أقلام ثقافية

هل يمكن للشِّعر إنقاذ العالم؟

ياسمين البطاطتحدثت في المقال السابق عما يسمى "وطن"، واليوم أسرد لكم  جزءا من هذا الوطن الذي بنيته لنفسي.

إنه كالمعطف الذي ما زال يحتضنني في كل مرة يرقد فيها قلبي على أرصفة الشتاء الباردة في ظلام ليل دامس وتحت أنوار الشوارع الصفراء، يأتيني وأنا وسط الفوضى التي تغزوني دائما أوقات النهار؛ يحتضنني بدفء ثم يطمئنني بأنّ كلّ شيء لن يكون على ما يرام دائما لكنه سيمضي، يزورني حتى في الأحلام، أتخيّله ريحا تهب من أمامي ثمّ تمدني بالهواء الذي لم تستنشقه رئتاي منذ زمن بعيد، منذ آخر مرة قرأته، إنه الشعر، الشعر الذي خذل توقعاتي المتفائلة دائما ولكنّه لم يخذلني بملامسه الناعمة وهو يمسح على قلبي وقلب كلّ هاو له. هذا المقال مميز جدّا بالنسبة لي، صحيح أنّ كلّ مقال أكتبه يكون نابعا من طفرة كبيرة في المشاعر، أو تفكير كثير في أمر ما، أو حتى بلا أية أسباب مقنعة تدفعني لكتابته، ربما أجد بأنّ الدافع الوحيد هو ظمئي لمعرفة أيّ شيء يدلّني على إجابة، روحي التي تأبى دائما تلقي الأحاديث بكلّ أريحية، فتبقى في فضول دائم حتى يركد هذا العقل قليلا من زخم الأفكار التي تهطل فجأة عليه من كلمة ربما.

أريد أن أوضّح، وأنا أتناول موضوعا تشكّل في القلب، مكمن الشعور، وليس في العقل، ثمّ أنضجه الفكر المتحرر من قيود الأنا، المنطلق في رحاب الكلّ، أنني لا أضع هدفا يحتّم عليّ الانسياق في إطار محدّد، حين أشرع في الكتابة، أي في ترجمة الشعور الداخليّ إلى كلمات ومفاهيم.

كنت وما زلت أعتقد أن موضوع الشعر سيكون أكبر مني بكثير، محيطات أبحر فيها الكثير من العلماء، وأنا هنا بقاربي الصغير، أحاول التجديف أكثر وأكثر، لأصل إلى السرّ الذي يكمن بين كلّ هذه المياه، لماذا تتحرك بهذا الجمال؟ وكيف لها أن تنساب برقة بين ثنايا أرواحنا لنولد من جديد بعد كلّ نصّ نقرأه؟ ثم نتساءل عن الشعر ونجد الإجابة فيه تماما، إنه السؤال الذي يجيب نفسه.

الشاعر الذي لا أعتقد أن روحه فقط هي التي أخرجت كلّ هذه الكلمات المليئة بالمشاعر، الذي تحدث نيابة عن آلاف النفوس التي كبّلت حناجرها يوما، بدر شاكر السياب، أدونيس، نزار قباني، نازك الملائكة، مظفر النواب، أمل دنقل، صلاح عبدالصبور وغيرهم الكثيرين ممن تحدثوا عن شعوبهم وعن كوامن أنفسهم في أحلك الليالي، كانوا في وجه المقاومة دائما، ولو دققنا قليلا في حياة كلّ واحد من هؤلاء، سنجد أنهم أصحاب تجربة عميقة وفهم جيد للحداثة التي طرأت على الشعر، ذوي تجربة؛ عندما توالت الهزائم على العرب والتي ما زالت مستمرة حتى اليوم، هذا التيار الشعريّ العربيّ استوعب الحداثة الشعرية إلى أبعد الحدود.

