أقلام ثقافية

وصيَّة حمار (5): حول الفكر والواقع

عصمت نصارلم يكن في مقدور جحا إلا الوفاء بالعهد، والصدق في الوعد، وإكمال ما بدأه في تقريظ صديقه الحمار، وذلك لرد اعتباره وتبرئته من صفات الغباء والإهمال والحمق والكسل وغير ذلك من خصال مذمومة أطلقها البشر على أراذلهم، وزجوا باسمه الكريم في موضوعات لا تليق ومنها الصدر يضيق. ومن ثمّ كان من الضروري على جحا إبراز مناقبه وإحصاء فضائله على أصحاب المنابر والأقلام من النوَابه والنوابغ والأعلام، فقد عقد جلسات أربعة حول مكانة أبو الصابرين في كتابات أرباب السير عن الأنبياء والمصلحين ورجال الدين - في شهر رمضان الماضي- وأشار في تذييله للجلسة الأخيرة على اعتزامه عقد أربع جلسات أخرى عن مكانة الحمار في عيون المثقفين والحكماء والفلاسفة وأكابر الأخيار.

واعتلى كعادته المنصّة الرئيسية في القاعة التي خصصها لمناقشة هذه القضية، فراح يستعرض نصّ الدعوات التي أرسلها لشبيبة المجتهدين وأساتذة الجامعات والمشاهير من الصحفيين ورواد الصالونات المحترمين، وذلك ليتأكد من موعد الانعقاد وإعداد الحضور الذين استجابوا للدعوة للمشاركة بالبحوث وطرح النظريات وبسط المعارف وإلقاء الدروس، فاجتهد في تنظيمهم وأخطرهم بالبرنامج قبل حضورهم، وخصص الجلسة الأولى للحديث عن صورة الحمار في عيون المثقفين والنقاد الساخرين.

وفي اليوم التالي افتتح الجلسات للثناء والترحاب لكل من كلف نفسه عناء الحضور للمشاركة في الحوار ونقل الأخبار.

أحد المثقفين ويدعى أبو سريع : إيه يا عم جحا عامل مؤتمر عن الحمار؟ دفعوا لك كام علشان تسلينا وتغيب عقولنا وتلهينا وتقول كان ياما كان، بدل نيلي وشريهان، في أمسيات رمضان؟. بأة يا راجل يا مهبول سايب قضية ارتفاع الأسعار، وأزمة الدولار، ومجازر داعش والإرهابيين وقتل إخوانا المسيحيين ومشاكل الحدود ورقص ترامب مع العرب وآل سعود. بذمتك أنت حكيم ولا بهلول ولا هي مَكلمَة وحفلة سحور ووحوي يا وحوي والفوانيس حوالينا تدور؟

جحا : بسم الله الخبير بنوايا الأخيار والأشرار، والمتهكمين والساخطين والعارفين بآداب الحوار، والراغبين في إلقاء التهم بالباطل وقذف الناس بالأحجار؛ اسمع يا أبو سريع موضوع الندوة معروف، والدعوة للمثقفين الراغبين في الطرح والمناقشة فيها النقط على الحروف، وده بعيد عن أمور المليطة والحنكشة، والتهييج والدردشة، والتشكيك والبأششة، والدس والرص ولبس الطوائي والطرح المدندشة.

مش عاجبك الحمار! عنوان الحقيقة وشمس كل نهار، أيوه صاحبي وكل اللي هنا عارفين وفي أقل منه كتير في الجامعات والوزارات على المكاتب قاعدين، وتحت بدلهم مستخبيين، وياما مجدتوهم وعظمتوهم وهما من الضالين. طب قول يا أبو العريف تعرف إيه عن حرب الكبار واقتصاد السوق ولعبة البورصة وإهمال زراعة القطن والقمح والتوسع في دحرجة البطيخ ونقاوة الخيار؟

قول يا أبو سريع وراجع الخطب والشعارات (بوش، كلينتون، أوباما، ترامب) كلهم قالوا بنحارب الإرهاب من العراق لسوريا لليبيا لليمن للسودان، ورص يا ريس سرحان الأطباق على السُفْرَة للبهوات، وإحنا بنتاكل وبندفع الدولارات، وعيالنا بتدبح كباب وكفتة وطرب ده غير النبيت الأحمر والمذات، والجرسونات أرايب والضرب تحت الحزام، وفي المؤتمرات حبايب بيترصوا تحت الأعلام، فهمت يا صاحبي الكلام؟ هما مش قالوا إن أكل لحم البشر حرام؟ دول بأة حلّلوه، والحمار اللي مش عاجبك دبحوه وسلخوه، وخدوا جلده وباعوه، وعملوا لحمة كفتة وحواوشي وعيالنا من الجوع كلوه وهضموه. فهمت يا أبو سريع إن شعار الأيام الجاية التطبيع واللي ما يسمعش الكلام هيضيع، واللي ناوي يحارب الفساد أحسن له يجيب شريط بلا بيع، وخليك في المسلسلات والتصريحات المشطشطة والفتاوى المزروطة والمعلومات الملخبطة وقفلي على كل المواضيع.

أنت بتعيب في الحمار عم كل الشغيلة وعايزني أتكلم عن البطالة وشبابنا اللي بينعي حظه وشايل على كتافه ميت ألف نيلة! بتقول مبيشتغلوش، ومتعلموش، والكل بيلعب عليهم ومبيفهموش، وبيسمعوا كلام الحلنجية واللي ما يساووش، وبيغنوا (أديك في الجركن تركن وآه لو لعبت يا زهر وعملت نفسي نايمة ومشينا الكفار وبوظنا الحفلة النار)، ومبيكسفوش ما هما اللي نسيوا الكد والشأة وعايزنها براحة، وكله على الفيس بوك ماشي حتى كلام الأباحة، وعايزين يكلوا ديليفري وماما تجيب الملاّحة، والكل في الشارع حلنجي ولا أدب ولا حيا ولا خشى وحتى بناتنا بقت صايعة ورداحة.

اسمع يا أبو سريع : إياك تسأل الجهلة عن القيم والأصول، وتبأة عبيط لو قولت النت عيب وحرمت المحمول، وأفلت اليوتيوب ورجعت لحواديت الشاطر حسن وست الحسن اللي حبسها الغول. اللي فتحته مش هاتقدر تقفله، بس المايل بشطارتك ممكن تعدله، واللي يتربى على صحيح الأفكار، هيعرف يحمي نفسه من الأخطار، مهو التكرار علم صديقنا اللي بنحتفل بيه الإخلاص في العمل والفصل بين الجد والرفس والهزار.

بتتهكم على الحمار! الطيب الصريح، اللي عمره في يوم ما كذب، ولا ارتشى، ولا تاجر في أعضاء أخوه، ولا اتنكر لأمه ولا خان أبوه، ولا باع الحكمة في علبة من دهب ولما فتحناها لقيناها صفيح! وتعاليك عليه هيزعله ويزود شعوره تجريح، من فضلك خلي نقدك موضوعي وابعد عن التسطيح. والكلام يبقى بالراحة، مش بالتهليل والصريخ، ودلوقت أستأذن الحضور، لتهدئة الأمور، في نص ساعة استراحة.

(وللحديث بقيِّة)

 

بقلم : د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم