أقلام ثقافية

وصية حمار (2): نصُّ دعوة جحا

عصمت نصارأمسك جحا بقلمه وراح يخط صيغة دعوة الندوة التي اعتزم إقامتها بذكر مناقب الحمار:

جحا: إلى قادة الفكر والسياسة والأدب والدين والسّير، اجمعوا من فضلكم كل ما قُراء وما كُتب عن أبي صابر؛ أعني الحمار الذي طالما وصفتموه بما ليس فيه، وشنعتم عليه، ووجهتم إليه مئات التهم، وهذا بالطبع لا يرضيه، والآن هو يهدد بالانقطاع عن الحياة واعتزال الناس وضيعهم وشريفهم، الأمر الذي لا يحتمل عقباه، فهل يليق منكم وصف المتعالمين والموظفين الروتينيين، والسّفلة من الكتاب والصحفيين، والجامدين من أرباب الجماعات، والمتشدقين بالشعارات من الأحلاف والهيئات والائتلافات، والأغبياء من الحرفيين، والمهملين دروسهم من طلاب المدارس والمعاهد والجامعات، والمثرثريين ومرددي الأكاذيب والإشاعات، وغير ذلك كثير من اللذين اسميتموه حمير.

فهل هذا يليق؟! أين الفتنة والتدقيق؟! وهل يعامل الطيب الوديع المسالم الرقيق معاملة الأسافل والمنحطين من الحمقى والبلهاء والمأفونين؟! والله هذا الأمر لا يليق. ألم يخلقه الله لحمل الأثقال دون تذمر أو كلل أو ملل، وعفاه من محنة الاختيار، ونقد الأفكار ليكون مثالاً للطاعة، فسخرتم منه وذكرتموه في أدبياتكم بالبلادة والنطاعة.

ألم يدرك ما لا تستطيعون رؤيته وإدراكه، فهو يرى الشيطان والجن، ولا ينصت للوسوسة، ولا تغريه المهيصة، ويسمع ما لا يقدر غيره على سمعه، ولا يأخذ بالوشاية ولا يغضب ولا يغدر، ولا يشرب الخمر، ولا ينسب الأكاذيب، ولا يخفي صورته بالقناع والعباية، ويفضل التبن على التبر تقشفاً، ويرغب عن التبغ والمخدرات، وكل ما يغضب الله تزلفاً، وهو العاقل قوي الذاكرة الذي لا ينسى المعروف، والمحافظ على وثاق الوفاء بالفطرة دون المواثيق التي تكتب بحروف، ولا يتدخل فيما لا يعنيه ويسوقه إلى هلاكه. ألم يكن مطية الأنبياء، وزينة للوجهاء والفضلاء، ألم يكن مُلهم للشعراء، وبطل طرائف الأدباء، ألم يذكر ضمن الفلاسفة، وتحفل باسمه الآيات المقدّسة والوصايا المؤلفة، ألم تسمى باسمه الأحزاب، واشتقت منه أعرق الحضارات.

أيها السادة: إنّ لصاحبي الحمار دلواً في المجد كبير، وله في الشهامة والكرامة باع، وهو من أقدم الدواب خلقاً، وأعظمهم خُلقاً، وفى الفصاحة له ألف ذراع، وأنصحكم تلبية دعوتي حتى لا تصابوا بعذابات الندم لفراقه، بالإضافة إلى قد حيلكم ولعنتي، وأرجوكم الالتزام بالحضور، ومن ضاق وقته فليرسل كتابه وسوف أستقبله عن طريق الفيس أو التوتير، وباختصار عن طريق النت، وسوف أكون له مسرور.

وفور انتهاء جحا من كتابة الرسالة تلقى كثير من التعليقات وعشرات الموافقات، فمن رجال الدين أرسل أحبار اليهود وكبير قساوسة كنيسة داوود، والراغب بن جدعان ممثل اتحاد علماء السنة والقرآن، ومن الباحثين في الأدب قبل دعوة المهتمين بكتابات الجاحظ وابن المقفع ومن كان على شاكلتهما من اللذين أحبوا الحمار وضمنوه في كتاباتهم على نحو أروع من عجم وعرب. ومن السّاسة وافق أوباما من الأمريكان، وكذا بعض رجالات الأحزاب من الأسبان، ونفر من العراق وكردستان، ومن الفلاسفة تلاميذ زينون، وشراح أرسطو وأفلاطون، ومن أشهر الشعراء اللذين لبوا الدعوة بشار بن بُرد والشاعر الأسباني خوان رامون، ومن الأدباء المحدثين توفيق الحكيم، ونفر غير قليل نيابة عن الفلاحين والجزارين والحدوية والعربجية.

وخلاصة الكلام هتبقى حفلة في غاية التنظيم، والكلمات على ما أظن سوف تأتي قمة في الاحترام، وسوف نحذف منها ما لا يصح فيه الكلام. وسوف نوافيكم بالتفاصيل المنجمة خلال ليالي رمضان المكرمة.

وصية حمار (3): كلمات الوفود:

تسلم جحا عشرات الموافقات على حضور حفل تقريظ صديقه (أبو صابر الحمار) فهيأ المكان لاستقبال الوفود، وأعدّ منصة تحمل ثلاثة قعود، أولها لعالم لغويات لتوضيح المعاني وشرح المصطلحات، وثانيها لخبير بالسير والتاريخ للتحقق من الوقائع وسلامة الوثائق والمستندات، وثالثها لفيلسوف لتأصيل المفاهيم وتقييم النظريات ووضع النقط على الحروف، ذلك بالإضافة إلى منصة أخرى لإلقاء كلمات الوفود والتعليقات والاعتراضات والنقود. وقد اتفق الحضور على ترتيب الكلمات تبعاً لمعيار الأهمية وثقافة الجمهور (الدين، الفلسفة، السياسة، الأدب) ثم التعليقات، كما أكدوا على عدم مخالفة أحد للدور. وأولى الكلمات كانت لأحد حاخامات اليهود ويدعى دنيال باروخ:

المتحدّث: نشكر سعادة العلامة وزعيم العباقرة الفهامة جحا على تكرمه لدعوتنا في تلك المناسبة الميمونة التي تستحق تعب الترحال والتكلفة والمؤونة، كما يسعدني أن أوضح للحضور وأشير إلى أن جحا تنحدر أصوله من جلدتنا، واسمه مدون في كتب شريعتنا، غير أن الناس حرفوه، ولغيرنا من شعوب الأرض نسبوه. أمّا الحمار فهو ربيبنا وصاحبنا الذي ألفناه، وباركه الرب في أسفارنا فاحترمناه وأحببناه، فقد ذكر تسع مرات في سفر التكوين والتثنية وأخبار الأيام والعدد وأيوب والملوك وأرميا وزكريا وأشعياء. والنصوص واضحة ووصفه فيها غاية في النبل وقمة الاحترام، فهو المطية المباركة التي ركبها الأنبياء من إبراهيم إلى زكريا، والمسيح المنتظر الذي يأتي بالنصر ويكيد الأعداء، والحمار هو العاقل الحكيم الذي اهتدى إلى الحقيقة بلا دليل، وفاق بعلمه وحكمته خراف بني إسرائيل، وذكر ذلك الرب في سفر أشعياء، وهذا ليس كذب أو رياء.

وحبيبنا الحمار مثالاً للطاعة والوداعة، وهو المهذب الذي لم تصدر منه نطاعة أو مجون أو خلاعة، وهو أفضل من الثور في الحرث وحمل البضاعة، وهو المسالم رفيق الفقراء والمعوذين والأتقياء. أنعم به صديق وإذا كان يرغب في العزلة فنحن أولى به وسوف نحمله على أكتافنا طول الطريق، وسوف نطعمه برسيماً وخضاراً وفواكه وما يشتهيه وتبن ذهبي له بريق، ولما لا نوده ونتودد له، وهو الذي حملنا من المغرب إلى فلسطين في هجرة عام 1936، وفضله علينا معروف ومخطوط على الهيكل بالنقش والحروف وسيرة الحمار عندنا هى الأفضل من أسفار الأناجيل وآيات القرآن والحديث والأمر لا يحتاج دليل. وأرجو أن تكون كلمتي مرئية ومذاعة ومطبوعة، ولنا في إيرادات نشرها حصة مقطوعة.

وقد أثارت كلمة الحاخام بعض القلق والشجار حول مصداقية ما جاء فيه من نزاع وأخبار، وقد دون ذلك المراقبون الثلاثة بإتقان، وأشار جحا بأصبعيه لا تعليق بأن الخبز لا يصنع من ماء ودقيق بل يحتاج إلى خمير وحرفية في الصنعة والتسوية، وإذا ما اختل الميزان أضحى طعاماً للبهائم وأرخص من العليق.

وجاء دور القساوسة واختلفوا فيما بينهم على من يحسن شرح النصوص المقدسة، فقال نفر منهم (الكاثوليك)، فرد آخر هذا قبل أن يصيح الديك، واقترح ثالث الكنيسة الأم وكان يعني المصريين فنفر منه الأوربيون، وقالوا لا لا That Is Not، وليتحدث أحد البروستانت فكان ذلك. فصعد القس مارتن هوك حاملاً صليبه وعهد جديد على شكل Notebook وقال: أيها الأحباب إن الحمار قد حظى بمجد لا تحويه الأفاق ولا يحده حد فقد اصطفاه المخلص من بين الدواب ليحمله إلى أورشليم فهل هناك بعد ذلك تكريم؟ ألم يصبح الحمار (أتان وجحش) الأجدر بالشكر والتعظيم.

اسمعوا يا أحباب لسنا في مجال سجال، ولا في سوق يباع فيه الكلام مثل الغلال، وعليه لا يليق في هذه الجلسة الرد على قتله المسيح وأبناء الأفاعي وسلالة البغال. غير أن ما نريد توضيحه أن قصة الحمار التي وردت فى متى ومرقس ولوقا (وباقي الآيات في الأعمال والرسائل) لا تشير بأن الحواريين فكوا الحمار وسرقوه، وإلى المخلص ابن الإنسان ودوه، فإنّ هذا التفسير يحمل إفك في التأويل وشر خطير، فهل يعقل أن الحبيب - الذي وقف على الصليب وكان للمكلومين والمرضى طبيب - لصاً وكذاب وطامع في المغانم والأسلاب؟! هذا للتذكير وليس للتبرير. وفصل الخطاب يا أحباب أن الحمار هو الذي حمل لنا السعادة وبكل معاني النبل والرحمة والحكمة والكرامة نكتب له الشهادة. وإذا أراد هجر بلاد الشرق المتخلف فإننا على الرحب والسعة نستقبله في أوربا أو أمريكا ليستجم ويستحم ويعيش حياته بلا ممنوع ويمكنه ممارسة Business  والدخول في أي مشروع. وبذلك يعيش الحمار سعيد ومتهني، ويمكنه كذلك تعلم الرسم والحياكة، وإذا أراد يلحن ويغني، ولما لا فهو في الشرق كان اسمه مقرون بالرذيلة والغباء وقلة الحيلة. أمّا عندنا سوف نحقق أحلامه ونسمع كلامه، ونهديه أتان جميلة لم يرد خبرها في ألف ليلة وليلة.

وقابل الحضور كلمة القس بالتهليل والتصفيق وهمس بعضهم في الآذان (هذا كلام لا يخلو من الادعاء الكاذب الذي لا ينطق به إلا الصفيق) ففطن جحا إلى ذلك الغمز واللمز فرفع الجلسات بتناول الطعام والشايات والقهوات والباتيهات والكيكات والعصائر وما يسكب في الكاسات. وسوف نكمل الأحداث في الليالي المقبلة المباركات.

 

بقلم: د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم