أقلام ثقافية

آراء روسية جديدة حول حركة الديسمبريين

ضياء نافعالديسمبريون هم مجموعة صغيرة من النبلاء الروس الشباب، الذين دخلوا التاريخ الروسي لانهم ساهموا في شهر ديسمبر العام 1825 في هجوم مسلح على مجلس الدوما الروسي بمدينة بطرسبورغ في محاولة لتغيير النظام القيصري الروسي، وانتهت محاولتهم تلك بالفشل التام، و اعتقالهم طبعا ومحاكمتهم، واعدام خمسة من قادتهم، و تم سجن الباقين ونفيهم الى سيبيريا (انظر مقالتنا بعنوان – ريلييف اول شاعر اعدمته روسيا).

عندما كنت طالبا في ستينيات القرن العشرين بالاتحاد السوفيتي، كانوا ينظرون الى الديسمبريين باعتبارهم ابطالا في مسيرة نضال شعوب روسيا ضد النظام القيصري، وكانت (ولازالت) شوارع تحمل اسماء بعضهم في مختلف المدن الروسية، وقد درسنا الكثير عنهم في مادة (تاريخ الادب الروسي) والخاص بفترة النصف الاول من القرن التاسع عشر وعلاقتهم بالادباء الروس آنذاك، ولازلت اتذكر ما قاله لنا استاذ تلك المادة حول رسم تخطيطي لبوشكين وجدوه في احدى مسودات قصائده يصوّر مشانق الديسمبريين الخمسة، وانه رسم مشنقة سادسة فارغة جنب تلك المشانق، والتي ربما كان يقصد منها انها مشنقته هو (اي بوشكين)، ولازلت اتذكر ما قالوه لنا حول التحقيقات الطويلة والعريضة مع بوشكين وغريبويديف التي اجراها معهما النظام القيصري بعد فشل تلك الحركة من اجل التدقيق حول علاقتهما مع الديسمبريين، ولازلت اتذكر قصيدة بوشكين، التي ارسلها عام 1827 سرّا مع زوجة الديسمبري موروفيوف، الذي نفته السلطة القيصرية الى سيبيريا، وقد سافرت اليه زوجته ملتحقة به . ولم بستطع بوشكين طبعا من نشر تلك القصيدة آنذاك، وقد تم نشرها بعد سنين طويلة، وتعد هذه القصيدة الان من (درر!) قصائد بوشكين كما يقول التعبير العربي الجميل، وهي بلا عنوان مثل الكثير من قصائده، ويطلقون عليها الان في مؤلفات بوشكين الكاملة الشطر الاول كعنوان لها . لقد كانت هذه القصيدة تدخل حتى ضمن مفردات مادة (مدخل الى الادب الروسي) في الكلية التحضيرية لجامعة موسكو عندما كنّا ندرس اللغة الروسية فيها عام 1960، وينهي بوشكين قصيدته تلك قائلا، ان السجون والمعتقلات ستنهار وان الحرية ستنتظركم وان اخوانكم سيعطونكم السيوف، اي سيعيدون اليهم الاعتبار ...

هكذا كانت الامور في الاتحاد السوفيتي، ولكني اتذكر ايضا ذلك الاجتماع الذي حدث في نهاية ستينات القرن الماضي في جامعة باريس بين طلبة القسم الروسي (وكنت انا من ضمنهم) مع وفد سوفيتي زائر، وقد كان الاجتماع مفتوحا، وحضره الكثير من اللاجئين الروس البيض، الذين هاجروا من روسيا بعد ثورة اكتوبر 1917 وسكنوا واستقروا في باريس . لقد ذكر أحد اعضاء الوفد السوفيتي آنذاك، ان الحكومة القيصرية الروسية كانت حكومة ظالمة ومستبدة (وهي نظرة سوفيتية معروفة طبعا) وانها مثلا (أعدمت خمسة من الديسمبريين، ونفت البقية الى سيبيريا)، فقامت احدى السيدات الروسيات من الجالية الروسية في باريس وقالت له – (لو ان مجموعة من الضباط السوفيت هجمت على الكرملين وهي تشهر السلاح بيدها وارادت ان تعتقل رئيس الحزب الشيوعي السوفيتي  وتغيير النظام، فكيف كانت ستتصرف الحكومة السوفيتية تجاههم ؟؟) . وساد هرج وردود فعل متباينة جدا في القاعة طبعا، ولم يستطع الوفد السوفيتي ان يجيب عن هذا السؤال المحدد والاسفزازي، رغم انه حاول ان يجيب مستخدما جملة كتبها لينين حول الديسمبريين ومفادها - (انهم بشكل رهيب بعيدون عن الشعب) وهذه الجملة مشهورة وموجودة في المصادر السوفيتية كافة، اما السيدة المذكورة فانها اضافت ان السلطة السوفيتية كانت ستمزّق تلك المجموعة مع كل المحيطين بهم والمتعاونين معهم، وقالت ان القيصر الروسي كان رحيما بهم وانه لم يعدم سوى خمسة من قادتهم بعد محاكمات اصولية طويلة، ونفى البقية، وان زوجات المنفيين التحقن بازواجهن واخذن معهن كل ما يحتاجونه من حاجيات و امتعة.

تذكرت تلك الحادثة في جامعة باريس عندما كنت أطّلع على مختلف الاصدارات الروسية في الذكرى 190 سنة على انتفاضة الديسمبريين، بل ان هناك حلقة خاصة بثتها قناة (كولتورا) (الثقافة) التلفزيونية الروسية عن الديسمبريين، وكانت تلك الحلقة بعنوان – (الديسمبريون – هل هم ثوار ام ارهابيون؟)، وقد شاركت فيها مجموعة من المؤرخين والمثقفين الروس المعاصرين . ان عنوان الحلقة بحد ذاته يجلب الانتباه ويثير الاهتمام، وقد شاهدت هذه الندوة بامعان . لا يمكن طبعا عرض كل الافكار المتنوعة والعديدة التي وردت في تلك الندوة (واظن ان ذلك يتطلب مقالة مستقلة، اذ ان تلك الافكار تستحق التأمل من قبل القارئ العربي المعاصر والبعيد عن الاجواء الروسية الفكرية في القرن الحادي والعشرين)، ولكن الخلاصة التي يخرج منها المستمع للندوة هذه، وكذلك الاطلاع على الآراء الجديدة وتعليقات المواطنين الروس حول هذه الانتفاضة، هو ان الموقف الايديولوجي السوفيتي السابق تجاه هذه الحركة وتمجيد رجالاتها قد تغيّر، وان روسيا الجديدة تبلور الان نظرة اخرى تجاه تاريخها والاحداث الاساسية الكبرى، التي حدثت في مسيرتها الطويلة، وما أحوجنا – نحن العرب – الى دراسة هذه الظاهرة الفكرية في تاريخ الامم .

 

أ. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم