أقلام ثقافية

بائع الأمل

علي المرهجفي شارع المُتنبي كثير من باعة الأمل، وكُنت أنا وأخوتي بعض من هؤلاء الذين كانوا ولا يزالون يعملون ببيع الأمل لا خداع فيه لعقول المُشترين ولا تسفيه.

كُنَا حينما ينبلج الصُبح نستيقظ يستفزنا الأمل الكامن في نفوسنا لنُخطط ونعمل على ترسيم حياة له في نفوس مُرتادينا من الذين يتوقون للقائنا لا لأننا نبيع الأمل فقط، بل لكوننا نحن من نشتريه حينما يُغادره بعض من أحبتنا من الذين هاموا بحب المعرفة وماتوا بحسرة لا يأس فيها لأن في العراق نهرين وثالثهما الأمل المعقود في نفوس الحالمين أمثالنا وأمثالهم.

لا أخفيكم أنني كُنت فرحاً بشراء مكتبة تركها صاحبها حالماً بمستقبل أفضل لعراق قادم يأمل به لأولاده وللعراقيين كافة، لا لأنني راغب في الكسب وهو أمر طبيعي لأنه من مُقتضيات العمل والربح الحلال، ولكن فرحي غامر لأنني سأقلب كُتب هذا الشخص وأتفحص أحلامه وأعيش بها في ثنايا سطور الكُتب التي أشر عليها، وكم من سطور استوقفتني بكونها حكماً يستقيها مالكها من مؤلفات كبار الفلاسفة والحُكماء.

في صُفرة الورق محبة مُعتقة يرتشف القارئ الحالم من مؤلفات باعة الأمل من الكُتَاب الحالمين بحياة أفضل.

الحُلمُ والأملُ صنوان لا يفترقان عند من يشتريهما من باعة لا يعرفون أن هُناك روحاً تسري بين سطور هذه الكُتب المُصفرَة التي تحمل بين دفتيها أحلام مُشتريها الأول من الذيت لم يعرف ورثته مقدار ما كان يحمله من نزوع أثير للتضحية عنده في المال والوقت كي يُعيد تشكيل عقله بما يجعله كاشفاً لخفايا وأسرار المعرفة ليكون مُشاركاً في انتاجها قراءةً أو تأليفاً كان لهذه الكُتب العتيقة دور في تخليصه من وهم الخرافة وهيمنة اللامعقول في حياته التي مضت بلا تقدير مُستحقٌ لها.

بالطبع لم تكن كُل الكُتب التي نشتريها تبيع الأمل، فقليل منها كان يستخف بالعقل وأهله، فبعض منها كانت عتيقة ولم تكن مُعتقة بالمحبة للتعقل، إنما هي أوراق لو لم يكتبها أصحابها لكان أفضل، لأنها مؤلفات يلف كُتابها ويدورون في حلقة مُفرغة كل مراميهم ومقاصدهم تفريغ العقول من وعيها لبناء منظومة لا واعية تجعل من الناس أتباعٌ سُذَجٌ لا يفقهون تحولات الحياة ومقتضيات العلم ومُتغيراته، ليكونوا كالأنعام، بل أضل سبيلا.

الغريب العجيب أن أغلب ورثة الصنفين من الذين ورثوا مكتبات كانوا أصحابها أميّل للمعرفة العقلانية التنويرية، او الذين ورثوا مكتبات كانوا مُلّاكها من دُعاة اللاعقلانية السحرية، لم يكونوا عارفين بمضان ومُضمرات الكُتب التي ورثوها، فبعضهم كان يظن أنها كنوزاً تُساوي ملايين لا لشيء سوى أنها عتيقة، وآخرون يجهلون قيمتها فيبيعوها بأبخس الأثمان لأنها تأخذ مكاناً في البيت هم أحوج له!.

الكُتب ملاذات، بعضها ملاذات للحالمين ممن هم أمثالنا من باعة الأمل، وبعضها ملاذات لذوي الصوامع والتكايا المُنكفئين على أنفسهم من الذين لا يروا في الحياة سوى أنها ملاذ مؤقت لملاذ آمن للآخرة.

وللمؤلفين في كتابتهم شجون وللمالكين لها مآس شتى، وفق المثل الشعبي الدارج "ايجد أبو جزمه وياكل أبو كلاش" ومن جمع الكُتب كان يحلم ببناء حياة يعتقدها أفضل لوارثيه، ولكنها عند أغلب الوارثين إنما يعدَوها بمقدار ما يكسبونه من مال يتأتى من بيعها لا بمقدار ما في ثناياها من حكمة وذلك بحسب نزوع التاركين لها في توصيف الحكمة: هل هي في تسخيف عقول الوارثين لما تركوا إن كانت من سخيف القول ولا معقوله، أو هي كانت من صريح القول ومعقوله؟!.

الحكمة توصيف بحسب مُتبنيات القارئ، فبعض التاركين للكُتب العتيقة يظنون في كُتب السحر والغنوصية حكمة (مكنونة) لا يعرفها سوى السالكين لدروبها!، وبعض منهم يرى أن الحكمة إنما تكمن في تمثل القول الفلسفي في عقلانيته وتلك عبرة واعتبار لأولي الألباب.

وتلخيص القول أنني وأخوتي وبعض من صحبي من باعة شارع المُتنبي كُنّا لا نبيع الأمل بشراء القُبح في شراء مكتبات لا قيمة للعقل عند أصحابها من الذين يهيمون عشقاً في الكُتب الغنوصية والمعرفة السحرية والجوَانية، ولم تكن من اشتغالاتنا لا أنا ولا أخوتي من آل مرهج وبعض من صحبنا في هذا الشارع.

كان جُلَ همنَا رغم سعينا للربح هو المُشاركة في بناء وعي عقلاني تنويري نكون نحن ومن يشتري منَا شركاء في صناعته، ألا وهو الأمل في أن نكون أكثر تعقلاً لما يُحيط بنا من تجهيل مقصود لسلطة جاهلة وجماعات دينية تُشاركها فعل التجهيل هذا.

لقد بقينا وإلى يومنا هذا نبيع الأمل في سعينا لتوسيع مساحة التداول للكتاب الفلسفي والفكري الذي يستفز العقل ويقض مضاجع الجهل.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم