أقلام ثقافية

دوريس خوري شاعرة الحنين والوطن والمنفى

1356 doriskoriدوريس علم خوري شاعرة وكاتبة صادقة الموهبة، محملة بعبق الآرز، تعرف كيف تختزل وتكثف التجربة في كثير من قصائدها، التي تشف عن شاعرية خاصة، فيها من صفاء الزئبق ونقاء الجداول ورائحة الحبق وشذا الورد والميرمية .

وكما يحوم النحل في الحقول والروابي، يمتص من ازاهيرها وورودها أعذب الرحيق يحوله الى شهد لذيذ، تلك هي دوريس تمتص رحيق الحياة الكامنة في تفسها، ورقة المعاني التي تقدمها الطييعة، ويوحي لها المجتمع الانساني فتجعل من يراعها شعراً ونثراً وأدباً اطيب من الشهد وأكثر حلاوة .

دوريس خوري لبنانية المولد والأصل، من أب لبناني وأم فلسطينية من قرية حرفيش الجليلية قدمت الى البلاد سنة ١٩٧٦ في اوج الحرب الأهلية اللبنانية، تزوجت من ابن خالتها في البقيعة واستقرت فيها حيث تعيش الآن . وهي تعتر وتفتخر بوطنها الأم وبالجليل الذي له حيز كبير ومساحة شاسعة في شعرها .

لها صالون أدبي ثقافي، هو صالون " ناردين " للثقافة والفنون، يذكرنا بصالون الاديبة اللبنانية الفلسطينية النصراوية مي زيادة " صالون الاربعاء "، فقد تمَّ تكريم الشاعرة دوريس خوري في اكثر من محفل أدبي وثقافي للإبداعها الشعري ونشاطها الأدبي والإجتماعي والإنساني وحازت على عدة جوائز محلية ودولية إضافة إلى عملها ومساهمتها في مجال حقوق الإنسان فتنوُّع كتاباتها بين الشعر والبحث العلمي والمقالة الأدبية والاجتماعية ومساهماتها  الإنسانية دعَّمَ مكانتها الأدبية، لها مجموعة من المؤلفات والاعمال الشعرية والمسرحية والادبية، منها : " عودة الالهة، جلباب العبودية، نسائم لبنانية، اجنحة الغد، اشتقتلك يا بلدنا، عانقتني شمسها، لنشيدك طقس " .

وقصص للأطفال ولها مساهمات في تقديم عدة محاضرات في عدة مدارس عربية في البلاد وقدمت للقضية الفلسطينية رائعة " جفرا" وهذه الملحمة الشعرية في ديوانها " لنشيدك طقس " فقد تحولت الى فيلم وثائقي قصير في مصر فالهمُّ الفلسطيني بات مخزوناً في ذاكرتها كما في ذاكرتنا الشعبية لقد ورثته من ذكريات والدتها في نكبة 48 وفي ومسرحيتها "اشتقتلك يا بلدنا " تُعبر عما يجيش في صدرها لمعايشتها القضية واطلاعها على أدق تفاصيلها، 

موتيفات دوريس خوري فلسفية تأملية، وجدانية، وطنية حنينية، وغزلية . وتتناول موضوعات ومناسبات وقبم متعددة تعكس روح شاعرتنا المتواضعة المتسامحة المؤمنة بالمحبة بين الديانات السماوية، وتسعى ليكون العالم أجمل وأكثر نضارة واشراقاً .

والروح الانسانية المتجلية هي عماد النص الدوريسي وهنا أصبغتُ عليها هذه التسمية "النص الدوريس " لأني رأيتُ في أدبها ما يميزها عن غيرها نصاً ورشاقة في الكلمة ودهشة في اللامتوقع فهي تنقلك من عالم الواقع إلى عالم المُتخيَّل بسرعة عجيبة تدعوك للتوقف والتأمل في عالمها الدوريسي الخاص

هي عاشقة أدب جبران خليل جبران،،وكذلك تتجلى الطبيعة وعمق الاحساس بها، فضلاً عن الوطن، والحب بكل معانيه وتجلياته، وخلق الحياة بكل ما فيها، رغم الألم النفسي والوجع والنزيف الداخلي العميق  تُطلق الكلمات الجامحة مثل مهرة عربية أصيلة تتغنى بالحب بالفرح بأمجاد جدها الكنعاني الفينيقي وإرثها الثقافي السرياني الذي لا تخفيه لأنها عاجزة عن إخفاء مشاعرها الحقيقية تدخُلُ الإنتساب التاريخي دون وجل هذا ما ذكره الدكتور بطرس دلي في تقدمة  ديوانها الأخير لأنها تعتبر نفسها إبنة هذا الإرث الحضاري الشرقي المُشرف رغم علله وأمراضه الحالية بسبب الحروب والنزاعات البغيضة بين أهله

ولعلنا نستشف في قصيدتها روح التجديد في اللغة والمعاني، في الاحساس، وفي التعبير، والاعتقاد الراسخ بأن الفكر الخلاق  والخيال للمبدع هما اللذان يحييان اللغة، وأول ما تجدر الاشارة في ادبها الانساني الجميل تلك التراتيل والترانيم السماوية التي تهز النفس وتحرك القلب والوجدان برقة ترانيمها الساحرة، وتلك الروح النبيلة الصافية والمشاعر الرقيقة الدافئة التي عُرِفَ بها الأدب اللبناني وخصوصاً المهجري .

ان دوريس خوري متإثرة جداً بافكار واسلوب جبران خليل جبران التعبيري بخيالاته الرقيقة الحلوة، وعباراته البسيطة الغنية بالموسيقى واستعاراته وتشابيهه  وكناياتة، ولم يكن جبران بجري على طريقة واحدة في الكتابة الابداعية، فهو حيناً يكتب خيالاً عاطفياً مجرداً، وحيناً احاسيس واقعة عميقة، وطوراً يخاطب الناس بالأمثال والرموز والحكم والمواعظ الروحية، وطوراً باسلوب التعنيف القاسي من أجل الإصلاح وتقويم الإعوجاج، وتارة يكتب شعراً فلسفياً تأملياً فيه الإيقاع الشعري الموسيقي  غير أن هذه الأساليب والطرق التعبيرية كانت تفيض من شخصبة متميزة في تفكيره وخياله وروحه وبيانه ، تجري بالفاظ شفافة عميقة التأثير، سواءً اكان ما يكتبه نثراً ام شعراً، وسواءً كان اقصوصة، ام مثلاً أو حكمة، أو خيالاً، أو تأملات في الحياة والطبيعة وفي الكون وما وراء الكون، وهكذا هي دوريس خوري، كم هي شبيهة بجبران المهجري الرومانسي الرومانطيقي وهذا الأسلوب الذي تجتمع عليه جميع الشعوب أن الكلمة الرومنطيقية تُهذب النفوس وتروِّض الوحوش الكاسرة فتخضع لموسيقاها ولحنها أصحاب القلوب الغليظة والمتمردة على كل ما هو جميل ومنطقي  .

فالمذهب الأدبي الذي تعتمده شاعرتنا دوريس هو المذهب الرومانطيقي الذي تأثر به الشعراء اللبنانيون المهجريون كثيراً في أفكارهم وأساليبهم، كجبران والريحاني .

وهي تبهرنا وتهزنا وتخترق قلوبنا وتلسع ضميرنا وتستفز مشاعرنا واحاسيسنا وتعانق وجداننا وتسيل دموعنا بنصوصها، ولغتها السلسة العذبة، واغراض شعرها وايقاعاته الموسيقية ودلالاته الفنية، وهي تكتب القصيدة العمودية خاصة في ديوانها " وعانقني شمسها " الا أنها في ديوانها الأخير، تعترف انها لا تحب القيد، فعمدت الى قصيدة التثر للتعبير والبوح عن مكنونات صدرها وقلبها وما تجيش به من مشاعر وحمى لاهبة .

وقد جاء اسلوبها الشاعري غاية في الجمال والبساطة والبوح الصادق، لأنها لم تتقيد بقيود الالفاظ والتنميق والزركشة اللفظية، بل ارسلت ارسالاً لتعبر بصدق وبساطة وحيوية عن الفكرة او العاطفة التي تمليها، وهي تعنى بالمعاني والأفكار الفلسفية الكبيرة، ولا تتقيد بالسفاسف التي تكبل اجنحتها دون التحليق والسمو، ومن هنا كان سر ذيوع وانتشار منجزها الشعري وتأثيره في النفوس والقلوب والعقول .

نلمس في قصيدة دوريس خوري الشعور بالغربة والبعد عن الأهل والوطن اللبناني، فتهتف بمرارة مناجية بلاد الارز وجبال لبنان العالية، فتقول في قصيدة " لبنان يا وطني" :

طرقت بابك يا وطني

جاءتني ريح تتساءل

من أنت ؟

أجبت أنا بنت

للوطن الغالي أتننهد

جئتك راجية منك العطف

فهل أقبل

وطني أنت يا لبنان

وأنا منك ولا أتطفل

شقيق الروح آيا لبنان

عن عفة نفسي،،، لا تسأل !

ويترافق الحنين الى الوطن نغمات فيها رقة واضطرام واثارة، وهي نغمات الوطنية والتمسك بالتراب الوطني، فلنسمعها وهي تخاطب بلغة المحبة العاشقة الولهانة لوطنها الأم الذي ترى فيها الحبيب الغالي، الحب الأول والأخير، بصيغة ونص الحب الرومانسي المتوقد المشوب بالنفحات الصوفية التي يميزها رقة الشعور وأناقة الحرف والكلمة وجمال الصورة الفنية الزاهية، والايحاءات والايماءات الحسية :

أنا يا حبيبي لا اجيد .... تغزلاً

عند اللقاء

همجية كلماتي الحرى

ملعثمة الهجاء

بسذاجة أتلو صلاتي

كحلاوة العناب

كالشهد المصفى

تضرعاتي

كالعطر ... بخوري يفوح

في معبد الوصل المقدس

اذ بحبك لي تبوح

صلواتي ال تحكي حنيني

قبلاتك اذ طبعت بذاك الليل

تحرق لي جبيني

هي سر من ينوي الفراق

هي سر من مل العناق

وأنا تؤرقني طقوس عبادتك

عبثية تلك الطقوس

وأنت تلهو بالنفوس

صمتي ...بليغ ..كالكلام

قلبي الذي حطمته يهفو عليك

يا من هجرت الشامخات لأتبعك

لبنان يدعوني ...اليه

عشتار تحسدني عليه

قدموس رب الشعر والفن

العريق ...

كنعان يا وطناً هجرت

وضاع من رجل الطريق

لبنان يا لبنان يا كنعان

يا بلدي الجريح

خذني اليك

دوريس خوري شاعرة مُجيدة، تتجلى شاعريتها بخصوبة محلقة في دنيا الشعر والابداع الجميل، نجد في نصوصها حرارة العاطفة، ورحابة الصدر، وعمق

الفكرة، وفيض الاحساس، وقوة الإحساس  بحرارة الحب الذي تتفتح به النفوس الكبيرة لاحتضان الانسانية كلها، فتفرح مع الفرحين، وتبكي مع الباكين، ولا تجد سعادتها في غير سعادة الانسانية كلها، وفي شعرها الكثير من الاحساس العميق بالطبيعة، التي تتجلى في قصائد الشوق والحنين للوطن الأم، لبنان الأخضر، وتتصف كتاباتها عموماً بالدفء والشفافية والرومانسية واللغة الجزلة الطلية، والمعاني والدلالات الفلسفية والرؤيا الانسانية الشمولية .

دوريس خوري انسانة رقيقة، بهية الطلعة، مشرقة الحضور، جميلة الروح، دافئة القلب، شفافة الى ابعد الحدود، راقية الفكر، عميقة الثقافة والفلسفة اللاهوتية الطاغية على عدد من كتاباتها، ناصعة كالثلج، نقية كالطفل، مبهرة كالشلال، معطاءة كالزيتون، مذهلة عذبة وصافية في شعرها حتى حدود الينابيع وبعد .

تحية معطرة بالوفاء وعبير الياسمين نقدمها لدوريس خوري من رحاب الجليل الأشم إلى أرز لبنان الخالد وهذا الأرز الذي عانق على مر العصور وما زال يعانق  زيتونة فلسطين المباركة ،

 نتمنى لشاعرتنا المُجيدة  ديمومة العطاء الشعري عطاءً غزيراً خصباً، ملوناً، زاهياً كالوان قوس قزح برائحة زيتونة فلسطين وعبق أرز لبنان، ومزيداً من التألق والتوهج والاصدارات الرائعة المتنوعة لكِ الحياة وكل الحياة .

 

شاكر فريد حسن

 

في المثقف اليوم