أقلام ثقافية

حوارات مع جاري الملحد (1): الامام علي ورهان باسكال

waleed kasidalzaydi2في مطلع شهر ديسمبر سنة 2016، انتقلت الى سكني الجديد في قلب مدينة باريس وصادف ان يكون لي جار (ملحد) او كما يسمونه بالفرنسية athée . وكانت امام المنزل حديقة صغيرة ومدخل واحد يؤدي اليها، و كان جاري غالبا ما يجلس في الحديقة على كرسيه وأمامه طاولة صغيرة يشرب فنجان قهوته ويدخن سيكاره ويقرأ صحيفة اللوموند التي تصله بشكل منتظم صباح كل يوم . تعرفنا على بعض وعلمت انه استاذ جامعي وباحث سابق في المجال السوسيولوجي وهو حاليا محال على التقاعد، ومتفرغ للقراءة والكتابة يعيش لوحده ويبلغ عمره 78 عاما، وعندما علم انني اكمل بحوثي في نفس الجامعة والكلية التي كان يعمل فيها ازداد سروره وترحيبه بي وسألني عن اصولي وعندما علم انني مسلم من العراق قال لي بأنه ملحد لا ديني، لا يؤمن بالاديان أ و الارباب كافة وعلي ان لا استغرب مايطرح من آراء وافكار.

اول النقاشات والأسئلة كانت حول الخلق والتكوين والحضارات القديمة وعلة خلق الحيوان والجنة والنار وغيرها، وكان من بينها نقاش حول ما قاله الامام علي (ع) عن وجود الله والجنة والنار قبل ان يكرر ذلك بليز باسكال عالم الرياضيات والفيزياء الفرنسي المتمعن بالدِّين ايضاً.

بعد اول نقاش مع جاري حول هذه الموضوعات، عدت لأقرأ احد اهم الكتب وأجملها في الرد على الملحدين وهو كتاب الدكتور مصطفى محمود (حوار مع صديقي الملحد) وهو الذي نصحني والدي رحمه الله بقراءته منذ ان كنت صغيرا، فأعدت قراءته، ولربما اقتبست عنوان مقالاتي هذه من عنوان هذا الكتاب، كما رجعت الى مناظرات الامام علي مع اللا أدريين في زمانه . سألني جاري في احدى الحوارات: ماذا لو اكتشفتم انتم المؤمنون بالدين والإله عدم وجود اله او جنة ونار، سيضيع تعبكم الذي قضيتكم جل عمركم في ممارسة طقوس العبادات، والشعائر من صلاة، وصوم، وحج، وزكاة، وغيرها . وقد شغلتكم عن مباهج ومتع الدنيا . ستكونون يومذاك قد خسرتم الاثنتين .اجبته : ان ممارسات الشعائر الدينية جميعها من الفضائل والاشياء المحمودة وليس فيها ما هو سيّء، فاذا كان هنالك اله كما نعتقد فإننا نكون قد كسبنا وسوف نكافيء على ذلك، ثم من قال لك ان المؤمن لا يتمتع بمتع الدنيا الشرعية، وان لم يكن ليس هناك اله او جنة ونار كما تدعون فلن يكون هناك شيء نكون قد خسرناه، ولكنكم انت عكس ذلك ستخسرون كل شيء في الحالتين .

رد علي بسرعة : هذا قول باسكال قبل اكثر من 300 سنة . وانا لم أكن اعلم من هو باسكال الذي يقصده وماذا قال . فأجبته : هذا قول الامام علي - وهو يعرفه جيدا- قاله للملحدين في احدى مناظراته معهم قبل ما يقرب الف سنة من زمن باسكال الذي تتحدث عنه . بهت صاحبي وكرر مستفهما: هل قال ذلك علي قبل باسكال، أكدت عليه وقبل الف سنة . فقال لي: أرجوك ان تزودني بمصدر تاريخي مكتوب لو سمحت لأطلع عليه . فقلت له بالتأكيد .. انتظر مني ذلك عن قريب .

عدت فاطلعت على ما يسمى ب (رهان باسكال) ، وقد تبين لي انه حجة مبنية على نظرية الاحتمالات وتستخدم للاحتجاج بضرورة الإيمان بوجود الله على الرغم من عدم إمكانية إثبات وجوده أو عدم وجوده عقلياً.

وقد اشتهر باسكال بحجته (رهان باسكال) المسماة بالانكليزيّة (Atheist's Wager) لإثبات المعاد ووجود الآخرة، وتحدى بفكرة «الرهان» الملحدين، ورأى أنهم الخاسرون في النهاية، فبالإيمان: «إذا كسبتم كسبتم كل شيء، وإذا خسرتم لم تخسروا شيئاً. فإن كان هناك آخرة تكسبون وتكسبون كل شيء، وإذا لم يكن هناك آخرة فلن تخسروا شيئاً، فالأَوْلى إذن أن يراهن المرء على ما هو مضمون المكسب على كل حال». كما رأيت أن عبد الرحمن بدوي قد أشار الى هذه الحجة التي كان قد ذكرها الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين». ولكن بدوي نفسه أكد ايضا على ان اول من قالها هو الامام علي اذ كتب بدوي : : «قال علي رضي الله تعالى عنه لمن كان يشاغبه ويماريه في أمر الآخرة: إن كان الأمر على ما زعمت تخلصنا جميعاً، وإن كان الأمر كما قلتُ فقد هلكتَ ونجوت». والشائع أيضاً أن هذه الحجة قد لخصها أبو العلاء المعري في هذين البيتين:

قال المنجم والطبيب كلاهما

لا تُحشر الأجساد قلت إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر

أو صحَّ قولي فالخسارُ عليكما

ارسلت لجاري عبر الايميل بالفرنسية مقولة الامام هذه ومعها أربعين قولا وحكمة له، فأجابني مباشرة : شكرا للامام علي الذي قدم لنا هذه النصائح والحكم وشكرا لك لأنك أوضحت لي هذه الحقيقة. وفي نقاش في يوم لاحق كرر اعجابه بما أرسلت له و قال يبدو ان (علي) رجل حكيم، فأجبته يكفي ان النبي محمد (ص) قال: انا مدينة العلم وعلي بابها.

 

باريس في 22 ديسمبر 2016

 

 

في المثقف اليوم