أقلام ثقافية

الصداقة والسعادة

علي المرهجكتب منذ زمن طويل أبو حيان التوحيدي كتابه الشهير "الصداقة والصديق" وقد تناول فيه أقوال الشعراء والفلاسفة والحُكماء والشطار والعيارين عن الصداقة، ورغم ما في كتابته من مرارة لا سيما في تناوله لغدر الصديق، وتمييزه بين أنواع الصداقة، وما تنتهي إليه في غالب الأحيان إلى نهاية مُحزنة لغدر صديق أو نفاق وخداع ورياء، ولكنه لم ينس الاخلاص، وهو موضوعي وغايتي.

الصداقة والحُب قرينان لا يفترقان، فلاصداقة حقة من دون حُب، ولا حُب حق من دون صداقة حقة، ولا يعني هذا ترادف اللفظين بل باشتراكهما في بعض المواضع اجتماعياً وتداولياً. وربما يعتري ذلك الاشتراك تداخل يوهمنا بتطابق اللفظين أو تداخلهما، أو كما يقول الجرجاني في كتابه التعريفات "دخول شيء في شيء آخر من دون زيادة ولا نُقصان"، ولكن الأمر ليس كذلك، فالصداقة تتطلب المحبة، ولكن المحبة لا تقف عند حدود الصداقة، بل تتجازها لتغوص في عوالم الهيام أو ربما وحدة الوجود أو الحلول بلغة الصوفية، وهُناك نوع من المحبة يتجاوز الصداقة بوصفها تعبير عن وفاء مُتبادل بين اثنين من جنس واحد أو جنس مُختلف، فهناك صداقة بين رجل ورجل، وهُناك صداقة بين رجل وامرأة، وهُناك صداقة بين رجل وكائن حي كأن يكون كلباً أو قطة والحال ذاته ينطبق على المرأة، ولكل من أنواع الصداقة الصادقة هذه شكل من التعبير علن المحبة مُختلف.

وربما يكون هُناك توق لقضاء غريزة لا تقتضي التعبير عن الحُب والتواصل الشعوري، وهي ليست من مباهج الصداقة بقدر ما هي من مباهج التعبير عن ترويح الجسد وتفريغ بعض من طاقات "الليبيدو" المكبوتة، وبعدها ينتهي اللقاء الحميم!.

في الصداقة ترويح للنفس، وبعض من الصداقة صدق في القول لا الفعل، ولكنني لا أبحث عن صديق وقت الشدة وإن كانت هذه من مُتطلبات الصداقة الحقة، ولكن ربما يكون هذا الصديق وقت الشدة هو في ذات الوقت يمر في ضيق، أو هو غير قادر بحكم طبيعة التربية والتكوين على التعبير عن تعاطفه وتقديم خدماته ساعة حاجة، وهُناك من يُظهر لك صداقة وهو "فهلوي" بلهجة أخواننا المصريين، ولكنه "بياع كلام" كما يُقال وأنتم تعرفون أحبتي كثير من هؤلاء مرَوا بحياتكم وسيمرون لطالما نحن لا نزال في سجل قيد الأحياء.

كثرة العتاب تُذهب الأصدقاء، فلا تكن صديقي مُعاتباً صديقك على كل صغيرة وكبيرة، فبعض من أقرب الأقربين لك كأن يكون أب أو أخ لا يكترث لحالك ولا يحسب لأمرك حساب، ولا يُحسن التقدير في بعض مما تمر به من سوء حال، فكيف بصديق لك أظهرته له بعضاً من جمال حياتك وأخفيت عنه مرارة ما أنت فيه من سوء الحال؟ وكما قال بشار ابن بُرد:

إذا كُنت كل الأمور مُعاتباً    صديقك لم تلق الذي لا تُعاتبه

فعش واحداً أو صل أخاك    فإنه مُقارف ذنب مرة ومُجانبه

عش حياتك في لحظتها مع الأصدقاء، ولا تنبش في تاريخ تكوينهم، بل امنحهم محبة كما يمنحوك في لحظات وجودك معهم، وإن غادرتهم وغادروك بعد حين فجد لهم سبعين عُذراً إن غادروك باحسان وذكروك بخير ساعة وصل بك بعد زمن من قطع الوصال، فتذكر بين حين وحين أنك معهم عشت لحظات فرح لا تُنسى، فإن بقيوا على قيد الحياة واستمروا بصداقتك فأنت كاسب دُنياك قبل آخرتك، فما أسعدك، ولكن الأمر المُعيب أنك تُغادر محبتهم قبل الأوان وتلك شيمة لا تليق بالفرسان، ولا أرتضيها لنفسي ولا أرتضيها لصديق عاشرته وضحكت معه ضحكات ورسمت معه حياة أجمل ولحظات سعادة لا تُنسى.

أن يغييب عني صديق هو راض مرضي عني فتلك من مآثر تركاتي، وأنا شاكر له على كل لحظات تذوق السعادة التي عشناها معاً، فكم من صديق عاشرت وجدت فيه شعوراً بأنه يذق طعم السعادة في وجودي معه؟، وكم من صديق شعرت بنشوة المحبة في تذكره ليَ أو في تواصله معي؟.

الصداقة ولوج لعوالم المحبة الحقة نكتشفها ونعرف قيمتها حينما نكن على سجيتنا معاً من دون تمثيل ولا رسم لصورة زائفة لنا وللآخر (الصديق)، وهي علاقة فيها بعض من تعقل ولكن شروط التواصل الإنساني تخترق عقلانيتها في غالب الأحيان.

ميزة الصداقة الحقة هي أن تدع صديقك على سجيته وأن تُحبه وتُشعره بمحبتك على وفق ما هو فيه، وإن لم ترض عن بعض من تصرفاته فصارحه، وإن لم تستطع فغادره بطيب واحسان، فكم من تصنع وتكلف قتل صداقة ومحبة؟.

 

د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم