أقلام ثقافية

ثريا المجموعة

ali mohamadalyousifاذكر اني ارسلت رسالة لصديق اديب قلت: ان اردأ انواع العاطفة هو ما تستطيع اللغة التعبير عنه واستيعابه. وقتها لم اكن قرأت عبارة المتصوف (النفري) التي اصبحت على كل لسان: ( كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة) واول من عالجها الشاعر المفكر ادونيس، ليتلقفها بعده العديدين من الادباء والشعراء والنقاد بالشرح والتأويل والاضافة، حتى ان شاعرا عراقيا ضاق ذرعا ولم يعد يحتمل فما كان منه الا ان وضع كتابا يقع في ستين صفحة فقط حجم متوسط رد فيه  فهم ادونيس لعبارة النفري التصوفية .

وقد اعجبتني العبارة، فهي مكتنزة بمدلولها، محملة بعمق رؤوي ودلالة تأويل فلسفي تصوفي استبطاني وجداني، مما حدا بي عنونة مخطوطة  مجموعة شعرية لي مستوحيا الدلالة اللغوية المباشرة في عبارة النفري فكان عنوان مجموعتي (توهج العشق ... احتضار الكلمات) .

بعيدا عن المحايثة الفلسفية، والاستبطان الكشفي التصوفي فأن عنوان مجموعتي الشعرية، النصوص النثرية (قصيدة نثر) تحمل تضادا جدليا واضحا فالكلمتان اللتان تتصدران العنوان (توهج العشق) والاخريتان اللتان تقعان في عجز العبارة (احتضار الكلمات) توضحان التناقض الجدلي بين بداية العنوان ونهايته.

يذهب الشعراء ونقاد الشعر في دراساتهم وارائهم ان العمل الابداعي المكتوب يكون فيه العنوان (ثريا النص) يمثل الاضاءة الاولية لمحمول النص لدى المتلقي . وتحت عنوان ثريا النص جاء كتاب القاص والروائي الراحل محمود عبد الوهاب في جمعه اراء (استبيان) مجموعة من الادباء والكتاب والفنانين في سؤالهم ماذا يعني عندهم عنوان النص او عنوان الكتاب . وكان حصيلة اجاباتهم تلك كتابه المذكور .

المهم ان الجدل التصوفي العميق في عبارة النفري بحسب فهمنا لها تنم عن خلاصة تجربة انفرادية اغترابية ذاتية تدخل في غمار الحدس الاستكشافي بما يحمله من السمو والرفعة الى ما فوق المدرك المحسوس عن طريق مسالك الحلول التصوفي الوجدي العارفاني .

من السهل ملاحظة في عنوان (توهج العشق ... احتضار الكلمات) النبرة الحّسية العاطفية الوجدانية العالية، فنجد (توهج العشق) عبارة ممتلئة بايحاء دلالي قاطع، يقابلها ويكملها في علاقة تضاد جدلي كلمتي (احتضار الكلمات) فهي على النقيض مع ما سبقها وتوحي بانحدار بارد يصل قمة العجز الكلامي والوصول الى احتضار المفردة الشعرية وانعدام قدرة امتلاك وسيلة التعبير التي تشاكل وتماهي حالة توهج العشق.

المتداول العادي في الفعالية اللغوية المنطوقة والمكتوبة هي التي يتطابق فيها اللفظ او المفردة اللغوية في الدلالة مع المدرك المحسوس احادي الجانب الذي لا يتقبل بسهولة- هذا خارج مقاييس النقد ومعيار خصوصية الفن-، لغة التأويل والحفر في خلفيات النص ومدلولاته الاستقبالية . في حال التنميط وتماثل اللغة الشعرية مع المدرك المحسوس نجد ان اللغة هنا تؤكد فاعلية المنطق اللغوي العقلي، وتعدم فاعلية واهمية المخيال اللاشعوري التصويري الانفعالي في استخدام اللغة جماليا الذي يمثل جوهر فاعلية المنجز الشعري .

في تأكيد العرب القدامى فاعلية المخيال المخصب للشاعرية اوجزوها باقل المفردات قائلين : (اعذب الشعر اكذبه) وفي هذا تأكيد على اهمية الصورة الشعرية والمخيال المخصب للفعالية الشعرية، وفي اجتراح الشاعر لصور ابداعية شعرية غير مسبوقة وتشكيل اللغة جماليا بما يخرجها عن السياق العام في المتداول العادي بين الناس والتخاطب اللغوي الكلامي .

وفي تأكيدنا صوابية هذا المنحى نجد في موروثنا الشعري القديم لدى فحول الشعراء ما اطلقوا عليه (الارتجال) في قول الشعر وفي المناظرة الخطابية النثرية ايضا،فارتجال الشاعر قصيدة تقوم على تحفيز حسي انفعالي لقريحة وموهبة الشاعر المتنامية في مرحلة لاحقة،يستلمها المخيال الشعري المخصب في القاء القصيدة  التي نجد انعدام المدرك المحسوس فيها،على سبيل المثال قصائد تصف وقائع حربية ومعارك عرفها الشاعر والاخرون سماعا شفاهيا، ولم يشاهدها الشاعر او شارك بها،ويطلب منه النظم الشعري فيها . بعض قصائد ابي الطيب المتنبي في (السيفيات) في تغطية انتصارات حروب سيف الدولة الحمداني تدخل في هذا الباب، كذلك فعل الشاعر ابو تمام حبيب ابن اوس الطائي في مدحه الخليفة المعتصم في قصيدته التي مطلعها :

السيف اصدق انباءا من الكتب ...  في حده الحد بين الجد واللعب

ويوجد الكثير من الشعر العربي القديم والحديث يندرج في هذا المنحى، منحى اللا تجربة الحسية الواقعية في تعويض توظيف المخيال والموهبة الشعرية في نظم الشعر.

 

علي محمد اليوسف

 

في المثقف اليوم