إنّ فكرة حاجة الإنسان إلى التعبير عما يعتمل في داخله تحتم عليه فهم ما يدور حوله وفي داخله من مشاعر وأحاسيس، فيحاول فهم واقعه بالطريقة التي يراها المناسبة وحين يجد هذه الصورة التي يراها أمامه بكلّ وضوح؛ يبدأ برسمها، ينقلها لأخيه الإنسان عن طريق الأداة التي لا يمكنه الاستغناء عنها، الأداة التي في حالة الشاعر؛ تكون الشعر، فينقل لنا هذه المشاهد المليئة بكلّ الحواسّ. وقرأت أيضا ذات مرة، أن هناك إنسان شاعر، وهناك شاعر شاعر، أي الشاعر الذي ولد هكذا، بقلبه الذي يضاعف الشعور دائما، وبكلماته التي تحوّل النحاس إلى ذهب، تماما كالخيميائيّ الذي قصده باولو كويلو.

يقول توفيق الحكيم: "إنّ الفنّ صخرة صلبة، على الفنان أن يفجر منها الماء الزلّال، وليس الفنّ نهرا جاريا يغرف منه كلّ عابر سبيل بلا مجهود." كذلك الشاعر، الشاعر الذي يحوّل العواطف الداخلية إلى حالة من الواقع الذي نعيشه حين نقرأ النصّ الخاصّ به، نصّه الذي يجعل السماء تمطر فنشعر بوقع القطرات المبللة، نصّه الذي يلون الكون بكلّ ألوان الحياة أو يجرّده حتى من الصّبغة، قصائد تربت علينا بشطر وتصنع الجرح بشطر آخر، فلا نعرف أهل تشافينا؟ أم أننا هلكنا مرة أخرى في البحر ذاته؟ ولذا أقول دائما، أننا بقراءة الشعر نتشافى، ولا أبالغ أبدا عندما أخبركم أنني وفي الكثير من المواقف خلال يومي أشعر بالضيق، إحساس لا يمكنني وصفه تماما، إنه حالة من الحاجة الماسة إلى كلمات تشبهني، أو نغم أستمع لأوتاره لأشعر بالراحة بعده، وفي هذه اللحظة تماما، أذهب لأقرأ أيّ ديوان أضعه بين يدي، وخلال القراءة؛ أسمح لروحي أن تطير لتتجرد من جميع ما كبّلها.

ولأتحدث هنا بصيغة المفرد، فإنني حقا بحاجة إلى الشعر، وفي أغلب الأحيان تكون هذه الحاجة بلا تفسير حقيقيّ سوى أنني أتخيلني ظمأة جدّا لا تروي عطشي إلا القصيدة. إننا متعطشون حقّا لقراءة الشعر لعلاقته الفريدة بنا نحن العالم، ولكنّ؛ ما هي علاقة الشعر بالعالم؟ هل يمكن للشعر أن يغير العالم كما غير فيّ الكثير؟ أم أن قراءة الشعر تقتصر على مجموعة معينة تتذوق هذا الجنس الأدبيّ فقط؟ هل الشعر للجميع؟ وهل يمكن أن يكون للجميع؟

عندما سأل أحدهم عميد الأدب سامويل جونسن "ما الشعر؟" أجاب: من الأسهل كثيرا أن نتحدث عما هو ليس بشعر، فنحن جيمعا نعرف ما المقصود بالضوء؛ ولكن ليس من السهل أن نقول ما هو.

فالشعر إذن استجابة انفعالية تعكس إحساس الشاعر القويّ وتأثره العميق بالعالم الذي يحيط به. ويعبّر الشعر عن نظرة فلسفية للحياة تقوم على المحلاظة الدقيقة، شأنه في ذلك شأن العلم، إلا أنه يختلف عن الأخير في كونه يقارن بين ظواهر قد تبدو من الناحية العقلية متباينة أو غير منطقية. وتفسير ذلك كما يقْرر أفلاطون يكمن في "أن مقدرة الشاعر على تأليف شعر في شيء ما غير مقدرة المرء على شرح نفس الشيء شرحا عقليّا وأنّ الشعر ليس هدفه الشروح العملية.. فلو لم يكن الأمر كذلك لما تيسر للسياب أن يصف عيني حبيبته بأنهما "غابتا نخيل ساعة السحر" ولما استطاع المتنبي أن يصف الأعمى والأصمّ ممن يتذوقون شعره بالقدرة على النظر والسمع كما في بيته المشهور:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي*وأسمعت كلماتي من به صمم

ومن بعض الخصائص الملحوظة عند قراءتي للشعر هو أنّ الشعر حوار درامي داخلي فالموقف الفلسفيّ للشاعر يتحول فيه الحسيّ إلى مجرد والمجرد إلى حسيّ ويمتزج فيه الواقع باللاواقع وتمتد طاقته التعبيرية إلى ما وراء حدود الذات لتشمل النفس البشرية في زمان ومكان، ومن أمثلة على ذلك قصيدة الزائر الأخير للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد التي تضمن حوارا مخضبا بمشاعر القلق والرهبة من لقاء لا مناصّ له يجمعه مع زائر وهميّ وهو الموت يأتي ليأخذ كتابه من يده والمقصود بالكتاب هو الحياة.

و من دون أن تقلق أولادي

أطرق عليّ الباب

أكون في مكتبتي في معظم الأحيان

أجلس كأيّ زائر

و سوف لا أسأل

لا ماذا ولا من أين

و حينما تبصرني مغرورق العينين

خذ من يدي الكتاب

أعده لو تسمح دون ضجة للرفّ حيث كان

و عندما تخرج لا توقظ ببيتي أحدا

لأنّ من أفجع ما تبصره العيون

وجوه أولادي حين يعلمون

و قد يتجسد وجود الشاعر في قصيدته من خلال وقفة تأملية أو مشهد حواري يكون هو طرفا فيه ويعكس من خلاله نظرته أو موقفه من أمر ما. من أمثلة ذلك: المقطع التالي من قصيدة السياب "في غابة الظلام" من ديوانه "إقبال" التي يعبر فيها عن يأسه من الحياة ورغبته في الخلاص منها:

أليس يكفي أيها الإله

أنّ الفناء غاية الحياة

فتصبغ الحياة بالقتام؟

سفينة كبيرة تطفو على المياه؟

هات الردى، أريد أن أنام

بين قبور أهلي المبعثرة

وراء ليل المقبرة

رصاصة الرحمة يا إله

الشعر يتجاوز التفسير العقلانيّ للأمور وهذا من أجمل ما في الشعر فإنّ أجوده وأعمقه أثرا في نفوسنا هو ذلك الذي يستفزنا بتجاوزه لحدود التفسير العقلانيّ للأمور، كقول كامل الشناوي مثلا: "و تطلّ من رأسي الظنون تلومني وتشدّ أذني..." أو قول البحتري: "أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا*من الحسن حتى كاد أن يتكلّما" فيدفعنا قول الشاعر في مثل هذه المواقف للنظر إلى المسلمات من زوايا أخرى لم تخطر على بالنا من قبل.

أنصح كلّ من يهتمّ بماهية الشعر وعلاقته العميقة بالنفس البشرية أن يقرأ البحث في مفهوم الشعر ولغته للدكتور عبدالصاحب مهدي علي

الحديث عن الشعر لا ينتهي والأسئلة تجاه كلّ ما يحويه هي من تجعله حيّا إلى يومنا هذا، لذا أنا مطمئنة جدّا بأنّ الشعر لن يختفي أبدا، ما دامت أيدينا تهوى الكتابة، وأرواحنا هائمة في القصائد. وكما يقول ناصر قنديل في وداع جمهوره "سلام القدس عليكم جميعا".

 

ياسمين البطاط

 

في المثقف اليوم