أقلام ثقافية

بوشكين كاتبا مسرحيا

ضياء نافعبوشكين- قبل كل شئ – شاعر كبير، اي ان الشعر يأتي اولا عندما يجري الحديث عنه، اذ انه (شمس الشعر الروسي) بلا منازع، ولكن بوشكين ساهم – وبشكل كبير وهائل ورائع ايضا – في مجالات ابداعية اخرى، فما هو الجانب الثاني في ابداع بوشكين يا ترى؟ يعتقد بعض الباحثين، ان النثر يأتي (ثانيا)، اذ مازالت قصصه ورواياته القصيرة شاخصة في عالم الادب الروسي، ويشيرون مثلا الى ابنة الضابط (حسب ترجمة الدروبي والتي اختلف المترجمون العرب على ترجمة عنوانها لاحقا!)، وهناك من يرى، ان مسرح بوشكين اهم من نثره، ويذكرون مسرحيته التاريخية – (بوريس غودونوف) والتي لازالت تتفاعل مع الحياة الروسية المعاصرة ولحد الان، وذلك عندما يدور الكلام عن المسرح الروسي او التاريخ الروسي، ويظن آخرون، ان هناك جوانب ابداعية اخرى في نشاط هذا (المعلّم !) الكبير، وان تلك الجوانب هي التي تستحق ان تكون (ثانيا) . وبغض النظر عن تحديد الموقع (الثاني!) في ابداع بوشكين (وكل ذلك يخضع للنظرة النسبية للباحثين طبعا، اذ يجد كل باحث تبرير موقفه تجاه بوشكين وابداعه)، فاننا نود ان نتوقف في مقالتنا هذه عند جانب مهم في مسيرته الابداعية، وهو بوشكين - الكاتب المسرحي في تاريخ الادب الروسي، وفي تاريخ المسرح الروسي .

هذا الموضوع يذكّرني رأسا بحدث محفور في اعماق روحي، وهو - كيف جاءت المرحومة أ.د. حياة شرارة مرة اليّ (عندما كنّا نعمل سويّة في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد)، وقالت لي انها ترجمت تراجيديات بوشكين الصغيرة عن الروسية، وتريد ان تقدمها الى وزارة الاعلام العراقية لنشرها في كتاب، ولكنها مترددة جدا، لانها تخشى ان يحيلون الترجمة الى شخص غير مؤهل لمراجعتها كما كانت الامور متبعة بشأن اي كتاب مترجم تنشره الوزارة، ويبدأ هذا الشخص (يتفلسف برآسي !) (هكذا قالت لي المرحومة حياة مازحة)، ولهذا سألتني، هل توافق ان تكون انت المراجع لتلك المسرحيات؟ فقلت لها، اني اوافق على ذلك دون اي تردد، وأضفت قائلا، انها يجب ان تكون مثل جبرا ابراهيم جبرا، الذي يشترط عدم مراجعة ترجماته من قبل مراجعين، وانها جديرة ان تشغل مكانة جبرا في عالم الترجمة عن الروسية في العراق، (انظر مقالتنا بعنوان – حياة شرارة والادب الروسي في العراق / لقطات) . وهكذا صدر كتاب المرحومة حياة عن وزارة الاعلام العراقية بعنوان – (مسرحيات بوشكين)، وهو اول كتاب عراقي متكامل عن مسرح بوشكين، اذ يضم نصوص المسرحيات تلك، التي أسماها بوشكين – (تراجيديات صغيرة) بترجمة د. حياة شرارة عن الروسية، وبمقدمة عن مسرح بوشكين بقلمي، والمقدمة تلك هي في الاصل بحث نشرته اولا في مجلة كلية الآداب / جامعة بغداد (وقدمته في حينها للترقية العلمية حسب تعليمات الترقيات العلمية في الجامعة)، واتفقنا (حياة وانا) انه يصلح ان يكون مقدمة لكتابها المترجم ذاك، وهذا ما تمّ فعلا. ولهذا، فان مسرح بوشكين – بالنسبة لي شخصيا - يرتبط بترقيتي العلمية في الجامعة، ويرتبط ايضا باول كتاب عن مسرح بوشكين في العراق اصدرته المرحومة المبدعة حياة شرارة .

 تراجيديات بوشكين (الصغيرة!) تلك هي مسرحيات (كبيرة!) الاهمية في تاريخ الادب المسرحي الروسي، اذ انها تعدّ كلمة جديدة لم يسبق لاحد قبل بوشكين في روسيا ان قدّم شيئا مماثلا لها، وكتب بوشكين تلك المسرحيات عام 1830، اي عندما كان في قمّة (نضوجه الابداعي!) ان صحّ التعبير (توفي بوشكين عام 1837)، وليس عبثا، ان تلك المسرحيات كانت تعكس مواضيع انسانية شاملة، او (امميّة) كما أسماها باحث سوفيتي مرّة في محاولة لاستخدام المصطلح السياسي المعروف في سياق النقد الادبي. التراجيديات الصغيرة، او (مآس صغيرة) كما جاءت في بعض الترجمات العربية، كانت تدور حول صفات عامة توجد عند البشر كافة، صفات وردت الى ذهن بوشكين نتيجة قراءآت واسعة جدا في الادآب العالمية، (اي لا تتناول الخصائص القومية البحتة ولا الاحداث القومية)، كالحسد مثلا (انظر مقالتنا بعنوان – مسرحية بوشكين الشعرية موتسارت و ساليري) .

المسرحية المركزية لبوشكين هي (بوريس غودونوف) طبعا، والتي قرأ بوشكين مقاطع منها لقيصر روسيا الكساندر الاول عندما استقبله بعد الغاء عملية النفي وعودة الشاعر الى بطرسبورغ، وهي دراما تاريخية ضخمة ومليئة بالاحداث والشخوص، بدأ بوشكين بكتابتها بعد ان اطّلع على نتاج كارامزين الشهير (تاريخ الدولة الروسية)، ويرى بعض النقاد، ان بوشكين اراد ان يكون (شكسبير روسيا) بواسطة هذا العمل المسرحي الكبير . استمر بوشكين بكتابة هذه المسرحية طوال سنوات، ونشرها عام 1830 فقط، ولم يستطع ان يراها على خشبة المسرح اثناء حياته نتيجة عوامل كثيرة، منها سياسية وفكرية، ومنها كذلك صعوبة تحقيق ذلك تقنيا . لقد تم تقديم تلك المسرحية على خشبة المسرح الروسي بعد اكثر من ثلاثين سنة على وفاة بوشكين، ولا زالت تعرض لحد الان، بل انها تحولت حتى الى اوبرا، والى عروض موسيقية غنائية متنوعة، وحولتها السينما الروسية منذ اواسط القرن العشرين الى افلام سينمائية عديدة، وكان آخرها فلم سينمائي تم انتاجه عام 2011 ليس الا...

شمس الشعر الروسي بوشكين استطاع ان يمنح لشعبه ايضا المسرح الشعري الروسي، وهو عمل ابداعي كبير وعنصر ضروري جدا في تاريخ كل شعب من شعوب العالم المتحضّر...  

 

 أ. د. ضياء نافع

 

 

في المثقف اليوم