أقلام ثقافية

ماهية الإبداع وكينونة المبدع

تعد الكلمة سرا إبداعيا يختلج فؤاد الكاتب (المبدع)، يظل جوهرها متغلغلا في فلذات وجدانه، وكينونتها أيقونة رمضاء في عقله، هناك تختمر وتنسج إدراكيا، إنها نًوْفُلٌ يغوص فيه المتلقي، ليستبصر ذاته ويستنبط أكوانا وعوالم أخرى، أبعد بكثير من قشور يومياته المعتادة. إذ يكتشف ملكة المبدع، وعمق فكره، وقرار تفكيره. لأن مهجته الحاضرة في المُبدَع تحاكيه عبر الصوت الصادق، والقريحة الحقة، ولنا مثال في فن الكتابة، كُتاب غيروا الواقع بسلاح الحرف ولمعان الكلمة، وكم منهم عرجوا بمسار التاريخ لأنهم ناضلوا بالنص الموصل إلى اليقين والصواب.

فالعمل الإبداعي في بداية أمره يكون مجرد فكرة أو خاطرة، أو حلما من الأحلام الخيالية، بعد ذلك يبدأ في التشكل والنمو والتخلق وفق دافعية تجعله يتحد إما برمز أو بصورة أو إيماءة، حيث يبحث المبدع عن المفردات والجمل والتراكيب المناسبة والمعبرة عن الفكرة التي تجول في خاطره، فإذا سجل الكاتب ذلك في نص مكتوب دخل في دورة العمل الأدبي، فكل ما مر منه الكاتب المرسل من مراحل هو بعينه إبداع.

إذن، فما الإبداع؟ ومن هو المبدع؟

من المعلوم أن المبدع هو ذلك الشخص الذي يفكر تفكيرا إبداعيا، وينتج عن عملية تفكيره عمل إبداعي، وكما يذكر عنه بيكاسو" وعاء مليء بالانفعالات التي تأتيه من كل المواقع، من السماء والأرض، من قطع الورق ومن شكل عابر، أو من نسيج عنكبوت، والمبدع يودع ما يرى أو يسمع أو يقرأ ليتخفف من وطأة الانفعالات  "وازدحام عقله بالرؤى" .

والإبداع بهذا المعنى تجل من تجليات الفكر الخصب، " فلم يعرف "شكسبير" مثلا بهاملت وحده، ولكنه كتب الملك هنري الرابع، والملك لير، وعُطَيل، وماكبث، بالإضافة إلى العديد من المسرحيات والقصائد، كل منها يزخر بفيض من الصور النفسية والوجدانية"، فالمبدع هو في آخر المطاف ذات منتجة، وإنتاجه مثلا للنص الأدبي هو إنتاج لفكر فذ، وتفريغ لمستخلصات العملية التفكيرية.

يعتبر المبدع ذلك الشخص القادر على إنتاج أعمال "غير مألوفة ولا معتادة لدى الكثيرين، كما أن لديه القدرة على الربط بين مجموعة من العناصر برابطة غير تقليدية أو غير شائعة، فضلا عن أن يتسم بمجموعة من السمات والخصائص لا يؤتاها إلا القليلون" . فالإنتاج الإبداعي هو نتاج غير عادي، يمكن تصنيفه في أصناف اللامألوف وغير اعتيادي.

وكذلك فإن ما يميز المبدع، هو استعانته ببوصلة تشد اتجاهه الإبداعي، وله القدرة على تحرير قيود نفسه وفك وثاق فكره من الرتابة الجامدة، "ولا مناص للمبدع من القراءة والتتبع ليرفد عبقريته، ويشحذ موهبته، ويغني آفاق قدرته" .

وهذا مثال واضح وحي يؤكد القدرة الهائلة التي يمتلكها  شخص المبدع، ويتفرد بها عن غيره، " فتوفيق الحكيم يقارن في إحدى قصصه بين الطريقة التي يقرأ بها الأدب، والطريقة التي كانت تقرأ بها بطلة إحدى قصصه نفس القراءات فيقول: (إنها تتم قراءة التمثيلية في ساعة واحدة، وأنا الذي أقرؤها في يومين أو ثلاثة، لكن هماك فرقا واسعا بين قراءتي وقراءتها، إنها تقرأ للحكاية في ذاتها، أما أنا فلا تعنيني حكاية الكاتب بل يعنيني فنه، وسر صناعته وطريقة أسلوبه في البناء وخلق الشخصيات ونسج الجو وإحداث التأثير، إنني أعيد قراءة الفصل الواحد بل الصفحة الواحدة مرات ومرات)" .

فالعمل الأدبي "يتميز بالاستمرارية والأصالة، والمناسبة وفقا لمِحَكَّات المجال موضع النظر" ، ففي الإبداع تتجلى القدرة على تخطي حدود الذات إلى آفاق أوسع وأرحب، لتشكل مرحلة استثنائية يمكن وصفها -إن صح التعبير- بالخارقة.

وبما أن الشخص المبدع حسب "فان جوخ" إنسان يتآكل قلبه من فعل ظمئه الشديد للعمل الإبداعي، فقد ارتبط إبداعه من الناحية السيكولوجية "باحتدام عواطفه التي تتأجج داخله، وتبغ حد الإلهام، فتصل عنده إلى قمتها، وتشرق الفكرة فجأة على ذهنه، ولابد للفكرة الإبداعية من معين تمتح منه، ولكن الإبداع في صياغتها هو الأساس" .

فللمبدعين بصفة عامة مجموعة من الخصائص والسمات الفارقة التي تميزه عن غيره، منها الخصائص المعرفية والعقلية، وكذلك الشخصية بالإضافة إلى الخصائص التطورية.

وتتجلى الخصائص المعرفية في " الذكاء المرتفع، والأصالة وقوة البيان، والطلاقة اللفظية، ثم الخيال الواسع بالإضافة إلى القدرة على التفكير المجازي، والمرونة، والمهارة في اتخاذ القرار، ثم القدرة على التفكير المنطقي" . بالإضافة إلى ثلة من الخصائص الأخرى العديدة التي لا يتسع المجال لذكرها والتفصيل فيها. وكما ذكرنا سلفا هناك أيضا الخصائص الشخصية والدافعية التي تكمن في " المثابرة والميل للبحث، والتحقيق، وحب الاستطلاع، والتنظيم الذاتي، ثم الدافعية الداخلية" .

ثم الخصائص التطورية التي تتجلى في مصاحبة الكتب، وبذل مجهود في ميدان التخصص...إلخ

إذن ومن خلال ما سبق، نستنتج أن المبدع هو شخص موهوب في مجال ما يحبه، ويستهويه هذا المجال، فتعريفات المبدع كثيرة ومتنوعة، وهناك من يستعيض عن وضع تعريف جامع مانع له بوضع بعض السمات و المميزات التي تميز المبدع الأدبي ولعلها:"

- توليد أفكار جديدة وجيدة.

- اكتشاف علاقات جديدة بموقف ما.

- إعادة بناء وصياغة العمل الأدبي.

- الحرص على الصدق الفني في العمل الأدبي.

- غلبة تفكير الناقد على تفكيره.

- رهافة الحس والشعور.

- حسن التأليف بين المفردات، وبين الجمل، وبين التراكيب...إلخ" .

 

 الباحث: أسامة الدواح

...........................

المراجع المعتمدة:

- عبد العلي الجسماني، سيكولوجية الإبداع في الحياة، الدار العربية للعلوم، ط1، 1995م- 1416ه.

- ماهر شعبان عبد الباري، التذوق الأدبي طبيعته- نظرياته-مقوماته- معايير قياسه، الفكر عمان، الطبعة الثالثة 2011-1432.

 

 

في المثقف اليوم