أقلام ثقافية

خبر زائف ينتج أعجوبة قدرية

نور الدين صمودأ ليس من العجائب أن يعيش المرثي أكثر من نصف قرن بعد قراءة مرثئته، وأن يموت الراثي قبل مَن رثاه؟ فكيف وقع ذلك ومتى؟ ومع من؟

ولا بد أن أبدأ الحكاية من البداية فعندما قامت الوحدة بين مصر وسورية في 22 فيفري/ فبراير 1958 وصارت الدولتان المذكورتان دولة واحدة سميت (الجمهورية العربية المتحدة) مختصرة في (ج ع م).تم قيام هذه الوحدة بتوقيع ميثاق من قبل الرئيسين السوري شكري القوتلي والمصري جمال عبد الناصر، وقد تم اختيار ثانيهما رئيساً لها ورأوْا أن تكون القاهرة ُ عاصمتـَها.

وقد تغنى بتلك الوحدة كثير من الشعراء في ذلك الوقت ورأوها خطوة أولى في سبيل الوحدة العربية الشاملة، ولكن عمرها لم يدم أكثر من ثلاث سنوات فقد وقع إنهاؤها بانقلاب عسكري يوم 28 سبتمبر/ أيلول1961، وأعلنت سوريا انفصالها عن مصر على يد ثلة من العسكريين السوريين لأسباب سياسية واقتصادية وجغرافية ليس هنا مجال تفصيل الحديث عنها واختارت لنفسها اسم "الجمهورية العربية السورية"، بيد أنّ أرض الكنانة ظلت مُصِرَّة على تسميتها الوحدوية ولم تعدّل اسمها إلا بعد اثنتي عشرة سنة من ذلك الانفصال عندما اقتنعتْ به وأقرت بالأمر الواقع وصيّرت اسمها (جمهورية مصر العربية) مختصرة في (ج م ع).

وقد تم هذا الانفصال في عباب من المؤيدين والمناهضين، وأذكر أن الشاعر التونسي جعفر ماجد أخبرني بأنه كتب قصيدة عندما بلغة قتل الشاعر السوري سليمان العيسى بطلقة نارية في مظاهرة ضد ذلك الانفصال عندما كان ذاهبا إلى المطبعة لطبع ديوان تغنى فيه بوحدة بلاده مع مصر، وقد قدم جعفر قصيدته المذكورة بهذه الكلمة: (قال:" مات سليمان العيسى" ومد يده إليَّ الجريدة فقرأتُ: "... وفي صوت واحد انطلقت الحناجر تردد نشيده المعروف: (من المحيط الهادر ِ* إلى الخليج الثائر ِ) (ولم تكتف الحناجر بذلك بل حملته وراح هو يردد - بصوت مختنق والدموع تغسل وجهه - كلمات النشيد...وتلـَقـَّى سليمان الطلقة الأولى وسقط على الأرض وتبعثرت أصول الديوان وامتزجت بدمه". فإلى روح سليمان العيسى الذي عاش شاعرا ومات شاعرا. ج . م )

وقد جاءت قصيدة جعفر ماجد على نمط قصيدة شهيرة لسليمان العيسى ننقلها هنا من مجلة الفكر السنة 7 العدد 3 ديسمبر 1961ص 94/95:

واختار جعفر لمرثيته عنوانا استوحاه من قصيدة سليمان العيسى

(من المحيط إلى الخليج):

(من المحيط الهادر ِ

إلى الخليج الثائـر ِ)

نـُواحُ شعبِ حائر ِ

علـَّمْتـَهُ كيف الرِّغابُ تـُغتصبْ

وسِرتَ فيه كالنبيِّ المرتقـَبْ

وقفتَ فيه منشدا والدمع منك ينهمِِرْ

كانوا حيارى شـُرَّدًا تمردوا على القدَرْ

رأيتَ جيشا أسودًا به عدوُّهُ غدرْ

فبُعثِرتْ أحلامُهُ

ونـُكـِّسَتْ أعلامُهُ.

* * *

(من المحيط الهادر ِ

إلى الخليج الثائـر ِ)

نواح شعبِ حائر ِ

علـَّمْتـَهُ كيف الرِّغابُ تـُغتصبْ

وسِرت فيه كالنبي المرتقـَبْ

سمعته مناديا يقوده أنينهُ

دماؤه في كفه وليس مَنْ يُعينه

فقلت: يا دنيا اشهدي لا عاش من يخونه

فسار خلف الشاعر ِ

* * *

مثل اللهيب الطافر ِ.

من المحيط الهادر ِ

إلى الخليج الثائـر ِ

نواحُ شعبٍ حائر ِ

علمته كيف الرغاب تـُغتصَبْ

وسِرت فيه كالنبي المرتقـَبْ.

* * *

وزمجرت حناجرٌ تفجرت بالغضبِ

وصفرت رصاصة في صدرك المرتقب ِ

فقلت: ما أشهى لظى رصاصة من عربي

لا أشتكي العطبْ

فالمجد للعربْ

من المحيط الهادر ِ

إلى الخليج الثائـر ِ

نواح شعبِ حائر ِ

علـَّمْتـَهُ كيف الرِّغابُ تـُغتصبْ

وسِرت فيه كالنبي المرتقـَبْ.

* * *

والملاحظ أن مطلع قصيدة سليمان العيسى كان على هذا النحو:

(من المحيط الهادر ِ

إلى الخليج الثائـر ِ

لبيك عبدَ الناصرِ).

ومن عجائب المقادير أن الشاعر التونسي جعفر ماجد (1940/2009) توفي قبل الشاعر السوري سليمان العيسى (1921/2013) بأربع سنوات، وعاش أكثر من خمسين سنة بعدما قرأ مرثيته التي ذكرناها آنفا.، والتي استوحاها من ذلك الجو المناهض للانفصال الذي كان من نسج خيال صحفي لعله نقله عن (وكالة أنباء قالوا) كما يقول المشككون في مثل هذا الخبر الذي أوقع شاعرنا (في خطإٍ سعيد، كما نقول في هذا المثل التونسي.)

و(كم من ميت سار في جنازة حي) ! (وكم من راث مات قبل مَن رثاه.)

رحم الله الشاعرين الراحلين اللذين تركا لقراء الشعر العربي شعرا كثيرا جيدا.

 

أ.د: نورالدين صمود

 

 

في المثقف اليوم