أقلام ثقافية

شجن الأم العراقية وربيع عُمرٍ أخضرُ

ali almirhigعجنت طحين الحصة الأسمر المخشوشن ببرادة الحديد وعثوق النخيل بدمعها أيام الحصار، هي الأم العراقية، التي نسجت من طين الأرض ألواحاً سومرية ناطقة بأبجدية الكلام الأولى على وجه البسيطة، فكانت عشتار تملأ الأرض زهواً وإخضراراً يُصاحبه بعض أنين وإشتياقٍ لتموز "ديموزي" الذي أودعته في غياهب العالم السُفلي عند حارسته أختها "أريجشيغال"، وبعد شوق وإنتظار ونسيان لغدر فعل الفحولة التموزي في أرض السواد، رغبت "إينانا" = (عشتار) بمغادرة الحزن، ولقاء الربيع بعودة تموز، لتعلن بداية الفرح السومري، والتغافل عن ماضٍ حزين، والبدء بحياة جديدة مليئة بالترحيب والتهليل، ليكون آذار فيه الربيع والإزدهار، ونثر الإخضرار في أرض أور والوركاء. هي الأم العراقية "عشتار" التي تغضب، فترسل من غضبت منه إلى "العوالم السُفلية"، ولكنها بعد لأي ومحبة مكبوتة تنفجر أنهار الرافدين من مُقلتيها، لتكشف عن وجدانها الغائر بين طيات الغضب.

وقد ظل هذا الغضب السومري الجامح في البحث عن الخلود وإستمرار الوجود، هاجساً عراقياً أصيلاً، نجده مرة في ثنايا الرُقم الطينية التي أخبرتنا عن تاريخ الكتابة التي أبدعها العراقي كي يُدون فيها حياة عاشق رافديني للحياة، هو كلكامش، أو ربما يُدون فيه تاريخ للصداقة على قاعدة "ما محبة إلَا ما بعد عداوة" هي صداقة كلكامش مثال المدنية الأرقى مع "أنكيدو" مثال البداوة الأجلى.

وكما يبدو أن هذا الصراع الرافديني الأصيل بين الفحولة "ديموزي" والأنثوية "إينانا"، وبين المدنية "كلكامش" و البداوة "أنكيدو" يشي بحقيقة الصراع الذي نعيشه اليوم، سواء في غلبة البداوة على الحضارة أو في غلبة الذكورة على الأنثوية.

لكن الذي بقيَ حاضراً ومُمتدة آثاره في بناء الشخصية العراقية، هو هوسها بالحياة وخوفها من خفايا العالم المجهول، فيشي هذا الخوف مرة بطاعة وولاء لكل ما هو غيبي أسطوري تعود منابعه لهذا العالم، حينما تكون الحياة مُرة والظلم والجور حاضراً بفعل رغبة "عشتار" المرأة في العيش من دون "ديموزي" أو بفعل رغبة سلطان جائر مثل "كلكامش" يبحث عن نبتة الخلود لتستمر حياة البهاء والشباب ليفض بُكارة بقايا عذارى بلاد أور، ليجعل من نفسه رمز الفحولة الأطغى.

ولا أريد الخوض في تأويلات للرموز الأسطورية في تاريخ بلاد الرافدين، فهناك كثيرون هم أدرى مني وأعلمُ.

ولكني وجدت في يوم 21/آذار عيداً يُحتفى به في جنوب العراق ويُسمى بـ "الدخول"، وربما كان يعني دخول "إينانا" السومرية إلهة الجمال، "عشتار" الأكدية، إلهة الخِصب والنماء، كي تُخلص تموز من غياهب عوالم الظلمة، ليكون في خروجه إعلان لتجديد جدلية الألم واللذة.

كانت أمهاتنا تضع أغصان الياسمين وأوراق الخس وكل غصن أخضر يقع في أيديهن، ليملأن البيوت أخضراراً، لربما أملاً منهن بالخلاص من سحابة الحزن السوداء التي خيمت على أرض السواد، فحولت سوادها من خصوبة وإخضرار إلى سواد حُزن ملئ أرض الرافدين، ولا خلاص منه سوى دعاء الأمهات الثكلى بعودة تموز ليُعيد للعمر ربيعه. وقد ذكر لي أستاذي الآثاري الكبير د.فوزي رشيد، الذي درسنا مادة "فكر عراقي قديم"، في قسم الفلسفة بجامعة بغداد عام 1989م أن هذا الإحتفال في 21/ آذار، إنما هو عيد عراقي سومري مُرتبط بعودة تموز وخروجه من العالم السفلي، وهو تعبير عن الفرح بعودة الوئام بين الأنوثة والذكورة، لديمومة الحياة وإستمرار خصبها.

وقد يكون هذا العيد "الدخول" هو بداية الدخول في السنة الفارسية، وهو أمر وارد، ونحن نحتفي به لأن هناك الكثير من سكنة مناطقنا هم من "العجم" أو "الكُرد الفيلية"، ومن أبناء المدينة الأصليين، وكانت علاقات المدينة علاقات متينة مبنية على التواصل الحضري، ولا حضور فيها للبعد القبلي إلَا ما ندر.

وربما يعود سبب إصرار البعثيين وصدام على إطلاق تسمية "عيد الربيع" أو "عيد الشجرة" على هذا اليوم، لأنهم أدركوا ألَا قُدرة لهم على الخلاص من مظاهر الإحتفال والفرح بقدوم هذا اليوم عند أبناء الجنوب وتحديداً في محافظة "ذي قار" والأقضية والنواحي التابعة لها، لأنها عادة اجتماعية درج الناس على الاحتفاء به، ولكن الذي فعله صدام والبعثيون هو تغيير الإسم والإبقاء على مظاهر الاحتفاء، إلَا أن تغيير الإسم ظل على الورق وبقيَ أسمه إلى يومنا هذا هو "الدخول"، والجميل الأبهى في هذا الأمر هو أن يكون هذا اليوم يوم عيد وإنتظار لفرح في شمال العراق، كما هو عيد وإنتظار للُقيا حبيب وتغيير للنصيب ومُغادرة الوحدة لتنشيط التواصل الاجتماعي وتجديد المحبة بين العوائل العراقية في الجنوب والشمال.

لكن هذا الأمر لم يكن ليتحمله قاصرو العقل من الصداميين، فكانت الحرب العراقية ـ الإيرانية التي بدأها شياطين العلمنة وأصر على إستمرارها شياطين التدين، فكانت سنين سبع عجاف وسنة أخرى أمرُ وأنكلُ على شعبيَ بلدين كانت السياسة هي المُتحكم الوحيد بوجود أرواحهم في الدنيا أو جعلها مُعانقة لعالم الخلود والفناء.  

وحين إنتهت حربنا مع إيران، وإستكان نحيب أمهاتنا الثكلى ممن فقدن أولادهن في هذه المعركة المشؤومة "أسير، أو شهيد، أو تائه في غياهب أرض الموت" التي أكلت "أحبابنا" = أفراحنا فرح بعد فرح، حتى خفنا من الضحك، فحين تخترق بعض من إبتساماتنا جدار الحزن العراقي من فرط المُعاناة، تقول أمهاتنا "ربي إجعلها ضحكة خير"، وكأن من يبتسم قد إنتهك نظام القدر لخرائط الحُزن الرافديني المرسوم في اللوح الإلهي المحفوظ.

كُنَا على موعد آخر مع الوجع. موعد لا نسمع فيه صُراخ أم الشهيد، بقدر ما نسمع بقرع طبول الحرب مرةً أخرى، فكانت حرب الكويت "أم المعارك" = "أم الحواسم"، التي إهتزت بها شوراب القائد ومن معه من قادة الصدفة!!.

كلنا فداء للوطن!! أرواحنا بلا ثمن!!، نموت ويحيا الوطن، ومن قهر ما رآه جيلنا من ضغط أذناب القومجية وترويجهم لشعارات وطنية فارغة، صبرنا نحن وهم ما صبروا، فأُفرغوا مقولات الوطن = الأمة من محتواها الحقيقي، فتداعت بنيتها الراكسة في الوجدان العراقي، بفعل تهويماتهم وتخيلاتهم، التي أطاح بها "القائد الرمز" !! حينما دخل أرض الكويت بـ "ليلة ظلماء"، لا يفعلها فارس، إنما هي فعلة من أفعال الجُبناء، فإستباح الأرض والعرض، فقض مضاجع شعب، لا جريرة له سوى خلاف قائد أرعن مع مشايخ لم يدر بخُلدهم أن يقوم صدام بفعلته الرعناء، وإحتلال الكويت بليلة وضُحاها، لتكون المحافظة التاسعة عشر!!.

ولست هنا بمعرض تفصيل أحداث حرب الكويت، ولا الدفاع عن غباء السلوك العربي، عراقي كان أم كويتي، فأغلبنا يعرف تفاصيلها، ممن عايشها أو قرأ عنها، فكان الحصار وكان التحشيد الأمريكي الغربي على العراق، فخسرنا الحرب، بعد أن خدع صدام جيشه، بقوله "لا تنصاعوا لأوامر الإنسحاب حتى وإن سمعتم ذلك بصوتي، فلا تُصدقوا ذلك، وهناك بعض القطعات تعاملت مع تصريح "القائد الضرورة" على أنه حقيقة لا يمكن القبول بغيرها، فإنهار الجيش العراقي، وقبل صدام بالإنسحاب، فطلب من جنوده ذلك، ولكنهم لم يستجيبوا لأنهم ظنوا بأن هذا أمر مُفبرك، (فصدام لا تهتز شواربه، وتخسه شوارب الأمريكان "العلوج")، فلم تنسحب كثير من قطعات الجيش العراقي من مواقعها في "سفوان" والكويت، فكان ما كان ممن كثير منَا يعلمه، بأن لم يبق من هذه القطعات سوى من شاء له القدر أن يسلم من "القنابل العنقودية"، فكان طريق الموت بين الكويت والعراق، كما سُميَ، مليء بجثث "أولاد الخايبة" ممن صدقوا بأن صدام قائد يمتلك أخلاق الفرسان، ولا يُمكن أن يقول شيئاً ويناقضه، فكان مصيرهم سُقيا الصحراء بدمائهم الزكية، لأنهم تخلقوا بأخلاق الفرسان فصدَقوا القادة، ولكن القادة تخلقوا بأخلاق الجبناء، فسعوا للحفاظ على كراسيهم وحياة الذل التي قبلوا بها بعد أن فرضت "لجان التفتيش" على قائدهم الضرورة إختراق قصوره وحصونه وتفتيش كل ما فيها حتى غُرفة نومه.

قائد ذليل وجنود شُجعان "أولاد الخايبة" الذين صدقوا أقوال وإدعاءات شجاعة القائد الموهومة وتماهوا معها، ولم يدر بخلدهم يوماً أن كثيراً من قادة الصدفة، إنما هم جُبناء، أو هم من الذين يبحثون عن مصالحهم ويُديمون حُكمهم مع القوي أينما دار، فتباً لمن وثق بقادة كمثل هؤلاء، ولا يليق به وفق نمط سلوكياتهم في التملق والتحول، سوى وصف من تبعهم وصدق بهم بأنه ساذج، أو مُغفل، و"القانون لا يحمي المُغفلين"، وهذا ما فعله صدام حينما تخلص من الأمريكان بتنازله وتخاذله، ليُحافظ على كُرسي الحُكم، ليقرأ على الصادقين الذين قُتلوا أو فُقدوا في طريق الموت، "فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا" ولكن قادتهم قُضي عندهم الأمر، وبدلوا كل ما تقتضي طرق التبديل تبديلا، لينهوا قصة الصراع بالتوافق على بقائهم بكرسي السلطة، ومن مات أو قُتل من "أولاد الخايبة" من الذين أحسنوا الظن بقادتهم، فمصيرهم الجنة، لأنهم "أكرم منَا جميعاً"!!، حتى ملَ كثير من أبناء جيلنا هذه العبارات الجوفاء، فكتب صديقنا باسم الأنصار مجموعته القصصية "نحيا ويموت الوطن"، فلا قيمة للوطن من دون وجودنا نحن أبناؤه، فقيمته وحضوره تكمن بوجودنا وفي فاعليتانا وإقبالنا على حياة أجمل حلمت بها أمهاتنا بعودٍ أبدي تدور فيه صيرورة الحياة وديمومتها حينما نرتمي بين أحضانهن "أمهاتنا" الصابرات الناظرات لتجديد هذا العود والفرح عندهن الذي تشع بهن قلوبهن وأرواحهن وعقولهن بأشد ما تكون في السعادة وأمتعُ، فإرتمائنا بين أحضانهن، إنما هو عود وصيرورة لعمر ربيعهن الذي غلبه الخريف قبل أوانه، ولربما يكون في إحتضاننا لهن وإحتضانن لنا بقية عمر يُزهر ويُخضِرُ.

د. علي المرهج 

 

في المثقف اليوم