أقلام ثقافية

تشيخوف وغوركي

ضياء نافعاسمان معروفان للقارئ العربي بشكل جيد بين الادباء الروس الكبار، بل يوجد في المكتبة العربية كتاب بترجمة جلال فاروق الشريف صادر عن دار اليقظة الشهيرة آنذاك في دمشق عام 1953 بعنوان – (مراسلات غوركي وتشيخوف)، واعيد طبعه عام 1983 في دمشق ايضا (انظر مقالتنا بعنوان – جلال فاروق الشريف والادب الروسي)، الا ان القراء العرب ينظرون اليهما – بشكل عام - على انهما غير قابلين للمقارنة في كل المقاييس، والبعض منهم (وهم الاكثرية) يرون، ان غوركي هو الاعلى مقارنة بتشيخوف، اذ انه بالنسبة لهؤلاء القراء العرب مؤلف رواية – (الام)، بينما لا يرتبط تشيخوف بعمل ابداعي بهذا السطوع المحدد بالنسبة لهم . وفي كل الاحوال، فان شهرة غوركي أكبر من شهرة تشيخوف في عالمنا العربي، ومؤلفاته المترجمة اوسع انتشارا من مؤلفات تشيخوف المترجمة، وكل ذلك طبعا نتيجة تداخل الادب الروسي بمسيرة الحركة السياسية في مجتمعاتنا العربية (انظر مقالتنا بعنوان – الادب الروسي في الوعي الاجتماعي العراقي)، وأذكر مرة، اني شاركت بحديث جرى بالصدفة عن تشيخوف وغوركي مع أحد معارفي العراقيين، فقال لي (غاضبا!!!)، كيف يمكن مقارنة غوركي (وأسماه ابو الواقعية الاشتراكية) بتشيخوف البائس هذا؟ ثم امطرني بسيل من الآراء والاحكام حول الادب الروسي وأعلامه، وحذرني في نهاية حديثه قائلا، انه يجب ان اكون حذرا في اقوالي وكتاباتي عن الادب الروسي، والا، فانني يمكن ان اتحول الى (باسترناك جديد)، ولم افهم فحوى هذا التحذير ولا جوهره ولا علاقة باسترناك الرائع بكل هذا الموضوع، ولم أسأله تفاصيل ذلك، أذ أني (لذت بالصمت وانا مبتسما!) امامه ليس الا،، كما أفعل عادة مع هؤلاء الاشخاص، الذين (لا يعرفون، ولا يعرفون انهم لا يعرفون !)، وما أكثرهم حولنا في عالمنا العربي مع الاسف .

تشيخوف وغوركي – موضوع مهم في علم الادب المقارن وتاريخ الادب الروسي بشكل عام، وهو موضوع واضح المعالم بالنسبة للباحثين الروس، لأن غوركي نفسه قد حدد موقعه الحقيقي في هذه المقارنة، اذ انه ظهر في مسيرة الادب الروسي وبرز فيها بعد تشيخوف، ونجد في اول رسالة كتبها غوركي لتشيخوف جملة دقيقة يقول فيها غوركي، انه معجب به منذ نعومة أظفاره، وهناك في مذكرات أحد معارف غوركي اشارة، الى انه (اي غوركي) عرض له في شبابه قصة قصيرة لتشيخوف، منشورة في احدى المجلات الفكاهية بداية الثمانينات، وهي من قصص تشيخوف المبكرة جدا، وقال غوركي له ما معناه، انه يتعلم منها . وتشيخوف كان معجبا بغوركي ايضا، وقد أشار اليه في الكثير من رسائله الى الآخرين، وهناك عدة بحوث بالروسية تتناول اعجاب تشيخوف بمسرح غوركي ونشاطه الابداعي عموما، وكذلك بشخصيته وعصاميته، على الرغم من ان اسلوبهما الفني مختلف تماما، وتوجد في احدى رسائل تشيخوف الى غوركي تفصيلات دقيقة وجميلة حول ذلك، اذ اخبره مرة، انه يكتب جملة – (جلس الرجل على العشب)، اما هو، اي غوركي، فانه يكتب نفس هذه الجملة بشكل مطول جدا، يصف فيها كيف ان الرجل يجلس ببطء ويتلفّت وينظر حوله بامعان ...الخ، ويقول تشيخوف، ان هذا الوصف يشتت ذهن القارئ، ولا يجعله يصل الى الفكرة التي يريد الكاتب ايصالها له .

لقد توفي تشيخوف عام 1904، وبالتالي، فانه لم يعاصر مسيرة غوركي لاحقا، وكيف ساهم في مسيرة الحياة السياسية الروسية وكل الاحداث الكبيرة في تاريخ روسيا العاصف من ثورة 1905 والحرب العالمية الاولى وثورة اكتوبر 1917 وعلاقة غوركي مع لينين (التي ابتدأت قبل ثورة اكتوبر ومرّت بمراحل متشابكة ومعقدة) وعلاقته مع ستالين بعد تأسيس الاتحاد السوفيتي، هذه العلاقة التي يمكن ان نسميها (غير السلسة) ان صح التعبير . وكل هذه الجوانب حول غوركي لازالت غير واضحة المعالم للقارئ العربي، ولهذا، فان القارئ العربي لا يستوعب المقارنة بين هذين الاديبين، بل وحتى لا يتقبلها، كما هو حال صاحبنا العراقي، الذي أشرت اليه في بداية مقالتي، اذ لا يجد التشابه بينهما، ولا يفهم امكانية المقارنة بينهما . ان موضوع تشيخوف وغوركي حيوي جدا في روسيا، ويمكن على سبيل المثال الاشارة الى موضوع طرحه احد الباحثين الروس عام 2015 ليس الا، وكان بعنوان (تشيخوف وغوركي ضد تولستوي)، بل ان ميرشكوفسكي (انظر مقالتنا بعنوان – الاديب والفيلسوف الروسي ميرشكوفسكي) قد كتب بحثا معمقا في وقته، ذكر فيه ان تشيخوف وغوركي أقرب الينا (وحسب طاقتنا، كما يقول) من دستويفسكي وتولستوي (واللذان هما اعلى من طاقتنا)، وذلك لان تشيخوف وغوركي يعكسان حاضرنا، اما دستويفسكي وتولستوي فانهما يعكسان الماضي والحاضر والمستقبل، وهي افكار فلسفية عميقة وممتعة تستحق التأمل فعلا، ولا يمكن ايجاز كل ذلك ضمن هذه السطور . وهذا الموضوع حيوي ايضا بالنسبة لاوربا ايضا، وخصوصا بالنسبة للموقف من غوركي بالذات، وذلك لان اوربا تتابع بدقة ما يجري في الفكر الروسي، ودراسة غوركي ترتبط بشكل مباشر بهذه المتابعة الفكرية ولحد الان. وباختصار شديد، يمكن لنا ان نقول – ختاما لهذه المقالة – ان هذا الموضوع يستحق ان نكتب عنه بتفصيل وان ندرسه بعمق ومن كافة الجوانب، كي لا تتكرر تلك الآراء الساذجة عند بعض القراء العرب ... 

 

ا. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم