أقلام ثقافية

دستويفسكي فيلسوفا.. تأملات

ضياء نافعهل كان دستويفسكي اديبا دخل عالم الفلسفة، ام فيلسوفا دخل عالم الادب، وذلك لان الادب والفلسفة في مسيرته الابداعية متداخلان مع بعض بشكل  يكاد ان يكون عضويا ؟ الاجابة عن هذا السؤال الفكري الكبير لازالت غير واضحة المعالم تماما ليس فقط في روسيا، وانما في كل انحاء العالم المتمدن من دول وبلدان وتيارات فكرية متنوعة، رغم ان دستويفسكي – واقعيا - ابتدأ أديبا اعتياديا  بكل معنى الكلمة، وان روايته القصيرة الاولى المعروفة  وهي (المساكين) وجدت مكانتها اللائقة بها في مسيرة الادب الروسي بالذات، ولم يحاول ان يطرح نفسه فيلسوفا حتى في (مذكرات كاتب) الشهيرة في تراثه، والتي ابتدأ بكتابتها في نهاية حياته، و التي يمكن القول عنها،انها آخر كتاب أصدره دستويفسكي، وسجّل فيه انطباعاته الفكرية حول تلك الظواهر التي كانت تحيط به من كل جانب في مسيرة الحياة الروسية واحداثها آنذاك.

 توفي  دستويفسكي  في القرن التاسع عشر عام 1881، ولم تبحث الاوساط الفكرية  الروسية  هذه المسألة مباشرة بشكل جديّ وحقيقيّ ومعمّق (اي العلاقة المتبادلة في ابداعه بين الادب والفلسفة) لا اثناء حياته ولا بعد وفاته رأسا، ولكن دستويفسكي أصبح  في الوقت الحاضر (في روسيا وفي كل العالم ايضا!) اكثر الادباء الروس قربا من  الفلسفة، بل، ان صح التعبير، حتى اكثرهم التصاقا واندماجا ووحدة عضوية مع طروحات الفلسفة ومفاهيمها ومذاهبها، او بتعبير وجيز ومركّز – ان دستويفسكي الان اكثر الادباء الروس فلسفة، حتى مقارنة بتولستوي نفسه (انظر مقالتنا بعنوان – تولستوي فيلسوفا)، وتوجد الان سلسلة من اسماء الفلاسفة الروس الكبار (منذ بداية القرن العشرين فصاعدا) ترتبط – قبل كل شئ – بدراسة مفاهيم وطروحات فلسفة دستويفسكي استنادا الى نتاجاته الادبية وتحليلها، وهذه الاسماء معروفة وشهيرة مثل بيرديايف (التي تتمحور قيمته الفكرية بالاساس في تلك الآراء وألاقوال والكتابات حول فلسفة دستويفسكي، والتي انعكست في كتابه (رؤية دستويفسكي للعالم) المترجم الى العربية  – انظر مقالتنا بعنوان بيرديايف ودستويفسكي)، وميرشكوفسكي (انظر مقالتنا بعنوان الكاتب والفيلسوف الروسي ميرشكوفسكي، وبالذات حول كتابه – دستويفسكي وتولستوي)، وروزانوف (الذي أطلق على (المفتش الاعظم) لدستويفسكي تسمية (ملحمة فلسفية)،  والتي أشار روزانوف فيها الى ان دستويفسكي قد مزج هناك (حرية الارادة مع القانون المطلق للاخلاق)، وشيستوف (انظر مقالتنا بعنوان تشيخوف والفيلسوف شيستوف)، و سولوفيوف ..الخ، ويطلق هؤلاء الفلاسفة كلهم على دستويفسكي تسمية - الكاتب الفيلسوف، وهناك كذلك اسماء فلاسفة من اوربا يؤيدون هذه الآراء ويتوحدون معهم في هذا الاتجاه، بل ويرون انه حتى توجد عند دستويفسكي بدايات الملامح الاولية والاساسية  للفلسفة الوجودية  في العالم، التي بدأت تظهر في اوربا في اواسط القرن العشرين، وذلك (لأن فلسفة دستويفسكي هي فلسفة الوجود الانساني قبل كل شئ) كما يؤكد أحد هؤلاء الفلاسفة الاوربيين.

لقد تناول الفلاسفة كافة نتاجات دستويفسكي الادبية بالتحليل، ووصلوا الى ان (الفكرة الروسية) في تلك النتاجات هي صفة انسانية مشتركة بين المجتمع الروسي والمجتمعات الاوربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وان هذه (الفكرة الروسية) هي (تجسيد لقانون الاخلاق) في  هذه المجتمعات الانسانية بغض النظر عن قومية تلك المجتمعات وثقافتها ومستوى تطورها، ولهذا اصبحت هذه المجتمعات تتقبل نتاجات دستويفسكي، وأخذت تعتبرها نتاجات تعبر عن الانسان بشكل عام في كل تلك المجتمعات قاطبة، وقد أشار دستويفسكي مرة في احدى رسائله الى أخيه قائلا، الى ان الانسان (سرّ)، وانه يحاول ان يسبر أغواره (كي يفهمه) طوال حياته، وذلك لانه (اي دستويفسكي نفسه) (يريد ان يكون انسانا)، وكان دستويفسكي يتكلم هنا عن (الانسان) بشكل عام، ولم يحدد قومية ذلك الانسان او جنسيته طبعا .

ويربط بعض الباحثين هذه الافكار مع المفاهيم الدينية المسيحية الواضحة المعالم عند دستويفسكي، والتي تكمن في تأكيده على الكنيسة الروسية الارثذوكسية والدور الذي يجب عليها ان تؤديه عالميا باعتبار ان موسكو هي – (روما الثالثة) كما كان يدعو دستويفسكي، ولهذا، فان (الفكرة الروسية) التي بلورها دستويفسكي لا تفقد (عالميتها !)، او ملامحها الاممية، رغم ارتباطها ب (الصفة الروسية) تلك، ولهذا ايضا، فان القراء في العالم يتقبلون دستويفسكي ونتاجاته الادبية ذات الروح الفلسفية بغض النظر عن قوميتهم واجناسهم .  

موضوعة دستويفسكي فيلسوفا – مسألة كبيرة في تاريخ الفكر الفلسفي الانساني، وهذه التأملات هي تذكير بالملامح الاساسية فيها ليس الا، وكم اتمنى ان يتناول أحد الفلاسفة العرب هذه الموضوعة يوما، ويدرسها بالتفصيل العميق... 

 

أ. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم