أقلام ثقافية
لأني متورّم كضرعِ بقرةٍ حلُوب.. أَكتُب
لا لعنة أكبر من أن تقف أمام بياض الورقة كمتهم يقف أمام ترسانة من التهم؛ بثقل عواقبها. إنها اللعنة التي لا لعنة بعدها. هذا أنا الآن، أقف عاريا أمام هذا الأبيض الكسيح، لا أعرف من أين ابدأ ولا كيف ولا إلى أين تنتهي بي موهبتي.
هل أنا مضطر لأعتصر هذا الحبر؟ هل أنا أمارس بعضاً من طقوسي التي لا بد منها؟ هل أنا أنا حين أكتب؟ لا أريد جوابا لأي سؤال، لكن صدقني، توجد متعة في هذا العري الفاضح، في هذا الاحراج الجارح. هل أنا مازوشيّ وأنا لا أراني إلا منكشفاً عن عدميتي؟ هل أنا أتلذذ بهذا العدم؟ أنا لا أعرف أي شيء، محاصر من الوريد إلى الوريد، أصابعي متورمة كضرع بقرة حلوب، متأهب لأي انفجار، ومستعد أن أنبُت في مكان الكلمات، أكون أيّ شيء إلا أن يستمر هذا السؤال.
مدينٌ لمن حين ألبس هذه العباءة؟ وكيف أكون مَدينا دون أن أكون محرجا منِّي؟ كيف أبعدُ عني شبهة الفشل في أن أحافظ على بعضٍ من مناسكي؛ دون أن أمنح للآخر حق الإشارة بأصبعه إليّ. أن أكتُب؛ إنما أنزع على جلدي السِّنان، لاُلبِسها غيري، محققا له التمني.
حين تجوع، لا تقتسم جوعك مع الآخر، لكن حين لا تملك إلا كسرة خبز، تمنحها دون أن تسأل عن درجة الجوع في الآخر، الكتابة لحظة زهد، لكنها لحظة ايثار أكثر، حتى لو كانت بنفسك خصاصة. مخطئ من يعتقد أن هذا الفعل ترف.
نكتب، لنلملم الآخر، أو لندسه في قنينة ماء، أو لندخل البحر كله في كأس زجاجي، نكتُب، لنذهب إلى الموت مجردين من أي ندم، ولنعود منه بألف سبب لنموت ثانية. نكتب، لنخرج من وحدتنا إلى وحدة أشدّ وأعنف.
الكتابة ليست ترف
ومن يموت ألف مرة حين يكتب، لا يقتُل الآخرين، وكاتب لا يقتل نفسه، لن يتذوق لذة الانتقال من غرفة التغسيل والتكفين، إلى لحظة العبور من العري الأخير ليكون جوابا شافيا لسؤال الوجود عند المشككين. أن تكتُب؛ معناه أن تتلذذ بلحظة احتضارك، تكتشف كم أنتَ هش، وكم أنتَ مصابٌ بالرّعاش وبأمراض الانفلونزا كلها. وأنت لا تُعدي حين تكتُب، إنّما تُشفي وتحيي ما أنتَ تحييه.
أكتُب؛ حين تُصاب بالحنين إل كلّ شيْء، إلى الدُّوريّ الذي كُنت تصطادهُ حينما كُنت مولعاً بالقنْص، لا بالقتْل، أكتُب؛ عن سماءٍ تسعُ الطائرات العسكَرية والسُّنونو وعيُون الأطفال، أكتُب؛ عن امرأةٍ تقوّس ظهرُها تمدُّ إليك يدها لأنّها تتذكّر فيك شبابَ حبيبها الذِي مات في حربٍ لا تعنيه حين رأتْك، أكتُب؛ حين تنجُو مصادفةً من موْتٍ ظلّ يطاردك في الممرّات الضيّقة، أكتُب؛ عن النّاجين من المُعتقلات والمنافِي، حين كان الخُبزُ مُغمّساً بالدّم، وكان الهواءُ في الجبلِ مُصاباً بالبارُود، أكتُب؛ عن اللاجئين الّذين استبدلُوا المنازل خياماً، وربّوا أطفالهَم في حقُول الوَحلِ والغذاء الذي ينْزلُ من هدير الطّائرات، أكتُب؛ عن الحليب النّادر وعن الرّصاص الكثير جدّاً.
أكتُب؛ لتصالحَ الزّمن البربريّ مع جيل السّيلفي.
الكتابة ليست ترفْ.
سعيد غيدَّى/ صحافي مغربي حر