أقلام ثقافية

قضية لا تقبل التقادم: الالتزامُ والحرِّية

يسري عبد الغنيالالتزامُ وليدُ الحرِّية، وهو لا ينمو إلا في أحضانها، ولا يترعرعُ ويَفْرَعُ إلا في تُرْبتها الخصيبة.

إن الالتزام لا يكون قَسْراً أو إكراهاً، وإلا فهو "إلزامٌ" لا "التزامٌ"، وشتَّانَ ما بينهما.

الالتزامُ ابنُ الاختيار، والإلزامُ ابنُ الإجبار. الأوَّلُ ثمرةٌ من ثمرات الوعي والإدراك واليقظة والمسؤولية، والثاني من ثمرات التَّغييب والإملاء والتَّسيير، وشتَّانَ ما بينهما.

إنَّ كلَّ أديب "مُلتزِم" هو أديبٌ حرٌّ شريفٌ، وإنَّ كلَّ أديب "مُلْزَم" هو أديبٌ "مُسَيَّس" مستعْبَد، مَبِيعٌ أو مُشْترًى، وشتَّان ما بينهما.

قد تختلف مع أديبٍ يلتزم فِكراً غيرَ فِكرِكَ، أو يدعو إلى رؤيةٍ غيرِ رؤيتِكَ، ولكنَّكَ لا تَملِك إلا أن تَحتَرِمه؛ لأنه مُخلِصٌ لِمَبْدَئِهِ الذي يدعو إليه. تُجِلُّ فيه هذا الإخلاصَ لأنه يَعْتَقِدُ أنَّه الحقُّ، ولكنَّه ما إنْ يتذبذب ويتملَّق، ما إنْ يُحابي ويُداجي، حتى يَسقُط من عينِكَ، وإن كان يرمي بسهمِكَ، ويَنطِقُ باعتقادِكَ؛ لأنَّ حرارة الصِّدق خَبَتْ فيما يقول، والصِّدقُ عمودُ كلِّ كلامٍ مؤثِّرٍ مُقْنِعٍ.

إنَّ الأديبَ الملتزِمَ كالطائر السَّابح المُنطلِق، لا قَيْد يُمْسِكُه، ولا غل يلتفُّ حول يديه، أو جناحيه، أو عُنُقِه؛ إنَّه يمضي في هذا الفضاء الرَّحْب الفسيح، شادياً للحرية والبهاء والجمال..

ولكنَّ الأديبَ المُلْزَم هو كالطائر الحبيس، لا يشفعُ له في سَجْنه جمالُ قَفَصِه، أو أعمدةُ الذَّهب التي صُنع منها هذا القفصُ، أو نفاسةُ الأَسْوِرَة التي وُضِعت في مِعْصَمِه؛ إذ حَسْبُه عاراً أنَّه سجينٌ، لا يحلِّقُ إلا في هذا القفص الذي أُريدَ له أن يحلِّقَ فيه.

الالتزام إذاً ليس قَيْداً كما يدَّعي أعداؤه؛ بل هو الحريةُ عينُها، ولكنَّها الحريةُ الواعية المسؤولة، الحريةُ التي تَحمِلُ رسالةً تُريدُ إبلاغَها، وليست الحريةَ الزَّائفةَ المنطلقةَ على غير هدى.

يقول (توفيق الحكيم): "الالتزامُ المُثمِر للفنَّان - في رأيي – هو الالتزام الذي ينبع من طبيعته، وهنا لا يتعارض الالتزام مع الحرية؛ بل هنا ينبع الالتزام نفسه من الحرية. لذلك لم أَقُل لأديبٍ أو فنَّانٍ: الْتَزِمْ؛ بل قُلتُ وأقولُ: كُنْ حُرّاً..".

ويقول (الحكيمُ) في موطن الدِّفاع عن الحريَّة التي هي حارسةُ الالتزام وهي مصدرُهُ الحقيقي: "إنَّ الأديب يجبُ أن يكون حرّاً؛ لأنَّه إذا باع رأيَهُ، أو قيَّد وِجدانَهُ، ذهبتْ عنه في الحال صفةُ الأديب؛ فالحريَّة هي يَنبوع الفن، وبغير الحريَّة لا يكون أدبٌ ولا فنٌّ.. يجبُ أن يكون الالتزامُ جزءاً من كِيَان الأديب، ويجب أن يلتِزمَ وهو لا يشعرُ أنَّه ملتزِمٌ، مَثَلُهُ مَثَلُ حَمامِ زاجلٍ ينقُلُ رسالةً وهو حُرٌّ طائرٌ، لا يَشْعُرُ بقَيْدٍ في ساقه، ولا بِغُلٍّ في جناحه.."

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم