أقلام ثقافية

"مكتظ بك أيها الفراغ" لمحمد اللغافي.. تجربة ذهنية تُوجّهها وصايا الأمومة

احمد الشيخاوينجد هذه المجموعة ثرية بصورها الشعرية، تؤرّخ للحظة خواء، ببصيرة تكتب أزمة الذات ومكابداتها، خارج دائرة الضوء، أي داخل حدود جغرافية السّواد، من هنا تبدأ رحلة الشاعر المغربي محمد اللغافي ، منهكا بوصايا الأمومة وتعاليمها كزاد، لسفر حياتي وإبداعي سرمدي ، يتحسس المفقود ويطارد خيوط الضوء.

بذا نهتدي إلى كون الشعر ، في الغالب، لا يفسّرُ بسوى حجم صمود الكائن ونضاله داخل دهاليز حياة صادمة بفجائعيتها وعتمتها وشحّ أعيادها.

إرسالية بنصوص شبه مغلقة، ليس يفكّ شفرتها سوى طقس الإنصات عميقا، لأصوات الهامشي والبعيد جدا.

[قالَتْ

أخْجَلُ وَالنّجومُ تَرانا

أسْدلِ السّحابَةَ وَاقْتَرِبْ

أسْدَلْتُ السّحابَةَ

فانْكَسَفْنا].

هي خطى الحرف، حين تنرسم على خرائط البحث الشاقّ عن معنى للذات، في أفق حياة موازية، سانحة لتصيّد أدنى صور الطمأنينة والخلاص.

[رَبّتْ عَلى كَتِفي يا ألله

أحْسِسْني

 بِالْاطْمِئْنانِ].

هذا الأمل القابع مشتعلا في عينيْ المشوقة، وحده وحده يهب معنى لهذه الذات المسافرة بترهّل، في جيوب الفراغ .

المشوقة في زئبقية تجلّياتها، كأنّما تضمّد المعاناة بحضور رمزي، غير مستساغ.

[هَلْ تَعْلَمينَ

ماذا

أفْعَلُ الآنَ ؟

اللّيْلُ ماطِرٌ هُنا ..

غائِمٌ مِثْلَ قَلْبي

الْفَراغُ مُكْتَظٌّ بي

 وَحْدي

في مِعْطَفيَ الطّويلِ أجْمَعٌ شَتاتَ ظِلّي

وَأصَفِّرُ

عَلى إيقاعِ خَطْوي الْمُتَرَهّل

أرْقُبُ

عَسَى أنْ يَتَدَلّى بِهُدوءٍ

بَريقُ

عَيْنَيكِ لِأطْمَئِن].

مجرّد فوقية أو تسام نرجسي، لمناطحة إسمنتية الواقع، وإبراز كم هو موقف القصيدة ممّا سواها، هشّ للغاية، وغنائي، يناغي بالعاطفة، ويعزف على أوتار القلب، وإن رصد بجبن وخجل مشهدية الكائن في رقصته المشوّهة، على جمر الآخر والحياة.

[أَعِدُكِ

لَنْ أجْرَحَ الْبابَ الْإسْمَنْتي

بأصابِعي الْهَشّةِ

لَنْ أحْدِثَ خَدْشاً

في صِباغَةِ اللّيْلِ

سأغْفو عَلى شَطِّكِ

مَع الْمَلْفوظات

 

 

هَل أُصَدّق الرّؤيا

وأذبحُ أصابعي واحِدا واحِدا

قٌرْباناً لًكِ].

هذا الليل، ليل الأحجية المنفلتة، السابح في آدميتنا، يقتضي ترتيبا وإن على سبيل الارتجال والتسلية ، لكن...بلغة وصْد باب وفتح أخرى.

[جُبِلْنا مِنْ تَعَبٍ

رَفيقَتي

تَعالي نُغْلِقُ باباً

وَنَفْتَحُ أخْرى

نَحْنُ مُجَرّدَ

قِشّة في مَهَبِّ الْحُبِّ

تَعالي نَهُشّ عَلى هَذا الْفَراغ

 يَنْفَلِقُ لَنا الْمَدى

فَتَطيرُ

مِنْ بَيْنِ أصابِعِنا فِراخُ اللّيْلِ

 وَنُعِدُّ قُهْوَتَنا

بَعْدَ

 أنْ

 نَكْنِسُ حَطْبَ الّذينَ تَنَكّروا لِعُشْبِنا الْأخْضَر].

الليل السرمدي بوصفه منصّة للحلم الذي يجود على الذات بشتى معاني الوجود والتواجد الإيجابي، علاوة على كونه متّهما هو مسروق أيضا، ما يضعنا إزاء موقف إرباكي، تدبّجه صياغة فلسفية تحاول تبرير هذا الضياع.

[كَمْ مَرّة بُعِثْتُ فيكِ

وَأعْدَمَني حُرّاسُكِ

ما عُدْتُ حَذِراً

وَلا أهابُ

حُرّاسَكِ 

طَيّعَةٌ أوْتارُكِ قيثارَتي الْحَزينَةِ

مُتَوَتِرَةٌ أصابِعي

تَدُكُّ الْأنْغامَ

تَتَمَزّقُ الْأغْنِياتُ سَريعاً

في بالوناتِ ثَلْجٍ

تَتَبَخّرُ الشّمْسُ

لِتَشْرُقَ ابْتِسامَةٌ طازَجَة

تَتَقَمّصُني مُبْهَماً

مُتَقَلّباً كَخَريفٍ تاهَ عَنْ فَصْلِهِ].

وإذن... منذ الولادة ، يسترسل الليل منفتحا على جملة من المعادلات الإنسانية الصعبة، كي يختبر وجود الكائن، وما أسرع تهشمّ المرايا الروحية ، عند عتبات الكسوف الذاكراتي في تأجيجه لمآسينا.

يكون هذا الليل، ليل البوح الممسوس بتشظيات الذات، جدّ ثقيل .

هذا الليل إذ يغزو مغلّفا بما يستعير منّا من أقنعة، ننتشي بأحلامه المخففة من أوجاع ارتطامنا بالواقع الموبوء، ونحن نتلمّظ عناقيدها على نحو برزخي، يتهجّى أبجديات غيبوبتنا المختارة، حدّ الثمالة.

الليل كمعلّم أكبر، ليس يزدان بسوى ملح الأمومة وهي تمارس على تجاربنا فعل الوصاية ، دونما بخل بمعجم تعاليم الحنو والخبرة والنضج.

هامش:

أنظر كتاب " مكتظ بك أيها الفراغ، شعر طبعة أولى2017، محمد اللغافي، ردمك.

 

احمد الشيخاوي

 

  

 

 

في المثقف اليوم