أقلام ثقافية

شفيف الحُزن توقٌ للسعادة

علي المرهجالشفافية بعيداً عن بعدها التداولي في مُعجمية "الجعفري" هي رقة التصرف في الخُلق، وقُدرة الصديق ودرايته بما يكتنزه صديقه له من محبة بحكم طول مدة التوادد والمشاركة في الفرح والألم، ولربّ صديق شفيف تعرفه بعد حين يكشف لك عن جمال روحك في مواضع، أو عن قبُحها في مواضعٍ أخرى، أفضل من صديق عرفته لسنين خلت، وتلك ـ برأيي ـ مُنتهى "الشفافية" في الكشف عن معاني الصداقة التي لا تُحسب بمقدار السنين، بقدر ما تُحسب مقدار المحبة والإيثار.

ولا أروم الخوض في مفهوم "الشفافية" من جهة مرامي المعنى في السياسة والاقتصاد، وتلك معانٍ كثر الحديث فيها، ولكن ما أروم الكشف عنه هي مهمات "الشفافية" في الكشف و"المُكاشفة" لادامة التواصل الإنساني الشفيف باستعارة للمفهوم واشتقاق له من سمات "الزُجاج" بوصفه مادة نستطيع أن نكشف بيُسر وسهولة عما هو خلفها.

وفي "الصداقة الحقة" وهذا مُصطلح قلَ وجوده في عوالمنا نحتاج لصديق صدوق "شفاف" يُشاركنا الحُزن والفرح بمصداقية، وإن لم يكن حاضراً بيننا، فوجود صديق صدوق كمثل (زجاجة دُرية) نرى صورته فيها وكأنها انعكاس رؤية لأنفسنا كي نراها على حقيقتها من دون رتوش.

أظن وبعض الظن إثمٌ أن مُنتهى السعادة حينما تجد صديقاً يكشف لك عن نفسك التي لن تتعرف عليها بماهيّ إلَا على قاعدة سقراط "اعرف نفسك"، ولن تعرفها إن كُنت مزهواً بها أو كُنت مسؤولاً أو من الطُغاة.

لا تعرف مقدار نفسك إلَا من خلال صديق مُستغنٍ عنك بلاوحقك، مُكتفٍ بما هو فيك حقاً ب (جوهريتك) ولا حاجة له بصفتك مسؤول أو مشغول بقدر ما هو مُحتاج لك بصفتك صديق، فترفق بنفسك في معاشرة مثل هكذا صديق ولا تأخذك معه العزة في الإثم، ولا تتجاهل قوله لك، لأنه مُحبٌ يقول قوله لك صادقاً ولا ليس حاجة له يطلبها لنفسه، ولم يكن يوماً ـ كما عرفته ـ يقف على أبواب السلاطين، فخذ منه قوله وضعه "ترجية" في أذنك، لأنه غير مُحتاج لك، ولم يطرق يوماً بابك بوصفك مسؤول أو سلطان، وإن كُنت بحاجة لرؤية نفسك فأبحث عن مرآة ذاتك في صورتها الحقيقية عند (صديقك الصدوق) وتلطف وتأمل قليلاً في مسارك الحياتي، واكشف عن ذاتك بقول هذا الصديق.

كل مسارات الحياة فيها كشف عن نزوع الذات، في توهماتها وهيامها في (الأنا) بوصفها الناطقة بالحق، ولكن (الأنا) مُحتالةٌ، وتُغير جلدها بين الحين والحين.

دع الحُزن صديقي وتوهم أن في صداقتك الحقة فُسحة للمُزاح وترويح للنفس، ونقد لها حينما يقتضي النقد ساعة الجد، ونقد الآخر إن كان هذا الآخر يعدُ نفسه صديقاً، لأن في النقد الذات خروج عن توهامات الأنا وخداعها بحُكم الألفة، وليس كل مألوف عندك مرغوب عند الآخرين، كما ليس كل مألوف عند الآخرين ترغبه الذات، فما ألفناه محبة "الأنا" وفي نقدها تجريح وإن كان ليس من مهمات النقد التجريح.

النقد ليس سمة نقبل بها، وتلك من طباعنا نحن العرب والمُسلمين، وإن كان في شفيف الحُزن ومأساة ما عشناه ما يقتضي النقدُ.

الحُزن "الشفيف" رديف السعادة، ففي التعبير عن الحُزن مكامن للتعبير عن السعادة وإن خفيت ملامحها لشيوع صورة الحُزن، ولكن شفيفه فيه ترسيمات لوجوهنا الباسمة حقاً وإن بان على مُحيّانا بعض من "شفيف الحُزن".

دع الحُزن ترنيمة شجن، أو دع الفرح سلطنةً وطرباً تعيش في ذكرياته لحظات فيها من الألم بقدر ما فيه من اللذة.

عيشنا في الحياة مسورين تُحيطنا أسيجة التقاليد وأسيجة التدين السطحي بكل ترسانتها الاسمنتية، وهي نافذة في حياتنا ولا قُدرة لنا على خرق نُظم الحياة التي أطرتنا بها، لا لأننا راغبين بها، بل لأنها حياة ورثناها بكل ما فيها من رتابة وسكون، فألفناها وكأنها حقائق لا يعتريها النقص ولا مناص لنا من الخضوع لها، وخضعنا لها مُرغمين لكثرة المؤيدين لها والمنافحين عنها، فصرنا أسرى نسير بهدي صانعيها ومُريديها.

ربما حاول البعض منَا الخروج عن سطوتها لما امتلكه من وعي وأدوات نقد معرفي يأبى إلَا أن يكون حياً رغم أن كثير مما فيه فقد قُدرته على التنفس والشعور بجدوى الحياة بقيمها المُعاصرة.

كُلما امتلكت وعياً ودراية بالمناهج النقدية المُعاصر وحاولت الخروج عن سطوة "الجدران الاسمنتية" سيحسبك الأغلبية من الذين يدورون في فلك هذه الجُدران أنك ضال مُضل، وستظل تنوء بحمل تراث نحلم بأن نُعيد نهضته في حاضرنا، وتناسينا "أن لكل زمان دولة ورجال".

ولا أخفيكم سراً أن بعض من مظاهر الألم والحزن المرسومة خُطاطته في لوح وطني الجريح سببها هيامنا في هذا الماضي وسعينا للعيش فيه وكأننا نروم العودة بالزمن، ولم يدرَ بخلدنا أن الزمن لا يعود كما نبغي له أن يعودا!.

دع كل قحط السنين صديقي، وتمثل حياة اليوم فأنت إنسانها، وغادر سطوة "جدران الماضي الاسمنتية" المُتحجرة، وعش يومك، وتذكر لحظات الماضي على أنها لحظات حزن شفيف وفرح أشف، ولكنها لحظات مضت وعليك أن تعيش مُتغيرات الحال والأحوال، ولا تندم على الفائت من العُمر أو على فرصة ضاعت، وابحث في حاضرك ومستقبلك عن فرصة أمثل، فمثلما في الماضي فرص تفوت، ففي الحاضر والآتي فرص قادمة ربما تكون أفضل.

التوق للسعادة يعني أن تعيش الحياة بطعم الحاضر والآتي، لا أن تعيش الحياة حسرات وتأوه على ما فات من العُمر، فكل يوم جديد يعني أمل جديد وحياة تستحق أن نعيشها بطرق تعامل بحسب المُتغير الحياتي، ولكن مهمتك هي بث الأمل في قلوب وعقول الشباب، فلا يأس مع الحياة، كما لا حياة مع اليأس ـ كما يُقال ـ فجميل أن تُشعر الآخرين ممن هم في محيطك الاجتماعي أنهم يستحقون العيش في هذه الحياة بطريقة أفضل، وعليهم أن يعملوا لتجاوز الصعاب لا أن يستكينوا ويستسلموا، فالحُرية لا توهب، بل تؤخذ بقوة وعزيمة الشغوفين بها.

فاستمتع وتلذذ بشفيف الحُزن بسماع أغنية شجن تلعب على وتر العاطفة الجياشة كي تستفز عواطفك، وهذا حق لك لا يُحاسبك عليه أحد، ولكن تلطف بمن هم حولك ولا تُدخلهم مدخل حُزن وتصنع لهم مسرحية من عوالم "المأساة"، لأن ما يخصك يخصك، وما يخص الآخرين من حولك عليك أن تُعطيهم جرعات أمل لا ألم.

في التوق للسعادة أن تضحك من دون خوف أو وجل، وتصنع الضحك إن كان في تصنعه سعادة لمن هم حولك، فكل منَا يبحث عن بسمة ضاعت في همَ السنين ـ وهذا ما صدح به صوت طلال مدَاح ـ في أغنيته الشهيرة (زمان الصمت)، وهو يروم زرع البهجة في نفوس مُتلقيه فزاد عليها توق محبة وزرع للسعادة بأغنيته "وردك يا زارع الورد".

فمن شفيف الحُزن استحضار الألم واللذة في الآن نفسه، وكأنه تبادل الأدوار بين الليل والنهار، فكم االسنين بما فيها من ألم وفرح يُشابه غروب الشمس، ولكن الشروق آت لا ريب، فلا تطوي الآخرين بجنح الظلام وحاول أن ترفعه بأجنحة النهار حين الشروق لحياة أبهى وأجمل...

 

د. علي المرهج – استاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم