ الأفغان ِ الذهبية

أو سَماءَ بُخارى الزجاجية الغبراء.

**

آه، أنا أيضا أعرفُ  تلكَ البُلدان

فقد اجتزتُ دروبا ليستْ قصيرَة ً هناك

ولكني كنتُ مشدودا دوما نحو ديارنا

لذا أرَدْ تُ اليومَ أن أعودْ.

**

غير أنّ تلكَ الغفوة الجَميلة قد انتهتْ

كلُّ شيء قد انتهى وذهَبَ مَعَ الدّخان ِ الأزرق ِ.

سَلامٌ إلى عيدان ِ القش البرّي

سَلامٌ  لكَ أيها البيتُ الخشبيُّ.

1923

***

بقِيَ لي شَكلٌ واحِدٌ للمَرح

«Мне осталась одна забава…»

بقي لي شكلٌ واحدٌ للمَرَح:

وهو أن أقومَ بالصّفير كالفِتيان.

تدِحرَجَتِ الأحاديثُ عن سُلوكي السيِّئ

قالوا أني رجُلُ قصْفٍ وشتائِمَ.

**

آه إنها لخَسارة مُضحِكة !

كم في الحياة من خَسائِرَ  تدعو إلى الضّحِكْ.

إني خَجلٌ لأني كنتُ مُؤمِناً بالله.

وأتمَرمَرُ  اليَومَ لأني لا أؤمِنُ بالله.

**

إنها الأبعادُ الذهبية !

هذه الحَياة ُالتعيسة ُ تحرقُ كلَّ شيء.

لقد قصَفتُ وشتمْت ُ..

كلُّ ذلك كي أحْترقَ أكثرْ.

**

مَوهِبة ُ الشاعر في أن يُداعِبَ ويُخَربشَ

إنها سِمَتهُ، وصارتْ قدرًا له.

حاولت أن أجمع بين وَرْدَةٍ بيضاءَ وضفدع أسودَ

أردت أنْ أزاوج بينهما.

**

لنقل أن ذلك لم يَحصلْ، لم يَحد ثْ

غير أنه كان وليدَ أفكار تلك الأيام ِ الوَرديّة.

إذا الشياطين قد عشّشتْ في الروحْ..

ذلك يعني أن للمَلائِكةِ مَكانا فيها.

**

بسببِ مداعبتي تلك الحُثالة

تراني اليومَ مُتوَجّهاً برفقتِها إلى عالم آخر.

ولي طلبٌ: عندما تحل ساعتي

أرجو مِمّن سيكونون بقربي −

**

لأجل التكفير عن ذنوبي الثقيلة

وبما أني قد كفرْتُ  بالنِعْمَةِ ...

أن يَكفنوني بقميص ٍ روسيّ

ويَجعلوني أموت تحْتَ الأيقوناتْ.

1923

***

اجْلِسي بقربي يا غالية

«Дорогая, сядем рядом…»

اجْلِسي بقربي ياغالية

ليَنظرْ كلّ مننا إلى عيون الآخر.

أريد من خِلال نظرتِكِ الحانِية

أن أشعُرَ بعاصِفةِ الوَجْد.

**

ذهَبُ الخريفِ الأصْفر ُ هذا

وضَفيرة ُ الشعر بلون ِ السّنبلة

كلّ هذا بُعِثَ كيَدٍ مُدّ تْ

لانقاذِ شابٍ  طائش نزق ٍ.

**

لقد غادَرتُ ديارَنا مُنذ ُ سِنين

حيث تزهِرُ الأجَماتُ هناكَ والمُروجُ.

شدّني التوقُ إلى أضواءِ المَدينةِ، ونحوالشهرةِ

فعشتُ كإنسان ٍ ضائِعْ.

**

أرَدْتُ من هذا القلب أن يَتذكرَ قليلا

بُستاننا .. و أيامَ الصّيفِ

حَيثُ على أنغام نقيق ِ الضفادِعْ

حَضَّرتُ نفسي كي أصْبحَ شاعِرًا.

**

الدّنيا الآنَ هُناكَ خريفٌ أيضاً

أشجارُ القيقبِ، والزيزفون تشْخَصُ أمامَ نوافذ ِ البيتْ

ترسِل أغصانها كما الأيادي

تبْحَثُ عمّن تعرفهم هُناكْ.

**

لقد رِحَلوا عن هذهِ الدّنيا مُنذ ُ سِنين.

ها هو القمَرُ في سَماءِ المَقبرَةِ

يَرسُمُ بأشعتِهِ على الصُّلبان ِ

أننا قريبا سَنكونُ عِندَهم

**

وأننا بَعْدَ أن نعيشَ زمَنَ الخوف ِ

سَننتقِلُ إلى ذاكَ المَكانْ.

كلُّ الدّروبِ الصّعبَةِ

تهدي الفرَحَ للأحْياء.

**

اجْلِسي بقربي يا غالية

لينظرْ كلّ مننا إلى عيون الآخر.

أودّ من خلال  نظرتِك ِ الحانِية

أن أشعُرَ بعاصِفةِ الوَجدْ.

أكتوبر عام 1923

***

ها هو الغابُ قد ختمَ كلامَه

«Отговорила роща золотая…»

ها هو الغابُ قد ختمَ كلامَه

حَدثتنا باسمِهِ شجَرَة البَتولا بلغةٍ باسِمَة

ها هي طيورُ الغرنوق ترحَلُ حَزينة

غير آسفةٍ على أحَدْ.

**

لا سَبَبَ للتأسّفِ على الناس، فكلّ واحِدٍ ضيفٌ

يَعبُرُ... يَدخلُ البَيتَ، ثم يُغادرُه.

شجَيرَة ُ القنب ترى في المنام من رَحَلوا

هناكَ قربَ البُحيرَةِ الزرقاء، حَيث يُساهِرُها القمَرْ.

**

أقفُ وحيدا في هذا السّهبِ العاري

والريحُ تدفعُ أسرابَ الغرنوق بَعيدا

وفي البالِ ذكرياتُ الشبابِ الجَميلة

غير أني لسْتُ مُتأسّفا على أيّ أمر مَضى.

**

لستُ نادِما على العُمر الذي ضاعَ عَبَثا

ولا متأسفٌ على زهر الليلكِ

شجَرة ُ "ريابينا" تشعِلُ مَوقِدَها الأحْمَرَ في البُستان (1)ِ

لكنهُ لا يَمنحُ الدّفءَ لأحَدْ.

**

لن تحْترقَ عظامُ "ريابينا"

وهذا الاصفِرارُ لن يُبيدَ العُشبَ

ها هي الأشجار تودّع أوراقها برقةٍ

مثلما أنا أبَعثِرُ كلِماتي الحَزينة.

**

إذا الوَقتُ أدّى إلى جمعها، بقوةِ الريح

في كومةٍ واحدةٍ, فقولوا:

ها هو الغابُ الذهبيُّ

قد ختمَ كلامَهُ بلسان ٍعَذبٍ وَجَميلْ.

1924

***

كم يَخطِرُ على بالي

«Я помню, милая, помню…»

كم يَخطِرُ على بالي يا غالية...

جَمالُ شعركِ الحَرير

كم كانَ صَعباً عليّ ومرّا

أمْرُ وداعِكِ آخر مَرّة.

**

تعودُ إلى الذاكرة ليالي الخريفِ تلك

وحَفيفُ أغصان ِ البَتولا، كأنها أشباح،

الأيامُ حينها كانتْ قصيرة

أما القمَرُ فكانَ كريماً بأشعتِهِ الفِضّية.

**

أذكرُ كلامَكِ حين وشوشتِني:

" سوف تمرّ هذه الأعوامُ الزرقاءُ

وسوفَ تنساني يا حبيبي

وتعشقُ امرأة ً أخرى".

**

أزهارُ شجرةِ الزيزفون تحْيي اليَومَ

في الذاكرة تلكِ المَشاعِرَ

حين كنتُ أنثرُ الزهورَ

على ضفيرةِ الشعر الأجْعَدْ.

**

هذا الفؤادُ لا يُريدُ أن يَهدَأ

أراهُ يُلاطِفُ امرأة ً أخرى حَزيناً

كأني به بهذِهِ القِصّة...

إنما يَعودُ بالذاكِرَةِ إليكِ من جَديدْ.

1925

***

النجوم تغفو

«Заря окликает другую….»

النجومُ تغفو في لحَظاتِ الفجْرالأولى

وحُقولُ الشوفان يُغطيها الندى...

خَطرْتِ على بالي أيّتها الغالية

خطرتِ على بالي يا أمي العَجوز.

**

حين تمشين كعادتِك ِ نحوَ الرّابية

ويَدُك ِ تمسِكُ العكازَ بشدّة

ترينَ كيفَ القمَرُ يَستحِمُّ

في مياه النهر الغافي.

**

أعْرفُ ...تظنين بمرارةٍ وقلق

وحزن ٍ كبير أنّ ..

ابنك لا يبالي أبدا بموطِنِه

وروحُه ُ لا تقلقُ على دياره.

**

ثم تقودُ كِ قدماكِ نحو المَقبرةِ

تقفين قرْبَ السّياج والحَجَر

فتتنهدين بعَطفٍ وحَنان ٍ

إذ يَخطرُ على بالِكِ إخوتي وأخواتي.

**

لنقل أننا كنا مُشاغبين

أما أخواتي فكانَ صباهُما أيّارْ

وَد دْ تُ لو أنّ هذا الشَّجن

يُغادرُ يوماً عَينيكِ الحَزينتينْ.

**

كفاكِ حُزنا !  كفاكِ !

لقد حانَ وقتُ أخذِ العِبَرْ

فشجَرَة ُ التفاح تتألم أيضاً

لفقدان أوراقِها النحاسِية.

**

ما أحوجنا إلى الفرح

فهو جَميلٌ كأجراس ِ الصّباح،

أفضّل ُ أن أحْترقَ في مَهبّ الرّيح ِ

على أن أبقى على الغصْن ِ وأتعَفنْ.

1925

***

.........................

هوامش ومصادر:

1) ريابينا: هي شجَرة ُ "غبَيْراء" (بضم الغين)، تعطي في الخريف حبات حمراء اللون، فضّلنا الحفاظ على الاسم الروسي في متن النص حفاظا على الطبيعة الروسية.(المُترجم).

2) هذه  النصوص ترجمت من النص الروسي الأصلي راجع المصدر:

1. Есенин С.А. Собрание сочинений: В 2 т. Т.2.− М.: Сов. Россия: Современник, 1990.

2. Есенин С.А. Собрание сочинений: В 2 т. Т.1.− М.: Сов. Россия: Современник, 1991

في المثقف اليوم